البرازيل ومهام حفظ السلام

يتزايد دور البرازيل عامًا بعد آخر في عمليات حفظ السلام والأمن الدوليين، وتُعد شَرَاكتُها في هذا المجال مع الاتحاد الأوروبي نموذجًا يُحتَذَى؛ وذلك لأنهما يستندان على قيم ومفاهيم أمنية مشتركة.
1_943932_1_34.jpg






تهتم البرازيل بتمتين علاقات التعاون الأمني مع الاتحاد الأوروبي (الفرنسية-أرشيف) 

 سارة دا سوزا


بعيدا عن علاقة البرازيل بمحيطها الجغرافي القريب (أميركا الجنوبية)، وبعيدا كذلك عن العلاقات الخاصة التي تربطها ببعض القوى الصاعدة الأخرى (الصين، الهند، روسيا، جنوب أفريقيا) فإن هذه الورقة سوف تلقي الضوء على إحدى الآليات المهمة التي تعتمد عليها السياسة الخارجية البرازيلية لإثبات حضورها على المسرح الدولي، ونعني بها دورها المتزايد في عمليات حفظ الأمن والسلام في المناطق المضطربة من العالم.


مهام حفظ السلام الدولي 
قضايا الأمن والسلام بين البرازيل والاتحاد الأوربي 
البرازيل كلاعب تنموي عالمي 
النشاط التنموي البرازيلي في أميركا اللاتينية وأفريقيا


مهام حفظ السلام الدولي


تشترك البرازيل على المستوى الدولي في مهام عديدة لحفظ الأمن والسلام الدوليين، خاصة ضمن مظلَّة الأمم المتحدة، وقد بلغ مؤخرا عدد الضباط والجنود والموظفين البرازيليين المشاركين في تلك العمليات 1218، وهو ما يجعلها في المرتبة الـ 15 على المستوى الدولي في عدد الأفراد الذين تشارك بهم الدول في هذه المهام. ولكن مع هذا يبقى الإسهام المالي للبرازيل في مهام الأمم المتحدة الأمنية وحفظ السلام متواضعا فلا تظهر حتى ضمن قائمة الدول العشرين الأولى.


ومنذ تسعينيات القرن العشرين، شاركت البرازيل في العديد من عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وأرسلت نحو 300 فردٍ من قواتها لمهمة حفظ السلام في موزمبيق عام 1992، وأكثر من 4000 عسكري و50 شرطيًّا وبعض الموظفين المدنيين إلى أنجولا في كلٍّ من 1995 (في المهمة المعروفة باسم UNAVEM III)، و 1997 (في المهمة المعروفة باسم MONUA).


وفي عام 2004 تقدمت البرازيل لتشارك بدور أكبر في مهام حفظ السلام، واضطلعت بقيادة قوات حفظ السلام لأول مرة في تاريخها؛ وذلك في مهمة حفظ السلام في هاييتي والتي تم فيها تجديد رئاسة البرازيل مرتين متعاقبتين.


قضايا الأمن والسلام بين البرازيل والاتحاد الأوربي


ويلاحَظ أن البرازيل تنسق مع الاتحاد الأوربي أكثر من أي تكتل دولي آخر في مهام حفظ الأمن والسلام، وذلك انطلاقا من مفاهيم مشتركة عن معنى الأمن متفق عليها بينهما، من ذلك على سبيل المثال، سعيهما لمعالجة التحديات المحلية الخاصة بالأمن العام من خلال دعم الترابط الاجتماعي، والتعاون التنموي، والحوار. واعتماد "الحوار السياسي" كآلية لعالجة قضايا الأمن الإقليمي والدولي كجزء من الشراكة الإستراتيجية بينهما والتي أُعلن عنها عام 2007.





يلاحَظ أن البرازيل تنسق مع الاتحاد الأوربي أكثر من أي تكتل دولي آخر في مهام حفظ الأمن والسلام، وذلك انطلاقا من مفاهيم مشتركة عن معنى الأمن متفق عليها بينهما
وإلى جانب الحوار الثنائي حول القضايا الاجتماعية، تُعتَبر البرازيل واحدةً من شركاء الاتحاد الأوربي في مجال التعاون التنموي. ومن أجل مواجهة التحديات المحلية التي تواجه البرازيل، وبصفةٍ خاصةٍ العنفَ والجريمةَ المرتبطَيْن بالتباين الكبير بين طبقات المجتمع ومعدلات الفقر العالية في المناطق العشوائية، فإن التعاون بين الجانبين يركز على تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي لسكان المناطق الحضرية، فضلاً عن ضرورة تأمين وصول الخدمات التعليمية للسكان.

وتضع السياسة الدفاعية البرازيلية قضية الأمن على رأس أولوياتها من أجل تأمين سيادة الدولة ووحدة البلاد، ورغبةً في تدعيم قدرتها على تعزيز مصالحها، ودحر التهديدات والضغوط التي قد تأتي من أية مصادرَ خارجية، فضلاً عن تأمين حياة المواطنين ليمارسوا حقوقهم، ويؤدوا التزاماتهم الدستورية بأمان.


ورغم أن هذه النظرة مرتبطة بأولويات الدولة بشكل عام، إلا أن البرازيل تقدم تعريفًا أكثر شمولاً لمفهوم الأمن على مستوى سياستها الخارجية والدفاعية. ويركز هذا المفهوم على تلبية حاجات الفرد في المقام الأول. وقد تم التأكيد على ذلك من خلال مبادرات التعاون في أزمة هاييتي، تلك المبادرات التي هدفت إلى تعزيز التنمية باعتبارها شرطًا أساسيًّا لضمان أمنٍ وسلامٍ دائمَيْن.


ورغم هذا فإن التركيز على الأمن القومي، ودعم الصناعات الدفاعية والعسكرية المبنية على إستراتيجية الدفاع القومي إنما تُعبِّر في واقع الأمر عن أنَّ البرازيل ليس لديها برنامج رسمي لحل أزمة الأمن السُّكاني. ورغم أن الدولة تربط ربطًا مباشرًا بين التنمية الاجتماعية-الاقتصادية من ناحية، وتعزيز الأمن على المستوى القومي من ناحيةٍ أخرى؛ فإن التجربة تُثبت عدم امتلاك البرازيل لإستراتيجية أمنية دولية.


ولعلَّ السبب في ذلك هو أن منهج البرازيل الأمني ما زال قاصرًا على الحيِّز الإقليمي لا الدولي، وتعطي برازيليا الأولوية للعمل تحت مظلة الأمم المتحدة ضمن مهام حفظ السلام مفضِّلةً ذلك على التعامل مع منظمات ذات صبغةٍ إقليمية.


البرازيل كلاعب تنموي عالمي


على الرغم من أنَّ البرازيل لا تبدو على الساحة الدولية بنفس درجة جاذبية وتأثير كُلٍّ من الهند والصين، من حيث معايير الاقتصاد والديموغرافيا والجغرافيا السياسية، إلا أنها مع ذلك تحتل مكانة مرموقة كقوة فاعلة ومشارِكة في عالم الجنوب وضِمن مؤسساته المحورية، فضلاً عن أنها اللاعب الأساسي في عالم أميركا الجنوبية.





على الرغم من أنَّ البرازيل لا تبدو على الساحة الدولية بنفس درجة جاذبية وتأثير كُلٍّ من الهند والصين، من حيث معايير الاقتصاد والديموغرافيا والجغرافيا السياسية، إلا أنها مع ذلك تحتل مكانة مرموقة كقوة فاعلة ومشارِكة في عالم الجنوب وضِمن مؤسساته المحورية
ومنذُ عهد الرئيس فيرناندو هنريك كاردوسو الذي شغل منصب الرئاسة في تسعينيات القرن العشرين، وامتداد تلك الفترة في عهد الرئيس لولا دي سيلفا منذ عام 2003، تستند السياسة الخارجية البرازيلية إلى الأعمدة الثلاثة التالية:

  1. تعزيز التكامل الإقليمي بهدف تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية. 
  2. دعم وتعزيز التعاون متعدد الأطراف على المستوى الدولي، والمشاركة بفاعلية في المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وأجهزتها الفرعية الفاعلة، ومنظمة التجارة العالمية، فضلاً عن المشاركة بنشاط فاعل في لقاءات وقمم منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، والتحاق البرازيل باجتماع الدول الصناعية الثمانية الذي أضاف إليه خمس دولٍ صاعدةً أخرى كانت البرازيل في صدارتها؛ وذلك في الاجتماع الذي ضمَّهم في مدينة هيليجندام Heiligendamm الألمانية في 2007.
  3. تعزيز التعاون بين دول الجنوب، وقد انعكس ذلك من خلال المبادرات التي عبَّر عنها المنتدى البرازيلي ـ الإفريقي، وإطلاق منتدى "إبسا للحوار IBSA" والذي يجمع اسمُه الحروفَ الأولى لثلاثِ قوًى صاعدةٍ من الجنوب وهي: الهند والبرازيل وجمهورية جنوب أفريقيا.

ولم تحسم البرازيل أمرها بعدُ، فهي دولة جنوبية صاعدة تضع قدمًا بين الدول النامية (ويعبر عن ذلك تأخر مستوى التنمية البشرية، ومعدل الفقر المرتفع)، وتضع القدمَ الأخرى بين اللاعبين الكبار في النظام الدولي، خاصةً فيما تشارك فيه كعضو فاعل في مجالات التعاون التنموي.


وينعكس هذا الموقع الوسيط للبرازيل على المستوى المؤسسي؛ ففي عام 1987 تم تشكيل الهيئة البرازيلية للتعاون التنموي ABC كجزء من مؤسسة فوناج FUNAG الخاضعة لإشراف وزارة الخارجية، وتهدف هذه الهيئةُ إلى تحسين إدارة وتنسيق الإعانة التنموية الرسمية ODA التي تستقبلها البرازيل من المانحين الدوليين، ومن المنظمات غير الحكومية (المتبرعون الكبار هنا هم اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، دعمًا لبرامج اجتماعية في المقام الأول مثل برنامج "القضاء على الجوع Zero Hunger").


وخلال العقد الأخير فقط، ومنذُ اندماجها في وزارة الخارجية، صارت الهيئة البرازيلية للتعاون التنموي مُسهمًا تنمويًّا كبيرًا، ولاعبًا أساسيًّا في برامج الإعانات والتنمية الدولية.


ولعلَّ هذه الخبرة البرازيلية الكبيرة في مجال إدارة الإعانات المالية الواردة من الخارج يمكن أن تصبح مثالاً مهمًّا يُستَشهَدُ به في سياق جدال المِلكية الدائر حول تبعية وإشراف منظمات الإعانات الدولية.


وبصورةٍ عامة، يُعَدُّ التعاون التنموي البرازيلي جزءًا من منهج التعاون الأوسع بين دول الجنوب. وتتمثل الأهداف الأساسية للشراكة البرازيلية التنموية في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وتحقيق نموٍّ مستدامٍ وتنمية اجتماعية؛ وذلك من خلال نقل الخبرات الحديثة والمعرفة المتخصصة في هذا المجال، وتقوية البنية المؤسسية، وتقديم خدمات استشارية، وتوفير أساليب رفع كفاءة المؤسسات العاملة في هذا المجال.


وهناك إلى جانب ذلك بعض المنظمات والمؤسسات غير الحكومية المنخرطة في مشروعات بعينها تحت مظلة التعاون التنموي الدولي، ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد مشروعات فيفا ريو Viva Rio المتخصص في مكافحة العنف بين الشباب في مناطق السكن العشوائي في هاييتي.


ورغم ذلك، ما تزال البرازيل ذات تمثيل محدود للغاية في المنظمات غير الحكومية على المستوى التنموي الدولي، وإنْ كانت تسعى إلى تحسين هذا الوضع من أجل إتاحة فرصة أكبر لممثلي المجتمع المدني للمشاركة في هذا الميدان.


وإضافةً إلى البرامج التي تشرف عليها الهيئةُ البرازيليةُ للتعاون التنموي (ومعها وزارة الخارجية)، والاستثمارات البرازيلية التي تتم في الدول النامية تحت توجيه وزارة المالية، تدعم الحكومة البرازيلية في ذات الوقت مصالح الدول النامية (والمصالح البرازيلية بالقطع)؛ وذلك من خلال مبادرات رائدة مثل ما يُطلَقُ عليه "مجموعة لولا" الساعية إلى "العمل ضد الفقر والجوع" وتضم تلك الدول في عضويتها البرازيل والجزائر وشيلي وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، وذلك من أجل توفير بديل تمويلي لتحقيق تنمية مستدامة، وتحقيق أهداف الألفية MDGs الساعية إلى التنمية والقضاء على الفقر والمرض ووفيات الأطفال بحلول عام 2015.


ورغم أن محصلة موقف البرازيل في برنامج الإعانة التنموية الرسمية ODA يشير إلى تلقيها مساعدات مالية، إلا أنه يُنظَرُ إليها بالتدريج كلاعب إيجابي ودولة "مرفأ" في أميركا اللاتينية، وبدرجة ما "مَرسَى" لتوزيع الإعانات إلى أفريقيا أيضًا.


النشاط التنموي البرازيلي في أميركا اللاتينية وأفريقيا


يسعى المشروع التنموي البرازيلي في أميركا الجنوبية إلى تحقيق تكامل إقليمي من ناحية، وبرامج تنموية ثنائية من ناحية أخرى. ولتنفيذ الهدف الأول أنشيء "صندوق ميركوسور لتمويل المشروعات" للتغلب على عدم التجانس في اقتصاديات دول أميركا الجنوبية، فضلاً عن دعم الدول الصغيرة فيها.


ومن بين العلاقات الثنائية في برنامج الإعانة التنموية الرسمية ODA يذهب 38 % إلى دول أميركا اللاتينية وبصفة خاصة إلى باراغواي وأقاليم جبال الإنديز بغرب القارة. ويهدف المشروع في الأساس إلى دعم البِنى الأساسية، ونشر التعليم، وتحسين الخدمات الصحية (خاصة برامج مكافحة الإيدز)، ومن بين أهم المشروعات في هذه الاتفاقيات الثنائية المشروعاتُ ذات الخبرة المحلية وفي مقدمتها مكافحة الفقر.


وتعد هاييتي نموذجًا بارزًا لاستكشاف التعاون التنموي البرازيلي في حوض البحر الكاريبي؛ ففي هاييتي نجد ارتباطًا وثيقًا بين قضايا الأمن والتنمية. وقد وقَّعت البرازيل وكندا -التي تُعد المانح الأكبر للإعانات في هاييتي- عدَّةَ اتفاقياتٍ للتعاون في مجال التعليم والصحة (نشر جرعات التطعيم ضد الأمراض)، والتنمية الاجتماعية. ويتمثل الدور البرازيلي -إضافةً إلى إسهامها المالي- في الاستفادة من خبرتها المحلية في مكافحة العنف الحضري، وتقديم المشورة والدعم لإتمام مشروعات التنمية التعليمية والتنموية لمعالجة ومنع انتشار الأوبئة والأمراض وفي مقدمتها مرض الإيدز. فضلاً عن تقديم الخبرة الفنية والتدريب. وتلعب السفارة البرازيلية دورًا مهمًّا في التنسيق والإشراف على البرامج التنموية في المناطق الحضرية والريفية في دولة هاييتي.


هذا عن أميركا اللاتينية أما عن أفريقيا فإن ثلث حصة التعاون البرازيلي في برنامج الإعانة التنموية الرسمية ODA تذهب إلى أفريقيا الناطقة بالبرتغالية، وبصفة خاصة لبرامج التنمية الاجتماعية، وتحسين الإنتاجية الزراعية.


وهناك أيضًا استثمارات مباشرة في قطاع التعدين والمحاجر خاصة في موزمبيق. وبينما تمنحُ الروابطُ اللغوية والثقافية ميزةً للبرازيل أمام منافسين آخرين مثل الصين، إلا أن البرازيل تبقى رغم ذلك مشاركًا ضعيفًا وغير فعال في المجال التنموي في القارة الإفريقية مقارنة بدول أخرى مثل الصين على سبيل المثال، لكن هذا لا يعني أن الأفق أمام البرازيل لتعزيز حضورها التنموي في أفريقيا محدود، فلا تزال هذه القارة تحتفظ بصورة "طيبة" للبرازيل كلاعب دولي يمكنه أن يشعر بآلام وآمال "الأشقاء" الفقراء في القارة السمراء.
_____________________
سارة دا سوزا، باحثة متخصصة في الشؤون البرازيلية بالمعهد الأوربي للدراسات الدولية بإسبانيا. حصلت دا سوزا على الماجستير في الدراسات الخاصة بأميركا اللاتينية من جامعة كولون في ألمانيا، وعلى وشك الانتهاء حاليًا من الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة كومبلوتنسي، مدريد. كُلفت دا سوزا بالعديد من المهام البحثية من قِبل مؤسسات تعليمية في ألمانيا وشيلي. لها العديد من الدراسات عن البرازيل منشورة في دوريات محكمة. وتكتب أبحاثها بالإنجليزية والبرتغالية والإسبانية والألمانية. وتُعد العلاقات التي تربط أوربا بأميركا اللاتينية والكاريبي هي الاهتمام البحثي الأثير لدى دا سوزا.
 ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد عبد الحميد.النص منشور بتصرف من المحرر.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف