طبيعة الدور الإقليمي التركي.. أهدافه ووسائل تنفيذه

مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة 2002 في تركيا حصل تغيير جذري ليس فقط في التوجهات التكتيكية، بل حتى في أصول السياسات المتبعة، إذ للمرة الأولى يأتي إلى السلطة حزب يحمل مسبقا رؤية مختلفة إلى مكانة تركيا وموقعها ودورها






أحمد داود أوغلو مهنس السياسة الخارجية التركية الجديدة (الفرنسية-أرشيف)

محمد نور الدين


مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة 2002 في تركيا حصل تغيير جذري ليس فقط في التوجهات التكتيكية، بل حتى في أصول السياسات المتبعة، إذ للمرة الأولى يأتي إلى السلطة حزب يحمل مسبقا رؤية مختلفة إلى مكانة تركيا وموقعها ودورها في الساحتين الإقليمية والدولية.


أسس ومرتكزات 
وسائل التنفيذ وعوامل النجاح


أسس ومرتكزات


وبحسب وزير الخارجية التركي السياسي والمنظر أحمد داود أوغلو*، فإن هناك ثلاث مراحل شهدها العالم ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول: المرحلة النفسية وتجلياتها في حرب أفغانستان، والمرحلة الإستراتيجية التي بدأت مع حرب العراق، وفيها ستبحث كل قوة عن موقعها في النظام العالمي وستشهد توترات وانفراط تحالفات وتبدلات، وقد تستمر هذه المرحلة من 10 إلى 15 عاما، ثم المرحلة الثالثة وهي مرحلة تأسيس نظام دولي جديد حيث ستعمل كل قوة إلى مضاعفة حضورها إلى حين اتضاح المعالم الجديدة لهذا النظام.





بدلا من أن تكون تركيا "مصدر مشكلة" في استقطابات الغرب/الشرق، والشمال/الجنوب، وآسيا/أوروبا، والغرب/ الإسلام، تكون على العكس من ذلك "مصدر حل" للمشكلات
ويرى داود أغلو أن خروج تركيا بموقع ومكانة متميزة من هذه المرحلة يرتبط باعتماد رؤية ديناميكية مؤثرة في السياسة الخارجية تفضي لأن تكون قوة مركزية. ويرى أن هناك ثلاثة عوامل ظهرت في التسعينيات كانت معيقة أمام تركيا لتكون قوة مركزية مؤثرة:

  • الإرهاب (والمقصود هنا حزب العمال الكردستاني) وما حمله من استقطابات داخلية.
  • عدم الاستقرار السياسي.
  • الأزمات الاقتصادية المتلاحقة.

وقد بنت تركيا إستراتيجيتها في سياستها الخارجية على عدة أسس ومرتكزات من بينها:


التوفيق بين الحريات والأمن: ففي وقت كان اللاعبون العالميون وفي مقدمهم الولايات المتحدة يغلبون الاعتبارات الأمنية على ما عداها بعد 11 سبتمبر/ أيلول كانت تركيا البلد الوحيد الذي نجح في التقدم على صعيد الإصلاح السياسي من دون التفريط بالمتطلبات الأمنية. وهو ما جعل تركيا نموذجا لبلاد أخرى.


إنزال المشكلات بين تركيا وجيرانها إلى نقطة الصفر أو ما يسمى ب"تصفير" المشكلات: وبالتالي إخراج تركيا من صورة البلد المحاط بالمشكلات، والدخول في صورة البلد ذي العلاقات الجيدة مع الجميع. وهذا إن تحقق سيمنح السياسة الخارجية التركية قدرة استثنائية على المناورة.


اتباع سياسة خارجية متعددة الأبعاد ومتعددة المسالك: ففي الظروف الدولية المتحركة الحالية من غير الممكن اتباع سياسة ذات بعد واحد.


وبدلا من أن تكون تركيا "مصدر مشكلة" في استقطابات الغرب/الشرق، والشمال/الجنوب، وآسيا/أوروبا، والغرب/ الإسلام، تكون على العكس من ذلك "مصدر حل" للمشكلات، وبلدا مبادرا إلى طرح الحلول لهذه المشكلات، وبلدا يشكل مركز جذب يساهم في إرساء السلام العالمي والإقليمي. ومن ضمن هذا المنظور لا يجب النظر إلى أي خيار على أنه بديل عن الآخر ولا التعاطي مع كل الخيارات في الوقت نفسه على أنها تناقض بعضها.


تطوير الأسلوب الدبلوماسي وإعادة تعريف دور تركيا في الساحة الدولية: لقد كان التعريف الشائع في المرحلة الماضية أن تركيا "بلد جسر" تصل بين طرفين. في المرحلة الجديدة على تركيا ألا تكون مجرد جسر بل "بلد مركز" جاذب وفاعل.


الانتقال من السياسة الجامدة والكمون الدبلوماسي إلى الحركة الدائمة والتواصل مع كل بلدان العالم المهمة لتركيا.


وسائل التنفيذ وعوامل النجاح


وإستنادا إلى هذه الأسس الخمسة التي يحددها أحمد داود أغلو فإن توفير الأدوات الضرورية لنجاحها يتطلب أيضا إعادة توجيه البوصلة الفكرية لموقع تركيا وجعلها منسجمة مع عمقها التاريخي والحضاري والثقافي المتمثل بالعالم الإسلامي والعربي منه على وجه الخصوص بعدما ابتعدت عنه منذ انهيار السلطنة العثمانية، حيث أصبحت تركيا جزءا تابعا، للمنظومة الغربية الإسرائيلية.





تحاول تركيا تجسيد سياستها الخارجية من خلال قوة المبادرة الدبلوماسية، ومن خلال تنشيط دورها في المؤسسات الإقليمية والدولية ومشاركتها في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والانفتاح الاقتصادي والثقافي
وتحاول تركيا تجسيد هذه السياسة من خلال قوة المبادرة الدبلوماسية (القوة الناعمة) ولهذا تتوسط تركيا في العديد من المشكلات الموجودة في محيطها، ومن خلال تنشيط دور أنقره في المؤسسات الإقليمية والدولية ومشاركتها الفاعلة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والانفتاح الاقتصادي والثقافي على كافة دول العالم حتى على تلك التي كانت بينها وبين أنقره عقد ومشكلات تاريخية مزمنة مثل أرمينيا.

وقد ساعدت عدة عوامل على إحراز تركيا تقدما ملحوظا في تطبيق هذه الأسس وتلك المرتكزات في سياسات ملموسة ومنسجمة، ومن أبرز هذه العوامل –في الشرق الأوسط كمثال- الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية. ففي السابق، كان التوجه العلماني الحاد والضغوطات الموجهة إلى الحالة الإسلامية في الداخل تنعكس سلبا على علاقة تركيا بالعالم الإسلامي المتوجس من مفهوم العلمنة كنموذج معاد للدين وفقا لنموذج تطبيقه في تركيا.


فضلا عن الموقف التركي الوسطي والحيادي من كل أطراف النزاعات سواء العربية البينية أو العربية الإسرائيلية أو الإسلامية البينية أو الإسلامية الغربية.


وقد لعب الضعف العربي دورا في تسريع تقبل الدور التركي، لا سيما من جانب الأنظمة المتوجسة من النفوذ الإيراني والشيعي فضلا عن الفراغ الاستراتيجي الحاصل نتيجة التراجع العربي. وكان رهان هؤلاء أن البعد السنّي من الإسلام التركي المتمثل حاليا بحزب العدالة والتنمية قد يكون له دوره في جذب تركيا إلى لعب دور مضاد أو على الأقل كابح لتمدد النفوذ الإيراني.


لكن مجرد النظر إلى عوامل القوة التي تمتلكها إيران وتركيا يفضي إلى استنتاج أن الأجواء التنافسية طبيعية بين بلدين مهمين لجهة الموقع الجغرافي ولجهة القدرات الصناعية والبشرية والعسكرية. لكن من الزاوية التركية، لم يكن لسياسة تعدد الأبعاد أن تنجح في ما لو وضعت أمامها هدف إضعاف إيران أو سوريا أو روسيا. إن من يسعى لإضعاف الآخر لا يعمل على تعميق التعاون معه، وهكذا قدر للساسة الخارجية التركية أن تحرز نجاحات لفتت إليها الأنظار خلال السنوات القليلة الماضية.
_______________
أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية، باحث متخصص في الشأن التركي. النص ملخص لدراسة موسعة يمكن الاطلاع عليها بالضغط هنا.


(*) لمزيد من الاطلاع على فكر الدكتور أحمد داود أوغلو، انظر داود أوغلو والسياسة الخارجية الجديدة لتركيا، بولنت أراس، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "إتشيك" ومؤسسة البحث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مركز الجزيرة للدراسات.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف