تدويل الأمازون من المهددات الإستراتيجية التي تواجه البرازيل (الفرنسية-أرشيف)
بدا الصعود الاقتصادي البرازيلي في العقد الأخير في غير حاجة إلى دليل. صحيح أن هذا النمو لم يكن مبهرا بالدرجة التي بدا عليها في بقية دول البريك (BRIC) (الهند والصين وروسيا، إضافة إلى البرازيل) إلا أن نقطة التميز الأساسية للبرازيل عن بقية دول هذه المجموعة هي أن المهددات الإستراتيجية التي تحيط بها أقل عددا وأخف خطورة.
سياق التهديد.. جيران ضعفاء
نزاعات دول الجوار
التهديدات النووية
التهديدات الاقتصادية
النشاط الإجرامي في الأمازون
التهديدات الأيديولوجية
المهددات البيئية
الخاتمة
ولا يعني ذلك أن البرازيل لا تواجه أخطارا، بل هي بالفعل تعاني عددا من المهددات في مقدمتها: تجارة المخدرات، وتهريب الأسلحة، والتغير المناخي، وتدمير الغابات الاستوائية في إقليم الأمازون وما ينجم عن ذلك من تداعيات اقتصادية وبيئية وخيمة.
ورغم ذلك يمكننا القول: إن البرازيل في وضع أفضل حين نقارنها بالصين والهند وروسيا؛ فالهند على سبيل المثال لا تواجه فقط نزاعات حدودية مع باكستان في الغرب ومع الصين في الشمال الشرقي، أو عدم استقرار في إقليم نيبال في الشمال، وتهديدات جار مزقته الحرب مثل سريلانكا في الجنوب، بل تعاني أيضا من تمردات ثورية في رقاع مختلفة من المناطق الشرقية والشمالية الشرقية.
أما روسيا فتعاني من تقلص دورها بسبب توسع حلف النيتو على تخومها الغربية، والتعطش الصيني "الشره" للموارد على تخومها الشرقية. كما تواجه روسيا حركات انفصالية كما هو الحال في الشيشان. بل إن روسيا اضطرت إلى غزو جورجيا مؤخرا ولفترة مؤقتة من أجل الدفاع عن مصالحها القومية.
وبالمثل، تواجه الصين توترا داخليا حادا مرتبطا بأقاليمها المسلمة غربا، فضلا عن الأزمة المزمنة في إقليم التبت جنوبا. كما أن للصين نزاعات حدودية مع الهند لم يتم التوصل إلى حل بشأنها، وهو ما قد يؤدي إلى اندلاع نزاعات عسكرية في المستقبل.
أما البرازيل فقد نجحت في التوصل لحل آخِر مشكلاتها الحدودية قبل قرن مضى. كما أن آخر اشتباك مسلح حقيقي شاركت فيه يعود إلى الحرب العالمية الثانية، وذلك حين أرسلت وحدة من قواتها إلى إيطاليا.
صحيح أن النزاع بين الدول يترك تأثيرات سلبية خطيرة، إلا أنه ليس النوع الوحيد من التهديدات الإستراتيجية؛ فعادة ما تواجه الدول مهددات دولية بالغة التنوع، والتي يمكن حصرها في ستة مهددات(1):
- النزاعات فيما بين الدول وبعضها البعض.
- التهديدات النووية.
- التهديدات الاقتصادية.
- التهديدات المرتبطة بالجرائم.
- التهديدات الأيديولوجية.
- التهديدات البيئية.
وكغيرها من الدول تعاني البرازيل من عدة تهديدات، لكنها ليست علنية وصريحة كالتي تواجهها الصين وروسيا أو الهند. وبينما تأخذ التهديدات التي تصيب الدول الثلاث السابقة شكل الاشتباكات المسلحة أو النزاع على الموارد، فإن التهديدات التي تواجه البرازيل أكثر دقة ومراوغة.
فما هذه المهددات؟ وكيف تؤثر على اتجاهات السياسة الخارجية؟ تقدم الورقة التي بين أيدينا إجابة عن هذين السؤالين.
حتى يمكننا وضع التهديدات التي تحيط بالبرازيل في سياقها، يبدو أنه سيكون من الأفضل أولا أن نقدم وصفا مختصرا لدور البرازيل على المستوى القاري والعالمي؛ فبعد مضي عقود من الثنائية القطبية جلبت نهاية الحرب الباردة مرحلة جديدة من الأحادية القطبية. وبينما احتفظت الولايات المتحدة بسيادتها في المجالات العسكرية على مدار العقدين الماضيين، شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين صعود التعددية القطبية الاقتصادية، وانتقال رئيسي في القوى من الغرب إلى الشرق. ويُنظر اليوم إلى الصين -وأحيانا إلى الهند والاتحاد الأوربي- على أنها القوى الرئيسية التي ستمثل تحديا للولايات المتحدة في العقد المقبل.
تواجه البرازيل عدة أخطار، في مقدمتها: تجارة المخدرات، وتهريب الأسلحة، والتغير المناخي، وتدمير الغابات الاستوائية في إقليم الأمازون وما ينجم عن ذلك من تداعيات اقتصادية وبيئية وخيمة |
ويشير العديد من المحللين إلى أن التهديد الرئيس للبرازيل يكمن في عدم قدرتها على تحقيق زعامة إقليمية. ورغم البلاغة الخطابية للرئيس "لولا" إلا أن البرازيل -وهي أكبر دول قارة أميركا الجنوبية مساحة وأعظمها سكانا- ما تزال غير قادرة على تجميع جيرانها في توائم إقليمي تحت ريادتها. وما زال الاتحاد الجمركي المعروف باسم ميركوسورMERCOSUR اتحادا غير مكتمل وحظوظه ضعيفة في تحقيق تقدم.
أما الأوناسور UNASUR (اتحاد دول أميركا الجنوبية) فليس سوى تحالف إقليمي يتسم بالعمومية والشمولية لدرجة تجعله يقبل أي شيء. وفي هذا التحالف ما يزال الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز يثير "القلاقل"، وتجد البرازيل نفسها عاجزة عن تحقيق أي استقرار أو ممارسة تأثير على جيرانها.
تعد البرازيل أكبر وأهم دولة في قارة أميركا الجنوبية؛ حيث يشكل سكانها 35 % من إجمالي سكان القارة، وتمثل مساحتها 47 % من إجمالي مساحتها، كما أن الناتج المحلي الإجمالي للبرازيل يمثل ثلث الناتج المحلي الإجمالي للقارة بأسرها. ومع ذلك تبدد البرازيل هذه الفرصة التي يمكن من خلالها التأكيد على أنها قادرة على ريادة القارة إقليميا، وهو المطلب الأساس للأمة البرازيلية التي تحلم بالوصول إلى مصاف الدول العظمى.
هل يمكن القول: إن البرازيل تخسر بعدم قدرتها على التأثير في الجيران؟ الإجابة نعم بالتأكيد. فضعف قدرة البرازيل على التأثير على حكومات دول الجيران يقلل من الأفق الذي يمكن أن تنطلق من خلاله لمواجهة التهديدات الإستراتيجية التي تحيط بها، خاصة تلك التهديدات التي تتطلب التعاون مع الأطراف المجاورة.
ولأن الخطاب "الجيوبوليتيكي" الكلاسيكي المنادي بالحذر من تهديدات الخضوع للشيوعية والإمبريالية الرأسمالية قد انتهى، فإن تهديدات أخرى مثل التدهور البيئي وتجارة المخدرات والعنف وما يرتبط به من جرائم تطل برأسها هذه المرة.
وعلى نحو ما أن قوة الجيران قد تكون تهديدا، فإن ضعف الجيران يمثل تهديدا أيضا؛ ذلك لأن الدول الضعيفة قد لا تكون قادرة على تقديم الحد الأدنى المطلوب لإقرار الاستقرار العام على المستوى الإقليمي؛ فعلى سبيل المثال، بوسع حالات العنف والفوضى التي قد تنشأ في بوليفيا أن تمتد دون شك إلى الأراضي البرازيلية، وقد يخيف ذلك المستثمرين في البرازيل.
صحيح أن البرازيل قوية وتزداد قوة، لكن جيرانها ضعفاء، وربما يزدادون ضعفا. وفي هذا السياق تواجه البرازيل واحدة من أكبر مهدداتها الأمنية.
لعل أكبر عامل سبَّب نزاعا واسع المدى في قارة أميركا الجنوبية ما وقع سابقا بين الأرجنتين والبرازيل؛ فخلال الحرب الباردة، أعرب كل طرف عن مصالحه الإقليمية على مستوى الأمن الخارجي. وأدت الحركات القومية وضعف الثقة بين دول النظم العسكرية الاستبدادية في القارة إلى سباق تسلح وصل إلى ذروته حين حاولت كل من البرازيل والأرجنتين تطوير أسلحة نووية. لكن النهج البراغماتي في السياسة الخارجية سرعان ما أدى إلى توقيع معاهدة تلاتيلولكو Tlatelolco (والتي وُقعت في 1967، وتم تنفيذها فعليا في 1969) ونصت على منع امتلاك السلاح النووي في القارة، ومهدت لعودة الديموقراطية في ثمانينيات القرن العشرين، ثم أكملت ميركوسور المهمة في عام 1991 (معاهدة أسينسيون) ونقلت منهج العلاقة بين دول القارة من الصدام إلى التعاون.
ومنذ ذلك الحين اختفت من الناحية العملية احتمالية نشوب نزاع بين الأرجنتين والبرازيل، وعلى الرغم من تكرار نشوب نزاعات تجارية بين الجانبين، إلا أن العلاقة بينهما سلمية، حتى إن القوات المسلحة للدولتين عادة ما تتناوب على استخدام التجهيزات العسكرية للدولة الأخرى بشكل تعاوني(2).
ومع التسليم بوجود عثرات أمامها لتحرير التجارة إلا أن ميركوسور قد أثبتت فائدتها الكبيرة للعلاقات الأرجنتينية البرازيلية، بحيث شكلت قاعدة أساسية وخلقت آليات للحد من التوتر بين الجانبين. وفي حقيقة الأمر فإن تراجع معدل التوتر العسكري أو احتمال نشوب نزاع مسلح بينهما إلى درجة الصفر لم يكن ناتجا في الواقع عن الروابط الاقتصادية القوية بين الجانبين، بقدر ما كان السبب هو التعاون بين الجانبين عند مستويات متعددة، والرغبة في تحقيق مصالح مشتركة.
وعلى الرغم من أن البرازيل قد توصلت لحل كافة نزاعاتها الحدودية، ما يزال هناك تهديد مصدره النزاع بين الدول الجيران في القارة، خاصة أن كافة دول قارة أميركا الجنوبية (باستثناء البرازيل) لديها نوع أو آخر من النزاع الحدودي مع دولة واحدة على الأقل من دول الجوار(3).
وبينما تمكنت دول النصف الجنوبي من القارة (المعروفة باسم المخروط الجنوبي) من حل مشكلاتها الأمنية ما تزال دول النصف الشمالي للقارة بعيدة عن ذلك بعدا كبيرا؛ إذ ما تزال أجواء عدم الثقة تسيطر على العلاقات بين دول المنطقة(4).
وإذا كان النزاع بين بيرو والإكوادور قد اشتعل في عام 1995، إلا أن علاقاتهما قد تحسنت منذ ذلك الحين. ويتمثل المصدر الأكبر للتوتر في القارة اليوم بين كولومبيا وفنزويلا؛ فعلى الحدود المشتركة بينهما تجري عمليات هجرة غير شرعية، وانتشار لتجارة المخدرات وأنشطة العصابات المسلحة.
وقد رصد بعض المحللين مؤخرا زيادة في الإنفاق على برامج التسلح في الإقليم، فيما يعتبر مؤشرا على سباق للتسلح. وعلى خلاف بقية دول القارة، فإن البرازيل نأت بنفسها عن الانخراط في أي نوع من هذه المشكلات. وليس هناك دولة من دول الجوار لديها المبرر أو القدرة على تشكيل خطر مهدد للبرازيل. ومن غير المنتظر أن يحدث تغير في تلك الأوضاع في المستقبل(5).
وخارج قارة أميركا الجنوبية، لا تواجه البرازيل أية تهديدات من أية دولة في العالم؛ فالقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة أو الصين أو القوة الأوربية ليس لها مصالح في الهجوم على البرازيل.
كانت البرازيل خلال الحرب الباردة قد اعتبرت الاتحاد السوفيتي مصدر تهديد لها، لكن من الناحية العملية لم تتخذ أية احتياطات أو تدابير عملية لمواجهته نظرا لوقوع البرازيل تحت المظلة الأمنية للولايات المتحدة. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تبدد هذا التهديد كلية. وحين تم اكتشاف احتياطات نفطية ضخمة على أعماق بعيدة من الساحل البرازيلي في المحيط الأطلسي الجنوبي، لم يكن هناك قلق أو تساؤل حول قدرة البرازيل على حماية حدودها البحرية في حدود 200 ميل أمام خط ساحلي يبلغ طوله 7500 كم؛ إذ ليس هناك قوة عظمى أو صغرى مجاورة قد تنازع البرازيل ثروتها الجديدة.
رغم أن البرازيل أكبر دول أميركا الجنوبية مساحة وأعظمها سكانا ما تزال غير قادرة على تجميع جيرانها في توائم إقليمي تحت ريادتها. وما زال الاتحاد الجمركي المعروف باسم ميركوسور اتحادا غير مكتمل وحظوظه ضعيفة في تحقيق تقدم |
وفي الوقت الذي لا تلعب فيه المهددات الواقعة خارج القارة دورا له قيمة في التفكير الإستراتيجي البرازيلي، فإن الولايات المتحدة كانت على الدوام مصدر تهديد للبرازيل تحت أقنعة مختلفة، وخاصة ما تمثله اليوم من تهديد للسيطرة على حوض الأمازون ولا سيما موارده من المياه العذبة.
وقد لا يعدو هذا التهديد أن يكون أحد موروثات "جنون العظمة" المتخلفة عن عهد النظم المستبدة التي حكمت البرازيل سابقا، وكانت تحشد أفواجا من الجماهير تهتف بشعار "متوحدون معا، ولن نستسلم". وكانت تلك الحكومات تزعم آنذاك أن القوى الخارجية ستحاول السيطرة على الأمازون. وحتى حينما قال آل جور -حين كان عضوا في مجلس الشيوخ-: إنه "بغضِّ النظر عما يعتقده البرازيليون؛ فإن الأمازون ليس ملكية خاصة بهم، إنه ملك لنا جميعا" فإن ذلك لا يعني أن هناك دولة لديها الرغبة، ولا القدرة، لاحتلال غابات الأمازون. كما أن الاتفاق الكولومبي الذي سمح للولايات المتحدة باستخدام بعض قواعدها العسكرية لا يمثل -على خلاف ما صرح "لولا" في غير مرة- أية تهديد إستراتيجي للبرازيل. وعلى هذا يمكننا القول بقدر كامل من الثقة: إن البرازيل لا تعاني مطلقا من أية مهددات من قبيل النزاعات الدولية.
البرازيل والأرجنتين وفنزويلا هي الدول الثلاث في القارة التي لديها الإمكانية لتطوير أو امتلاك أسلحة نووية؛ ففي عام 1991 وافق برلمان كل من الأرجنتين والبرازيل على توقيع اتفاقية لتكوين هيئة برازيلية-أرجنتينية مشتركة (هيئة أباك ABACC) لتقدير ومراقبة المواد النووية؛ وذلك لضمان مدى تعهد الدولتين باستخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية فقط.
وفي عام 1995 انضمت الأرجنتين لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية كدولة غير نووية، بينما انضمت البرازيل في عام 1998. وكانت فنزويلا قد وقَّعت بالكاد في ستينيات القرن العشرين. ومن غير المتوقع أن الأرجنتين أو دولة أخرى في أميركا الجنوبية يمكن أن تغير من إستراتيجيتها النووية(6). ومع ترسخ معاهدة تلاتيلولكو في القارة، فإنه حتى لو أصبحت إيران وكوريا الشمالية دولتين نوويتين، وحتى لو انهار الالتزام بالحد من انتشار الأسلحة النووية، ستبقى الأرجنتين على الأرجح ترفض امتلاك السلاح النووي، شريطة أن تفعل البرازيل نفس الشيء.
وقد أعلنت فنزويلا مؤخرا خطتها لبناء مفاعل نووي بهدف تنويع مصادرها من الطاقة(7)، ومن غير المنتظر أن تقوم فنزويلا بإنتاج أسلحة نووية(8). وعلى هذا فإن المهدد النووي في أميركا اللاتينية ليس له وجود.
توصلت البرازيل إلى حل لكافة نزاعاتها الحدودية بطرق دبلوماسية خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولعبت منذ ذلك التاريخ دور الوسيط في حل النزاعات الإقليمية بين دول القارة. وقد أدى ذلك إلى قناعة الحكومات البرازيلية المتعاقبة بأن التهديدات الأساسية التي تقف في وجه البرازيل ليست أمنية أو دفاعية بل ذات طبيعة اقتصادية.
ويمكن أن تتحقق المهددات الاقتصادية في عدة صور؛ فالتنافس الخارجي يمكن أن يهدد الصناعات البرازيلية غير القادرة على المنافسة؛ فعلى سبيل المثال، يعتبر الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة والهند حرية التجارة الزراعية خطرا إستراتيجيا مهددا، لأن كل هذه الدول تدعم الصناعات الزراعية، أو أن هذه الصناعات الزراعية غير قادرة على المنافسة المفتوحة. وبالنسبة للدول التي يقوم اقتصادها على التصدير، فإن ظهور حواجز تجارية يعد مهددا إستراتيجيا.
ويمكن أن يتحول التهديد إلى درجة حادة إذا لم تكن الدولة لديها قدرة على تنويع صادراتها الزراعية أو لو كانت نسبة عالية من تلك الصادرات تتجه لدولة بعينها. فعلى سبيل المثال تتألف معظم صادرات الدول الإفريقية من منتَج واحد أو منتجين على الأكثر (كالذهب أو القطن في حالة مالي). وهو ما يجعل هذه الدولة عرضة لأخطار كبيرة في حال انكماش الطلب العالمي وانهيار الأسعار.
وبطريقة مماثلة فإن دولة مثل المكسيك نوّعت من صادراتها، لكن ما يزال أغلب هذه الصادرات يتجه إلى مستورد واحد تمثله الولايات المتحدة. وحين يقع كساد اقتصادي في الولايات المتحدة فإن ذلك يمثل بدون شك تهديدا للمكسيك. وفي النهاية فإن الاستثمار الخارجي يمكن أن ينقطع لو لم تنتهج الدولة سياسات مشجعة لتدفق رؤوس الأموال الأجنبية.
ورغم أن الاقتصاد البرازيلي قد تعرض تاريخيا لأزمات وتراجع (كان أحدثها صدى الأزمة المالية لعام 1999) إلا أن هذا الاقتصاد قد أثبت قدرته على الصمود أثناء الأزمة المالية العالمية خلال سنة 2008/2009. وكانت البرازيل واحدة من أخريات الدول التي دخلت دائرة الركود، وواحدة من أولى الدول التي نجحت في التعافي منه.
ويمكن أن يعود ذلك النجاح إلى عدة أسباب، أولها: أن حكومة الرئيس "لولا" تبنت سياسات مالية محافظة كسبت قدرا من الثقة في سوق الاستثمار البرازيلي؛ فالاستثمار الأجنبي زاد إلى مستويات قياسية مما أدى إلى انتعاش اقتصادي في البلاد. ثانيا: رغم الحجم الضخم للصادرات البرازيلية، تمثل البرازيل سوقا استهلاكية ضخمة بحجم يبلغ نحو 200 مليون مستهلك. ثالثا: رغم قوة وفاعلية القطاع الزراعي البرازيلي، فإن الصادرات البرازيلية تتجه نحو التنويع بشكل متزايد، بما في ذلك تصدير منتجات القيمة المضافة. ولعل أفضل مثال على ذلك شركة "إمبرير" البرازيلية وهي ثالث أكبر شركة إنتاج طائرات في العالم.
وفي النهاية فإن البرازيل تنوع من محطات التصدير وتوجهها إلى عدد كبير من دول العالم. وبشكل تقريبي، تتجه هذه الصادرات بنسبة 15 % إلى الولايات المتحدة، و13% إلى الصين، و12 % إلى الأرجنتين، و5 % لهولندا، و5 % لألمانيا. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة التصدير إلى الصين بقيت نسب التصدير إلى دول أميركا الجنوبية وأوربا والولايات المتحدة بنفس أهميتها، حيث تبقى أسواقا تستقبل منتجات ذات قيمة مضافة.
ويشكل فول الصويا وخامات الحديد نحو ثلثي الصادرات البرازيلية إلى الصين، يليه النفط الخام بنسبة 10 %. ولعل دبلوماسية الحوار بين دول الجنوب التي تديرها البرازيل، وتكوين مبادرة إيبسا IBSA ( التي تشمل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) دليل على سعي الرئيس "لولا" لعقد تحالفات قوية مع الدول الصاعدة الأخرى في العالم، وهو توجه يمكن أن يُرى جزئيا كمحاولة للحد من التبعية الاقتصادية للعالم المتقدم.
ومنذ عام 2008 زادت تقديرات المخزون النفطي لدى البرازيل بشكل مفاجئ؛ حيث وصل إلى أكثر من 40 بليون برميل. صحيح أن هذا الاحتياطي أقل من نظيره لدى إيران والعراق وروسيا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، لكنه يعادل ما تمتلكه دول مثل نيجيريا وفنزويلا. ولعل الاستكشافات النفطية الحديثة تضع البرازيل كواحدة من بين أكبر عشر دول من حيث الاحتياطي النفطي العالمي. ومع ما تمتلكه البرازيل من موارد هائلة من الطاقة المتجددة -معظمها طاقة حرارية- فإنها في المجمل دولة مكتفية ذاتيا.
وعلى هذا، يمكن القول: إن البرازيل لا تواجه في حقيقة الأمر تهديدات إستراتيجية دولية في البُعد الاقتصادي. صحيح أن هبوطا اقتصاديا حادا في الصين سيؤثر سلبا على البرازيل، لكنه ليس من المتوقع أن يضرب أعمدة الاقتصاد البرازيلي.
في المقابل تواجه البرازيل عدة تحديات اقتصادية داخلية، مثل الحاجة إلى إصلاح قطاع القوى العاملة، وقوانين الضرائب، ورواتب التقاعد. كما أن البرازيل في حاجة للاستمرار في المضي قدما نحو الحفاظ على سياستها المحافظة والموثوق في فاعليتها حتى لا تتسبب في تخويف المستثمرين، أو هروب رؤوس الأموال.
لا تواجه البرازيل تهديدات إستراتيجية دولية في البُعد الاقتصادي. صحيح أن هبوطا اقتصاديا حادا في الصين سيؤثر سلبا على البرازيل، لكنه ليس من المتوقع أن يضرب أعمدة الاقتصاد البرازيلي |
ولو أن دولا مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي خفَّضت من التعريفات الجمركية التي فرضتها على المنتجات الزراعية المستوردة، وقللت من دعمها الداخلي للمنتجات الزراعية، لكان بوسع البرازيل زيادة صادراتها إلى هذه الدول بشكل ملحوظ. ولعل الفشل في توقيع اتفاق بين الدول النامية والدول المتقدمة سيكون مكلفا بالنسبة للبرازيل، لكنها كلفة لا تشكل تهديدا إستراتيجيا في وقت يُتوقع فيه للاقتصاد البرازيلي النمو، بغض النظر عن الفشل الذي أصاب مفاوضات جولة الدوحة.
أظهرت مسوح حديثة أن نصف الساسة في البرازيل يعتبرون "تدويل" الأمازون بمثابة "تهديد إستراتيجي بالغ الخطورة". وهذا ما يجعل الأمازون واحدا من أكثر القضايا المهمة أمام صانعي القرار في البرازيل. ومن وجهة النظر العسكرية، تعد هذه هي الفكرة الأساسية في المهددات التي تتعرض لها الدولة البرازيلية؛ فغياب الدولة وقوتها العسكرية عن الأمازون يشكل المهدد الأكبر للسيادة البرازيلية. وكنتيجة لما سبق هناك جدل حاد حول تحريك قوات برازيلية إلى الأمازون. وهذه القضية عُدّت الأكثر بروزا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وكان هدف الجيش البرازيلي هو حماية الأمازون من الإمبريالية الإيكولوجية العالمية.
وبينما تنظر الدوائر العسكرية والسياسية إلى الأمازون كنطاق يمكن أن يأتي من قبله تهديد للأمن القومي في المستقبل، فإن القضية يتم التعاطي معها بشكل عاطفي. وعلى نحو ما شهد عقد خمسينيات القرن العشرين من حشد قومي رفع شعار "النفط لنا"، نجح التحالف المدني-العسكري في عقد التسعينيات في رفع شعار "الأمازون لنا"؛ وذلك من أجل تدعيم التنمية والتطوير الإقليمي في تلك المنطقة.
ومن اللافت للانتباه أن المحللين غير البرازيليين عادة ما ينظرون إلى تلك الأحاديث على أنها نوع من جنون العظمة وبقايا من عصور الماضي حين أطلقت الحكومات البرازيلية المستبدة شعارات دعائية لتوطين السكان في الأمازون، وكانت تقول للشعب: إنه "إن لم نعمِّر الأمازون فسيسلبوه منا". ومن الناحية التاريخية، حظيت مشكلة الأمازون باهتمام وطني برازيلي ضمن سياق حرب تقليدية خاضها الجيل الثالث من سكان البرازيل.
ومع ذلك فإن هذه المشكلة لا ترتبط بنزاع حدودي بين البرازيل وجيرانها. بل ترتبط بضعف وجود الدولة في تلك المنطقة الشاسعة وما يرتبط بذلك من جرائم آتية من الخارج تشكل مهددا إستراتيجيا للبرازيل، وخاصة الجرائم المرتبطة بتجارة المخدرات، وتهريب الأسلحة، ونشاط العصابات المسلحة، وتدمير الغابات. وعلى الرغم من وجود بعض العصابات وبعض من يقومون بالتنقيب عن المعادن بشكل غير قانوني، وبأعمال استكشافية غير مصرح بها من قبل الدولة، إلا أن المحلل لوسيو فلافيو بينتو Lúcio Flávio Pinto المقيم في ولاية بارا بشمال البرازيل يرى أن الحكومة البرازيلية تبالغ في الأمر كي تبرر "عسكرة وجودها في الأمازون".
وهناك ارتباط وثيق بين تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة، وأعمال العصابات؛ فالميليشيات اليسارية المتمردة -والمعروفة باسم ميليشيات الثورة الكولومبية FARC ، وهي جماعة يسارية متمردة- تتخذ من الأدغال مقرا لها، وتحصل على مصادر تمويلها من خلال أنشطة محظورة عادة ما تتم على الحدود البرازيلية في الأمازون.
ومن المعروف أنه خلال الحملات المتواصلة التي تشنها الحكومة الكولومبية ضد هذه الجماعة، يقوم المتمردون في بعض الأحيان بالفرار إلى المنطقة الحدودية البرازيلية، وهناك تفتقر السلطات الحكومية البرازيلية القدرة على تحديد هوية تلك الجماعات أو إيقافها. ولعل عدم قدرة الدولة على العمل بفاعلية للتحكم في المنطقة الحدودية مع فنزويلا وكولومبيا مبررها أن الحدود بين هذه الدول تمر في قلب الغابة الاستوائية.
وعلى الرغم من أن تجارة المخدرات لا تمثل من الناحية التاريخية تهديدا كبيرا سوى لكولومبيا، أصبحت هذه المشكلة الآن تهديدا "منخفض الشدة" يحيق بعديد من الدول، بما فيها البرازيل؛ ومن ثَمَّ فالمنظمات الإجرامية تقوض بدرجة كبيرة تماسك الدولة ووحدتها، وتكبل السياسيين، وتفسد النظام القضائي، وتتحدى العملية السياسية القانونية والمؤسسية؛ فالمكسيك -التي تواجه اليوم عصابات تتاجر في المخدرات، وتتسم بالاحتراف والمباغتة- أفضل مثال يبين كيف يمكن للجريمة المنظمة أن تشكل تهديدا لدولة كانت تنعم سلفا بالاستقرار. وترتبط أنشطة العصابات في الأمازون بتهديدات محلية داخل الدولة البرازيلية، وخاصة إذا كانت لهذه الجرائم امتدادات وتأثيرات على المراكز الحضرية في البرازيل.
وتجدر الإشارة هنا إلى نموذج فنزويلا بقيادة هوغو شافيز؛ فقد زادت فنزويلا تحت حكم شافيز من الإنفاق العسكري بشكل جذري، بما في ذلك دفعها 4.4 بليون دولار لروسيا نظير أسلحة اشترتها خلال السنوات الأربع الماضية، فضلا عن حصولها على مساعدات فنية عسكرية بقرض بلغت قيمته بليون دولار. ومن غير المتوقع أن تمارس فنزويلا تهديدا عسكريا للبرازيل. ويعود ذلك في المقام الأول لضعف قدرة فنزويلا العسكرية من ناحية، وضعف تدريب جيشها من ناحية ثانية.
لكن لا يمكن إغفال الأثر السلبي الناتج عن الدعم الذي يقدمه شافيز فنزويلا لميليشيات الثورة الكولومبية (FARC) التي تصنفها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي حركة إرهابية. وهو دعم يعوق إمكانية إقرار البرازيل للاستقرار في المنطقة الحدوية(9).
بينما لم تتمكن الشيوعية ذات النمط السوفيتي من أن تضرب جذورها مطلقا في تربة أميركا الجنوبية، شهدت القارة سلسلة من الحكومات اليسارية الجماهيرية. وإذا كانت كوبا تقع خارج القارة من الناحية الجغرافية، إلا أن هناك تطورات حديثة في قلب القارة شهدتها فنزويلا فيما يُعرف باسم "الثورة البوليفارية". وعادة ما تستخدم الحكومات التي تبنت هذا النهج الوسائل الديموقراطية لتعطيل الديموقراطية ذاتها، وفي مقدمتها تداول الفترات الرئاسية، وحرية الكلمة، والحرية الاقتصادية، وذلك في سبيل فرض نظام اقتصاد اشتراكي تقوده الدولة.
وقد تمكنت فنزويلا من دعم المرشحين اليساريين للرئاسة في الإقليم، وكسبت أتباعا لها في الإكوادور ونيكارغوا وهندوراس. وبينما يشكل هوغو شافيز -كما يرى البعض- خطرا على الاستقرار الذي تعيشه أميركا الجنوبية إلا أنه لا يشكل خطرا على البرازيل؛ ذلك لأن نظام شافيز لا يقدم بديلا للنظام السياسي الديموقراطي الذي تتمتع به البرازيل.
قد ينجح شافيز في اختراق تحالف ميركوسور واستخدامه لغاياته السياسية، لكن نظرا لأن الاشتراكية البوليفارية مرتبطة بشكل وثيق بشخص هوغو شافيز فإنه من المتوقع أن تختفي بخروجه من الحلبة السياسية.
ليس هناك تهديد عسكري للبرازيل من قبل أي دولة من دول أميركا اللاتينية، كما أن عدة دول صغيرة في القارة تعتبر البرازيل الضامن الأمني الرئيس في أميركا الجنوبية |
ويعد الإرهاب الذي يمارسه المتعصبون دينيا تهديدا آخر حظي بأهمية عالمية متزايدة. فمع تقليص المسافات بفعل العولمة، وتقدم البرازيل لتصبح لاعبا مهما على الساحة العالمية، يصبح من الصعب بقاء البرازيل بعيدة عن أخطار الإرهاب الذي ضرب خلال العقد الماضي أهدافا عدة في الولايات المتحدة وأوربا وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
ورغم كل شيء فإن أميركا الجنوبية ما تزال بعيدة عن الهجمات الإرهابية، باستثناء حادثتين تعرضت لهما مؤسستان يهوديتان في مدينة بوينس آيرس مطلع تسعينيات القرن العشرين.
باعتبارها أكبر دولة مصدرة للمنتجات الزراعية، تتعرض البرازيل لخطر كبير يتمثل في تداعيات التغير المناخي؛ فمشكلة الاحترار العالمي برأي كثير من المفكرين هي أكثر التهديدات خطورة على المصالح البرازيلية. وعلى خلاف ما قد يقترحه السياسيون في البرازيل من فترة لأخرى، فإن صفوة المفكرين البرازيليين يعتقدون أن البرازيل في حاجة لأن تشارك بفاعلية في مواجهة التغير المناخي، وخاصة من خلال الحد من تدمير غابات الأمازون، والتي تمثل أكبر مستودع في العالم للعناصر الطبيعية المحتوية على الكربون، ذلك المستودع الذي يقع 60 % منه ضمن حدود البرازيل.
باعتبارها أكبر دولة مصدرة للمنتجات الزراعية، تتعرض البرازيل لخطر كبير يتمثل في تداعيات التغير المناخي؛ فمشكلة الاحترار العالمي برأي كثير من المفكرين هي أكثر التهديدات خطورة على المصالح البرازيلية |
ومع ذلك فإن إيقاف قطع الغابات أمر صعب للغاية خاصة مع الأرباح التي يجنيها بعض السكان من وراء ذلك. فبعد أن يتم قطع الأشجار يقوم المزارعون باستغلال الأرض، سواء في رعي الماشية أو زراعة فول الصويا. ولعل ذلك يفسر لماذا يرتبط معدل إزالة الغابات بأسعار اللحوم وفول الصويا، مع وجود فارق زمني بين الحدثين مقداره نحو عام.
ولا يدوم الرخاء الاقتصادي الذي شهدته هذه المناطق طويلا؛ فمعظم المناطق تتراجع إلى مستوياتها الاقتصادية بمجرد أن تنتقل حدود الغابة الاستوائية إلى مكان جديد. كما أن خطر التعرض لأمطار أقل في كافة أرجاء البرازيل ما زال خطرا دائما. وفي مجمل الأمر، تعد إزالة الغابات إحدى التداعيات السلبية الوخيمة التي يمكن أن تصيب الاقتصاد البرازيلي.
قد يكون من المبالغة القول: إن البرازيل لا تواجه مهددات إستراتيجية، لكن مع ذلك لا يمكن إنكار أنها تقع في إقليم من العالم يتمتع بخلوه من النزاعات العسكرية. وفي مجمل الأمر فإن التهديدات التي تواجهها البرازيل محدودة التأثير مقارنة بتلك التي تواجهها القوى الصاعدة الأخرى.
تتميز البرازيل بإنفاق ميزانية أقل على الأغراض الدفاعية مقارنة بالقوى العالمية؛ ففي عام 2006 أنفقت البرازيل 14.3 بليون دولار متساوية في ذلك مع أستراليا وأسبانيا، وأقل من الهند وروسيا وألمانيا والتي أنفق كل منها ما بين 20 إلى 30 بليون دولار، وبعيدة جدا عما أنفقته الصين واليابان وفرنسا (40-50 بليون دولار) كما أنها لا تقارن بما أنفقته الولايات المتحدة (350 بليون دولار).
وللبرازيل جيش محدود نسبيا، لكنه مع ذلك يعد واحدا من أفضل 20 جيشا في العالم، وهو ما يجعل البرازيل الدولة الأكبر حجما من ناحية القوة العسكرية في أميركا الجنوبية؛ فحجم الجيش البرازيلي ثلاثة أمثال نظيره الكولومبي، وأربعة أمثال الجيش المكسيكي، وسبعة أمثال الجيش الأرجنتيني.
وليس هناك تهديد عسكري للبرازيل من قبل أي دولة من دول أميركا اللاتينية، حتى إن الجيران يعتبرون البرازيل دولة متفردة عسكريا، كما أن عدة دول صغيرة في القارة تعتبر البرازيل الضامن الأمني الرئيس في أميركا الجنوبية.
ويتمتع الجيش البرازيلي بتخففه من حالة التأهب، وتركه قطاعات طويلة من الحدود البرازيلية دون حماية عسكرية فعلية، وهو وضع لا يمكن لدول أخرى مثل الهند أن تعيشه سيما وأنها مضطرة إلى وضع قوات ضخمة على أهبة الاستعداد على الحدود الغربية والجنوبية الغربية خوفا من اجتياح محتمل باكستاني أو صيني.
وفي ظل ندرة التهديدات الخارجية، ما تزال السياسة الخارجية موضوعا يناقشه فقط نخبة المفكرين في البرازيل، والمشتغلون بسياسة الأمن الخارجي وذلك في دوائر محدودة للغاية، مقارنة بالدوائر الأوسع التي تنشغل بمناقشة السياسات الاقتصادية والتجارة. ومع ذلك لوحظ مؤخرا نمو ملحوظ في عدد الدارسين لبرامج العلاقات الدولية في الجامعات البرازيلية، ومن المتوقع أن يولي الجيل الجديد عناية أكبر لهذا الموضوع.
ومن بين النتائج المترتبة على انتشار حالة عدم الاهتمام بالسياسة الخارجية أن الحملات الرئاسية في البرازيل نادرا ما تحتوي برامجها على إشارة للمهددات الإستراتيجية أو كيفية مواجهتها. كما أن صناعة السياسة الخارجية البرازيلية منفصلة عن صياغة السياسة الدفاعية؛ فحين تتخذ وزارة الخارجية البرازيلية قرارا، فإن وزارة الدفاع عادة ما لا تتدخل في ذلك. وفي حقيقة الأمر فإن وزارة الخارجية لا ترى ضرورة لاستخدام القوة تحت أي ظرف، باستثناء حالة الدفاع عن النفس.
وما دام الجيش لديه مهام محدودة وممثَّلة في حماية الحدود، يدور النقاش حاليا حول توظيف الجيش في حل مشكلات وقضايا داخلية، كمكافحة العنف المرتبط بتجارة المخدرات، وضبط الأمن العام، وهي من القضايا الملحة التي تشغل البرازيل أكثر من القضايا الخارجية.
وتبعا للإمكانات العسكرية البرازيلية المحدودة، فإن سياستها الأمنية هي سياسة إقليمية في الأساس، ورغم قيادة البرازيل لمهمة إقرار الأمن في هاييتي MINUSTA إلا أنها ليست واحدة من المزودين الرئيسيين لقوات الأمم المتحدة بالرجال والعتاد (خاصة في المناطق التي تقدم البرازيل فيها قوات لحفظ السلام مثل السلفادور، وكرواتيا، وأنجولا، وتيمور الشرقية). ولكنها مع ذلك تسعى للعب دور أكبر في هذه المهام.
وكنتيجة جزئية لندرة المهددات الإستراتيجية، ومحدودية القوة العسكرية، تركز السياسة الخارجية البرازيلية بشكل كامل على النهج الدبلوماسي. وتعد مدافعا رئيسيا عن التعددية والمفاوضات متعددة الأطراف. وهي سياسة تنزع إلى التهدئة، وترغب في رؤية نفسها تلعب دور الوسيط، على نحو ما يتضح حين نراجع محاولات الرئيس "لولا" دعوة كافة أطراف النزاع في الشرق الأوسط للجلوس على مائدة التفاوض.
وقد وقَّعت البرازيل عدة معاهدات دولية للحد من التسلح. ونظرا لأنها سادس أكبر دول العالم امتلاكا لخامات اليورانيوم، فضلا عن قدرتها على تخصيبه؛ فإن البرازيل تقبل أيضا بكافة التعهدات الدولية التي تلتزم بها الدول المصدِّرة بشكل قانوني للمواد النووية.
وتنشغل البرازيل اليوم بالتفكير في أفضل طريقة لاستخدام قواتها المسلحة؛ فالكثيرون متفقون على أن عسكرة إقليم الأمازون -وهو الاقتراح الذي كان قد قدمه مانغابيرا أنغر Mangabeira Unger الوزير السابق في حكومة الرئيس لولا، وأستاذ القانون في جامعة هارفارد- ليس خيارا عمليا.
وذهب البعض إلى القول: إنه من الواجب الاستفادة من الجيش في ضبط الأمن في المناطق العشوائية في المدن الكبرى التي تفتقر إلى الضبط والنظام. بينما يذهب فريق ثالث إلى أن الأجدى الحفاظ على الهيكل الحالي للجيش مع تدعيمه بمجموعات عسكرية "عالية التميز والاحتراف".
وسيتوقف القرار الذي ستتخذه الحكومة البرازيلية على الدور الذي ترغب الدولة في لعبه عالميا؛ فبعض المحللين يرى أن بناء جيش قوي قادر على الاشتباك في النزاعات في أي منطقة في العالم ربما يسبب سباق تسلح في قارة أميركا الجنوبية. كما أن التعاون الوثيق بين البرازيل والدول الكبرى في القارة، مثل الأرجنتين وشيلي، ربما يثير مخاوف من هيمنة عسكرية برازيلية.
وبينما نجد أن نسبة متزايدة من البرازيليين يرون بلدهم لاعبا عالميا، هناك القليل ممن يربطون ذلك بضرورة مشاركة بلادهم في حل النزاعات البعيدة. وهناك قناعة في البرازيل اليوم بأن الدولة في حاجة لحل مشكلاتها الاجتماعية الداخلية الملحَّة أولا، مثل الفقر، وعدم التساوي في الدخل، وذلك قبل المضي في الانخراط بحثا عن حلول لمواجهة التهديدات الدولية التي لا تستهدف البرازيل في المقام الأول، مثل الحرب في أفغانستان مثلا. وعلى هذا النحو يمكن توقع استمرار اعتماد البرازيل على الدبلوماسية والحوار متعدد الأطراف كإطار لسياستها الخارجية.
_______________
أوليفر ستونكيل، باحث أول بمعهد السياسات الدولية في جنيف. حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأميركية، وعلى وشك الحصول على درجة الدكتوراه من جامعة آخن في ألمانيا. وهو حاليًا باحث زائر في كل من جامعة ساو باولو ومعهد إعداد القادة بمدينة ساو باولو. التخصص المباشر لستونيكل هو دراسات القوى الصاعدة وبالأخص الهند والبرازيل، وتأثير سياساتهما الخارجية في بنية النظام الدولي. له خبرة طويلة في سياسات العديد من البلدان التي عمل فيها ضمن بعثة الأمم المتحدة في البرازيل وفيجي وأمانة اتحاد ميركوسور في أوروغواي وألمانيا. وقد نشر العديد من الدراسات، ويكتب بصورة شبه دورية باللغة الإنجليزية في مجلات وصحف كبيرة تصدر في البرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا والهند. ويتقن ستونكيل الألمانية والإنجليزية والبرتغالية والأسبانية، وعلى دراية بالإيطالية والفرنسية والأوردية. ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد عبد الحميد.
الهوامش:
(1) لا يعبر هذا التتابع عن أهمية العناصر، وإن كان من المناسب للعرض أن نبدأ بالنزاعات بين الدول باعتبارها أكثر التهديدات الإستراتيجية الدولية شيوعا.
(2) يمكن تفسير قرار البرازيل بإقامة صناعة سلاح محلية في ثمانينيات القرن العشرين -والذي جعل منها الدولة الوحيدة في القارة القادرة على إدارة أي نزاع عسكري دون الحاجة لاستيراد أسلحة من الخارج- على أنه استجابة لرغبة الحكومة في تحقيق عائدات ربحية من وراء هذه الصناعة، ولم يكن بالضرورة اعتقادا منها أنها مقبلة على حرب حتمية ( de Gouvea 1991). وكنتيجة لتأسيس هذه الصناعة، صارت البرازيل واحدة من مصدِّري السلاح الكبار، وتبيعه بشكل أساسي إلى دول الشمال الإفريقي والشرق الأوسط، وبصفة خاصة العراق، بل إنها تبيعه أيضا إلى أعضاء في حلف النيتو مثل المملكة المتحدة (de Gouvea 1991).
(3) حتى أوروغواي، أكثر دول القارة استقرارا، تتنازع مع الأرجنتين على ترسيم الحدود بينهما في منطقة مصب نهر ريو دي لابلاتا.
(4) في ثمانينيات القرن العشرين كانت هناك ثلاث حروب تقليدية، وثماني ثورات ضخمة في دول أميركا اللاتينية. وفي التسعينيات كان هناك اثنتان من الثورات وحرب تقليدية واحدة (de Souza 2006). وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فإن النزاع الوحيد الذي وقع تمثَّل في حرب العصابات المسلحة في كولومبيا، وهو النزاع الوحيد المستمر إلى الآن.
(5) كان رد فعل البرازيلي على هجوم باراغواي في عام 1864 قويا بدرجة لم تُمحَ من الذاكرة؛ ففي نهاية النزاع فقدت باراغواي مساحات شاسعة من أرضها وأعدادًا كبيرة من سكانها.
(6) من فترة لأخرى يعرب عدد من الساسة والمحللين العسكريين البرازيلين عن استيائهم مما فرضته البرازيل على نفسها من تقييد قدرتها في مجال الأبحاث النووية، ويشار إلى أن البرازيل هي الدولة الوحيدة من بين دول البريك الأربع (التي تضم روسيا والهند والصين) التي لا تمتلك أسلحة نووية. (Brigagao 2006) . ويبدو أنه ليس هناك ما يغير إستراتيجية البرازيل في هذا الصدد؛ حيث يعد مبدأ الحد من انتشار الأسلحة النووية أحد الأعمدة الرئيسية في سياستها الخارجية.
(7) نوعت فنزويلا من مصادر استهلاكها للطاقة؛ فأصبحت تعتمد على الطاقة الكهرومائية بنسبة 75 % من إجمالي مصادر إنتاج الكهرباء في البلاد. بينما تأتي النسبة الباقية من الاعتماد على الغاز الطبيعي والبترول والفحم والديزل. (انظر: Energy Information Administration, "Country Analysis Briefs: Venezuela," U.S. Department of Energy, October 2007, available at: http://www.eia.doe.gov. )
(8) منذ عام 2005 أعلنت أكثر من 30 دولة لأول مرة خططها لبناء محطات طاقة نووية، ومن بينها فنزويلا. وستحتاج فنزويلا وغيرها نحو 15 سنة لتطوير البنية الأساسية، وتأهيل الكوادر العلمية لتشغيل أول محطة من هذا النوع بشكل آمن، فضلا عن الكلفة العالية لمحطات الطاقة النووية؛ إذ إن كل محطة تتكلف ما بين 5 إلى 10 بلايين دولار. (انظر في ذلك: Sharon Squassoni, "Nuclear Renaissance: Is It Coming? Should It?" Carnegie Endowment for International Peace, Policy Brief No. 69, October 2008 )
(9) يذهب بعض المحللين إلى أن شافيز المحاصَر لا يمكن التنبؤ بتصرفاته حتى أنه قد يهاجم دولة من دول الجيران لصرف الأنظار عن الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تعيشها بلاده. وبما أن الجيش الكولومبي بالغ القوة بدرجة لا يمكن لشافيز دحره، فيمكن أن يُولِّي وجهه شطر غويانا التي لها مشكلة حدودية مع فنزويلا. وفي هذا السيناريو المفرِط في تخيلاته النظرية فإن ولاية رورايما البرازيلية ستقع تحت طائلة الخطر؛ نظرا لأنها تقع بين جنوب شرق فنزويلا وجنوب غرب غويانا.
المراجع:
Armijo, L.E. and P. Sotero (2007): Brazil: To be or not to be a BRIC?, Asian Perspective, Vol.31, No.4, 2007
Bandeira, L. (2006): Brazil as a regional power and its relations to the United States, Latin American Perspectives, Vol.33, No.3, May 2006
Barbosa, R. (2008): Diplomacia da Generosidade e Interesse Nacional, Estado de São Paulo, March 18, 2008;
http://arquivoetc.blogspot.com/
2008/05/rubens-barbosa-diplomacia-da.html,
accessed January 24, 2010
Barrionuevo, A.(2009): Whose Forest is this, anyway?, NYTimes, March 18, 2009;
http://www.nytimes.com/
2008/05/18/weekinreview/
18barrionuevo.html?
pagewanted=print,
accessed January 24, 2010
Brigagão, C. and F. Fernandes (2008): Política Externa Brasileira e os Três Eixos Estratégicos, Fundação Heinrich Böll, 2008; http://www.boell-latinoamerica.org/
download_pt/
POLITICA_EXTERNA_
BRASILEIRA_E_OS_TRES_
EIXOS_ESTRATEGICOS.pdf,
accessed January 24, 2010
Brigagão, C. and L. Paz Neves (2007): Is there an arms race in South America?, in: International Security: A European-South American Dialogue, IV International Security Conference of Forte de Copacabana, Konrad Audenauer Foundation, 2007
Busch, A. (2009): Wirtschaftsmacht Brasilien: Der grüne Riese erwacht, München, Carl Hanser Verlag, 2009
CIA Factbook; www.ciafactbook.com,
accessed January 24, 2010
De Gouvea, R.(1991): How Brazil Competes in the Global Defense Industry, Latin American Research Review, Vol. 26, No. 3, 1991
de Onis, J. (2008): Brazil’s Big Moment: A South American giant wakes up, Foreign Affairs, Nov/ Dec 2008
De Souza, A. (2008): A Agenda Internacional do Brasil: A Politica Externa do Brasil de FHC à Lula, Rio de Janeiro, Paz e Terra, 2008
Escobar, P. (2006): Hezbollah South of the Border, Asia Times, August 3, 2006; http://www.atimes.com/
atimes/Front_Page/
HH03Aa01.html
García Pino, G. (2007): Combined Joint Peace Force “Cruz del Sur” (Southern Cross), in: International Security: A European-South American Dialogue, IV International Security Conference of Forte de Copacabana, Konrad Audenauer Foundation, 2007
Gerami, N. and S. Squassoni (2008): A Nuclear Profile. Proliferation Analysis, December 18, 2008; http://www.carnegieendowment.org/
publications/index.cfm?
fa=view&id=22568,
accessed January 24, 2010
Griffith, I.L. (1995): Caribbean Security: Retrospect and Prospect, Latin American Research Review, Vol. 30, No.2, 1995
Fleitas, D.M. (2007): Arms Race Vs. Cooperation in Security in South America, in: International Security: A European-South American Dialogue, IV International Security Conference of Forte de Copacabana, Konrad Audenauer Foundation, 2007
Hunter, W. (1997): Eroding Military Influence in Brazil: Politicians Against Soldiers. Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1997
Huntington, S. (1999): The Lonely Superpower, Foreign Affairs, 1999
Hurrell, A. (1998): Security in Latin America, International Affairs, Vol. 74, No.3, Jul.1998
Jácome, F (2007): Is Cooperation in security feasible in South America?, in: International Security: A European-South American Dialogue, IV International Security Conference of Forte de Copacabana, Konrad Audenauer Foundation, 2007
Johnson, E. (2003): The Taming of the Amazon, Foreign Policy, No. 136 (May - Jun., 2003), pp. 84-85
Khanna, P. (2008): The Second World, New York, Brookings Institution Press, 2008
King, C. (2008): The Five Day War: Managing Moscow after the Georgia Crisis, Foreign Affairs, Nov/ Dec 2008
Kingstone, P. (2009): Brazil, the sleeping giant awakens? World Politics Review, January 12, 2009; http://www.worldpoliticsreview.com/
article.aspx?id=3145
Lamas, B.G. (2004): O Brasil e a Reforma do Conselho de Segurança da ONU, Análise Segurança, PUC Minas, December 16, 2004
Latinobarometro (2009); http://www.economist.com/
world/americas/
displaystory.cfm?
story_id=15080535,
accessed January 24, 2010
Le Mière, C. (2009): China’s Western Front: Can Beijing bring Order to its restive provinces?, Foreign Affairs, August 14, 2009
Luce, E. (2007): Inspite of the Gods: The Strange Rise of Modern India, New York, Random House, 2007
Macfarlane, S.N. (2006): The ‘R’ in BRICs: Is Russia an emerging power?, International Affairs, Volume 82, Number 1, January 2006
Mahbubani, K. (2008): The New Asian Hemisphere: The Irresistible shift of global power to the east, New York, Public Affairs, 2008
Mangabeira Unger, R. (2007): Presentation at the VIII National Seminar of Strategic Studied (ENEE), Brasília, November 7, 2007
Marconini, M. (2006): Politica externa em Perspectiva, Rio de Janeiro, Paz e Terra, 2006
Martins, J. R., and D. Zirker (2000): The Brazilian Army under Cardoso: Overcoming the Identity Crisis, Journal of Interamerican Studies and World Affairs, Vol. 42, No. 3 (Autumn, 2000), pp. vi-170
Military Expenditure Database of the Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI), www.sipri.org, accessed January 21, 2010
Mohan, R. (2006): India and the Balance of Power, Foreign Affairs, July/August 2006
Perry, W. and M. Primorac (1994): The Inter-American Security Agenda, Journal of Interamerican Studies and World Affairs, Vol.36, No.3, Autumn 1994
Rossi, C. (2010): O filho é maior que o pai?, Folha de São Paulo, January 21st, 2010; http://www1.folha.uol.com.br/
folha/pensata/clovisrossi/
ult10116u682809.shtml,
accessed January 24, 2010
Schwartz, M. (2008): Russia Loans Venezuela $1 Billion for Military, The New York Times, September 26, 2008
Truitt, R.D. (1976): Latin American Security Issues, Military Affairs, Vol. 40, No.4, Dec 1976