أزمة النظام الرسمي العربي.. رؤية إصلاحية

إننا كأمة عربية – أقطارا وشعوبا– بحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية لأنفسنا للحيلولة دون الاستسلام لقدرية من شأنها تهميش الذات. مراجعة من شأنها دفع النظام الرسمي العربي إلى تحمل مسؤوليته التاريخية والقيام بواجباته المنوط بها.

كلوفيس مقصود


مراجعة نقدية
مقترحات ممكنة التحقيق


لعل خطورة طرح الأسئلة بدون توقع أجوبة يكاد يكون صورة لحالة "الوهن والشلل" التي تعيشها الأمة العربية. وهذا هو التحدي في سؤال مركز الجزيرة للدراسات الذي طرحه بشأن المخرج من حالة الوهن التي يعيشها النظام الرسمي العربي.


وما يفسر هذا الوهن كون التفكيك القائم بين الأقطار المكونة للنظام الرسمي أدى إلى زرع بذور التفتيت داخل المجتمعات العربية نفسها.





يجب علينا إيقاف النزف في هوية ووحدة مصير الأقطار العربية، والعمل معا على تمتين النسيج الاجتماعي لكل قطر من أقطار الأمة العربية ومعاودة رسم مسيرة التوجه الوحدوي
يستتبع هذا التوصيف أن الأمة العربية على مستوى "نظامها الرسمي" أصبحت فاقدة للمناعة، وبالتالي فقد أحاط بهذا "النظام" إطار هش، تتسم مداولاته إجمالا بالتكاذب المتبادل إذا توخى "المصالحة" مع نفسه، وتبقى "المصالحات" مؤقتة في أحسن الظروف ومتوترة أو يشوبها تشكيك باحتمال استمرار مفاعيلها.

من هنا فالنظام العربي الرسمي القائم لا يشكل للشعوب العربية مرجعية موثوقة توجهها، ولا إطارا ينظم مسيرتها ويضبط خطواتها.


لكن هذه الصورة القاتمة ليست ناشئة من فراغ، بل بعض أسبابها تكمن في التباين واختلاف الظروف الموضوعية التي أدت إلى إنجاز استقلال الدول العربية في مراحل مختلفة، ومن تعدد القوى الاستعمارية والمهيمنة، التي أفرزت بدورها طواقم محلية انبهرت بمظاهر "السيادة" وما أفرزته من مصالح أدت إلى تفاوتات اجتماعية واقتصادية بين أقطار النظام العربي وداخل كل منها.


مراجعة نقدية


كون النظام الرسمي العربي على هذه الحالة من الوهن، فإن ذلك يوجب علينا أن نكون جميعا على استعداد لإيقاف تداعيات ما أفرزه هذا الوهن على حاضر ومستقبل الأمة، وبالأخص على مستقبل شعوبها وأجيالها الصاعدة.


ويتأتى ذلك من خلال إيقاف النزف في هوية ووحدة مصير الأقطار العربية، ومن ثم معاودة رسم مسيرة التوجه الوحدوي المرتبط بمشروع تنمية مستدامة يعيد النجاعة إلى مشروع السوق العربية المشتركة لجعل الثروات العربية البشرية والمادية وبالأخص النفطية في خدمة نهضة مستعادة وترسيخ قناعة بوحدة المصير العربي بعدما سببت حالة الوهن لا مجرد تعددية المصائر بل -وهو الأخطر- تناقض تلك المصائر.


هذا يعني -بادئ ذي بدء- زيادة الوعي لدى الأجيال الصاعدة العربية بأن مصيرها مرتبط بالوحدة العربية.


إلا أن الأجيال العربية الصاعدة ربطت بين القومية العربية وأنظمة القمع التي تخفت وراء شعاراتها، كما أن هذه الأنظمة القومية ارتبطت في عقل الأجيال الصاعدة أيضا بالفشل في مجابهة المشروع الإسرائيلي وردعه على مختلف المستويات. 


هذا الواقع يتطلب مراجعة عميقة لمفهوم القومية ولإعادة تعريفها، (1) بما يلبي أمن وأمان الإنسان العربي، ويحدد بشكل واضح ماهية الثوابت، ومن ثم تمكينها من التكيف مع المستجدات والمتغيرات المتكاثرة.


مع هذه المراجعة، ومع زيادة وعي الأجيال القادمة بأهمية الوحدة العربية، تأتي ضرورة تمتين النسيج الاجتماعي داخل أقطار الأمة العربية.


فالمجتمع في كل قطر من أقطار الأمة، يجب أن يؤكد قدرته على إعادة تلاحم مكوناته في سبيل استقامة ومناعة وحدته الوطنية، وبالتالي يصبح كل مجتمع بمنأى عن التفسخ الذي تفرزه نتوءات التزمت العرقي والطائفي والقبلي وغيرها من المذهبيات العبثية، والتي من شأنها تبعثر الطاقات البشرية، وتفويت الفرص على مشاريع التنمية الإنسانية، واستيلاد حروب تسمى "أهلية" تسمم مقومات المخزون الثقافي، وتغلب العصبيات على عقلانية المواطن.





إننا كأمة عربية – أقطارا وشعوبا– بحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية لأنفسنا للحيلولة دون الاستسلام لقدرية من شأنها تهميش الذات، وهجرة الأدمغة، والتخلي الطوعي عن أي طموح في صناعة التاريخ
وهذا ما شاهدناه طوال نصف القرن الماضي، وكله ناجم عن تفكك النظام العربي الرسمي. هذا التفكك الذي أنتج التفتيت داخل المجتمعات العربية، وظهور حالات فتن ونزاعات نتيجة اللجوء المستمر إلى الغرائز البدائية، وفي كثير من الأحيان تحويل المواطنين إلى ما يشبه القطعان، ومن ثم، جعل "كرامة" الطائفة، أو المذهب، أو العرف، أو القبيلة، مرتكزة على تعزيز التقوقع وجعل الانفتاح مدخلا لتمييع عصبية الانتماء وذوبان مفهوم "الكرامة". 

هذا التفتيت الاجتماعي داخل النسيج الوطني كان مدخلا للاختراقات المتعددة، وسهولة استباحة الحقوق القومية الرئيسية بدون رادع جدي، ونجم عنه زيادة محاولات المراهنة على الغير، أو الارتهان له، واستساغة الاتكالية، وتعريف هذا الانزلاق "بالواقعية".


إذا كانت الأسئلة المطروحة كما أشرنا في غاية الصعوبة، فهذا لا يعني التخلي عن الإجابة، فلابد من القيام بمحاولات تتعمد التشخيص الصارم، ودقة التعبير، ووضوح الهدف، وتكون كذلك أنجع في تحقيقه.


فالمتغيرات الحاصلة سريعة، وكثير منها مباغت ومعقد، مما يستوجب علينا إحاطة واسعة بأسباب ودوافع المستجدات، ومما يفرض إتقان إدارة التصعيد، حتى لا يصبح التحدي هو إدارة الفوضى.


ورغم توافر بعض مراكز الدراسات المعنية بدفع قوى التغيير والإصلاح في جسد الوطن العربي مثل مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية في القاهرة، ومركز الجزيرة للدراسات في الدوحة، ورغم محاولات بعض النقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني مقاومة النهج السلطوي لبعض الأنظمة العربية، رغم هذا فإن الأمر لا يزال بحاجة إلى المزيد.


يتبين بعد هذا التشخيص المقتضب للحالة الراهنة إجمالا، ولممارسات النظام العربي الرسمي على جهة الخصوص، أننا كأمة عربية – أقطارا وشعوبا– بحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية لأنفسنا للحيلولة دون الاستسلام لقدرية من شأنها تهميش الذات، وهجرة الأدمغة، والتخلي الطوعي عن أي طموح في صناعة التاريخ، أو الشعور بعدم جدوى المشاركة في الحياة العامة، والاكتفاء ببقاء كريم أو مجرد وجود "محترم".


مقترحات ممكنة التحقيق


قد تكون الإجابة على سؤال ما العمل وما المخرج طموحا لن تُحقق أي من بنوده في الوقت المتاح، وقد يكون هذا الاستنتاج منطقيا أو صحيحا، لكن تسارع الأحداث وهبوب الأعاصير التي تعصف بمصالحنا وحقوقنا وطموحات أجيالنا القادمة، تفترض تكثيف وتسريع المقترحات والتى -وإن لم تنجز كل المرغوب- من شأنها تعريف النظام الرسمي العربي أن مخاضا فكريا وثقافيا وسياسيا قائما لا بد من التعامل معه، حتى لا يتحول المخاض في حال كبته وعدم الاستجابة لضرورة التعامل معه إلى انفجارات.


لذا لا يجوز أن ندع "الواقعية المزورة" تثنينا عن "مغامرة" طرح بعض المقترحات الممكن القبول بها لنبدأ في بناء جسر فوق الهوة بين  صانعي الرأي وصانعي القرار، وكسر طوق حالة الاغتراب بينهما.


المواطنة الكاملة
إذن ما العمل فورا؟ أقول إنه ما دامت جامعة الدول العربية هي الإطار الذي يحدد عروبة الهوية والانتماء، فهذا يعني أن من يعتبر مصيره مرتبطا بقطر عربي فهو مواطن عربي، وقد يكون هذا المواطن من أصول كردية كما هو الحال مثلا في العراق وسوريا، أو أصول أرمنية كما في لبنان وسوريا وفلسطين، أو أمازيغية كما في الجزائر... إلخ. فالمواطنة، والتمتع بالحقوق كاملة مهما تباينت الأعراق والانتماءات الدينية، يجعلان المضمون الإنساني للهوية العربية مقبولا ومستساغا عند الأكثرية الساحقة.


ولعل بعض هذه الشرائح تريد التمتع بممارسة لغتها مع العربية، أو بحكم إداري ذاتي، فهذا حق من حقوق المواطنة العربية، فالعروبة بهذا المفهوم لا تنبثق من واقع تعددية، بل من واقع تنوع، فالتعددية تكرس الانفكاك، في حين أن التنوع يثري الوحدة الوطنية والقومية.


فإذا تمكن النظام الرسمي العربي من تكريس مفهوم المواطنة، وإسقاط التعريف الديني والعرقي والطائفي، فأعتقد أن هذا من شأنه المساعدة على استقامة شعور الانتماء، وأن يمحو أي تمييز بين مواطن وآخر، وتصبح مجتمعاتنا شديدة الثراء والتنوع الملهم، وليس التعددية المقعدة عن التطور.


وإن من شأن تعريف عروبة الهوية بهذا المعنى أن يساهم في فعالية التحركات الدبلوماسية، واتباع نهج السياسات الوقائية لاجتناب النزاعات العرقية والطائفية والقبلية، التي أنهكت حروبها عددا لا يستهان به من شعوب الأمة.


تعزيز الجامعة العربية
واستطرادا، يجب أن يوفر النظام الرسمي العربي آلية للدبلوماسية الوقائية، وجهازا للإنذار المبكر حتى لا تتحول الخلافات إلى نزاعات، ومن ثم إلى حروب أهلية، وأن يمكن هذا النظام جامعة الدول العربية من تعزيز مؤسساتها المختصة الاقتصادية منها والثقافية والإعلامية.


ولابد من التغيير في هيكلية مؤسسات الجامعة بحيث تتحول الجامعة من مجرد جامعة حكومات إلى جامعة دول، بمعنى أن الدولة هي حكومات ومجتمعات مدنية.


وعلى الجامعة وأمانتها العامة أن توفر آلية تمكن مؤسسات المجتمعات المدنية العربية والأهلية أن ترفد القرارات العربية بمطالبها وآرائها وقناعاتها إلى الحكومات والأنظمة، حتى تجئ قرارات القمة مستوعبة للمخاض الجماهيري وحتى تكون الجامعة مسئولة تجاه الأنظمة وتجاه الشعوب أيضا.


هذا التجسير بين الحكومات والشعوب من شأنه -إذا تم واستقام- أن يخرج مداولات وقرارات القمم العربية ومجالسها إلى عطاءات المجتمعات العربية، عوضا عن حالة الاغتراب التي تعيشها تلك القمم. فهذه المشاركة مطلوب انتظامها، ووضع آلية لها، وستكون بذلك إحدى الوسائل الناجعة نحو تقليص الوهن الذي يهدد النظام الرسمي العربي.


الانفتاح على إدارة أوباما
كذلك من الأهمية بمكان بالنسبة للنظام الرسمي العربي الإمساك باللحظة التاريخية الراهنة التي جاء فيها الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما إلى السلطة، خاصة بعد أن أبدت هذه الإدارة استعدادا جديا للاقتناع وللإقناع، واستعدادا للحوار والتفاوض مع من قاطعتهم إدارة جورج دبليو بوش.
   
السوق العربية المشتركة
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية فقد أصبح لزاما الإسراع بقيام السوق العربية المشتركة لأنها أصبحت ذات أولوية قصوى لضمان تحقيق مناعة اقتصادية للأمة العربية، وقاعدة انطلاق للتعامل الاقتصادي مع العالم من موقع المناعة التي يوفرها التكامل الاقتصادي العربي.





من الأهمية بمكان بالنسبة للنظام الرسمي العربي الإمساك باللحظة التاريخية الراهنة التي جاء فيها الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما إلى السلطة، خاصة بعد أن أبدت هذه الإدارة استعدادا جديا للاقتناع وللإقناع
كذلك فان التنسيق الملزم في هذا الاتجاه يجعل الكثير من مقترحات تقارير التنمية الإنسانية قابلة للتحقيق مما يوفر الفرصة لمكافحة الفقر، وتوفير فرص العمل، وتوسيع أطر المشاركة في توظيف المال بشكل يركز على أولوياتها في الوطن العربي بدلا من مغامرات توظيفها في الخارج دون الوقوع في انعزالية اقتصادية.

هذا التكامل بين الثروة المتوفرة وثورات التغيير من شأنه أن ينتج قناعة بوحدة المصير العربي، وبالتالي ترجيح العلاقات الأفقية (القومية) على العلاقات العمودية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.


الاستعانة بالحكماء العرب
إزاء هذه التحديات القائمة والمستجدة، فإنني أقترح على سيادة أمين عام الجامعة العربية دعوة عاجلة لعدد من حكماء العرب، والمفكرين، والناشطين، والخبراء، لدراسة هذه التحديات الدائمة والمستجدة


وليس ضروريا أن يلتزم النظام الرسمي العربي بهذه الأفكار كلها، بل قد يكون اجتماع هؤلاء الحكماء مفيدا كهدف في حد ذاته.


الحذر من تضخيم الخطر الإيراني
هؤلاء الحكماء مثلا يمكن أن يقدموا نصيحة للنظام الرسمي العربي متعلقة بالعلاقة مع إيران، إذ يجب علينا نحن العرب أن لا ننزلق إلى مخاوف مبالغ فيها من السياسات الإيرانية.


فقد تكون سياسات إيران الإقليمية متباينة مع بعض المواقف والمصالح العربية، كما أن خطابها السياسي قد يتسبب في استفزاز بعض القناعات السائدة مما يستولد مخاوف منها، لكن في مطلق الأحوال يمكن القول إن العلاقات العربية الإيرانية يمكن تصنيفها في خانة أن أحدهما عدو للآخر.


ولا يجوز أن تصبح الخلافات الإيرانية العربية مقدمة أو متوازية مع حقيقة الخطر الإسرائيلي العابث بشكل عدائي مطلق مع الحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني، والرافض الإقرار باحتلاله الأرض، وغير المستعد للاعتراف بالغبن التاريخي الذي ألحقه باللاجئين الفلسطينيين والحيلولة دون حق العودة.


في هذا المجال باستطاعة حكماء ومفكري وناشطي المجتمعات المدنية العربية أن يوفروا لجامعة الدول العربية مقترحات "واقعية" في هذا المجال.


مقترحات تأخذ في عين الاعتبار الاستفادة من الانفتاح الذي يرافق إدارة أوباما ورغبتها في التعامل مع القضايا العربية بأسلوب مختلف، وتأخذ أيضا على عاتقها كيفية إنضاج رؤية عربية تفضي إلى توحيد الموقف، خاصة إزاء قضايا مهمة مثل دارفور، وما بعد الانسحاب الأميركي من العراق، وما تعتبره فئات لبنانية "مخاوف" من احتمال "تقارب" مع سوريا.


وتعمل تلك المقترحات أيضا على كيفية إنضاج الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإعادة هندسة منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تصبح قيادتها الجديدة ممثلة لكل قطاعات الشعب الفلسطيني ومتفقة على برنامج تحرر وطني لا يستبعد المقاومة بعد استنفاذ جميع الخيارات السلمية.


فهذه الوصفات العلاجية تجعل الوحدة العربية واقعا، بدلا من كونها مجرد حلم وأمل، وتجعلنا نقول إنه لا يزال الحل ممكنا لحالة الوهن التي يعيشها النظام الرسمي العربي.
_______________


الممثل الأعلى السابق لجامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة والولايات المتحدة، ورئيس مركز دراسات عالم الجنوب بالجامعة الأميركية في واشنطن حاليا.


1- في ما يتعلق بالمراجعات النقدية للقومية العربية يمكن قراءة المزيد عن هذا الموضوع في صفحة قضايا للحوار بموقع مركز الجزيرة للدراسات عبر هذا الرابط (اضغط هنا).