تركيا في آسيا الوسطى والقوقاز.. تأمين لجسور الطاقة

غيرت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 من نهج تعاملها مع منطقة القوقاز وآسيا الوسطى فعوضا عن التنافس والصراع على المصالح والنفوذ اتبعت أنقره فلسفة التعاون والشراكة وقدمت نفسها على أنها الدولة المصدرة للأمن والاستقرار.







أردوغان يفتتح المرحلة الأخيرة من خط باكو-تبليسي-جيهان (الفرنسية-أرشيف)


محرم أكشي


غيرت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 من نهج تعاملها مع منطقة القوقاز وآسيا الوسطى فعوضا عن التنافس والصراع على المصالح والنفوذ اتبعت أنقره فلسفة التعاون والشراكة وقدمت نفسها على أنها الدولة المصدرة للأمن والاستقرار.


تغيرات إستراتيجية 
فلسفة جديدة للتعامل مع الجيران


تغيرات إستراتيجية





غيرت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 من نهج تعاملها مع منطقة القوقاز وآسيا الوسطى فعوضا عن التنافس والصراع على المصالح والنفوذ اتبعت أنقره فلسفة التعاون والشراكة وقدمت نفسها على أنها الدولة المصدرة للأمن والاستقرار
وكان تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال ست دول إسلامية في آسيا الوسطى (منها خمس دول ذات أصول تركية) قد مثل فرصة كبيرة لتركيا، إذ فتح أمامها مجالاً جديدا وواسعًا من العلاقات مع هذه الدول، وفي الوقت نفسه فإن هذه التطورات كسرت حاجز العزلة عن تركيا وجعلتها تستعيد مرة أخرى أهميتها الجيوسياسية والإستراتيجية.

وعقب الاستقلال وطوال الفترة من 1991 إلى 1995 سوقت تركيا نفسها على أنها الأخ الأكبر والدولة النموذج بالنسبة إلى تلك الدول ومنحتها هبات وقروضا، وقدمت لها وعودا لم يستطع الاقتصاد التركي الضعيف آنذاك الوفاء بها. وبالرغم من ذلك فيحسب لهذه الفترة أن تركيا أقدمت على تحويل علاقاتها مع تلك الدول إلى الإطار المؤسساتي فدشنت العديد من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي لا تزال تعمل حتى الآن.


وفي تلك الفترة أيضا غضت روسيا الطرف عن النشاط التركي في القوقاز وآسيا الوسطى وهما المنطقتان اللتان تعتبرهما مناطق نفوذ تاريخية بالنسبة لها، وذلك لأن موسكو أرادت أن تستعمل تركيا في محاربة التيار الإسلامي المتشدد الذي بدأ يزداد قوة وانتشارا في تلك البلدان عقب تفكك الاتحاد السوفييتي.


لكن فترة "غض الطرف" لم تستمر طويلا إذ أن روسيا وطوال الفترة من 1995 وحتى 2002 استشعرت أن تركيا "منافسا" جديا لها ومهددا لمصالحها في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، فكان من نتائج ذلك أن اتسمت علاقة تركيا بتلك الدول عموما بفترات من الشد والجذب سيطر عليها أجواء من عدم الاستقرار إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.


فلسفة جديدة للتعامل مع الجيران 


ومنذ مجيء حزب العدالة والتنمية والعلاقات بين تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز تشهد تحسنا مطردا، والسبب في ذلك يعود إلى أن الحزب غير فلسفة تعامله مع روسيا فعوضا عن النظر إليها على أنها "منافس" أصبح يتعامل معها على أنها "شريك" آخذا بعين الاعتبار معطى الجوار الجغرافي وارتباط المصالح، فعلى سبيل المثال أصبحت روسيا تمثل بالنسبة لتركيا ثاني أكبر شريك تجاري وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما عام 2008 حوالي 25 مليار دولار، وهذا الرقم مرشح للزيادة المستمرة.


كما أدخلت تركيا في عهد العدالة والتنمية روسيا شريكا في مشروع خط أنابيب نابوكو الهادف إلى نقل الغاز الطبيعي عبر بحر قزوين من تركمنستان (صاحبة رابع أكبر احتياطي للغاز في العالم) إلى أذربيجان ومنها إلى خط أنابيب نابوكو الذي سيصل بدوره إلى وسط أوروبا بعد أن كان هذا المشروع قد صمم في الأساس لتجاوز روسيا وعزلها وفق الاستراتيجيا الغربية.


وتتأتي الأهمية التي تكتسبها الطاقة في منطقة بحر قزوين من كونها أولا منطقة مستقرة بالمقارنة مع منطقة الشرق الأوسط، وثانيا غناها باحتياطيات كبيرة من الطاقة (4% من الاحتياطي العالمي للنفط و5% للغاز). وقد بدأ يتكون وعي بأن هذه المنطقة يمكن أن تمثل بديلا بالنسبة إلى الدول التي تعتمد على استيراد الطاقة وخاصة الدول الأوروبية. وفي هذه النقطة بالذات- أي موضوع تأمين الطاقة لأوروبا - فإن تركيا تمثل بالنسبة لأوروبا الدولة المفتاح، وتعرض نفسها على أنها ممر آمن لتأمين الطاقة إلى هذه القارة.


وفي هذا الإطار فإن خط أنابيب باكو-تفليس-جيهان الهادف إلى نقل بترول أذربيجان - وربما كذلك بترول آسيا الوسطى وبشكل خاص كازاخستان - عبر جورجيا إلى ميناء جيهان التركي الواقع على البحر الأبيض المتوسط بطول 1776 كلم يشكل أهمية بالغة بالنسبة لتركيا والغرب على السواء، ذلك أن المشروع المذكور يشكل أول مرحلة من مراحل تحول تركيا إلى أن تكون جسرا للطاقة وممرا لها بين الشرق والغرب.


وهذا الخط سوف يزيد من الأهمية الجيوسياسية والجيوإستراتيجية لتركيا، كما أنه في الوقت نفسه يكتسي أهمية بالغة في الحفاظ على الاستقرار السياسي في مناطق القوقاز.


ولتكتمل دائرة تحسين العلاقات بين تركيا والقوقاز وآسيا الوسطى تبذل الدبلوماسية التركية جهودا لتطوير علاقاتها مع أرمينيا وتجاوز العقد التاريخية التي تحول دون ذلك. وتنتهج تركيا عدة أساليب ديبلوماسية واقتصادية وأمنية لتحقيق هذا الهدف منها تنشيط "منتدى الاستقرار والتعاون في القوقاز" الذي تم تدشينه في أعقاب الاشتباك المسلح الذي نشب عام 2008 بين روسيا وجورجيا على خلفية أوسيتيا الجنوبية، فضلا عن الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات بين البلدين.


والعلاقة بين تركيا وأرمينيا ليست مجرد علاقة بين دولتين وإنما لها ارتباطاتها وأهميتها إقليميا ودوليا. فالعلاقات بين الجانبين من حيث السياسة الدولية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمواقف كل من الولايات المتحدة وروسيا، وفي الوقت نفسه مرشحة لأن تفرز جملة من التأثيرات على العلاقات التركية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا. فمن منظور سياسي فإن تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا يكتسب أهمية خطيرة من زاوية علاقات تركيا بأذربيجان وكذلك علاقات أذربيجان بأرمينيا.





تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال ست دول إسلامية في آسيا الوسطى (منها خمس دول ذات أصول تركية) فتح أمام تركيا مجالاً واسعًا من العلاقات، وكسر حاجز العزلة وجعلها تستعيد مرة أخرى أهميتها الجيوسياسية والإستراتيجية
وتبقى مسألة تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا تراوح مكانها إذا لم تحل المشاكل العالقة في العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا وذلك بسبب مشكلة ناغورنو كرباغ المتنازع عليها بين الطرفين. وفي هذا السياق فإن تطبيع العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا يجب أن يتحقق بالتوازي مع مسار تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، بل إن الشروع في تحريك المسار التركي الأرمني ينبغي أن يشمل أذربيجان، وكذلك من حين إلى آخر يتعين أن تتقدم المباحثات بشكل ثلاثي في هذا الخصوص، لتحسين الأجواء الإقليمية وامتصاص النزاعات القائمة.

ومن جانب آخر فإن التطبيع في العلاقات بين تركيا وأرمينيا يمثل تلافيا وتداركا للنقص الذي حدث بسبب انهيار القدم الجورجية في المحور التركي الجورجي الأذري خصوصا بعد الضربة الموجعة التي تلقتها جورجيا من روسيا خلال الحرب الأخيرة.


وإجمالا يمكن القول إنّ مسار التطبيع في العلاقات بين تركيا وأرمينيا أصبح يتميز بعوامل جديدة بعد تغير التوازنات بسبب الصراع الذي نشب بين روسيا وجورجيا، وأصبح يكتسب قوة تمكن من خلق ظروف جيوسياسية جديدة. وهذه التطورات ينتظر أن تفرز نتائج إيجابية لتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وكذلك بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها في الوقت نفسه وبالمقابل يعتقد أنها سوف تفرز نتائج سلبية بالنسبة إلى روسيا. وفي هذا الإطار فإنّ الصّراع على النفوذ في القوقاز يكون قد تركز في أرمينيا، وهو ما يمثل تحديا لحزب العدالة والتنمية الذي يسعى من جهة إلى التعاون والشراكة مع روسيا ومن جهة ثانية إلى تطبيع علاقات بلاده مع أرمينيا مع في هذا التطبيع من استفزاز لموسكو.


وتطمح تركيا فضلا عن ذلك إلى تنفيذ فكرة ربط بحر قزوين بالخليج من خلال إنشاء خط يربط تركمانستان وإيران وتركيا، وهو طموح إن تحقق فإن من شأنه أن تكون له تأثيرات عميقة على المستوى الجيوسياسي والجيوإستراتيجي في المشرق بأكمله.
_______________
باحث تركي متخصص في مجال الطاقة والسياسة الأمنية بأوراسيا وخبير بمركز  SETA. النص ملخص لدراسة موسعة يمكن الاطلاع عليها بالضغط هنا.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف