العلاقات البرازيلية العربية.. الواقع والمأمول

تتخذ البرازيل إزاء قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، موقفا يتأسس على احترام القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي وعلى رأسها قرار التقسيم (1947)، كما تتبنى البرازيل فكرة "حل الدولتين": دولة فلسطينية وإلى جانبها دولة إسرائيلية






آفاق تطور العلاقات البرازيلية العربية واعدة (رويترز-أرشيف)

سالم حكمت ناصر


دائما ما تنظر البرازيل لنفسها على أنها "قوة متوسطة الحجم"، فهي ليست بالدولة الصغيرة الضعيفة ولا بالقوة العظمى صاحبة النفوذ الكبير؛ ولذلك فإنه من الطبيعي أن تتبنى سياسة خارجية تتصف بالعقلانية (الواقعية) والوسطية واحترام قواعد القانون الدولي، وانطلاقا من هذا يمكن فهم مساعي البرازيل الحثيثة لتقوية مؤسسات النظام الدولي؛ إذ ترغب من وراء ذلك أن يكون القانون الدولي فاعلا(1)، ومِن ثَمَّ تستطيع أن يكون لها من خلال تلك المؤسسات تأثير على مجريات النظام الدولي فضلا عن حماية سيادتها ومصالحها بالطبع.


العلاقات السياسية 
العلاقات التجارية والاقتصادية


وهذه النظرة تُعتبر ملائمة بالنسبة لبلد يتسم بسمات البرازيل المعزولة جغرافيا إلى حد ما، والتي لم تكن يوما لاعبا في السياسات الدولية، ولا تواجه بتهديدات إستراتيجية ذات بال، كما ليس بينها وبين جيرانها المتاخمين مشكلات خطيرة.


وقد اتسمت السياسة الخارجية البرازيلية السائرة على نهج العقلانية والوسطية بالاستمرارية -رغم تأثرها الطفيف بتغير الحكومات والنظم السياسية المتعاقبة-(2)، وهو ما ساعد البرازيل على إقامة علاقات "طبيعية" مع دول تبدو سياستها الخارجية متنافرة كما هو الحال مثلا مع الدول العربية وإسرائيل. كيف استطاعت البرازيل أن تقيم علاقات سياسية "لها مستقبل واعد" مع العالم العربي، وفي الوقت نفسه تحتفظ بعلاقات "طبيعية" مع إسرائيل؟ هذا هو موضوع الورقة التي بين أيدينا.


العلاقات السياسية


تتخذ البرازيل إزاء قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، موقفا يتأسس على احترام القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي وعلى رأسها قرار التقسيم (1947)، كما تتبنى البرازيل فكرة "حل الدولتين": دولة فلسطينية قابلة للحياة وإلى جانبها دولة إسرائيلية تتوفر لها سبل الأمن(3).






تتخذ البرازيل إزاء قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، موقفا يتأسس على احترام القرارات الدولية  الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي وعلى رأسها قرار التقسيم (1947)، كما تتبنى البرازيل فكرة "حل الدولتين


وانطلاقا من هذه المبادئ التي تحكم النظرة البرازيلية إزاء القضية الفلسطينية فقد وقفت البرازيل في أغلب الأحيان على الحياد طوال مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي؛ ولم تشذ عن هذه القاعدة سوى مرة واحدة مالت فيها لصالح العرب "بدرجة أكثر مما اعتادته من قبل"؛ وكان ذلك أوائل السبعينيات من القرن الماضي حينما كانت في أشد الحاجة إلى استرضاء العرب من أجل استمرار تدفق النفط العربي إليها(4).

ومن الأهمية بمكان أن نلقي نظرة فاحصة على السياسة الخارجية البرازيلية نحو العالم العربي خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وهي السنوات التي تغطي فترتي حُكم كلٍّ من الرئيسين فيرناندو هنريك كاردوسو(1995- 2002)، ولولا دا سيلفا (2002-2010). فهذه السنوات تحديدا هي الأكثر "تفسيرا" لفهم مسار العلاقات البرازيلية العربية ومعرفة آفاق تطورها المستقبلي.


 لقد بدأ الرئيس كاردوسو عهده بسياسة خارجية تهدف إلى تعزيز الحضور البرازيلي على المسرح الدولي؛ وذلك بإحداث نوع من التوازن، فكان بمقتضاه يحافظ من جهة على "علاقة مميزة" مع الولايات المتحدة الأميركية، وفي الوقت ذاته يسعى نحو توثيق وتمتين علاقات بلاده بجيرانه في أميركا اللاتينية(5).


وفيما يتعلق بموضوعنا (العلاقات البرازيلية العربية) فقد تميز عهد كاردوسو بالتقارب الواضح مع إسرائيل، بل يمكن القول إن السياسة الخارجية البرازيلية لم تكن "متوازنة" إزاء الصراع العربي الإسرائيلي في تلك الفترة، رغم ما كان يبدو على السطح أحيانا من مساع برازيلية "خجولة" لكي تكون تظهر برازيليا كما ولو كانت ملتزمة "بالحل العادل" للقضية الفلسطينية(6).


لكن الأمر قد تغير "نسبيا" في عهد الرئيس لولا، وسبب هذا التغير النسبي هو إستراتيجية السياسة الخارجية التي تبنتها البرازيل منذ العام 2003 والخاصة بتعزيز علاقات البرازيل بالجنوب (ومن ضمن هذا الجنوب العالم العربي)، ووراء هذا التغير النسبي أسباب براجماتية (اقتصادية في الأساس) وليس كما يتوهم البعض دوافع أيديولوجية.


فعندما فاز الرئيس لولا في انتخابات عام 2002، وباشر مهام عامله في يناير/كانون الثاني عام 2003، بدأت البرازيل تعلن عن نفسها بشكل متدرج كلاعب أكثر براجماتية وأعلى طموحا من القوى اللاتينية المجاورة، وأقوى تأثيرا في الميدان الدولي. كما أن اختيار النخبة الحاكمة لمسار الجنوب-الجنوب، أفضى بشكل تلقائي إلى التقارب بشكل خاص مع الدول الأفريقية والعربية، وبالطبع مع جيرانها في أميركا اللاتينية. 


ومن ثم فقد راحت الدبلوماسية البرازيلية تنشط في الساحة العربية لتعزيز العلاقات الساسية وتمتين الروابط الاقتصادية. فرأينا زيارات لرئيس برازيلي للعالم العربي منذ عقود، ولمسنا تعبيرا برازيليا عن "حقوق الفلسطينيين ومعاناتهم" بمفردات لم يكن يستعملها كاردوسو أثناء ولايتيه.


وبجانب زياراته للعديد من الدول العربية فإن الرئيس لولا قد عيَّن مبعوثا خاصا له في الشرق الأوسط، وافتتح مكتبا في رام الله يمكن من خلاله مواصلة العمل الدبلوماسي. وبدا الموقف البرازيلي واضحا فوصفت الخارجية البرازيلية ما الوضع في فلسطين بأنه "احتلال"، وأوصت بضرورة العمل على إيجاد حل عادل "للمعاناة الفلسطينية". 


وربما كانت أهم مبادرة من جانب حكومة لولا -التي تجمع في توجهاتها بين بذل الجهود من أجل تدعيم التقارب بين دول أميركا اللاتينية، والرغبة في إقامة علاقات أوثق مع العالم العربي- هي إنشاء قمة "أميركا اللاتينية-الدول العربية" المعروفة اختصارا باسم (ASPA)، وهي آلية ثنائية للتعاون الإقليمي، ومنتدى للتنسيق السياسي، وقد تأسست في مؤتمر القمة الأول الذي عُقد في برازيليا في مايو/أيار 2005. وقد تعهدت حكومة لولا هذا التعاون بالرعاية، وأعرب وزير الخارجية سيلسو أموريم Celso Amorim، عن "رغبة البرازيل في تعميق علاقات بلاده مع الدول العربية، وبالأخص مع كل من سوريا ولبنان والإمارات العربية المتحدة ومصر وليبيا"(7).


وقد عقد منذ تأسيس قمة "أميركا اللاتينية-الدول العربية" في مايو/أيار 2005 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2009 سبعة عشر لقاء على مستوى عال، اثنان منهما كانا على مستوى القمة بين رؤساء الحكومات والدول، وتسعة لقاءات على مستوى الوزراء، وباقي اللقاءات على مستوى المسئولين الكبار لبحث قضايا مهمة من بينها: الملكية الفكرية، والتصحر، واتفاقيات التجارة، وتأسيس مكتبة خاصة بقمة "أميركا اللاتينية-الدول العربية".


العلاقات التجارية والاقتصادية


وقد بدأت آثار قمة "أميركا اللاتينية-الدول العربية" تظهر؛ فقد زاد حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والبرازيل من 4.5 بليون دولار أميركي عام 2000، وهو ما يعادل 4% من إجمالي التبادل التجاري البرازيلي الكلي في ذلك الوقت، إلى أكثر من 20 بليون دولار بحلول عام 2008، وهو ما يقارب 5.5% من إجمالي التبادل التجاري. ونتيجة لتأثيرات الأزمة المالية العالمية وتداعياتها فقد انخفض هذا حجم التبادل التجاري إلى ما دون 15 بليون دولار أميركي، لكنه عاد للارتفاع مع الشهور الأولى لعام 2010 ليقارب مرة أخرى العشرين بليون دولار(8).





بدأت آثار قمة "أميركا اللاتينية-الدول العربية" تظهر؛ فقد زاد حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والبرازيل من 4.5 بليون دولار أميركي عام 2000، إلى أكثر من 20 بليون دولار بحلول عام 2008
وتتوزع هذه البلايين العشرون عبر ثلاث مناطق: الخليج العربي، والمشرق العربي، وشمال أفريقيا؛ حيث بلغ حجم التجارة مع دول الخليج العربي أكثر قليلا من 9 بلايين دولار عام 2008، بينما نقص عن هذا الرقم قليلا مع دول شمال أفريقيا، فيما بلغ 2.2 بليون دولار مع دول المشرق العربي عن العام نفسه.

وبشكل عام فإن البرازيل تصدر إلى الدول العربية أكثر مما تستورد منها. وتأتي اللحوم على رأس السلع البرازيلية المصدَّرة للمنطقة العربية. بينما تُعد الزيوت القابلة للاحتراق أهم الواردات البرازيلية من العالم العربي.        
 
وإذا كانت عملية التقارب السياسي بين البرازيل والبلدان العربية قد نجحت في زيادة معدلات النمو التجاري؛ فإن تأثيراتها لم تظهر بعد -بالمستوى المرضي- في مجال الاستثمارات الخارجية؛ فالبرازيل أصبحت في السنوات الأخيرة -ومنذ تحقيق الاستقرار الاقتصادي- واحدة من أهم الدول المستقبِلة للاستثمارات الخارجية المباشرة، ولكن حجم مشاركة الدول العربية في هذا المجال حتى الآن لا يزال غير محسوس، فلا توجد دولة عربية واحدة من بين الدول الأهم في الاستثمارات الأجنبية في البرازيل منذ عام 1995(9).


وقد يفسر الغياب العربي -ولو بشكل جزئي- ميل المستثمرين العرب نحو الاستثمار في أسواق السندات والأسهم بديلا عن الاستثمارات المباشرة. ولكن حتى بالنسبة لهذا النوع من الاستثمارات فإن الإسهام العربي لا يزال ضئيلا في السوق البرازيلية.


وعلى الرغم من أن الشركات البرازيلية بدأت في السنوات الأخيرة تزيد من رقعة استثماراتها وانتشارها في بلدان العالم المختلفة لاسيما أميركا اللاتينية وأفريقيا؛ فإن حجم تواجد هذه الشركات في الأسواق العربية لا يزال محدودا برغم أن هذه الشركات مُلمّة بمتطلبات المنطقة العربية في المجالات الهندسية والبِنى التحتية، ولديها دراية بعمليات التنقيب عن النفط، كما لا يوجد في البلدان العربية إلا القليل من المتاجر التي تبيع المنتجات البرازيلية مثل العطور والملابس، بالإضافة إلى عدد محدود من مكاتب التشييد العقاري وشركات بيع اللحوم والدواجن. 


ويمكن القول في الختام إن مستقبل العلاقات بين البرازيل والدول العربية سوف يشهد آفاقا أرحب على المستويين السياسي والاقتصادي؛ وذلك في سياق تنامي قوة البرازيل الإقليمية والدولية وبروزها المتسارع على المسرح الدولي.
______________
سالم حكمت ناصر، أستاذ القانون الدولي بجامعة ساو باولو وكلية القانون التابعة لمؤسسة غيتوليو فارغاس في ريو دي جانيرو. حصل على الدكتوراه في القانون الدولي العام من جامعة ساو باولو وحصل أيضا على دبلومة عليا في القانون الدولي الخاص من جامعة باريس الثانية. وهو عضو مؤسس ورئيس جماعة القانون البيئي الدولي (SBDIMA)، ولجنة فض المنازعات عرفيا (CBAR). نشر العديد من الدراسات والأبحاث والكتب المتعلقة بالقانون الدولي العام والخاص والقوانين ذات الصلة بالبيئة، كما شارك في تحرير العديد من الكتب الأخرى ذات الصلة. ويتقن حكمت البرتغالية والإسبانية والإنجليزية والفرنسية والعربية.
 ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية صالح سليمان عبد العظيم. النص منشور بتصرف من المحرر.


(*) اللبنانيون والسوريون هم أكثر الجاليات العربية عددا في البرازيل. (المحرر)


المصادر:


1. See for example: LAFER, Celso. “Brazilian International Identity and Foreign Policy: Past, Present and Future”, in Dedalus, 129, p. 207-238, Spring 2000 and also VIGEVANI, Túlio, CINTRA, Rodrigo and KLEINAS, Alberto. “Conflito Palestina-Israel: anacronismo, contemporaneidade e o papel do Brasil”, in Israel Palestina: A Construção da Paz Vista de uma Perspectiva Global, Gilberto DUPAS and Túlio VIGEVANI (org.), São Paulo, UNESP, 2002, p. 19-46
2. LINS DA SILVA, Carlos Eduardo. “Política e Comércio Exterior”, in A Era FHC, Bolívar LAMOUNIER and Rubens FIGUEIREDO (Org.), São Paulo, Cultura, 2002, p.295-330
3. See VIGEVANI and others, note 1
4. See LINS DA SILVA, note 2
5. See LAMPREIA, Luiz Felipe. “Diplomacia Brasileira: Palavras, Contextos, Razões”, São Paulo, Lacerda, 1999.
6. http://www2.mre.gov.br/aspa Access on March 19 2010
7. AMORIM, Celso Luiz Nunes. “Uma agenda de cooperação com o mundo árabe” Valor Econômico, São Paulo, 03/12/2003
8. Source: Câmara de Comércio Árabe – Brasileira http://www.ccab.com.br/site/index.php and SECEX at www2.desenvolvimento.gov.br/sitio/secex
9. According to the Central Bank of Brazil`s statistics on foreing direct investments at WWW.bcb.gov.br