تركيا والولايات المتحدة.. مصالح إستراتيجية متبادلة

دخلت أنقرة في شراكة إستراتيجية طويلة المدى مع الغرب والولايات المتحدة بشكل جعلها بمثابة "حجر زاوية" في أي سياسة أمريكية تجاه الشرق الأوسط.






تركيا حجر الزاوية في السياسة الأميركية بالشرق الأوسط (الفرنسية-أرشيف)

خليل العناني


تمثل تركيا أحد المفاتيح المهمة لفهم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وذلك ليس فقط بسبب البعد الجيوإستراتيجي لتركيا والذي أعطاها ميزة تنافسية عالية، وإنما أيضا بسبب قدرة تركيا الفائقة علي تقديم نفسها للغرب والولايات المتحدة باعتبارها الشريك الأمثل الذي يمكن الاعتماد عليه في منطقة بالغة الأهمية والحساسية بالنسبة للغرب عامة والولايات المتحدة خاصة.


لذا فقد دخلت أنقرة في شراكة إستراتيجية طويلة المدى مع الغرب والولايات المتحدة بشكل جعلها بمثابة "حجر زاوية" في أي سياسة أمريكية تجاه الشرق الأوسط.


محددات العلاقات الأمريكية - التركية 
الرؤية الأمريكية للدور التركي في الشرق الأوسط 
أسس التعامل التركي مع ملفات الشرق الأوسط


محددات العلاقات الأمريكية - التركية


منذ نهاية الحرب الباردة راجت أطروحات عديدة حول تراجع الأهمية الإستراتيجية لتركيا، خاصة من المنظور الغربي، وذلك عطفاً علي انتهاء الخطر الشيوعي وعدم الحاجة لسياسة "سد المنافذ" التي وفرت لتركيا دوراً مهماً طيلة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.


بيد أن التاريخ أثبت لاحقاً عدم صحة هذه الأطروحات، ليس فقط بسبب تغير ديناميات البيئة الدولية في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وما فرضته من أدوار جديدة للقوى التقليدية ومنها تركيا، وإنما أيضا بسبب إدراك الأتراك أنفسهم لطبيعة هذا التغير وسعيهم للتعاطي معه وفق رؤية مغايرة وأدوات مختلفة زادت من حضورهم ورفعت من حظوظهم الإقليمية والدولية.





دخلت أنقرة في شراكة إستراتيجية طويلة المدى مع الغرب والولايات المتحدة بشكل جعلها بمثابة "حجر زاوية" في أي سياسة أمريكية تجاه الشرق الأوسط
وعلى عكس ما كان مطروحاً سلفاً من احتمال تراجع أهمية تركيا وافتقاد دورها الحيوي، بدا لاحقاً أن ثمة حاجة غربية وأمريكية ملّحة للدور التركي خاصة في ظل تعقد الأوضاع في الشرق الأوسط، ودخول الولايات المتحدة للمنطقة بكل ثقلها تحت ذريعة "الحرب علي الإرهاب" التي أفقدتها كثيراً من حضورها الرمزي، وأثقل كاهلها بالعديد من المشاكل التي لا تزال آثارها باقية حتى الآن.

وإذا كانت العلاقات الأمريكية – التركية قد شهدت توتراً ملحوظاً في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، إلا أن الخيط الناظم لهذه العلاقة يؤكد أن كلا الطرفين كان حريصاً علي ألا تؤثر خلافاته مع الطرف الآخر علي الشراكة الإستراتيجية بينهما، ما دفعهما إلي إعادة تقييم العلاقة بشكل يضيّق فجوة الخلافات ويزيد من مساحة الالتقاء.


ومنذ انضمامها لحلف شمال الأطلسي "الناتو" عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، بدت تركيا أشبه بـ"الحصان الأسود" بالنسبة للغرب والولايات المتحدة التي سعت لتقوية علاقاتها مع حليف إستراتيجي مهم ومؤثر جغرافياً وسياسياً وحضارياً.


وقد نسج كلا الطرفين علاقاته بالآخر في إطار عدد من المحددات أهمها المحدد الإستراتيجي، حيث تنظر الولايات المتحدة لتركيا باعتبارها أحد المفاتيح الإستراتيجية في المنطقة الممتدة من أوروبا وحتى القوقاز مروراً بالبلقان والشرق الأوسط.


وقد حرصت الولايات المتحدة طيلة نصف قرن خلا علي توطيد علاقتها بأنقرة ودعمها عسكرياً واقتصادياً. وقد توطدت العلاقات بين البلدين خلال مرحلة الحرب الباردة وما بعدها، خاصة في ظل تكثيف الولايات المتحدة لوجودها في منطقة الشرق الأوسط عقب حرب الخليج الثانية عام 1990.


وفي مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، زادت أهمية تركيا كلاعب رئيسي في إطار ما عُرف إبان إدارة الرئيس بوش الابن بـ"الحرب علي الإرهاب". فعلي سبيل المثال تجاوبت تركيا بأريحية مع تفعيل المادة من معاهدة الدفاع الخاصة بحلف الناتو والتي تفرض علي جميع الأعضاء في الحلف تقديم جميع أشكال المساعدة لأية دولة تواجه عدواناً خارجياً. وخلال أقل من 24 ساعة قامت تركيا بتسهيل استخدام أراضيها ومجالها الجوي للقوات الأمريكية لبدء الحرب علي أفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأول 2001.


وكان هذا الدور محل تقدير وإعجاب الولايات المتحدة التي استفادت معنوياً ورمزياً من مشاركة دولة مسلمة في إطار حربها علي أفغانستان. فضلاً عن إرسال تركيا لما يقرب من حوالي 1200 جندي لتقديم العون لقوات الدعم والإسناد (إيساف) التابعة لحلف الناتو ولا تزال تركيا تقوم بدور مهم في إطار تقديم العون اللوجستي والتدريبي لقوات الجيش الأفغانية، ومن المتوقع أن تلعب تركياً دوراً محورياً في إطار الإستراتيجية الجديدة التي وضعها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما لمعالجة الوضع في أفغانستان.


وفضلا عن هذا المحدد الإستراتيجي فقد لعبت عدة ملفات أخرى في الشرق الأوسط دورا مهما في رسم طبيعة العلاقات التركية الأميركية منها الملف الكردي والموقف من حزب العمال الكردستاني PKKحيث لعب هذا الموقف دوراً مهما في توثيق العلاقات بين واشنطن وأنقرة. فالولايات المتحدة تدعم الموقف التركي من الحزب وتعتبره منظمة إرهابية.





على عكس ما كان مطروحاً من احتمال تراجع أهمية تركيا وافتقاد دورها، بدا أن ثمة حاجة غربية وأمريكية ملّحة للدور التركي خاصة في ظل تعقد الأوضاع في الشرق الأوسط، ودخول الولايات المتحدة للمنطقة تحت ذريعة "الحرب علي الإرهاب" 
ويتأسس الموقف الأميركي من هذا الحزب على تفهم مخاوف تركيا من أن تؤدي الحرب الأمريكية على العراق التي نجحت في الإطاحة بصدام حسين إلي تشجيع الأكراد علي الانفصال عن العراق وتكوين دولتهم المستقلة في الشمال، وهو ما قد يشجع أكراد تركيا والذين يتراوح عددهم ما بين 15 – 20 % من عدد سكان تركيا البالغ حوالي 70 مليون نسمة، على القيام بالشيء نفسه والانضمام للدولة الوليدة.

وتدعم الولايات المتحدة الأمريكية السعي التركي للانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث اعتبرت واشنطن أن التحاق تركيا بأوروبا هدفاً أميركياًً، ليس فقط بسبب المزايا التي قد تعود علي حليف مهم وإستراتيجي لها من وراء ذلك، وإنما أيضا بهدف أولاً بناء جسر قوى بين الشرق والغرب عبر البوابة التركية، وثانياً محاولة إحداث توازن إستراتيجي داخل الاتحاد الأوروبي بين القوى التقليدية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والقوى الجديدة الأقرب للحليف الأمريكي مثل تركيا وبعض دول أوروبا الشرقية مثل بولندا.


وإذا كانت العلاقات الأمريكية – التركية قد شهدت توتراً طيلة فترتي الرئيس بوش، إلا أن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من أن تستمر في النظر لتركيا كحليف إستراتيجي مهم لا يمكن التفريط فيه مهما وصلت درجة الخلافات معه. وقد زاد من ذلك، التحول الذكي الذي مارسته حكومة "العدالة والتنمية" في سياساتها الخارجية بإعطاء مزيد من الاهتمام للشرق الأوسط ليس فقط باعتباره مجرد "حديقة خلفية"، وإنما باعتباره أحد المنافذ المهمة لتركيا في حال رفض الاتحاد الأوروبي عضويتها به.


وقد بدا واضحاً أنه كلما زاد انخراط تركيا في ملفات الشرق الأوسط، كلما ازداد الطلب الأمريكي عليها وارتفعت أسهمها كحليف يجب استرضاؤه والاعتماد عليه.


الرؤية الأمريكية للدور التركي في الشرق الأوسط 


وقد أكد كثيرون على أن تركيا ستظل أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز وذلك انطلاقاً من عدة اعتبارات أهمها:



  • الدور المهم لتركيا كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن مثل إسرائيل والعراق وإيران وسوريا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ودورها المحوري في حفظ الاستقرار في الحزام الممتد من وسط أوروبا حتى تخوم الهند وروسيا.
  • الموقع الإستراتيجي لتركيا كممر بحري وملاحي يخترق البحر الأسود وبحر القوقاز والبحر المتوسط.
  • تركيا باعتبارها ممرا احتياطيا لإمدادات النفط والغاز من دول آسيا الوسطي لأوروبا عبر خط (جيهان – باكو) وذلك كبديل عن الخط الروسي الممتد عبر أوكرانيا.
  • النظر لتركيا باعتبارها نموذجاً لدولة ديمقراطية مسلمة لديها تحالف وثيق مع الولايات المتحدة ما قد يحسّن الصورة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.




بدا واضحاً أنه كلما زاد انخراط تركيا في ملفات الشرق الأوسط، كلما ازداد الطلب الأمريكي عليها وارتفعت أسهمها كحليف يجب استرضاؤه والاعتماد عليه
لكل هذه الاعتبارات رأت واشنطن أن بإمكان تركيا أن تلعب دوراً مهما في أكثر من جبهة، وقد نشطت تركيا بشكل واضح خلال السنوات الثماني الماضية كي تخلق لنفسها حيزاً معتبراً في الشرق الأوسط، ووسعت من دوائر حركتها الخارجية، وقد شجعتها واشنطن على ذلك حيث رأت أن الدور الجديد لتركيا في الشرق الأوسط من شأنه أن يحقق لها مزايا عديدة ليس أقلها ما يلي:

  • خلق توازن إستراتيجي بين تركيا وإيران في الشرق الأوسط وذلك في ظل حالة الفراغ التي خلّفها سقوط نظام صدام حسين.
  • محاولة الاستفادة من الدور التركي في تحسين الصورة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد غزو العراق.
  • الاستفادة من الدور التركي في الحفاظ على وحدة العراق من خلال استخدام الفزاعة الكردية مع أنقرة، خاصة وأن الولايات المتحدة باتت تخشى من أن تقسيم العراق سيؤدي حتما إلى تمدد النفوذ الإيراني أكثر في العراق، فضلا عن حصول تداعيات أمنية تطال عموم المنطقة وتمس المصالح الأمريكية في الصميم.
  • الاستفادة من العلاقات الجيدة التي تربط تركيا بكل من سوريا وإسرائيل من أجل تحقيق اختراق في العلاقة بين الطرفين عبر توفير "قناة خلفية" لإدارة المفاوضات بين الطرفين.
  • الاستفادة من احتمالات قيام تركيا للعب دور الوسيط بين إيران والمجتمع الدولي وربما الولايات المتحدة لاحقاً.

أسس التعامل التركي مع ملفات الشرق الأوسط 


وفيما يخص سياساتها الشرق أوسطية يمكن القول بأن تركيا انطلقت من عدة أسس أهمها ما يلي:



  • محاولة التصالح مع الإرث الإسلامي والعثماني في الداخل والخارج، دون أن يعني ذلك محاولة أسلمة الداخل التركي أو الدخول في تحالفات أممية على المستوى الخارجي، وإنما محاولة تصحيح الصورة العربية عن تركيا كقوة غربية مقطوعة الصلة بمحيطها الجغرافي والإستراتيجي.
  • محاولة إيجاد مسافة واضحة مع التوجهات والسياسات الغربية في المنطقة، والاعتماد على الذات في تحسين العلاقة مع دول الشرق الأوسط بعيداً عن العباءة الغربية.
  • الدخول بقوة على خط الصراعات في المنطقة، ليس من أجل تفجيرها وإنما لمحاولة تهدئتها والقيام بدور الوسيط "المبرّد" للخلافات في الشرق الأوسط.
  • تجنب الدخول في لعبة الاصطفافات والمحاور الإقليمية مع الانفتاح على كافة اللاعبين بما يعظّم الصورة التركية كوسيط محايد.
  • تجنب الانزلاق لمعارك دينية أو مذهبية في المنطقة.

وقد تمت ترجمة هذه الأسس من خلال إدارة أنقرة للعديد من الملفات الشائكة في المنطقة أهمها الملف الإيراني والسوري والفلسطيني والعراقي.
_______________
نائب مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام. النص ملخص لدراسة موسعة يمكن الاطلاع عليها بالضغط هنا.


ولمزيد من التفاصيل عن العلاقات التركية الأمريكية، انظر: التوجه التركي في العهد الأميركي الجديد.. إلى أين؟ محمد نور الدين، مركز الجزيرة للدراسات.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف