النظام الرسمي العربي بين شرعية البناء وفاعلية الأداء

"التأمّر في الأمير" بلغة معاصرة هو التحكم في الحاكم، أي أن يكون اختيار السلطة بإرادة المحكومين، ويكون أداؤها تحت مراقبتهم ومحاسبتهم، مع تمكنهم من عزلها واستبدالها سلميا. وهذا هو معنى الشرعية السياسية في العلوم الاجتماعية. وأغلب الدول العربية تفتقد الشرعية بهذا المعنى.

محمد بن المختار الشنقيطي


الشرعية والفاعلية 
مصدر الشرعية وثمرتها 
الأمير أجير 
حاكم ومحكوم به 
فوق القانون وتحته 
في أحضان العدو 
ثمن الحرية السياسية 
من بشر إلى بشار


سألتُ مرة صديقي الطبيب الأديب الأميركي من أصل يمني د. زهير شهاب –وهو من نوادر الأذكياء الذين لقيتهم في حياتي-: "ما هي أقوى دولة عربية في رأيك؟" فأجاب على الفور: "لبنان".


وكان هذا الجواب هو الجواب الصحيح الذي توقعتُه. وربما يستغرب البعض اعتبار لبنان –الدولة ذات الحجم الجغرافي المحدود والفسيفساء الطائفي المعقد- أقوى الدول العربية. لكن الذي ينظر إلى الأمر من منظار الشرعية السياسية وأثرها على الفاعلية لا يتردد في اعتبار لبنان أقوى دولة عربية. لذلك لا عجب أن لبنان هي الدولة العربية الوحيدة التي حرر شعبها أرضه من الاحتلال الإسرائيلي بقوة السلاح، وهو أمر فشلت فيه دول أكبر حجما وأوفر عددا وسلاحا.


والسبب في قوة لبنان هو أنه الدولة العربية الوحيدة التي وُلدت ديمقراطية، واستمرت ديمقراطية طيلة تاريخها السياسي منذ الاستقلال إلى اليوم. وليست تخفى المشكلات الهيكلية التي تعاني منها الديمقراطية اللبنانية بحكم التوزيع الطائفي المتصلب لشئون الحكم، لكن الحد الأدنى من الديمقراطية جعل لبنان يتوفر على صفة "الدولة المنسجمة" التي بشر بها الفيلسوف الألماني هيجل. وليس الانسجام هنا هو الانسجام الفكري والعقدي، فذلك لا يوجد بداهة في لبنان، وإنما هو الانسجام بين الحاكم والمحكوم.


لقد حققت دول عربية أخرى نوعا من الانسجام المذهبي والفكري الحقيقي أو الزائف، لكنها ليست دولا منسجمة بالمعنى الهيجلي، بل هي دول متصدعة رغم القشرة الأديولوجية التي تزوق سطح الحياة السياسية والاجتماعية فيها. فليس المهم بمنطق قوة الدول أن يؤمن الناس بالعقيدة ذاتها أو ينتموا إلى العرق ذاته، بل المهم أن يحسوا بالوطن الجامع، والمصير المشترك، ثم ينظموا خلافاتهم بطرق سلمية قائمة على العدل والحرية. 


الشرعية والفاعلية


لقد أصبح من مسلمات العلوم الاجتماعية اليوم أن الشرعية السياسية ذات أثر عميق على مستوى أداء السلطة. والمراد بالشرعية السياسية هنا هو "التأمّر في الأمير" الذي ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، والناس صالحون... فلما كان بعدُ قال لي ذو عمرو [أحد أعيان اليمن]: يا جرير إن بك عليَّ كرامة، وإني مُخبرك خبرا، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمَّرتم في آخر، وإذا كانت بالسيف كنتم ملوكا تغضبون غضب الملوك، وترضون رضا الملوك". [1] 


و"التأمّر في الأمير" بلغة معاصرة هو التحكم في الحاكم، أي أن يكون اختيار السلطة بإرادة المحكومين، ويكون أداؤها تحت مراقبتهم ومحاسبتهم، مع تمكنهم من عزلها واستبدالها سلميا. وهذا هو معنى الشرعية السياسية في العلوم الاجتماعية اليوم.





"التأمّر في الأمير" بلغة معاصرة هو التحكم في الحاكم، أي أن يكون اختيار السلطة بإرادة المحكومين، ويكون أداؤها تحت مراقبتهم ومحاسبتهم، مع تمكنهم من عزلها واستبدالها سلميا. وهذا هو معنى الشرعية السياسية في العلوم الاجتماعية اليوم
وقد أدرك فلاسفة السياسة منذ عصر أفلاطون أن الشرعية والفاعلية مترابطان. ولذلك "على الدوام تعارضت الحكمة الفلسفية مع العنف الطاغوتي، فهي ترى أن أي نظام يكون أفعل بقدر ما يكون أعدل." [2] وطور فلاسفة اليونان نظرية (عضوية الدولة) بمعنى اعتبار الحكومة والشعب كيانا واحدا لا يستطيع أن يكون فعالا إلا إذا كانت سائر أعضائه منسجمة. وكل تضارب في الإرادة بين الحاكم والمحكوم يفضي إلى الشلل الاجتماعي. لذلك "كان لأفلاطون وأرسطو تصور عضوي عن الدولة، ففي تصورهما هناك أسبقية طبيعية للكل على الأجزاء" [3] ويرى هذان الفيلسوفان أن "الطغيان قطيعة، وهو تفكيك لهذه الكلية الأخلاقية... إنه فقدان الانسجام الذي يوحد الفرد بالدولة، والإرادة العامة بالإرادة الخاصة... وهذا هو الانحلال الكامل للدولة لأنها تفرض نفسها عسفا وعنوة دون أي مسوغ." [4]

ومن أوسع تعريفات الشرعية السياسية تعريف دونا روبنسون دفاين في دراسة عن الشرعية السياسية في إسرائيل: "الشرعية هي إحساس الناس بأنهم ينتمون إلى جسم سياسي واحد، وأن المؤسسات المهمة في ذلك الجسم –مهما تكن طبيعتها- ملك لهم، وأن إرادتهم محدِّد مهم في صناعة القرار السياسي. وليس من الضروري أن يجد كل مواطن رأيه مقبولا في كل مناسبة، لكن من الضروري أن يحس كل مواطن أن رأيه تم أخذه في الاعتبار، وأن رأيه يملك حظ التأثير في صياغة السياسات العامة." [5] وهذا التعريف للشرعية السياسية من إسرائيل مهم في هذا السياق، لأن شرعية السلطة في إسرائيل هي أهم مصدر من مصادر قوتها، وانعدام الشرعية في الدول العربية هو أهم مصادر ضعفها.


إن العلاقة بين الاستبداد الداخلي والوهن الخارجي علاقة وجودية لم تستوعبها الشعوب العربية بعد. وقد حاول العديد من المفكرين التنبيه إليها، فلم يجدوا آذانا صاغية ولا قلوبا واعية، ومنهم الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي الذي ألح على أن "القابلية للاستعمار" تقود إلى الاستعمار، وأن "الأفكار الميتة" تمهد "للأفكار المميتة". وقد كتب المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي منذ مائة عام كتابه الخفيف الوزن العظيم الفائدة "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ففحص فيه أسباب الانحطاط والتقهقر في المجتمعات العربية وتوصل إلى أن "أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية." [6]


وفي القصص العربي القديم قصة أثارني دائما مدلولها السياسي العميق، وهي قصة عنترة بن شداد العبسي مع أبيه الذي تنكر له وتنصل منه لسواد بشرته، فلما اجتاحت إحدى القبائل مضارب عبس، طلب الأب من ابنه عنترة أن يحمل سيفه قائلا: "كُرَّ يا عنترة"، لكن عنترة أجاب: "إن العبد لا يحسن الكر والفر، وإنما يحسن الحلب والصر"، فقال الأب: "كر وأنت حر".. فكرَّ عنترة وهزم الأعداء وتحول إلى بطل أسطوري في الخيال الشعبي العربي. وعبرة القصة أن العبد لا يملك دافعا ليدافع عن وطن تمتهن فيه كرامته. ومن هنا يدخل الوهن على الشعب كله، لا على النظام السياسي فقط.


وهنا يلزم توضيح في العلاقة بين الشرعية والفاعلية. فالشرعية "سبب" في فاعلية الأداء وليست "شرطا" فيه. والفرق بين السبب والشرط –في لغة علم المنطق- هو أن السبب "ما يوجد الشيء بوجوده وينعدم بعدمه" أما الشرط فهو ما "ينعدم الشيء بعدمه ولا يوجد بوجوده ضرورة". فإذا كان السلطة شرعيةً فستكون فعالة في الغالب، أما إذا لم تكن شرعية فإن فعاليتها ترجع إلى مزاج الحاكم والتزامه الشخصي، وهي في الغالب لا تكون فعالة. لكن هناك بعض الاستثناءات.


مصدر الشرعية وثمرتها


وقد حصر عالم الاجتماع ماكس فيبر مصادر الرضا بالسلطة السياسية في ثلاثة مصادر: التعاقد القانوني، والتقاليد، والكاريزما. أما التعاقد القانوني فهو بناء السلطة على أساس عقد اجتماعي يجعلها منبثقة عن إرادة المحكومين، وهذا الذي ندعوه اليوم النظام الدستوري الديمقراطي. وأما التقاليد فهي رسوخ وجود السلطة في أذهان الناس بحكم الاعتياد، كما هو حال السلالات الملكية، حتى يصبح القبول الضمني بهذه السلطة جزءا من ثقافة المجتمع. وأما الكاريزما فهي الجاذبية الشخصية، والبلاغة الخطابية، اللتان يتمتع بهما شخص القائد، مما يجعل الناس يستأسرون له وينجذبون إليه.


والذي يجعل السلطة شرعية في نظر ماكس فيبر هو النوع الأول فقط لأنه فعل إرادي عقلاني، أما القبول بسلطة قائمة لمجرد الاعتياد التقليدي أو الكاريزما الخطابية فهو ليس فعلا عقلانيا، ولا يُكسب السلطة شرعية سياسية. ومفهوم فيبر هنا ينسجم تمام الانسجام مع المفهوم الإسلامي للشرعية السياسية الذي يجعل التعاقد القائم على التراضي هو المصدر الوحيد للشرعية السياسية.


وقد حاولت الحركة الشيوعية في القرن العشرين اختراع مصدر جديد للشرعية السياسية، هو الأداء الاقتصادي والاجتماعي الفعال. فقدمت للمجتمع صفقة للتنازل عن الحرية السياسية مقابل الرفاه الاجتماعي.  [7] لكن الأنظمة الشيوعية فشلت في هذا الصفقة، وتبين أنه لا بديل عن الشرعية السياسية على المدى البعيد ولا معوض عنها.


وتحاول كل الأنظمة السياسية -مهما طغت- أن تبني لها شرعية سياسية، بحيث يكون خضوع الناس بالاقتناع لا بالقهر. فإن فشلت في ذلك لجأت إلى أساليب غير شرعية للتعويض عن شرعيتها، مثل القهر القمعي، والتضليل الدعائي، والبذل المالي لشراء الذمم والضمائر.  لكن للشرعية السياسية الحقيقية ثمراتٍ لا توجد في الشرعيات الزائفة، ومن هذه الثمرات:


أولا: أنها تستبدل بالإكراه المادي إكراها معنويا نابعا من إرادة المجتمع، وبالإلزام القسري التزاما طوعيا تمليه فكرة التعاقد. وبذلك تكون "الشرعية هي الشكل الروحي للسيطرة، والمظهر المعنوي للإكراه" [8]. ولا يعني هذا اختفاء ظاهرة القسر والإكراه المادي في ظل السلطة الشرعية، فتلك ظاهرة لا تنفك عن فكرة السلطة، حتى عد "أدموند بورك" في كتابه "تأملات في الثورة الفرنسية" أن "القسر في عداد حقوق الإنسان، شأنه شأن الحرية سواء بسواء" [9].. وإنما سينحصر هذا الإكراه في أضيق حدود، فيقتصر استخدامه ضد المجرمين والخارجين على المجتمع، "لأن السلطة المعترف بها (الشرعية) تنحصر بقمع نقاط محدودة من التمرد، وتستند إلى قاعدة نفسية من الرضا العام" [10].


ثانيا: أن المجتمعات التي تقودها سلطة شرعية يسودها السلم الاجتماعي والانسجام، وهما خاصيتان ناتجتان عن انبثاق الدولة من المجتمع، وصدورها عنه في سير عملها، وإمكانية التداول السلمي للسلطة دون إثارة صراع داخلي يمزق لحمة المجتمع ويعوق مسيرته. وبذلك يستمر التطور الاجتماعي صُعُدا وعلى مهل دون انقطاعات أو تمزقات، بما أن "أساس كل تطور هو حصول وحدة اجتماعة طوعية" [11]. فالشرعية السياسية هي الضامن لبناء "الدولة المنسجمة"، أي الدولة التي يسود فيها الاعتراف بحق الاختلاف، واحترام خيار الناس في شكل القيادة التي تسوسهم، ويتم حل الخلافات فيها بقوة الإقناع أوالقانون، لا بقوة السلاح. وهذا النمط من "الدولة المنسجمة" هو الذي ينقص المجتمعات العربية اليوم.


ثالثا: تمثل الشرعية عاملا من أهم عوامل القوة في المجتمعات البشرية "فالشرعية هي أيضا شكل من أشكال القوة" [12] لأنها تكسب المجتمع تلاحما ومنعة ضد الأعداء، فكم من شعوب ضعيفة قليلة العدد استطاعت صد عدو شرس بفضل قوة التلاحم هذه، التي هي ثمرة من ثمار الشرعية "فالشرعية إذن على حد تعبير فاكلاف هافيل هي "قوة الضعفاء"[13]. أما المجتمعات التي تحكمها سلطة استبدادية فإن الصراع الدائر بين الطامحين إلى السلطة يضعفها، ويجعلها لقمة سائغة أمام أول عدو طارق، رغم قوتها البادية، لأن الاستبداد وجه أساسي من "أوجه الضعف في الدول القوية." [14]


الأمير أجير


وقد قدم الإسلام مفهوما للمنصب العام لم يكن مألوفا في الممالك السابقة على الإسلام. يروي الذهبي أن أبا مسلم الخولاني -وهو من علماء المسلمين في جيل التابعين- دخل على معاوية بن أبي سفيان وهو ملك يومذاك بالشام، "فقام بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: مهْ، فقال [معاوية]: دعوه فهو أعرف بما يقول، وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل." [15] ولم يكن الخولاني -وهو يستعمل لفظ الأجير- متلاعبا بألفاظه، وإنما كان منطلقا من التصور الإسلامي الحق لمنزلة الحاكم وعلاقته بالأمة: إنها علاقة الأجير برب العمل. فالأمة هي رب العمل، والحاكم أجير لها، أنابته لأداء وظيفة الحكم، لقاء أجر مادي معلوم، ومكانة معنوية مشروطة، والتزمت معه بعقد اختياري طرفاه: الأمانة والنصح من الحاكم، والطاعة والنصرة من المحكوم. وهذا تعريف جامع مانع لمفهوم الشرعية السياسية.


ولما كان الحاكم أجيرا للأمة، كان من المطلوب أن يتصف بصفتي الأمانة والقوة اللتين امتدحهما القرآن الكريم في الأجير على لسان ابنة شعيب: "إن خير من استأجرت القوي الأمين." [16] أما الأمانة فهي تشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالسلطة والثروة، أو يؤثر بهما ذويه، أو يسيء استعمالهما أيَ نوع من الإساءة كان. وأما القوة فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكّنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأكمل والأصلح للأمة.


بيد أن هذا التصور الإسلامي لطبيعة السلطة السياسية ووظيفتها ظل الذي يتأسس على الشورى والعدل والحرية، وترجيح مصلحة الجماعة المؤمنة على ذات الفرد المتضخمة، ظل يتصارع طيلة التاريخ الإسلامي مع تصور آخر، لا يرى بالأثَرة بأسا، ولا في الظلم السياسي عارا. وقد عبر الشاعر بشر بن ناشب عن هذا التصور المضاد، فافتخر بعدم النظر في العواقب، ونبذ المشاورة، والاحتكام إلى منطق القوة:


إذا همَّ ألقى بين عينـيه عزمـه   ونكَّب عن ذكر العواقب جانـبـا


ولم يستشر في أمره غير نفسـه    ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا


[17]


حاكم ومحكوم به


والبنية السياسية في الدول العربية اليوم أقرب إلى بيتيْ بشر بن ناشب منها إلى مفهوم التعاقد. فهي خارجة على مبادئ الفقه السياسي الإسلامي والفكر السياسي الغربي كليهما. ولمساعدة القراء الأكارم على فهم أفضل لبنية السلطة وآليات القرار السياسي في الدول العربية نبرز هنا الفرق بين "الحاكم" و"المحكوم به"، وهو فرق جوهري لفهم الأمر برمته. إذ تتألف بنية السلطة في الدول العربية اليوم من دوائر يحيط بعضها ببعض، وهي كلها تدور بمن فيها حول "قطب الدائرة" الحاكم الفرد الذي بيده الحل والعقد في النهاية. لكن يمكن اختزال هذه الدوائر – لغاية التبسيط المنهجي – إلى دائرتين:





أغلب القادة العرب لم يبدأوا ديمقراطيتهم خوفا من شعب ثائر كما فعل الشاذلي بن جديد، أوتخففا من واجبات السلطة وتبعاتها كما فعل سوار الذهب (فهاتان حالتان يتيمتان في التاريخ العربي المعاصر) وإنما بدؤوها تأمينا لسلطتهم، من خلال توسيع دائرة المحكوم به، أعني المنتفعين من بقائهم، المستعدين للدفاع عنهم
أولاهما دائرة الحاكم، أو "جماعة النواة"، وهي تشمل أقارب رأس الدولة الممسكين بقيادات الجيش والأمن ومصادر المال.

والثانية دائرة المحكوم به، أو "جماعة البلازما"، وهي تشمل كل المنتفعين من النظام القائم من المتملقين والمتسلقين الآخرين. تتسم الدائرة الأولى بخصائص مميزة، منها:


- الثبات والاستمرارية، حيث يندر تغيير مناصب أهلها إلا في ظروف استثنائية خاصة، ولأسباب موضوعية جدية تخدم بقاء قطب الدائرة بشكل لا لبس فيه. الثقة، فهي محل ثقة من قطب الدائرة، وبدونها لا يستطيع أن يقر له قرار أو يطيب له نوم، لأنها خط الدفاع الأخير عن بقائه في السلطة، أقصد بقاءه على قيد الحياة. الحظوة الكاملة لدى رأس الدولة، مما يعني أن فردا من تلك الدائرة – ولو لم يتقلد منصبا رسميا- له صوت أقوى ونفوذ أكبر من عضو دائرة المحكوم به، حتى ولو تقلد هذا الأخير أعلى المناصب.


- المشاركة الفعلية في صناعة القرار، فأعضاء هذه الدائرة هم من يتخذ القرار الفعلي في الدولة، حتى وإن تم الإخراج بما يعطي انطباعا مغايرا. الثراء الكبير من خلال الاستيلاء على مصادر الثروة، أو"القعود على عيون المال" إذا استخدمنا تعبير عمر بن الخطاب في رسالته إلى عمرو بن العاص: "ولكنكم معاشر الولاة قعدتم على عيون المال، ولن تعدموا عذرا، وإنما تأكلون النار، وتتعجلون العار"...
أما الدائرة الأخرى – دائرة المحكوم به- فتتميز بسمات خاصة تنسجم مع طبيعتها ودورها، ومن هذه الخصائص:


- التغير الدائب، فرأس الدولة يغير فيها مايشاء كيف يشاء، والتغيير الدائم فيها هو الذي يضمن الخوف والطمع: فالذي يدخل الدائرة لا يأمن الخروج، والخارج يظل في أمل الرجوع.


- عدم الثقة، فأعضاء هذه الدائرة ليسوا محل ثقة من رأس الدولة، وهو لا يربط مصيرهم بمصيره، فهم خط الدفاع الأول –لا الأخير– ودفاعهم من النوع المرن: دعايات ومدائح..الخ


- عدم المشاركة في صياغة القرارات، فهم أدوات لتنفيذ قرارات ومسوقوا سياسات ليسوا من صاغتها، خصوصا القرارات السيئة، مثل التطبيع مع إسرائيل أو قمع المعارضين.


- لا يكون أهل هذه الدائرة أثرياء في العادة، إذ نصيبهم من الغنيمة ليس بذاك، إلا من كان منهم "شاطرا" بطبيعته، يعرف كيف يتمسح بعتبات الحكام الفعليين ويتماهى معهم.


- ولا يحرص رأس الدولة على سمعة هذه الدائرة أو كرامتها، فدور أعضائها هو تسويق القرارات وتبريرها –لا صناعتها- بما يعنيه ذلك من تحمل المسئولية السياسية والقانونية عنها لاحقا.


ومما يتعلق بهذا أن أهل الدائرة المحكوم بها أنهم إذا أحسنوا، فلرأس الدولة ينسب إحسانهم، وإن أساءوا فعليهم إساءتهم. ومن أعضاء هذه الدائرة أقوام متطوعون، لا يأخذون ثمنا للتسويق والتبرير الذي يقومون به. وقد قال المؤرخ اليمني الهمداني في كتابه "الإكليل": إن أتباع الملوك صنفان: طماع ومغفلون". فليس كل من يخدم المستبدين يستفيد من خدمتهم، بل يفعلها البعض طمعا، فيناله شيء من فتات المائدة، ويفعلها البعض غفلة فلا ينالهم شيء.


ويعين هذا التقسيم على فهم الديمقراطية الزائفة في الدول العربية، فأغلب القادة العرب لم يبدأوا ديمقراطيتهم خوفا من شعب ثائر كما فعل الشاذلي بن جديد، أوتخففا من واجبات السلطة وتبعاتها كما فعل سوار الذهب (فهاتان حالتان يتيمتان في التاريخ العربي المعاصر) وإنما بدؤوها تأمينا لسلطتهم، من خلال توسيع دائرة المحكوم به، أعني المنتفعين من بقائهم، المستعدين للدفاع عنهم. وكذلك كان. فأصبح السهم الموجه إلى رأس الدولة يصيب قلب أحد الوزراء أو النواب، فإن نفذ منه استقر في خاصرة شيخ قبيلة أو صحفي متملق .. وهكذا دواليك.. دون أن يصل إلى الهدف.


يقول النحاة إن "المفعول به" فضلة في الجملة، يمكن الاستغناء عنه دون أن يؤثر ذلك على بنيتها، أما الفاعل فهو "عمدة" في الجملة لا يمكن الاستغناء عنه دون إخلال بمعنى الجملة ومبناها. وقصة الحاكم والمحكوم به في الدول العربية شبيهة بقصة الفاعل والمفعول به في النحو. ويبقى أن نضيف إلى "الحاكم" و"المحكوم به" طرفا ثالثا هو "المحكوم" أي الشعب الذي ليس له من الأمر شيء، فتكفيه هذه الجملة الواحدة من بحثنا هذا.


فوق القانون وتحته


وفي ظل بنية سياسية كهذه، يصبح الدستور مجرد ديكور، وكان من المفترض أن يكون أهم نص تعاقدي يؤسس لوجود المجتمع ومنهجه في الحياة. لقد عرف الشريف الجرجاني (740 ـ 816 هـ) الدستور في كتابه "التعريفات" هذا التعريف الطريف: "الدستور الوزير الكبير الذي يُرجَع في أحوال الناس إلى ما يرسمه" [18].





في دنيا العرب والمسلمين فلايزال الحاكم فوق القانون لا يُسأل عما يُفعل، ولايزال أغلب الشعب تحت القانون لا يجد إنصافا ولا عدلا، ولايزال هوى الفرد المتأله هو المرجع الأخير، فإن أحسن الحاكم منع مواطنيه من بعض التظالم فيما بينهم، مع ولوغه هو في ظلمهم جميعا
وهذا التعريف –على طرافته وغرابته في عصر الحريات السياسية- ينطبق على دساتير جل الدول العربية. فكل الدساتير العربية تنص على أن الشعب هو مصدر السلطات أو بأن الدولة دولة ديمقراطية، ثم تورد بعد ذلك –وأحيانا في المواد التالية مباشرة- ما ينقض هذا القاعدة البديهية من قواعد الشرعية السياسية. هذا على متسوى التقعيد القانوني النظري، أما على مستوى التطبيق السياسي العملي فلا تسألْ عن خرق الدساتير – على علاتها وتناقضاتها- وضرب عرض الحائط بها.

فالدستور في الدول العربية شخص "يُرجَع في أحوال الناس إلى ما يرسمه" حسب هواه، وليس وثيقة تعاقدية ملزمة للحاكم والمحكوم على حد السواء، كما هو الحال في أغلب دول العالم الأخرى. وليس تعريف الجرجاني لكلمة "الاتفاقية" بأقل طرافة عن تعريفه للدستور، فقد عرَّفها بقوله: " الاتفاقية هي التي حكم فيها بصدق التالي على تقدير صدق المقدَّم، لا لعلاقة بينهما موجبة لذلك، بل لمجرد صدقهما، كقولنا: إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق." [19] فمصطلح الاتفاقية الذي هو اليوم مفهوم قانوني تعاقدي، لم يكن عند الجرجاني أكثر من شبه بين طرفين، قد يكونان إنسانا وحمارا...!!


كان أبراهام لنكولون يردد دائما: "لا أحد فوق القانون ولا أحد تحت القانون". وبهذا التفكير استطاع الإنسان الغربي أن يحقق العدل لنفسه في وطنه، رغم قصور قوانينه الأرضية عن شريعة الإسلام السماوية، ورغم جوره في تعامله مع الآخرين خارج حدود أرضه.


أما في دنيا العرب والمسلمين فلايزال الحاكم فوق القانون لا يُسأل عما يُفعل، ولايزال أغلب الشعب تحت القانون لا يجد إنصافا ولا عدلا، ولايزال هوى الفرد المتأله هو المرجع الأخير، فإن أحسن الحاكم منع مواطنيه من بعض التظالم فيما بينهم، مع ولوغه هو في ظلمهم جميعا. بل هو لا يعدل في شيء مثل العدل في توزيع الظلم على رعيته. فمثله مثل الإقطاعي القديم، الذي يمنع عبيده من اعتداء بعضهم على بعض، لكنه يمارس الاسترقاق والظلم عليهم جميعا.


في أحضان العدو


وقد برهنت الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد غزة أن عدم شرعية الأنظمة العربية هي السبب في بؤس أدائها. وأن الفجوة بينها وبين شعوبها وصلت حدا أصبح معه بقاء بعض الأنظمة العربية مستحيلا. ومن مظاهر هذا البؤس في الأداء الناتج عن عدم شرعية البناء:


- تواطؤ بعض القادة العرب صراحة أو ضمنا  مع إسرائيل في مذبحتها ضد شعب غزة، من خلال المشاركة في الحصار، وتوفير الغطاء الدبلوماسي لإسرائيل.


- رفض أولئك القادة المشاركة في قمة الدوحة الداعمة لغزة، ولو للتعبير اللفظي عن التعاطف على الأقل.


- سعيهم إلى إفشال أي جهد رسمي أو شعبي يقوم به الآخرون لصالح شعب غزة، من التحريض على إيران، إلى التشهير بقطر، إلى التضييق على حماس.


كل هذا والشعوب تغلي غضبا وحنقا، وكأن لا صلة بين مشاعر المحكوم وإرادة الحاكم. وقد استطاعت شعوب أخرى أن تدفع حكامها في اتخاذ مواقف تعكس مشاعرها الرافضة للظلم، فجاء دعم غزة من تركيا وإيران وفنزويلا وبوليفيا. وكان من المضحكات المبكيات أن تقطع إحدى الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع فنزويلا بعد أسبوع من قطع فنزويلا علاقاتها بإسرائيل. وكأن قادة تلك الدولة يريدون أن يعلنوا بلسان الحال قبل المقال للعالم كله: "نحن أنذال فلا تتعاطفوا معنا، فإن تعاطفتم مع قضايانا فهذا جزاؤكم"!! ولولا الموقف الشهم الذي وقفه أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وسانده فيه الرئيس السوري بشار الأسد وآخرون لحلت لعنة غزة على كل النظام الرسمي العربي إلى الأبد.


ومما ضاعف في عدم الفاعلية الذي يتسم به النظام الرسمي العربي النفوذ الخارجي المخرب لكل إرادة وطنية حقة. لقد حكم المستبدون دولا عديدة في الماضي والحاضر، لكن مع التحرر من النفوذ الخارجي يبقى المستبد جزءا من المنظومة الأخلاقية لشعبه. وقد رأينا أن مستبدين قادوا دولا شيوعية مثل الاتحاد السوفياتي والصين لكنهم حاربوا بشراسة ضد الاستعمار، وبنوا بنية تحتية راسخة لشعوبهم وضعتها على طريق النهوض. لكن أغلب حكومات الدول العربية تعاني من الخللين معا، مما جعل الأزمة مركبة: فلا التضحية بالشرعية تم تعويضها بنهضة اقتصادية وعمرانية أو نجاحات عسكرية ميدانية، ولا مُنح الناس حرياتهم وحُفظت لهم كرامتهم الفردية وخياراتهم الجماعية.






لم يجد الناس متنفسا في بناء السلطة ولا في أدائها، فالبناء غير شرعي والأداء غير فعال. ومما ضاعف في عدم الفاعلية الذي يتسم به النظام الرسمي العربي النفوذ الخارجي المخرب لكل إرادة وطنية حقة


وهكذا لم يجد الناس متنفسا في بناء السلطة ولا في أدائها، فالبناء غير شرعي والأداء غير فعال. والمتابع لتفاعل النظام الرسمي العربي مع الحرب ضد غزة يرى اليد الأميركية وراء كل موقف مخذل أو متواطئ، وهو ما يدل دلالة واضحة على أن النفوذ الأميركي هو أكبر مخرب للحياة السياسية العربية اليوم وللموقع الإستراتيجي العربي على خريطة العالم.

وحيثما وجدت اليد الأميركية في العالم العربي، فهي مجرد قفاز لليد الإسرائيلية الممسكة بمفاصل القرار الإستراتيجي في واشنطن، خصوصا في القضايا العربية.


حتى إنه ليس من المبالغة ولا الخيال التآمري القول إن أميركا تحولت إلى مجرد عضلات صماء للذهن الإسرائيلي يستخدمها كيفما يشاء، من خلال تحكم الصهاينة الأميركيين بصياغة وصناعة القرار الإستراتيجي الأميركي. وآخر ما تفتق عنه الذهن الصهيوني وبدأت العضلات الأميركية في تنفيذه هو بناء حلف إسرائيلي-سعودي-مصري ضد المحور الإيراني- السوري الواقف في وجه إسرائيل (بما فيه حماس وحزب الله وهما على أوليات الاستهداف الإسرائيلي).


وقد تواترت الدعوة إلى هذا الحلف المشئوم في الأدبيات الإستراتيجية الصهيونية منذ حرب لبنان عام 2006. فتحت عنوان "هل تؤدي هذه الحرب إلى تحالف سني-إسرائيلي"؟ أجرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقابلة مع مارتن أنديك مبعوث كلينتون السابق لشئون الشرق الأوسط، وأبرز منظري السياسة الأميركية في المنطقة قال فيها: "إن أهم شيء الآن هو إدراك المصلحة المشتركة بين إسرائيل وبين العالم العربي السني"، داعيا إسرائيل إلى "تحالف صامت مع العالم العربي السني ضد إيران". وقد فصَّل آلون بنْ مائير مدير قسم الشرق الأوسط بمعهد الدراسات الدولية في نيويورك معالم هذا الحلف المنشود في مقال له بمجلة "الدولي" The Globalist وجعل السعودية حجر الزاوية فيه.


تكاد إسرائيل اليوم تفقد كل سند غير عربي في الشرق الأوسط. فقد فقدت حليفا قويا مع سقوط الشاه في إيران عام 1979، وهي الآن تفقد بالتدريج حليفا إستراتيجيا آخر في المنطقة هو تركيا. لكن عدم شرعية الأنظمة العربية، وارتهان أغلبها –جراء ذلك- للولايات المتحدة، يبقى ثغرة خطيرة في الجسم العربي تستطيع إسرائيل من خلالها الدخول في أحلاف مع الأنظمة العربية ضد شعوبها. والحقيقة أن هذه الأحلاف قائمة في صورة ضمنية وصامتة منذ أمد بعيد،  لكن الفرز الواضح في حرب غزة الأخيرة – ومن قبلها في حرب لبنان 2006- يشكل بداية لكشف هذا الحلف الجديد عن وجهه القبيح. أما تسميته "تحالفا سنيا-إسرائيليا" فهو يكشف عن الوجه الانتهازي للعبة الأمم الدائرة في المنطقة، وإلا فليس من يرتمي في أحضان عدوه سنيا ولا شيعيا.


ثمن الحرية السياسية


إن للحرية ثمنا، وهو ما أدركته الشعوب الغربية فبذلت الدم في سبيل التحرر من الاستبداد (كما في فرنسا) ومن الاستبداد والاستعمار كليهما (كما في الولايات المتحدة). ولا يؤمن الغربيون أن الشعوب تنال حريتها مجانا، وهم محقون في ذلك، إذ على ذلك دلت تجربة آبائهم وأجدادهم خلال القرنين السالفين. ولذلك نصت دساتيرهم –وأولها الدستور الأميركي- في ديباجاتها على حق المجتمع في مقاومة ظلم حكامه وعسفهم قبل أن تنص على أي حق من حقوق الإنسان الفردية. فليس من الإنصاف للغربيين أن نطالبهم بإنصافنا دون أن نكون مستعدين لدفع ثمن ذلك الإنصاف مقاومةً ومدافعةً، فثقافتهم التاريخية علمتهم أن من لا يدفع ثمن الحرية لا يستحقها.


كما أن الحكام لن ينصفونا إلا بدفع ثمن الحرية. فإذا أدرك الحاكم الجائر أن للاستبداد ثمنا، وأن الحرية سيتم انتزاعها انتزاعا، فلن يتعامل باستهتار مع اختيار شعبه، ولن يسعى إلى فرض ديمقراطية انتقائية ترقيعية، يفتح أبوابها لمن يشاء، ويوصدها في وجه من يشاء. إن سنة المدافعة من سنن الله في خلقه، وتحقيق المدافعة في نظام المجتمع هي التي تحمي من الفساد والاستبداد: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". فهل نطمع بعد هذه الحكمة القرآنية البليغة أن تنزل عليها الحرية من السماء، أو تتفجر لنا من الأرض؟!


ذكر ابن كثير أن أبا الطيب المتنبي مدح مرة أحد الملوك بأسلوبه المغالي، فقال:


يا من ألوذ به فيــما أؤملهُ      ومن أعوذ به مما أحـــاذرهُ


لا يجبر الناس عظما أنت كاسره   ولا يهيضـون عظما أنت جابرهُ


ثم عقب ابن كثير بأن ابن القيم أخبره أن ابن تيمية كان يدعو بهذين البيتين في سجوده، ويقول: "إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى"[20].. فالوثنية السياسية ضاربة بأطنابها في ثقافتنا، والأصنام البشرية حلت محل الأصنام الحجرية، ولا سبيل لنا سوى التقيد بوصية الشاعر الفيلسوف محمد إقبال في نبذ منهج آرز، واتباع ملة إبراهيم عليه السلام وهو يحطم الأصنام:


نحت أصـنام آزر      صنعة العاجز الذليلْ


والذي يطلب العلا      حسبه صنعة الخليل


[21]


يحكي الجنرال الروسي جوكوف في مذكراته أن نشيد الجيش الروسي أيام القيصرية كان "اللهم احفظ القيصر"، في حين يحكي نيلسون مانديلا في مذكراته أن نشيد المؤتمر الوطني الأفريقي كان "اللهم احفظ أفريقيا". وبين النشيدين يكمن الفرق بين الحرية وبين الوثنية السياسية.  لقد آن الأوان للشعوب العربية والإسلامية أن تتحرر من الوثنية السياسية وثقافة العبودية. فالسادة يدينون لعبيدهم بما في أيديهم من امتيازات. ولو لم يرض بهم العبيد سادة لما سادوا.


من بشر إلى بشار


وأخيرا ربما يحسن بنا أن نختم هذا البحث ببيتين للشاعر بشار بن برد، يقابلان ببيتيْ بشر بن ناشب السالفيْن. فرغم ما عرف به بشار من مسالك –والله يغفر له- إلا أنه عبر في هذين البيتين عن ثقافة إسلامية متحضرة، لا تحتقر الشورى كما احتقرتها جاهلية القبائل التي عبر عنها بشر في بيتيه، بل تدرك ضرورتها وثمرتها:


إذا بلغ الأمر المشورة فاستــعن     برأي نصيح أو مشورة حازمِ


ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً     فإن الخوافي قوة للقــوادمِ


[22]


أما "الخوافي" فالريش في مؤخرة جناح الطير، وأما "القوادم" فالريش في مقدمة الجناح، والمعنى أن آراء الرعية عُدة وقوة للقائد، فلا يجوز أن يحقر آراءهم أو يتجاوزها، فلن ُيقلع الطير في آفاق السماوات بقوة قوادمه دون دعم وسند من خوافيه. "قال الأصمعي فقلت لبشار: إني رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في المشورة، فقال: أما علمت أن المشاوِر من إحدى الحسنين: بين صواب يفوز بثمرته أو خطإ يُشارَك في مكروهه. فقلت: أنت والله أشعرُ في هذا الكلام منك في الشعر." [23]


فلتكن هذه خاتمتنا، آملين أن يقهر الحق القوة، ويسود العدل والحرية والشرعية، وينتصر بيتا بشَّار على بيتيْ بِشر في نهاية المطاف.


______________


باحث بكلية قطر للدراسات الإسلامية


المصادر:


[1] محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح (اليمامة: دار ابن كثير، 1987)، 4/1584.


[2] د. دولة خضر خنافر، في الطغيان والاستبداد والديكتاتورية: بحث فلسفي في مسألة السلطة الكلية (بيروت: دار المتخب العربي، 1995)،11.


[3] خنافر، في الطغيان والاستبداد والديكتاتورية، 13-14.


[4] خنافر، في الطغيان والاستبداد والديكتاتورية، 13-14.


[5] Donna Robinson Divine, "Political Legitimacy in Israel: How Important Is the State?," International Journal of Middle East Studies, Vol. 10, No. 2 (May, 1979): 209.


[6] عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (بيروت: دار النفائس، 2006)، 29.


[7] Stephen White, "Economic Performance and Communist Legitimacy," World Politics, Vol. 38, No. 3 (Apr., 1986): 463.


[8] جاك دونديو دوفابر، الدولة، ترجمة د. سموحي فوق العادة (بيروت-باريس: منشورات عويدات، 1982)، 9.


[9] جان جاك شوفاليه، أمهات الكتب السياسية من ماكيافيلي إلى أيامنا، ترجمة جورج صدقني (دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية، 1980)، ج 2، 72.


[10] دوفابر، الدولة، 9.


[11] د. برهان غليون، الوعي الذاتي (حلب: دار البراق، 1986)، 31.


[12] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة حسين أحمد أمين (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1993) 245.


[13] فوكوياما، نهاية التاريخ، 227.


[14] تحدث فوكوياما عما دعاه "أوجه الضعف في الدول القوية" فجعل الاستبداد من أهم تلك الأوجه، وهو محق في ذلك. انظر فوكوياما، نهاية التاريخ، 29-50.


[15] محمد بن أحمد بن قايماز الذهبي، سير أعلام النبلاء (دمشق: مؤسسة الرسالة، 1413 هـ)، ج 4، 13.


[16]  سورة القصص، الآية  26


[17] ابن قتيبة: الشعر والشعراء (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1932)، ج1، 149.


[18] علي بن محمد الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، (نسخة ألكترونية على موقع شبكة "المشكاة")، 79. http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=16&book=1457


[19] نفس المصدر، 3.


[20] ابن كثير، البداية والنهاية (القاهرة: هجر للطباعة والنشر، 1998) ج15، 278-279.


[21] محمد إقبال، ديوان جناح جبريل، ترجمة عبد المعين الملوحي، صاغه شعرا زهير ظاظا (دمشق: دار إقبال 1989)، 180.


[22]  الجاحظ، البيان والتبيين (بيروت: دار ومكتبة الهلال، 2002)، ج 1، 582.


[23]  أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني (بيروت: دار الفكر، 2002)، ج 3، 211.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف