مدخل
أثر الأدوار الإقليمية غير العربية على التوجهات العربية
تزايد التأثير الدولي على توجهات النظام الإقليمي العربي
ختام
تطمح هذه الورقة إلى بحث علاقة التداخل والتأثير المتبادل بين النظام الرسمي العربي وبين القوى الإقليمية والدولية، وقدرة هذه القوى على اختراقه وإضعاف فاعليته.
وستنقسم الدراسة إلى مدخل وعدة مباحث نتناول فيها تأثير الأدوار الإقليمية غير العربية على التوجهات العربية، ومصدرها، ثم سنبحث في تزايد التأثير الدولي على هذه التوجهات، وختام يرسم سبل خروج النظام الإقليمي العربي من أزمته.
منذ فترة يواجه النظام الإقليمي العربي تحديات خطيرة تضع قدرته على الاستمرار في البقاء محل اختبار حقيقي.(1)
تشهد المجتمعات العربية منذ عدة سنوات تمدداً بل واختراقاً من دول وقوى وتيارات عدة غير عربية. والمقلق أن تمدد الآخرين فيها لم يعد أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً فحسب، بل أصبح أيضاً عقائدياً وفكرياً |
إن النظام الإقليمي العربي شأن أي نظام إقليمي آخر، لا يستطيع أحد الإدعاء في أحسن الظروف بأنه يعيش بمعزل عن المتغيرات الإقليمية والدولية. فهو يتأثر بأحداث العالم ومتغيراته بصورة أو بأخرى، فلا انفكاك للخصوصية العربية عما يقع في العالم.
إلا أن النظام الإقليمي العربي له طابع خاص قد لا يتوافر في تجمعات إقليمية أخرى. فهو نظام إقليمي ذو طابع قومي عربي، يستند إلى دعوة قومية تنبع بدورها من حقيقة وجود ثقافة مشتركة يفترض أنها تحول دون عملية إعادة إنتاج نمط الأزمات التي يشهدها، بتأثير روابط القربى، والمصالح المشتركة، ومكونات الهوية الجامعة.
فرغم انحسار فكرة القومية العربية فما زال تأثيرها قائماً، وإن ضعف، فهي تعبير عن وعي ملهم، وتشكيل ثقافي تاريخي عميق، يجعل منها وتصير معه انتماءً ووجوداً، وليس مجرد توجه أو أيديولوجيا قابلة للتبدل أو الزوال، أما التجسيد السياسي لها فهو قضية قابلة للاجتهاد المستمر بقصد التجديد لا النفي.(3)
والفارق بين أي تجمع إقليمي وآخر، هو في كيفية تعامله وتفاعله مع محيطه الإقليمي وروابطه الدولية. فهناك تجمعات تمارس خصوصيتها وتبرز تفاعلها مع عصرها على نحو خلاق وإيجابي، تمكنها من الحفاظ على ثوابتها قدر الممكن، وتوظفها لصالح قضاياها. وهناك تجمعات إقليمية أخرى تمارس خصوصيتها بطريقة تزيد من هامشيتها وتسيئ لقضاياها.
والمجتمعات العربية تشهد منذ عدة سنوات تمدداً بل واختراقاً من دول وقوى وتيارات عدة غير عربية. والمقلق أن تمدد الآخرين فيها لم يعد أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً فحسب، بل أصبح أيضاً عقائدياً وفكرياً.
وفي المقابل فإن المنطقة العربية تعاني الفراغ، نتيجة تراجع فكرة العروبة، أو بمعنى آخر انحسار العروبة "المستنيرة" سياسياً وتراجعها فكرياً، وبروز ثأر القبائل وكيد العشائر والطوائف في التعامل العربي/ العربي، وفقدان الثقة في رابطة الانتماء القومي بين العرب.(4)
ولا نريد أن نذهب بعيداً، فقد بلغت الخلافات ذروة تعقيدها بعد أزمة الحرب الإسرائيلية على لبنان (يوليو/ تموز 2006)، وزادت تعقيداً بالمذبحة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزه (ديسمبر/ كانون أول 2008)، وانقسم العالم العربي إلى معسكرين متقابلين اصطلح على وصفهما بـ"معسكر الاعتدال" و"معسكر الممانعة".
وحقيقة الأمر أن مرجع الخلاف بين هذين المعسكرين هو حول التعامل مع مشكلات المنطقة، ويعود إلى تفاقم ضغط الإخفاق الذريع لمجمل السياسات الأميركية/الإسرائيلية، وبتقسيمها المصطنع للمجموعة العربية، والذي استسلم له العرب، فاتجه بعضهم إلى البحث عن مصادر أخرى لدعم القضايا العربية، سواء أكانت هذه المصادر أطرافا إقليمية غير عربية، أوكانت أطرافا دولية.
أثر الأدوار الإقليمية غير العربية على التوجهات العربية
من الطبيعي أن تكون المنطقة العربية محل تفاعل وتأثير متبادل مع القوى الإقليمية غير العربية، وكثيراً ما كان دور تلك القوى غير العربية دوراً مهماً في تطورات أحداث المنطقة. غير أن هذا الدور الإقليمي شهد في الفترات الأخيرة تنامياً كبيراً كماً ونوعاً، وكاد أن يصبح عنصراً أساسياً يصعب تجاهله.(5) وبالمقابل شهد الدور العربي الإقليمي تراجعاً ملحوظاً في التأثير على القضايا العربية.
لا يوجد توافق عربي حول التعامل مع إيران. فهناك تباين في المواقف العربية إزاء تقييم تأثير الاتجاهات والتدخلات الإيرانية على قضايا المنطقة. فالبعض يرى أن أغلبها يتعارض مع المصالح العربية. بينما يرى البعض الآخر أن لإيران طموح مشروع يمكن التعامل معه في إطار من الحوار |
كما ارتبط عدد من الدول العربية ببعض دول الجوار ضمن إطار استخدم بعيداً عن المصالح العربية الكلية، بدلاً من توظيفها لخدمتها، وهو الأمر المنطقي. ونتيجة لذلك تزايدت دوائر أقلمة القضايا العربية وتراجعت خطوط التضامن بين الدول العربية. وأدى تزايد ضعف الروابط القومية إلى مزيد من ترهل النظام العربي وجعل اختراق مجاله السياسي والقفز فوقه أمراً معتاداً، ولم يقتصر ذلك على دول الجوار بل تعداه إلى قوى دولية.
وتراجع القوى العربية على هذا النحو، وما لحق بها من ضعف أو إضعاف، أتاح الفرصة أمام زيادة مساحة تأثير القوى الإقليمية الأخرى على القضايا العربية، ولتحل محل الأدوار العربية. وهذه المساحة كانت ستتضاءل كثيراً لو أن الأطراف العربية المعنية بهذه القضايا، لم تسمح بوجود فراغ سياسي إقليمي واضطلعت بالدور المنوط بها، وتصدت لهذه المشاكل بموقف عربي موحد.(6)
ودخل العرب في سباق التنافس بين الدول الإقليمية غير العربية، وأصبحوا بمثابة الظهير لكلا المتسابقين، أو لواحد منهم على حساب الآخر. وهذا السباق الذي شهدته المنطقة، وإن بدا سباقاً إقليمياً، هو في حقيقة الأمر سباق دولي تحركه القوى العظمى عن بعد.
النموذج الفلسطيني
وقد كان تأثير تدخل الأطراف الإقليمية غير العربية والعربية واضحا ولفترة طويلة على أزمة الخلافات والانقسامات بين فتح وحماس، واللعب على أوتارها وتوظيفها لمصالح غير عربية أو عربية خاصة، ووصل الأمر إلى درجة الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية نيابة عن أطراف إقليمية ودولية. ودفعت القضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، ثمناً باهظاً نتيجة استمرار هذا الانقسام، وهدد بتهميش القضية الفلسطينية.(7)
ولقد أثبتت تجارب الماضي أنه كلما ازداد تدويل القضية الفلسطينية، كلما أعطى ذلك فرص التدخل الأجنبي والهبوط بالقضية إلى المتاهات. فلكل طرف خارجي أجندته ومصالحه.
النموذج العراقي
ولعلنا نتذكر كيف استطاعت بعض دول الجوار غير العربية أن تزيد منافساتها في العراق، وتعزز المزيد من العنف وعدم الاستقرار الأمني فيه، بتزويدها الفصائل المتحاربة بالأسلحة. وقد استطاعت إيران في ظل الغياب العربي أن تمتلك حرية المبادرة والحركة السياسية، واستفادت من انحسار الوجود العربي داخل العراق، وبدأت تتغلغل داخله، إلى أن أصبحت عنصراً فاعلاً في العراق، وأصبح الأخير ساحة للتجاذب بين الولايات المتحدة وإيران، ويُستخدم للمساومة على قضايا غير عربية، واكتفى العرب بمراقبة تطورات الأوضاع في العراق عن بعد.
النموذج اللبناني
ولعلنا نتذكر أيضاً الأزمة اللبنانية التي استمرت عدة سنوات أصبح لبنان فيها ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية والحروب بالوكالة، وبعد أن أصبحت الأزمة اللبنانية مستعصية على الحلول العربية لجأت بعض الدول العربية إلى التشاور مع عدة أطراف إقليمية غير عربية وأطراف دولية، سواء كانت فرنسا أو الولايات المتحدة أو غيرهما، للمساعدة لإيجاد مخرج للمأزق اللبناني.
وقد قوبلت الجهود الإقليمية بـ"ﭭيتو" أميركي معطل أحياناً و"ﭭيتو" أوروبي أحياناً أخرى، حيث وضعت العراقيل أمامها لفترة من الوقت بالاستعانة ببعض القوى الداخلية، ليستمر مسلسل الاحتقان السياسي في لبنان، ويتزايد تدويل الأزمة اللبنانية، والربط بين المصائر اللبنانية والإرادات الإقليمية والدولية ومخططاتها وأجنداتها المعلنة والخفية.
وقد عانى لبنان كثيراً من محيطه الإقليمي، وكان في الواقع مرآة لتناقضاته وللضعف العربي. إلى أن تدخلت دولة قطر في هذه الأزمة، وأسفر الأمر عن تسوية مرحلية لها، التقطت خلالها الأطراف اللبنانية المتصارعة أنفاسها، وبدأت تركز في توجهاتها على الداخل، وإن ظلت أعينها متعلقة بالخارج الدولي.
وإذا نظرنا إلى إيران، نلاحظ انقسام العرب على الأدوار الإقليمية لها، أو خطفها لأوراق عربية للمزايدة ومصادرة القرار العربي.(8)
ولا يوجد حتى الآن توافق عربي حول التعامل مع إيران. فهناك تباين في المواقف العربية إزاء تقييم تأثير الاتجاهات والتدخلات الإيرانية على قضايا المنطقة. فالبعض يرى أن أغلبها يتعارض مع المصالح العربية. بينما يرى البعض الآخر أن لإيران طموح مشروع يمكن التعامل معه في إطار من الحوار، وأنه مهما كانت تجاوزات إيران الحالية، فيجب النظر لتطوير العلاقات معها باعتباره ضرورة إستراتيجية.
وأياً كان التباين بين هذه الآراء فإن أغلبها تلتقي حول أن الوضع الراهن للعلاقات العربية/الإيرانية لا يتناسب مع إمكانيات وقدرات الجانبين المدعوين لبذل الجهد اللازم لحل المشاكل العالقة بالطرق السلمية، وفي مقدمتها قضية الجزر الإماراتية الثلاث، والتوقف عن التصريحات التي تمس سيادة الدول العربية. إضافة لمزيد من الشفافية بشأن الملف النووي الإيراني، لتحسين البيئة الأمنية الإقليمية.
وفي التقدير أن تحركاً عربياً منسقاً ومتكاملاً تجاه إيران من شأنه وضع الأمور في نصابها، وأن يتم التعامل العربي مع إيران بلغة سياسية واضحة وصريحة لصالح الطرفين.
وهو ما حدا بوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى الإدلاء بتصريح مهم (15/3/2009)، حول العلاقات مع إيران، كان أهم ما تضمنه أن السعودية ترى أن دعم إيران للقضايا العربية يجب أن يكون عبر بوابة الشرعية، ويعبر عن نصرتها وليس بديلاً عنها، وشدد على أن هذا الدعم يجب أن يكون منسجماً مع الأهداف والمواقف العربية.(9)
إن الدعوة إلى التعامل مع القوى الإقليمية والدولية بحسابات قومية وعدم السماح لهذه القوى أن تضر بالنظام العربي وبصميم أمنه وتكامله، لا يعني الانعزال أو الانفصال عن الإطارين الإقليمي والدولي، بقدر ما يعني إعادة ترتيب دوائر الحركة بحيث تعطى الأولوية للدائرة العربية |
وبناء على هذا المنطق فإنه لا يجوز أن تتدخل إيران في الشأن العربي بشكل يمثل نقيضاً للعرب، وأن الدور الإيراني مع العرب، أو الدور التركي مع العرب، لابد أن يكون مكملاً ومساعداً، وليس دوراً منافساً.
وتفترض هذه النظرة أن التدخل الإيراني في الشأن العربي مرفوض، وبالمقابل فإن التدخل العربي في الشأن الداخلي الإيراني مرفوض أيضا.ً(10)
فهل ينجح العرب في تحويل مجمل العلاقات مع إيران من علاقات تعاونية/صراعية إلى علاقات تغلب عليها السمة التعاونية وإزالة أسباب التوتر الحالية. تلك مسئولية مشتركة، فالمستقبل المأمول فيه يُصنع بإرادة سياسية مشتركة، وحتى لا يكون مستقبلاً عشوائياً، فلابد أن نعد السياسات والخطط اللازمة لتحقيقه، ولإزالة كل التوترات غير المرغوبة.(11)
تزايد التأثير الدولي على توجهات النظام الإقليمي العربي
إن المتغيرات الدولية التي تحدث في العالم، تؤثر في النظام العربي وقضاياه، ربما بأكثر من أي منطقة أخرى في العالم. فوطننا العربي يقع في قلب العالم، ويتسم بسمات جغرافية واقتصادية وثروات إستراتيجية تجعله من أكثر مناطق العالم حساسية تجاه السياسات الدولية، وجاذباً لاهتماماتها ولتدخلاتها، لاسيما في ظل استمرارية العديد من القضايا الإقليمية دون حل، وعرض بعضها على المنظمات الدولية، في وقت تتراجع فيه فاعلية نظامنا العربي الإقليمي، وتتمزق خطوط التضامن العربية، مما أدى إلى المزيد من دوائر التدويل لقضايانا، وجعل اختراق القوى الدولية للمجال السياسي العربي والقفز فوقه أمراً ميسوراً ومعتاداً، لاسيما وأن بعض الدول العربية سعت إلى إقامة علاقات خاصة مع عدد من هذه القوى والاحتماء بها. وأصبحت بعض الأطراف العربية –حسب تعبير البعض– لا مرجعية لها إلا خصومها.(12)
نماذج للتدويل
ففي السودان، نجد أن الأسباب الأصلية للأزمة هي سياسية، وقاعدتها صراع المصالح، حيث يتداخل المحلي مع الإقليمي مع الدولي، ويفيد كل طرف حسب قدرته على استثمار نفوذه. وأصبح مجلس الأمن مرجعية للصراع السياسي بين الحكم والمعارضات المختلفة، بعد إضفاء صورة الإبادة العربية على بعض وجوه الصراع. فأصبح مجلس الأمن في عصر الهيمنة الأميركية المطلقة، المرجعية الوحيدة للشئون التي كانت عربية فدّولت وصار العرب فيها مجرد متهمين، وأحياناً شهود زور لا أكثر، وهو ما ينطبق على الأزمة اللبنانية، ومشكلة الصحراء بين الجزائر والمغرب، والصراع العربي، الإسرائيلي.(13)
والموقف السوداني في المرحلة الراهنة يبدو نقطة تماس ساخنة بين التدخلات الخارجية التي تعمل على تحويل جنوب السودان إلى شوكة في ظهر الأمن القومي العربي، وعنصر مواجهة بين الثقافة العربية والأفريقية، واللتين تآختا على مدى قرون طويلة في انسجام وتلاق. ويتوجب على العرب تبني موقف واضح ومساند للسودان، مع حثه على إنهاء معاناة أهالي دارفور بكل السبل المتاحة، ووضع نهاية لتلك الماسأة الإنسانية، حتى لا تصبح مبررا لتدخل القوى الدولية.
يضاف إلى ذلك، أنه نتيجة لتآكل مفهوم الأمن القومي، لاسيما بعد غزو نظام صدام حسين للكويت، زاد شعور بعض الدول العربية بعجزها عن الدفاع عن نفسها، وأدى للبحث عن الحماية الأجنبية أو إلى التحالف معها.(14) مما أضعف احتمالات قيام منظومة للأمن القومي العربي.
ولقد وصل الأمر نتيجة الضعف العربي إلى حد محاولة الولايات المتحدة –القطب الأوحد– وإسرائيل، وبمعاونة أطراف إقليمية إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وإلغاء الهوية العربية وطمس البعد القومي، لصالح صيغة أكثر اتساعاً، وهي الشرق أوسطية، لتعويق أي محاولة لإحياء العمل العربي المشترك على أسس قوية ومستدامة.(15)
صارت عوامل التفرقة العربية أكثر تفوقاً على عوامل الالتقاء، بما في ذلك الثوابت التقليدية، من لغة، ودين، وتاريخ مشترك، وتلاصق جغرافي.
نتيجة الضعف العربي حاولت الولايات المتحدة –القطب الأوحد– وإسرائيل، وبمعاونة أطراف إقليمية إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وإلغاء الهوية العربية لصالح صيغة أكثر اتساعاً، وهي الشرق أوسطية، لتعويق أي محاولة لإحياء العمل العربي المشترك على أسس قوية ومستدامة |
وقد كان من المفترض أن يقوم تجمع دولي كالاتحاد الأوروبي بحكم روابطه التاريخية والاقتصادية بالمنطقة العربية، بدور إيجابي في الصراع العربي/الإسرائيلي لتخفيض حدة التوتر ودعم قرارات الشرعية الدولية. إلا أن دول الاتحاد الأوروبي ظلت مستكينة لأدوارها كداعمة للسياسة الأميركية/الإسرائيلية في المنطقة، وتكتفي بإجراء تحركات سياسية واتصالات دبلوماسية فارغة المضمون، وخالية من أي محتوى سياسي، تتبنى خلالها مواقف أميركية وإسرائيلية ثبت فشلها.
إن التدخلات الخارجية سواء كانت إقليمية أو دولية، كرست التشرذم العربي وأوصلتنا إلى الوضع الذي أصبح معه فصل الصراعات العربية/العربية عن سياقها الإقليمي والدولي مستحيلا، إذ يعمد الأعداء الخارجيون للأمة العربية إلى استغلال تفاقم هذه الصراعات لتوجيه ضرباتهم للنظام العربي، كما كانت البيئة الإقليمية والدولية دائماً عنصراً فاعلاً في أداء هذا النظام. ويبقى صحيحاً أن التوصل إلى صيغة سليمة لعلاقة النظام العربي ببيئته الإقليمية والدولية، أمر لا غنى عنه للتوصل إلى استعادة الأداء الفاعل لهذا النظام.(16)
كما يلاحظ أن الثقة المتبادلة بين الأنظمة العربية قد تراجعت، وأخذت الدول العربية تدخل في منافسات ضارة لاختطاف الأدوار العربية عوضاً عن تنسيقها، وأصبحت تتدخل في شئون بعضها البعض، أو احتواء بعضها الآخر، وإن بمساعدة قوى أجنبية أخرى، وأصبح العنصر الأجنبي هو الفاعل الأكبر في شبكة العلاقات العربية/ العربية، بل إن تصريف هذه العلاقات في بعض الحالات لا يمكن أن يتم إلا ضمن الصيغ التي لا تتعارض مع المصالح السياسية الدولية (الأميركية بصفة خاصة). (17) مما أدخل المنطقة العربية في حالة من الحرب الباردة العربية.
ولهذا أصبح النظام الإقليمي العربي ساحة مكشوفة ومستباحة أمام القوى المعادية التي تتعامل مع دول هذا الإقليم على أساس أنها كيانات هزيلة وضعيفة ومشتتة. وفي الواقع، إن الأزمة الحقيقية لنظامنا الإقليمي العربي تكمن في طبيعة أنظمتنا العربية نفسها والمكونة لهذا النظام الإقليمي، وما لم تتوافق هذه الأنظمة مع متطلبات التطور الحضاري وقيمه، فلا أمل يرجى من تفعيل نظامنا الإقليمي، فلا يمكن تصور قيام نظام إقليمي عربي أكثر تقدماً وتطوراً من أعضائه، لأن فاقد الشئ لا يعطيه.
إن التضامن العربي فكرة جيدة لا غبار عليها، لكن لابد من وجود حد أدنى من التفاهم والشفافية يسود علاقات الدول العربية بعضها ببعض، وأن تكون لهذا التضامن قواعد وأصول ومبادئ تلتزم، لأنه إذا لم تراع هذه الأصول والمبادئ بدقة، وتُلتزم بأمانة، انقلب معنى التضامن إلى مدلول تجميدي معاكس.
فالنظام الإقليمي العربي وصل لمفترق طرق خطر، ومن المفترض أن يدفع ذلك القادة العرب لمراجعة حساباتهم السياسية السابقة، ويحزموا مواقفهم ويستجيبوا لنداءات شعوبهم، وإدراك حقيقة الفائدة التي سيجنيها الجميع إذا ما التزموا بالمصالح العربية العليا، عملاً بالحكمة القائلة: "إذا لم تسع إلى صنع مستقبلك فإنك تدع الآخرين يفعلون لك ذلك". وشتان بين مستقبل من صنع أصحابه وبين مستقبل من صنع الأعداء والمتربصين.
إن الدعوة إلى التعامل مع القوى الإقليمية والدولية بحسابات قومية وعدم السماح لهذه القوى أن تضر بالنظام العربي وبصميم أمنه وتكامله، لا يعني الانعزال أو الانفصال عن الإطارين الإقليمي والدولي، بقدر ما يعني إعادة ترتيب دوائر الحركة بحيث تعطى الأولوية للدائرة العربية، حتى يتسنى الخروج من حالة الضعف والتشرذم التي تعتري حركة النظام الإقليمي العربي.(18)
إن الأزمة الحقيقية لنظامنا الإقليمي العربي تكمن في طبيعة أنظمتنا العربية نفسها والمكونة لهذا النظام الإقليمي، وما لم تتوافق هذه الأنظمة مع متطلبات التطور الحضاري وقيمه، فلا أمل يرجى من تفعيل نظامنا الإقليمي |
ومن ناحية أخرى فالعرب مدعوون أيضاً إلى فتح قنوات الحوار الجاد مع دول الجوار لاستثمار القواسم المشتركة بينهم، ولإقامة علاقات تقوم على الاحترام المتبادل للحقوق والمصالح، وتحقيق مستقبل أفضل لشعوب المنطقة بعيداً عن شكوك الماضي وسياسات المحاور، وهو مطلوب أيضاً في الحوار مع مختلف القوى الدولية.
وعلى العرب السعي لحل مشاكلهم، لأنه إذا تراكمت المشاكل العربية دون حل، سيصبح النظام العربي في مفترق الطرق بين الاضمحلال والنهوض، وذلك لا يعني أن هناك فرصة متساوية أمام هذا النظام بين النهوض والاضمحلال، فإذا لم يتم إحياء النظام العربي بتفعيله مستنداً إلى قوى حقيقية ورؤى مشتركة بين أعضائه، وتنسيق علاقات العرب الإقليمية والدولية، ستصبح سياسات الأطراف الإقليمية والدولية بديلاً للنظام العربي.(19)
وآن الأوان لوضع حد للخلافات العربية العقيمة وأغلبها للأسف ذو طابع شخصي، وأن يتجه كل طرف عربي إلى التفكير بعقل الطرف العربي الآخر، أي تبادل المواقع معه للتفكير من الزوايا التي يرى من خلالها لفهم كيف يدرك هو مشكلاته، ومن ثم كيف يدرك علاقاته معها، وتصوره لحل المشكلات التي تواجهه ومطالبه تجاه الآخر، بغية التوصل للحلول المناسبة لها.(20)
ويجب علينا أن نتفرغ بكل قوانا لمواجهة ما تمثله إسرائيل من تحدي عسكري وسياسي وأمني وأيديولوجي وفكري واقتصادي وحضاري للأمة العربية، وهو في مجمله يمثل تحديا وجوديا. ويتصف التحدي الإسرائيلي بعنفه وشموليته وصعوبة التعامل معه بشكل منفرد.
ويلاحظ في الفترة الأخيرة بمناسبة الحديث عن المبادرة العربية للسلام أن هذا التحدي فرق الدول العربية بدلاً من أن يجمعها ويوحدها، وبرزت خلافات سياسية حول سبل مواجهة العدوان الإسرائيلي المتكرر، وحول الأسلوب الأنجع لمواجهة هذا الخطر، وحول الموقف من المقاومة العربية. وعلى الأطراف العربية التوصل إلى توافق أو اتفاق في الآراء حول الحد الأدنى المشترك المطلوب لمواجهة هذا التحدي.
وما لم يتوافر "العامل الذاتي" المتمثل في قدرة الأطراف العربية على الالتئام معاً حول صيغة للتأقلم الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية والدولية، واستعدادهم معاً لاستثمار جهد مشترك للسير على الطرق المؤدية إلى أهداف جوهرية لهم، فإن المرجح أن تتجمع العوامل السلبية في التحولات الراهنة على صعيد "البيئة الدولية"، وأيضاً على صعيد "البيئة الإقليمية"، بحيث تدفع أكثر المتغيرات السلبية في البيئة العربية نحو الانكماش الذي يؤدي إلى تقلص وظائف النظام العربي الحقيقية إلى الحد الذي تتحول فيه مؤسساته لمنتديات ثقافية ودبلوماسية بحتة للبلدان العربية بما يؤدي إلى اضمحلال النظام العربي، ومن ثم انهياره أو إذابته في أنظمة إقليمية أخرى.
مساعد وزير الخارجية المصري السابق، والمتخصص في الشؤون العربية.
المصادر:
(1) د. أسامة الغزالي حرب، "النظام العربي تحت التهديد"، ورقة قدمت في المؤتمر الإستراتيجي العربي الأول: عمان 15- 17/9/1987، الذي نظمه مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام، ومركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الإردنية ص236.
(2) رغيد الصلح، "غياب منظمات المجتمع المدني عن مواسم القمة العربية"، الحياة بتاريخ 19/3/2009، صـ9.
(3) صلاح سالم، "التفكير السياسي العربي"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2006، ص 94.
وفي ما يتعلق بالمراجعات النقدية للقومية العربية يمكن قراءة المزيد عن هذا الموضوع في صفحة قضايا للحوار بموقع مركز الجزيرة للدراسات عبر هذا الرابط (اضغط هنا).
(4) د. سليمان عبد المنعم، "تمدد الآخرون حيث تراجعت العروبة"، الأهرام، القاهرة، 18/3/2008.
(5) جميل مطر، "حالة الأمة: 1991"، التقرير القومي العربي الثالث، المستقبل العربي، بيروت، العدد 16، أغسطس 1992، ص 56.
(6) سامح راشد، "صعود "الإقليمي" على حساب "العربي"، صحيفة الأهرام، القاهرة، 16/10/2003، ص 34.
(7) خالد غزل، "فلسطين... قضية فلسطينية أولاً وأساساً"، صحيفة الحياة، 19/3/2009، ص10.
(8) زهير قصباني، "اختبار المصالحات"، الحياة، 12/3/2009.
(9) صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 16/3/2009، ص 1.
(10) بلال الحسن، "البحث عن إستراتيجية عربية موحدة"، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، بتاريخ 15/3/2009، ص 15.
(11) مداخلة د. محمد السعيد إدريس في ندوة (العلاقات المصرية/ الإيرانية)، التي نظمتها مجلة شئون المتوسط، بيروت، العدد 101، شتاء 2001، ص 20- 21.
- للمزيد عن تأثير التدخلات الإقليمية غير العربية أنظر: د. مصطفى عبد العزيز مرسي، "قوة التأثير العربية على قضايا المنطقة ومدى تأثرها بالعوامل الإقليمية والدولية"، شئون عربية، القاهرة، العدد 131، خريف 2007، ص 13- 24.
(12) طلال سلمان، "لا مرجعية للعرب.. إلا خصومهم"، صحيفة الشروق الجديدة، القاهرة، 11/3/2009، ص 11.
(13) المرجع السابق.
(14) د. كامل أبو جابر، ود. فيصل الرفوع، "النظام الإقليمي العربي: المنظور التاريخي والتطورات المستقبلية – المرحلة الثانية 1967- 1987"، ضمن (النظام الإقليمي العربي: الوضع الراهن والتحديات المستقبلية)، أعمال المؤتمر الإستراتيجي العربي الأول، الذي نظمه مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام، ومركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية، عمان، 15- 17 سبتمبر 1987.
(15) عبد الحليم المحجوب، "مبادرات إصلاح النظام العربي"، كراسات استراتيجية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، العدد الثالث رقم 133، 2003.
(16) د. أحمد يوسف أحمد، "الوضع العربي الراهن وسبل الخروج منه"، المستقبل العربي، العدد 16، أغسطس 1992.
(17) خضر عباس عطوان، "نحو نظام عربي فاعل... منظور سياسي: هل يمكن تشكيل المستقبل العربي"، شئون عربية، القاهرة، العدد 136، شتاء 2008.
(18) خليل العناني، "العرب والتحالفات الخارجية.. هل اندثر النظام العربي"، شئون عربية، القاهرة، العدد 133، ربيع 2008.
(19) د. محمد السيد سعيد، "مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج"، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافةو والفنون والآداب، الكويت، العدد 158، فبراير 1992.
(20) صلاح سالم، مرجع سبقت الإشارة إليه، ص 114.