مصطلح "النظام الرسمي العربي"
الوضع الثقافي والنظام العربي الرسمي
لا شك أن اختيار عنوان هذا "الاستفتاء الثقافي"، بالصيغة العامة والمرنة التي اقترحها علينا مركز الجزيرة للدراسات، إنما يهدف -في ظني على الأقل- إلى إتاحة أكبر قدر من الحرية للمشاركين، ليعبروا عن وجهات نظرهم من الزوايا والمداخل التي يعتقدون أنها الأقدر على إيصال تصوراتهم ومقترحاتهم.
وقد يكون هذا المسعى المنهجي الذي سلكه المركز مفيدا في دراسة بعض الحالات وتحليل بعض الظواهر الفكرية والإبداعية، مثلما يمكن أن يوقع الباحث في حيرة من أمره، فلا يدري أي سبيل يسلك، ظنا منه أن هذا النهج أو ذاك أفضل من الآخر.
وعلى كل، أود أولا أن أتوجه بالثناء على مبادرة مركز الجزيرة للدراسات، كونه عرض للنقاش العلمي، بواسطة هذا الاستفتاء الحر، قضية فكرية وإبداعية حاضرة بقوة في أذهان المفكرين والمبدعين والمشتغلين بالشأن الثقافي، وذلك بالنظر إلى ما يجتازه الوطن العربي من ظروف عصيبة، يتداخل فيها العامل السياسي بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية، ينبغي على أي باحث استحضارها كلها، كيفما كان المنطلق الفكري الذي يحركه.
ومن ناحية أخرى، فإن معالجة ما يسميه مركز الجزيرة "النظام الرسمي العربي" بأدوات تحليل ثقافية، هي خطوة موفقة، بما تعنيه من تحييد وإبعاد لموضوع ثقافي عن السجال السياسي المباشر والمحتدم، حيث لا يحيد فيه طرف عن معتقداته.
يحيل مصطلح "النظام الرسمي العربي" مباشرة وفي الغالب على السياسات، بالمفرد والجمع، التي تتبعها هذه الدولة أو تلك.
وهنا يبرز إشكال منهجي يتعذر معه الوصول إلى خلاصات يطمئن إليها أي باحث، اعتبارا لشساعة المجال واختلاف الأوضاع والأنظمة السياسية وخصوصيات ومقومات وثوابت مختلف الشعوب العربية.
فماذا يا ترى نقصد بالنظام الرسمي العربي؟ هل القصد هو السياسات والبرامج والمشاريع المطبقة داخل كل قطر، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الدفاعية والأمنية؟
أم أن القصد منحصر في وصف تلك السياسات وإبراز آليات اشتغالها وكيفية تعاملها مع الخارج وأسلوب تدبيرها للأزمات الإقليمية والدولية؟
هل يمكن تصور نظام عربي بدون إستراتيجيات تحركه وتتحكم فيه؟ وعلى أي أساس يجب أن تبنى تلك الإستراتيجيات؟ وما مدى ارتباطها بالقدرات الذاتية لكل دولة؟ وهل تخضع هذه الإستراتيجيات إلى مراجعة وتقييم؟
لكن التساؤل المهم من وجهة نظري يكمن في التسليم أو عدمه بفرضية وجود نظام عربي رسمي. فعلى افتراض وجوده، هل يكون معناه بلورة وتجميع كل الأنظمة الوطنية في بوتقة واحدة؟
هنا أيضا يثار إشكال الانسجام بين مكونات هذا النظام وتفاعلها وتكاملها فيما بينها حتى تنتج نظاما رسميا مشتركا، يأخذه "الآخر" بالاعتبار في تعامله وعلاقاته مع الدول العربية، سواء على الصعيد الثنائي أو الجماعي، بصورة مباشرة أو من خلال تجمعات سياسية من قبيل جامعة الدول العربية أو غيرها من التجمعات الإقليمية.
هناك ضرورة للاستفادة من منجزات الفكر السياسي الحديث الذي يقدم نماذج وحدوية سياسية ناضجة ومتماسكة وقادرة على الحياة، لا تستند على المقومات التي آمن بها المنظرون للوحدة العربية، بل تسري بداخلها تعددية سياسية وفكرية ولغوية وإثنية وتاريخية بل وحتى دينية |
وفي هذا الصدد، فإني لا أبالغ في إضفاء أهمية قصوى على الدور الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة في تذويب الخلافات وتقريب المسافات بين العرب، مثلما لا أنتقص من ذلك الدور. فقط أدعو وببساطة إلى النظر إليه في نسبيته.
إذا كانت الدول العربية تسعى حقا، في الظرف الراهن، إلى توحيد قواها وطاقاتها في بوتقة مشتركة، في صيغة سياسية يمكن الاتفاق عليها، فإن ذلك الحلم لم يعد قابلا للتحقيق، انطلاقا من نفس المبادئ التي بسطها في حينها المفكرون الوحدويون الرواد، الذين تصوروا إمكانية قيام وحدة عربية مؤسسة على عوامل اللغة والثقافة والتاريخ المشترك.
أصبح واجبا استبدال تلك المقومات، بأخرى بديلة، أنتجها وفرضها العصر، لكونها تتسم بالواقعية والبرغماتية، لا تقفز على الحقائق ولا تلغي الخصوصيات القطرية.
يفترض هذا الطرح كذلك، ضرورة الاستفادة من منجزات الفكر السياسي الحديث الذي يقدم إلينا نماذج وحدوية سياسية ناضجة ومتماسكة وقادرة على الحياة، لا تستند على المقومات التي آمن بها المنظرون للوحدة العربية، بل تسري بداخلها تعددية سياسية وفكرية ولغوية وإثنية وتاريخية بل وحتى دينية.
الوضع الثقافي والنظام العربي الرسمي
أعود الآن إلى ملامسة الموضوع من الزوايا التي تبدو لي معقولة. ومنذ البدء، أعرب عن تحفظ منهجي من الآراء التي تربط الوضع الثقافي بالوضع الرسمي في الوطن العربي.
الثقافة، بمعناها العام، التي لها بناؤها المستقل ونمط تطورها الداخلي الخاص بها، لا تكون تابعة أو ذيلا لأي نظام رسمي يتعذر عليه تدجينها ووضعها تحت معطفه، لتكون مطاوعة له وفي خدمته بالشكل الذي يرضاه.
نقصد هنا الثقافة والإنتاج الثقافي بالمواصفات والمعايير العلمية المتداولة عالميا، وليس ثقافة التصفيق والتطبيل في المناسبات العابرة. هذا الصنف الأخير من الثقافة والمثقفين مستبعد من اهتمامنا.
صحيح أن الإنتاج الثقافي عموما، مثل سائر التعبيرات الرمزية في أي مجتمع، لابد وأن يتأثر بالأجواء العامة وبالصراعات والتوترات الظاهرة والخفية، التي هي سمة أي مجتمع حيوي يسعى نحو التطور، غير أن القول بالتطابق التام بين البنيات التحتية والذهنية، إنما يعود بنا إلى التحليل الماركسي الميكانيكي للظواهر الفكرية والإبداعية.
إذا سلمنا بوجود حالة وهن في النظام الرسمي العربي، فإنها ليست السبب المباشر في فتور الحركة الفكرية وضعف التواصل والتفاعل الثقافي بين جناحي الوطن العربي في المشرق والمغرب |
لماذا لا نفترض العكس، ونلقي على المفكرين والمثقفين جزءا من مسئولية التقاعس والتخلي عن دورهم في استنهاض الهمم وحثها على توحيد الأهداف وتعميق عرى التواصل بين الشعوب العربية؟ الواقع أنه، لا هؤلاء ولا أولئك يتحملون حالة القصور في التواصل، وإنما هي أوضاع تاريخية معينة.
دعوني أقول إن راسمي السياسات العربية لا ينطلقون جميعهم من مرجعيات متماثلة في نظرتهم إلى العوامل الثقافية. فلكي تؤثر الثقافة والمثقفون في صانعي القرار، فإن ذلك يستلزم انتشار الوعي بدرجة كافية بين الشرائح الاجتماعية في مجتمع متعلم تسوده تقاليد الاستهلاك الثقافي، ما يعني وجود إعلام حر قوي وحركة نشر متطورة ومؤسسات مسرحية وسينمائية ومعاهد فنية راقية وجامعات متقدمة تشكل مشتلا لاستنبات الأفكار وصناعة النخب. فالحرية هي سماد الفكر والإبداع.
والحال أن المثقفين يشكلون في أغلب الدول العربية فئة، أقل ما يقال عنها إنها ناهضة، تتلمس طريقها، محدودة التأثير في محيطها، لا يصل خطابها إلى عمق الشرائح المجتمعية الكبرى التي يتشكل منها "الرأي العام" القادر على ترشيد صانعي القرار.
كما أن القنوات الديمقراطية القائمة في بعض تجارب الحكم العربية، ليس للمثقفين والمفكرين فيها وجود وازن، إما لتعاليهم عن الواقع أو عدم ثقتهم في النظام الانتخابي القائم أو لفشلهم في نيل ثقة الجماهير بالتصويت لصالحهم.
وأود هنا، أن أميز بين مصطلحين متصلين بالثقافة، كثيرا ما يقع الخلط بينهما. هما المثقفون والمتعلمون. فالمتعلمون قد يشتغلون بالثقافة إنتاجا وترويجا واستهلاكا، دون رابط فكري قوي بينها، في مقابل فئة "الإنتليجينسيا" أو "الصفوة المفكرة والمبدعة" التي تلتقي حول تيارات فكرية ومذاهب فلسفية، وتملك تصورا شاملا ودقيقا عن المجتمع وكيفية تنظيمه. صفوة تتوفر كذلك على وسائل التحرك والتدخل السلمي الفاعل في القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال ثقلها الرمزي في المجتمع، فضلا عن أنها تتسم بطابع الديمومة والاستمرار وتداول فكرها من جيل إلى جيل.
الديمقراطية، بمعناها الواسع والشامل الذي يأخذ بعين الاعتبار احترام المنظومة القيمية والثوابت والخصوصية المجتمعية لكل شعب من الشعوب العربية، هي الكفيلة بتحقيق التواصل الإنساني بأشكاله الثقافية والفكرية والفنية وكذلك الاقتصادية والتجارية والعلمية |
وأمام هذه الحالة، يتخذ التواصل الثقافي بين أطراف الوطن العربي معنى بسيطا لا يتعدى علاقات التعارف الإنساني وتبادل الزيارات والرأي في الندوات والملتقيات والتراسل والتشاور بصدد بعض القضايا.
إن "الإنتليجينسيا" التي مهدت في الغرب لمراحل التحديث وعصرنة المجتمعات وتطوير الممارسات الديمقراطية، غير موجودة بنفس الشكل والمواصفات في الوطن العربي، لانعدام السند الفلسفي. لا يجوز الحديث عن دور مؤثر للمثقفين في بيئة لم يزدهر فيها الفكر الفلسفي.
يوجد تواصل ثقافي من طراز جديد، بين مشرق الوطن العربي ومغربه، أتاحته ويسرته الوسائل الحديثة المستفيدة من منجزات تكنولوجيا الاتصال والتنقل. تلك الوسائل المتطورة غيرت نظرتنا إلى التواصل والعلاقات الثقافية البينية. اختزلت المسافات وتجاوزت الحدود وقيود الرقابة كما أصبح بمقدورها الإفلات من أساليب المنع. لكن هذا الشكل من التواصل الثقافي يتسم بالطابع الاستهلاكي العابر. ويمكن أن يكون مفيدا إذا استند إلى رؤية إعلامية وفكرية، تستثمر في تقريب الرؤى وإبراز ما هو مشترك بين العرب، مع احترام خصوصيات ومقومات وثوابت كل مجتمع.
التواصل والتفاعل الثقافي، بين مفكري الوطن العربي وأجزائه، بدأ يتحقق تدريجيا خارج القنوات الرسمية والتقليدية. أفكر فيما يتولاه المجتمع المدني، الذي بدأ يعبر عن نفسه في كثير من الدول العربية، من خلال تعبيرات شتى.
يتأسس فكر المجتمع المدني على قيم الحداثة والحكامة الجيدة وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان والتعايش بين الأديان والتساكن بين الإثنيات واللغات والثقافات، في إطار مرجعية كونية، يأخذ منها النسيج الجمعوي المنتشر في شتى أنحاء المعمور.
وأعتقد أنه أصبح من اللازم على المجتمعات العربية الاستفادة من كيفية اشتغال هيئات المجتمع المدني، باعتبارها القادرة على تحقيق التواصل المنشود. خاصة وأن المجتمعات الحديثة تتجه نحو تقوية المجتمع المدني، بحيث لا يجوز لصانعي القرارات والسياسات الكبرى، تجاوز قوة المجتمع المدني.
وفي هذا السياق، فإني كثيرا ما أستشهد في تواضع بتجربة "موسم أصيلة الثقافي الدولي" التي نهضت بها مؤسسة غير حكومية خرجت من صلب المجتمع المدني. لقد أتاح لنا ذلك الإطار، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود متواصلة، تحقيق شكل عميق من أشكال التواصل واللقاء الفكري والإبداعي بين المدارس والاتجاهات والتيارات والمذاهب، بين الشمال والجنوب، وبين الغرب والشرق.
فالحوار والنقاش الذي شهدته أصيلة في إطار جامعتها الصيفية المعتمد ابن عباد وضمن منتديات موسمها، يصعب استيعابه واحتضانه من قبل بعض الأنظمة السياسية، وطنية كانت أو قومية، لتعارض الوسائل والأهداف والمنطلقات.
وبهذه الوسائل، يصبح في مقدور المجتمع المدني أن يؤثر سلميا في السياسات، كيفما كان وصفنا لها. وفي جميع الأحوال، فهو مسلسل مسترسل، بل هو طوق النجاة الذي يمكن أن تتشبث به الإنسانية.
وأود أن أختم هذه الملاحظات بإبداء رأي لا ينتقد الأنظمة الرسمية العربية ولا يدافع عنها، بل أشير فقط إلى أن بعض هذه الأنظمة لم تول اهتماما كبيرا لمسألة التواصل الثقافي بالشكل الذي نبتغيه، إذا لم أقل إنها عرقلت وحالت دونه في بعض الأحيان.
وأخيرا وليس آخرا، فإني أعتقد أن الديمقراطية، بمعناها الواسع والشامل الذي يأخذ بعين الاعتبار احترام المنظومة القيمية والثوابت والخصوصية المجتمعية لكل شعب من الشعوب العربية، هي الكفيلة بتحقيق التواصل الإنساني بأشكاله الثقافية والفكرية والفنية وكذلك الاقتصادية والتجارية والعلمية.
_____________
وزير الثقافة ووزير الخارجية والتعاون في المملكة المغربية سابقا. حاليا أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة ورئيس بلديتها.