الخيارات الإقليمية والدولية للسياسة الخارجية البرازيلية

وتهدف الورقة التي بين أيدينا إلى بحث الخيارات الإستراتيجية المتاحة أمام السياسة الخارجية البرازيلية بعد مرحلة القطب الواحد.






يحاول منتدى البرازيل وجنوب أفريقيا والهند تغيير النظام العالمي نحو التعددية القطبية (الأوربية-أرشيف) 

دانييل فليمس


يمكن للدول أن تمزج في سياساتها الخارجية بين إستراتيجيات مختلفة، وأن تنسج علاقاتها الخارجية على مستويات متعددة، وهذا ما تفعله البرازيل التي تقع بين مركز النظام العالمي الحالي من جهة وأطرافِه من جهة أخرى.


1. من القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب الإقليمية 
1.1. القوة المتوسطة وبناء التحالفات في القضايا الدولية 
2.1. توازن ناعم في مقابل قوة جسورة 
2. مجال نفوذ البرازيل: أميركا الجنوبية 
1.2. الإستراتيجيات الإقليمية بين قياداتٍ متنازعة وهيمنةٍ متعاونة 
2.2. مقاربة البرازيل الإقليمية: كيف التعامل مع فنزويلا البوليفارية؟ 
3. خاتمة


أملى الموقع الجغرافي للبرازيل عليها أن تَتْبَعَ في سياستها الخارجية إستراتيجياتٍ متنوعة؛ كما كان عليها أن تراعي في صياغة تلك الإستراتيجيات ثلاثة عوامل، هي:


أولاً: استمرار تفوُّق الولايات المتحدة، وبروز عناصر عالمية ذات قوة مادية معتَبَرة كالصين.
ثانيًا: التداخُل المتزايد بين القضايا العالمية والمحلية والإقليمية.
ثالثًا: تحديد إستراتيجيات السياسة الخارجية على خلفيةِ نظامٍ دوليٍّ بصدد الخروج من النظام أُحادي القطب إلى نظامٍ متعددِ الأقطاب.


ونعتقد أنه سيكون لدول الجنوب وقادته دورٌ محوري في سياق هذا التحول، وفي تحديد طبيعة النظام العالمي في المستقبل.


وتهدف هذه الدراسة إلى بحث الخيارات الإستراتيجية المتاحة أمام السياسة الخارجية البرازيلية بعد مرحلة القطب الواحد.


ولعل الانطلاق من العام إلى الخاص، أي البدء بالحديث عن الشأن العالمي أولاً، يقدم أوفق مقاربة لموضوع بحثنا هنا؛ لذا ستبدأ الورقة بالبحث في تحولات النظام الدولي المحتملة، ودور البرازيل كقوة متوسطة في تحديد مسار هذا السياق. بعد ذلك ستعمل على تحديد موضع البرازيل إقليميًّا، ثم تحليل علاقاتها مع فنزويلا كقوة منافسة على الزعامة الإقليمية، قبل الوصول إلى التساؤلات المتعلقة بالخيارات الإستراتيجية المتاحة أمامها على الصعيد الإقليمي.


وأخيرًا، نختم الورقة بالتركيز على التداخل المتزايد بين القضايا العالمية والمحلية، ثم الإشارة إلى الإستراتيجيات المعتَمَدَة من البرازيل والرامية إلى الانضمام إلى صُنَّاعِ القرار في عالم الغد متعدِّد الأقطاب.


1. من القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب الإقليمية


لقد شهد العقد التالي لنهاية الحرب الباردة تزايدًا ملموسًا في عدد الأعمال الأكاديمية المتعلِّقة بصياغة حدود ومعالم الأقاليم والتكتل الإقليمي. وما فتئ الباحثون في العلاقات الدولية يشيرون إلى الدور الجديد الذي سيكون للقوى الإقليمية في مرحلة ما بعد الثنائية القطبية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما مواصفات هذه القوى الإقليمية؟


والإجابة: هي أن القوى الإقليمية تحمل مواصفات الدولة باعتبارها:




  • جزءًا من جهةٍ أو إقليمٍ محدَّد جغرافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وإيديولوجيًّا.


  • تتطلَّع وتطمح إلى دورٍ قيادي في الجهة أو الإقليم الذي تقع فيه.


  • تؤثِّر في رسم الملامح الجيوبوليتيكية، والأيديولوجية للإقليم.


  • تستعرض ما لديها من موارد مادية وتنظيمية وأيديولوجية لازمةٍ لبروزها كقوة إقليمية.


  • يجمعها بالإقليم تداخلٌ اقتصاديٌّ وسياسي وثقافي.


  • لها تأثيرٌ قوي على مجريات القضايا الإقليمية.


  • تؤثِّر فعليًّا في تحديد أجندة الإقليم الأمنية.


  • معترَفًا بها كدولة قائدة، أو على الأقل تحظى باحترام الدول الأخرى داخل وخارج الإقليم.


  • عنصرًا مندمجًا على المستويين: العالمي والإقليمي، وفي المؤسسات التي تمارس فيها دورًا، ولو بشكلٍ أوليٍّ، كممثلٍ ناطقٍ باسم المصالح الإقليمية.




حين نتساءل عن سمات النظام الدولي متعدد الأقطاب، فإن الأمر مرهونٌ بمجريات الأمور على المستوى الإقليمي؛ ففي حالِ تمكنت القوى الإقليمية من أسباب القيادة والريادة في محيطها الجغرافي فإنَّ اتحادًا أو تحالفًا من القوى الإقليمية يمكنه السيطرة وفرض قواعد جديدة على السياسة الدولية
يستعمل صامويل هنتنغتون مصطلح "النظام الواحد - متعدد الأقطاب" ليصف البِنية الحالية للنظام العالمي؛ فيقول: "لقد انتقلت السياسة الدولية من مرحلة نظامِ الحرب الباردة ذي القطبية الثنائية إلى مرحلة القطبية الأحادية، لكنَّ جهود القوة العُظمى للحفاظ على نظام القطب الواحد حفَّز القوى الكبرى على بذل الجهود من أجل السير باتجاه نظام متعدد الأقطاب. والآن يجد النظام الدولي نفسَه بصدد الخروج من عَقدٍ أو عَقدين من النظام الواحد - المتعدد، قبل الدخول فعليًّا في القرن الحادي والعشرين متعدِّدِ الأقطاب".

وقد يكون النظامُ متعددُ الأقطاب نتيجةً لبروز أقطابٍ إقليمية أحادية تتَّحد فيما بينها لتُوازن القوة العظمى. وعلى خلاف مقاربة موازين القوى، فإن نظرية "انتقال القوة" تفترض وجودَ نظامٍ دولي هَرَمي تهيمِنُ عليه قوة عظمى في الذروة، إلى جانب قوى كبرى، ومتوسطة، وصغيرة خاضعة. والترتيبُ الهرميُّ، سواءً على الصعيد العالمي أو الإقليمي، هو انعكاس لتوزيع موارد القوة، ويقوم على البِنَى المؤَهِّلة لأسباب القوة السياسية وعلى الموارد الاقتصادية كذلك، التي هي في خدمة القوى المهيمِنة. وبدوره يُعَدُّ الترتيبُ الهرمي للقوى الإقليمية محوريًّا بالنسبة للإطار النظري الخاص بتجمعات الأمن الإقليمي.


يميز (باري بوزان) و(أوله ويفر) بين القوى العظمى والقوى الكبرى التي لها تأثير على المستوى العالمي، وبين القوى الإقليمية التي -مهما عظُم تأثيرُها محليًّا- لا تحظى بالاهتمام الكافي على الصعيد العالمي. وهذه الشريحة من القوى الإقليمية تضمُّ عدَّةَ دولٍ، منها: البرازيل، ومصر، والهند، وإيران، وإسرائيل، ونيجيريا، والمملكة العربية السعودية، وجنوب إفريقيا، ثم تركيا.


ويُشارُ إلى دور هذه البلدان المتزايد في مجال الاقتصاد والسياسة العالميين منذ نهاية القطبية الثنائية من خلال أوصاف عدَّة من قَبِيل "القوى الصاعدة" و"القوى الكبرى" و"القوى المتوسطة" و"الدول المحورية"، و"القوى الإقليمية"، وغيرها. ويتم إطلاق نفس الأوصاف في نعت حالاتٍ مختلفة دون مسوِّغاتٍ عملية تجريبية. ولعلَّ أحدَ أسباب هذا الغموض المفاهيمي يعود إلى مكانة هذه القوى في نقاط التقاطع بين السياسات الدولية والإقليمية، وهي المكانة التي يصعب الإحاطة بها بالاعتماد على مفهوم تحليلي واحد فقط.


ومع ذلك، فإن ما يجمع بين هذه الأوصاف المذكورة هو كونها تُبرِز مدى تعاظُمِ أهمية القوى الإقليمية بالنسبة للنظام الدولي متعدد الأقطاب مستقبَلاً. ولعلَّ بزوغَ قوى إقليمية أو أقطاب إقليمية أحادية، وتكوُّن تجمعاتٍ أمنية إقليمية، والانتقال الإقليمي للقوة، بمثابة عوامل تؤشر على تزايد احتمال تطور "نظام علاقات دولية إقليمي ومتعدد".


وحين نتساءل عن سمات النظام الدولي متعدد الأقطاب، فإن الأمر مرهونٌ بمجريات الأمور على المستوى الإقليمي؛ ففي حالِ تمكنت القوى الإقليمية من أسباب القيادة والريادة في محيطها الجغرافي فإنَّ اتحادًا أو تحالفًا من القوى الإقليمية يمكنه السيطرة وفرض قواعد جديدة على السياسة الدولية. وعلى نحوٍ ما يتساءل (نولته): هل ستمنحُ القوى الإقليمية المتعددة مزيدًا من الانفتاحٍ وحرية التحرك للبلدان الأقل قوةً؟


ففي هذه الحالة سيتحول نظام القطبية الأحادية-المتعددة إلى نظامٍ "عالمي خالٍ من الأقطاب"، أو يصبح عالَمًا من أقطابٍ متعددة مؤلَّفةٍ من مجموعةِ أنظمةٍ إقليمية فرعية تتفاعل داخلها تجمعاتٌ دولية متجاورة.


وفي هذا الصدد يحسن بنا قبل النظر في المكانة الإقليمية للبرازيل، أو منطقة نفوذها، أن نولي اهتمامنا لسلوك هذه الدولة على الصعيد العالمي، خاصة إستراتيجية السياسة الخارجية البرازيلية في بناء تحالفات داخل المؤسسات الدولية.


1.1. القوة المتوسطة وبناء التحالفات في القضايا الدولية


حين نتتبع سلوك السياسة الخارجية البرازيلية وخياراتها على المستوى الدولي فبوسعنا حينئذٍ وصفها بأنها قوةٌ متوسطةُ الوزن.


لقد صُنٍّفَت القوى المتوسطة بناءً على مقاييس مختلفة؛ فقد وصف بعض المؤلفين هذه القوى اعتمادًا على موارد قوتها، مثل: القدرات العسكرية أو القاعدة الديموغرافية والاقتصادية. وإذا كان من الضروري الأخذ بعين الاعتبار المؤهلات الاقتصادية للقوى الصاعدة، فإنَّ موارد قوتها المادية تلك تحتل المقاعد الخلفية حين يتعلق الأمر بالمفاوضات الخاصة بالقضايا الدولية.


ومن الملاحَظ أن الحكومة البرازيلية، وعلى وجهٍ أخصّ دبلوماسيِّي قصر "إيتا ماراتي" مقر وزارة خارجيتها، على وعيٍ تام بأن البرازيل لا تقوى بعدُ على منافسة القوى الكبرى المتمكِّنة؛ لذا فَجُلُّ الباحثين يقبلون بتعريف القوى المتوسطة الذي ينبني على أساس المواقف والتصرفات الدولية، بَدَلَ قدرتها المادية. ووِفقًا لهذا التعريف بالسلوك والتصرف، فإن القوى المتوسطة تنهج "سياسة القوى المتوسطة" والتي تتسم بـ: "نزوعٍ نحو تبنِّي حلولٍ متعددة الأطراف للمشاكل الدولية، والنزوع نحو القبول بصيغ التوافق في النزاعات الدولية، ثم النزوع نحو القبول بمفاهيم "الموَاطَنة الدولية الصالحة" من أجل قيادة الدبلوماسية".






يُستعمل مصطلح القوة المتوسطة في مجال العلاقات الدولية لوصف الدول التي لا تتوفَّر على صفة القوة الكبرى، ولكنها تملك أسباب التأثير الدولي. وتعرف القوى المتوسطة بأنها دولٌ يعترف قادتها بعجزهم عن التصرف بفعالية بمفردهم، بَيْدَ أنه بإمكانهم التأثير داخل مجموعة صغيرة أو عبر مؤسسات دولية



ويُستعمل مصطلح القوة المتوسطة في مجال العلاقات الدولية لوصف الدول التي لا تتوفَّر على صفة القوة الكبرى، ولكنها تملك أسباب التأثير الدولي. ويعرِّف روبرت كيوهان القوى المتوسطة بأنها دولٌ يعترف قادتها بعجزهم عن التصرف بفعالية بمفردهم، بَيْدَ أنه بإمكانهم التأثير داخل مجموعة صغيرة أو عبر مؤسسات دولية.


ويقول روبرت كوكس: إن القوى المتوسطة لم تكن تتوفر على مكانة مميزة داخل المعسكرات الإقليمية خلال مرحلة الحرب الباردة، لكنها كانت ذات صلة وثيقة بالتنظيم الدولي. ويرى كوكس أن القوى المتوسطة تدعم التنظيم الدولي خدمةً لمصلحتها في وجود بيئة مستقرة ومنظمة، بدَلَ السعي من أجل فرض نظرة أيديولوجية مُسبَقَة بخصوص نظامٍ عالميٍّ مثالي.


إن شريحة القوى المتوسطة تُعيننا على فهم الإستراتيجية الموحدة والبِنى المتحكِّمة في تصرفات البرازيل وشركائها الجنوبيين في "منتدى "إيبسا IBSA" للحوار والذي يضم الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا (India, Brazil, South Africa (IBSA) Dialogue Forum)؛ فلقد أطلق هذا المنتدى في يونيو/حزيران من سنة 2003 في برازيليا وزراء خارجية هذه البلدان بعد سلسلة من المحادثات غير الرسمية على هامش قمة الدول الثمانية في إيفيان (فرنسا). وفي سبتمبر/أيلول من نفس السنة قام زعماء تلك الحكومات بتأسيس القمة الثلاثية خلال الدورة الثامنة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة، مشاركين بذلك في إفشال ندوة منظمة التجارة الدولية في كانكون (المكسيك) (Cancun, Mexico) عن طريق ممارسةِ ضغوطٍ قويةٍ لفرض إصلاحاتٍ جذرية متعلقة بأنظمة دعم الزراعة في العالم المتقدم. ويجتهد كلٌّ من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا في ممارسة الضغوط من أجل إصلاح الأمم المتحدة بشكل يسمح للدول النامية بالقيام بأدوار أكبر. وفي الوقت الذي تبدو فيه مبادرة المنتدى - على هذا النحو - محاوَلةً لتدعيم قدرة الدول النامية على التفاوض، فإن التعاون بين جنوب إفريقيا والهند والبرازيل يركِّز - في نفس الوقت - على مجالات تعاون ملموسة. وتمثل التجارة والطاقة والأمن والنقل أبرز قضايا التعاون داخل هذا المنتدى، لذلك يمكن تعريف منتدى "إيبسا" كتحالف إستراتيجيٍّ من أجل الدفاع عن المصالح المشتركة للدول النامية داخل المؤسسات الدولية، وكأرضيةٍ للتعاون الثنائي والثلاثي، وعلى المستوى الإقليمي، وبين دول الجنوب وبعضها البعض. وسيفضي هذا التعاون إلى فتح المجال واسعًا، أمام دبلوماسية ثلاثية في القضايا الدولية.


وتتجلى الريادةُ الوظيفية لمنتدى "إيبسا IBSA" وللقمة الثلاثية بشكل واضح في مفاوضات منظمة التجارة العالمية؛ إذْ تزعمت كلٌّ من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تحالفَ 21 دولةً ناميةً خلال جلسات منظمة التجارة العالمية في جولة الدوحة، وسعت لتوفير ظروفِ سوقٍ عالميةٍ تمكِّن الدول النامية من الاستفادة من نفس الامتيازات في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات. وهكذا اجتمعت الترويكا (الدول الثلاث) من أجل استئصال العوائق غير الجمركية على التجارة المفروضة من طرف الدول المتقدمة. لكن القمة الثلاثية لم تكن دائمًا الناطق الرسمي باسم الجنوب حصرًا؛ إذ إن منتدى منظمة التجارة الدولية بـكانكون (المكسيك) لم يفشل لأن الدول الصناعية لم تقبل بتخفيض نسب دعم الزراعة بالقدر الكافي فحسب؛ ولكن أيضًا لأنَّ القمة الثلاثية لم تكن دائمًا تنطق باسم الدول المستورِدة للمواد الغذائية، تلك الدول الأقل تنميةً والتي لا ترى فائدة من وراء تخفيض الدعم الزراعي في أوربا وأميركا طالما تحافظ على الأسعار منخفضةً.


إن أغلبَ الدول ذات معدلات التنمية المنخفضة هي من دول إفريقيا جنوب الصحراء وكذلك دول أميركا الجنوبية، وهي دول لم تشعر بأنها ممثَّلة من طرف "زعمائها الإقليميين". وفي الوقت الذي تعثرت فيه مفاوضات منظمة التجارة الدولية في شِقِّها الخاص بالمحتوى، فإن البرازيل والهند، بالمقابل، تمكنتا من تحسين وضعيتهما في الترتيب الهرمي للتجارة الدولية. وخلال منتدى منظمة التجارة الدولية في جنيف سنة 2004، دُعيت الدولتان للمشاركة في تأسيس مجموعة التحضير لقمة الخمسة برفقة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وأستراليا.


وخلال قمة الدول الثمانية المنعقدة في ألمانيا سنة 2007، دُعِيت كلٌّ من البرازيل والهند وجنوب إفريقيا (إلى جانب الصين والمكسيك) لإضفاء الصبغة الرسمية على الحوار الذي يجمعهم بنادي النخبة المكوَّن من الدول المصنِّعة الأكثر غنًى؛ وذلك عبر ما أُطلِقَ عليه سياق "هايليغندام" (Heiligendamm). وتعكس هذه الدعوات القبول المتزايد بوضع هذه الدول موضع الزعامة على الصعيد العالمي. وبالنظر إلى الريادة الوظيفية لتحالف القوى المتوسطة الصاعدة ومكانتها في النظام الدولي، فإنه يمكن اعتبار مواقف السياسة الخارجية لدول منتدى "إيبسا IBSA" قوة معادِلَة تحاول أن تعدِّل الترتيب الهرمي للنظام الدولي الحالي.


2.1. توازن ناعم في مقابل قوة جسورة


منذ سنة 2001، قامت الولايات المتحدة بالتنصل - من جانب واحد - من اتفاقية كيوتو المتعلِّقة بالاحتباس الحراري، وامتنعت عن المشاركة في المحكمة الجنائية الدولية، كما انسحبت من معاهدة الحدِّ من انتشار الأسلحة الباليستية. وعلى الرغم من كل ادعاءاتها؛ فإن القوة العظمى الوحيدة لا تتحدث باسم المجتمع الدولي - ناهيك عن الحديث باسم الدول النامية - حين يتعلق الأمر بالقضايا المتعلقة بالنفوذ والسياسة الدوليين، انطلاقًا من حماية البيئة ووصولاً إلى الضربات العسكرية الاستباقية. ولعلَّ السبب الرئيس وراء هيمنة الولايات المتحدة في ساحة العلاقات الدولية هو تفوقها العسكري؛ فواشنطن تنفق بمفردها ما يعادل 49% من إجمالي نفقات الدفاع عبر العالم، و60% من إجمالي نفقات البحث والتطوير. بعبارة أخرى، وباللغة المتداولة بين أهل الاختصاص في المجال العسكري، فإن الولايات المتحدة ستظل تحتل مركز الصدارة كقوةٍ عظمى لوقت طويل؛ لذا فإنها أوقات صعبة على كل من يطمح إلى منافسة هذه القوة اعتمادًا على تحالفات عسكرية (توازن خارجي)، وكذلك على كل من يطمح في بناء ترسانة عسكرية والتزود بالسلاح (التوازن من الداخل). 





تقتضي القطبية الأحادية السيطرة على مجالين: الاقتصاد العالمي، والمشاكل العابرة للدول، لكن واشنطن لن تستطيع بمفردها حلَّ هذه المشاكل دون التعاون مع قوى أخرى؛ الأمر الذي يمنح الفرصة للقوى الصاعدة كي تتخلص من عجزها في التعامل مع القضايا الدولية

لكنَّ القطبية الأحادية العالمية، كما يذهب إلى ذلك جوزيف ناي، تقتضي السيطرة على مجالين إضافيين هما: الاقتصاد العالمي، والمشاكل العابرة للدول، من قَبيل الإرهاب والجريمة والاحتباس الحراري والأوبئة؛ فقد تكون واشنطن قويةً، ولكنها ليست القوة الوحيدة؛ لذا فهي لن تستطيع بمفردها حلَّ هذه المشاكل دون التعاون مع عناصر أخرى؛ ومن هنا قد يوفر هذا التعاون الفرصة للقوى الصاعدة كي تتخلص من عجزها الأبدي في القضايا الدولية.


إن غياب توازن القوى يبيح للقوي أن "يضع القوانين" لمن هو أقل قوةً منه، وأن يحوِّر بنود المعاهدات لصالحه كيفما يشاء؛ وبذلك تبقى خيارات السياسة الخارجية للدول المعنيَّة محدودةً جدًّا بالنظر إلى القوة الساحقة للمُستأسِد.


وعلى الرغم من أسباب التأثير المتزايدة التي يتمتع بها كلٌّ من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا؛ فإنها تظَلُّ على هامش النظام الدولي الحالي, ولا تتحكم إلا في قدرٍ متواضعٍ من الموارد المادية، كما تظل - من وجوهٍ شتَّى - عالةً على واشنطن في الكثير من منافعها العامة.


وبناءً على كل ما مضى؛ فإن على إستراتيجية منتدى "إيبسا IBSA" أن تحدد طريقة ناجعة لرفع تحديات الترتيب الهرمي الدولي، وتحويل دول المنتدى إلى أقطاب قوة داخل نظام الغد متعدِّد الأقطاب. أمَّا التوازن الناعم فإنه لا يمثل أي تحدٍّ بالنسبة للتفوق العسكري الأميركي، وكذلك الاكتفاء بالاعتماد على أدوات غير عسكرية بغرض تعطيل، أو إحباط، أو تقويض سياسة القوة العظمى الأحادية.


إن التوازن الناعم يتطلَّب إستراتيجياتٍ مؤسساتيةً - من قَبيل تكوين تحالفات دبلوماسية محدودة أو اتفاقيات، خصوصًا على صَعيد الأمم المتحدة - بهدف كبح القوة الأميركية؛ كما يقتضي تمتين الروابط الاقتصادية بين القوى المتوسطة عبر تعاون قطاعي، بشكل قد يؤدي إلى ترجيح كفَّة ميزان القوة الاقتصادية بينها وبين واشنطن لصالحها وضِدَّ الأخيرة على المدى البعيد، إضافةً إلى مواجهة السياسة أُحادية الجانب التي ترفع من تكلفة استعمال القوة الأحادية؛ وذلك من خلال تقليص عدد الدول التي باستطاعتها دعم التدخل العسكري الأميركي مستقبلاً.


إن نجاح منهج التوازن الناعم يستلزم ثلاثة شروط مسبَقَة يحددها (ت.ف. بول) على النحو التالي:


تزايد أهمية القوة المتزعمة وسلوكها العسكري لكن دون أن يُشكِّلا - في الوقت ذاته - تحديًا حقيقيًّا لهيمنة القوى الكبرى التالية في المرتبة.


أن تكون الدولةُ المهيمِنةُ مصدرًا رئيسيًّا للسلع الأساسية على المستويين: الاقتصادي والأمني؛ بحيث لا يمكن استبدالها أو التحرر من نفوذها.


ألاّ تكون مجابهةُ الدولة المهيمِنة أمرًا يسيرًا، سواء رجع ذلك إلى أن جهود التوازن التي تبذلها الأطراف الأخرى أضعفُ من أن تُحدث تغييرًا، أو لأن هذه الأطراف لا تستخدم وسائلها العسكرية في المنافسة بشكل مباشر وعلني. وبينما تسعى دول التوازن الناعم إلى تبوأ مكانة الوصيف الدولي للقوى المهيمنة، فإن بوسعها الالتحاق بالطرف المهيمن وتقوية الروابط المؤسسية معه بهدف تحاشي ردود الأفعال الثأرية من قبل هذا الطرف.


وبالفعل، فإنَّ كُلاًّ من البرازيل والهند وجنوب إفريقيا تحتفظ بعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية في مجالات شتى، وبمستويات مؤسساتية متفاوتة؛ فعلى سبيل المثال وقَّع الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ونظيرهُ البرازيلي دا سيلفا اتفاقية تعاون بخصوص المحروقات البيولوجية في مارس/آذار من سنة 2007. وقد سبقها إبرامُ اتفاق آخر بخصوص التعاون في مجال الطاقة النووية لأغراض سلمية ما بين الولايات المتحدة والبرازيل سنة 1990. هذا بالإضافة إلى منظمة دول الأميركتين التي تجمع بين أعضائها كُلاًّ من واشنطن وبرازيليا، إضافةً إلى أن الدولتين كانتا المفاوضَيْن الأساسيَّيْن في مسار "اتفاقيات التجارة الحرة الأميركية". ولكن من ناحية أخرى، قد يكون المنتقدون لمقاربة التوازن الناعم على حقٍّ في قولهم بأن قضايا أخرى، مثل المصالح الاقتصادية وشؤون الأمن الإقليمي، تقدم تفسيرات بديلة لسياسات الدول الأقل قوة ولمواقفها، لكن هذه التفسيرات – بالمقابل - لا يُلغي بعضُها بعضًا، بقدر ما يُكمل بعضها البعض. فبينما تُحجم واشنطن عن تهديد سيادة القوى المتوسطة الصاعدة، تفضِّلُ تحالفات التوازن الناعم البقاءَ في الظلِّ.


في أعقاب اجتماع وزراء "إيبسا IBSA"  الأول، شدد سيلسو أموريم، وزير خارجية البرازيل، في تصريحه على أن المنتدى لا يسعى إلى إحداث انقساماتٍ جيو - سياسية جديدة، فإنما "هو مجموعة تعمل على إشاعة حسن النية ورسائل السلام ؛ فنحن لسنا ضد أحد"، وقد لا نتِّفق - تمام الاتفاق - مع تصريح هذا الدبلوماسي في حال تطبيق أدوات التوازن الهادئ على المنتدى. ويشير روبيرت بيب إلى جملة من تلك الممارسات التي يعتبرها أدوات ذلك التوازن، مثل: رفض الإقليمية، وتشابك الدبلوماسية، وتقوية الاقتصاد، وتأكيد العزم على المشاركة في تحالف توازن القوى.


إن التطورات السريعة التي عرفها منتدى "إيبسا IBSA" في السنوات الأخيرة تشير إلى وجود إرادة للمشاركة في ذلك التحالف، وتؤسس -في الوقت ذاته- لقاعدة تقوم عليها جسور الثقة المتبادلة؛ فلقد تم إعادة انتخاب دا سيلفا في أكتوبر/تشرين الأول من سنة 2006. وفي الهند نجا مشروع "إيبسا IBSA" من مخاطر التغيير الحكومي؛ فقد أعيد انتخاب رئيس الوزراء مانموهان سينغ في مارس/آذار من سنة 2009، وستستمر ولايتُه حتى سنة 2014. أمَّا نظام جنوب إفريقيا السياسي الخاضع للمؤتمر الوطني الإفريقي فلا يترك مجالاً أمام تغيير جذري في السياسة الخارجية المقررة من طرف جاكوب زوما. وهكذا فإن الاستقرار السياسي يُعبِّد الطريق أمام مبادرات سياسة خارجية جماعية للقوى الصاعدة المتوسطة.


إن باستطاعة الدول أن تمنع دخول الجيوش الأميركية إلى أراضيها، أو تحظر عبور قواتها البرية والبحرية من خلالها؛ فمثل هذه الإجراءات القوية - رغم نُدرة اللجوء إليها نظرًا لعلاقات واشنطن الثنائية مع القوى الجنوبية الثلاثة – يمكن للقوى المتوسطة اللجوء إليها أحيانًَا؛ فقد "تجرَّأت" البرازيل على اتخاذ قرارات مشابهة - كما تدل القرائن على ذلك - ؛ حيث تم رفض طلب تقدمت به مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة، في سنة 2002، عندما طلبت من البرازيل أن تمنحها الحق في استعمال قواعدها الجوية ومؤسساتها العسكرية الأخرى الموجودة في منطقة الأمازون، لكنَّ البرازيل رفضت رفضًا قاطعًا أن تقام على أراضيها قواعدُ أميركية، كما رفضت منح الطائرات العسكرية الأميركية المشاركة في الصراع الكولمبي حق التحليق في مجالها الجوي. وبالرغم من مصالح البنتاغون الدائمة المتعلقة بالحالة الهندية؛ فإنه لا تُوجد قواعد عسكرية أميركية لا في الهند ولا في جنوب إفريقيا.


إن أكثر أدوات السياسة الخارجية استعمالاً من طرف البرازيل وشركائها في "إيبسا IBSA" هي تلك الأدوات التي يسميها بول بـ"دبلوماسية الإشراك والشَّراكة"، و"دبلوماسية التقوية الاقتصادية". وتهدف التقوية الاقتصادية إلى نقل القوة الاقتصادية النسبية، بواسطة أقطاب تجارية وأشكال أخرى من التعاون القِطاعي الذي يدعم التنمية الاقتصادية للأعضاء، وصرف فرص التجارة بعيدًا عن غيرهم. أمَّا دبلوماسية الإشراك والشراكة فهي توصيف لكيفية استعمال قوانين المؤسسات الدولية وإجراءاتها بغرض التأثير في السياسة الخارجية للدول الأساسية "لقد صارت السيادة تُعرَف أكثرَ فأكثرَ لا بالقدرة على تحصين الدولة من التأثيرات الخارجية، بل بالقدرة على المشاركة الفعالة في المؤسسات الدولية المختلفة؛ فلا يمكن أن تخفى علينا المنافع التي تدفع بالدول المتوسطة نحو تفضيل التعددية والمؤسسات بما تهيؤه لها تلك المؤسسات من فضاء سياسي، وإمكانية بناء تحالفات جديدة بغرض محاولة التأثير في المعايير الجديدة بشكل يخدم مصالحها ويوازن أو يضعف خيارات القوة العظمى؛ وبما تمنحه لها تلك المؤسسات من  "فرص للتعبير" تمكِّنُها من حشد الدعم السياسي داخل سوق أفكار واسعة. وهكذا فإن الدول المتوسطة ستجتهد في استعمال المؤسسات الدولية إمَّا بغرض حماية نفسها ضد المعايير والقوانين والممارسات الضارَّة بمصالحها، أو بغرض تغيير المعايير الدولية المهيمنة باتجاهِ ما يناسب تطلعاتها.






على إستراتيجية منتدى "إيبسا IBSA" الذي يضم الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا أن تحدد طريقة ناجعة لرفع تحديات الترتيب الهرمي الدولي، وتحويل دول المنتدى إلى أقطاب قوة داخل نظام الغد متعدِّد الأقطاب. أمَّا التوازن الناعم فإنه لا يمثل أي تحدٍّ بالنسبة للتفوق العسكري الأميركي



توظِّفُ كل من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا مؤسساتِ النفوذ والتحكُّم الدولي، ولقاءاتِ القمم من أجل بناء تحالفاتٍ جديدة تضمن مصالحها المشتركة؛ فقد تأسَّسَ "إيبسا IBSA" في سنة 2003 خلال قمة الثمانية في إيفيان، كما تأسست القمة الثلاثية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نفس السنة. وقد تُوِّجَت إستراتيجيةُ استغلال المؤسسات الدولية من أجل بناء تحالف بين دول الجنوب بإنشاء قمة العشرين التي أثبتت قدرتها على التأثير في المنظومة الاقتصادية الدولية خلال منتدى منظمة التجارة العالمية بـكانكون. وقد أثبتت جولة الدوحة، على وجه الخصوص، قدرة هذه الترويكا على تحديد أجندة المؤسسة من أجل التأثير في المعايير الدولية الجديدة خدمةً لمصالحها؛ فمن وجهة نظر "إيبسا IBSA"، فإن الهيكل الاقتصادي والمالي الحالي لم يكن أبدًا في خدمة مصالح الفقراء في الدول النامية. فلقد قيل: إن العولمة الاقتصادية فاقمت التفاوت في الدخل داخل وعبر الأسواق الجديدة، وإن البلدان المعنية ترزحُ باستمرار تحت وطأة الفقر، وتعاني التفاوتَ الفاحش في الدَّخل. وقد كان لتصنيف جنوب إفريقيا والبرازيل - بوجه أخص - في المرتبة 116 و117 على التوالي من بين 124 دولة على "سلم جيني" لقياس التفاوت في الدخل دورٌ كبيرٌ في إطلاق مبادرة "الصندوق العالمي ضد الفقر والمجاعة" خلال قمة الثمانية في إيفيان من طرف الرئيس لولا دا سيلفا.


ويُلاحَظُ أنَّ زعماء منتدى "إيبسا IBSA" يستعملون المنظماتِ الدوليةَ قاعدةً لتحدي شرعية النظام الدولي القائم ولتغيير المعايير المهيمِنَة. وكما قال ثابو مبيكي (الرئيس السابق لجنوب إفريقيا)، وهو يتحدث بصفته رئيسًا لمجموعة الـ 77 والصين خلال مؤتمر حركة عدم الانحياز في سبتمبر/أيلول من سنة 2006 المنعقد في هافانا:


لقد ساعد التعاون بين دول الجنوب على بروز صوت قوي يمثل الدول النامية في منتديات التعددية، خصوصًا فيما يتعلق بالمساعي الرامية إلى إحداث إصلاحات أساسية في الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز (Bretton Woods‏).(*)


إن المراجعة الجذرية التي يقوم بها منتدى "إيبسا IBSA" تهدف إلى خلق نظام متعدد لا يخلو من قيم مستوحاة من "المواطنة الدولية الرشيدة". وفي الوقت نفسه، تسعى هذه القوى المتوسطة الصاعدة إلى الحفاظ على التوازن في مصالح وخيارات القوى الكبرى داخل المؤسسات العالمية. وتُعتَبَر البرازيل والهند - على سبيل المثال - رابعَ وخامسَ أكثرِ الدول فعاليةً في آلية فضِّ النزاعات داخل منظمة التجارة العالمية. وإلى جانب آخرين، تستعمل دول منتدى "إيبسا IBSA" المؤسسات الدولية للوقوف في وجه محاولات الولايات المتحدة استحداث معايير جديدة متعلقة باستعمال القوة، بما فيها الحرب الاستباقية، وتقييد السيادة بشروط، أو الحق في استعمال القوة بغرض تغيير الأنظمة. وبمعارضتها في مجلس الأمن المساعي التي قادتها الولايات المتحدة عام 2003 للحصول على الشرعية الدولية قبل غزوها العراق، استطاعت الدول الثلاثة (مع قوى أساسية أخرى) تجريد القوة العظمى من هذه الشرعية المنشودة، كما حاولت إحباط مخططاتها الحربية بتقليص عدد الدول المستعدة لخوض الحرب إلى جانب الولايات المتحدة. وهكذا استطاعت البرازيل وجنوب إفريقيا مثلاً، أن تدعما موقف مجموعة من دول أميركا اللاتينية الصغرى المعارضة للحرب بالرغم من حجم الضغوط الممارَسَة من قبل واشنطن.


وفيما يلي من حديث، سنسلط الضوء على الإستراتيجيات التي تطبقها البرازيل على الصعيد الإقليمي وداخل المؤسسات الإقليمية. ومن بين الأسئلة المهمة ذات الصلة بالموضوع السؤالان التاليان:


أولاً: كيف تكيِّفُ البرازيل ممارساتها باعتبارها اللاعب الأقوى في السياق الإقليمي؟
ثانيًا: وما ردود أفعالها تجاهَ إستراتيجيات التوازن الناعم الصادرة عن دول أضعف؟


2. مجال نفوذ البرازيل: أميركا الجنوبية


اعتُبِرَت البرازيل - لمدة طويلة - قوةً إقليمية خامدة في أميركا الجنوبية الموسوم بالانطواء على الذات. وقد ظلَّت سياسة البرازيل الخارجية تُراوِحُ بين علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية وبين نظرة عالَم ثالثية مغايرة.


ثم جاء الرئيس لولا دا سيلفا، واستفتح عهد إدارته الأولى بتحديد أولويات سياسته الخارجية جاعلاً على رأسها ازدهارَ أميركا الجنوبية واستقرارها. ومنذ ولايته الأولى وبرازيليا ماضية في تقديم خدمات الوساطة بين دول هذه القارة، مثل: بوليفيا، وكولومبيا، والإكوادور، وفنزويلا. مقارنة بالمبادرات المحدودة للرئيس السابق كاردوسو (1995-2002) والتي اقتصرت على جنوب أميركا كفضاء جيو-سياسي مميز عن بقية الفضاء الأميركي اللاتيني الأقل وضوحًا.


ويمكن قياس نسبة وحجم التفاعل الاقتصادي والعسكري (سياسات الدفاع والأمن) استنادًا إلى تقدير سريع للمؤسسات الإقليمية؛ فقد تم إطلاق مبادرة "سوق الجنوب المشتركة" مع اتحاد ميركوسور(MERCOSUR) ومعاهدة أسونسيون في سنة 1991. وتعاني هذه السوق من صراعات تجارية مستمرة ومتجذرة بنيويًّا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، تعاني من اختلال في التوازن بين أعضائها؛ فعلى صعيد جنوب أميركا تتحكم البرازيل في ناتج محلي إجمالي قدره حوالي 2 تريليون دولار أميركي، تليها الأرجنتين في المرتبة الثانية بـناتج محلي إجمالي قدره 520 بليون دولار، دون ذكر الاقتصاديات الإقليمية الأضعف في المنطقة. وهكذا أصبحت هذه السوق اليوم ذات وضع خاص، فلا هي سوق مشتركة، ولا هي مجال تجارة حرة؛ فالبرازيل -على سبيل المثال- قلَّصت حجم صادراتها من حصة سوق الجنوب المشتركة إلى 7%.


أحدثت المبادرات الإقليمية -خاصةً التي أطلقتها إدارة دا سيلفا- تحولاً في منهج التعامل مع مؤسسات سوق الجنوب المشتركة، باتجاه محاولة توسيع هذه السوق؛ أو بعبارة أخرى، الانتقال من سياسة خارجية يحرِّكُها الاقتصاد والتجارة فقط، إلى تركيز سياسي أو إستراتيجي يهدف إلى بناء قاعدة قوة إقليمية تقوم عليها دبلوماسية عالمية في النظام العالمي الجديد بعد انقضاء عهد القطبية الأحادية. ويمثِّلُ قبولُ فنزويلا عضوا في ميركوسور (MERCOSUR) في يوليو/تموز من سنة 2006 دليلاً يؤكِّد من جديد نية البرازيل في توسيع ساحة المناورة في شمال أميركا الجنوبية. وقد اقتفت كل من البيرو وكولومبيا والإكوادور أثر بوليفيا وشيلي في سنة 2003 لتلتحق وتوقع اتفاقياتِ شراكة مع سوق الجنوب المشتركة؛ وبتوسعها ذلك، تصبح هذه السوق منسجمةً جغرافيًّا -باستثناء سورينام وغوايانا- مع "اتحاد دول أميركا الجنوبية" المعروف اختصارا باسم "الأوناسور "UNASUR، وهي المبادرة التي أطلقتها البرازيل في سنة 2004 لضم كل دول أميركا الجنوبية.


كما تلعب البرازيل كذلك دور الريادة في سياق التعاون من أجل الدفاع والأمن في جنوب أميركا.


إنَّ حجم التفاعل (درجة المأسَسَة) في إطار الصراع المحكوم بقواعد التعددية القطبية ضد المخاطر الأمنية العابرة للدول أعلى بدرجة واضحة من التعاون الخاص بالدفاع. ويُعتَبَرُ مؤتمرُ وزراء داخلية أعضاء سوق الجنوب المشتركة (MERCOSUR) أهم منتدى للتحاور بشأن هذه المخاطر وأنجع السبل المشتركة لاحتوائها. ويتألَّف هذا المؤتمر من لجان عمل مختلفة، منها على سبيل المثال، مجموعة مكافحة جرائم المخدرات، ومجموعة مكافحة الإرهاب. ومن ضمن الإنجازات المحقَّقَة على الصعيد العملي وجود عمليات مشتركة يتولَّى قيادتَها قواتٌ من الشرطة الفيدرالية التابعة لدول السوق، ثم إنشاء مركز إقليمي لتدريب الشرطة، وتفعيل شبكة معلومات إقليمية لتبادل المعلومات ذات الصلة بالأمن.


وفيما يخص التعاون العسكري والدفاعي، تعتبر بعثة الأمم المتحدة في هايتي (MINUSTAH) ذات أهمية بالغة بالنسبة لأميركا الجنوبية. هذه البعثة الساهرة على الاستقرار تتكون من وحدات عسكرية جنوب أميركية تحت قيادة البرازيل. وقد أثبتت لأول مرة في التاريخ قدرة دول أميركا الجنوبية على معالجة الأزمات الإقليمية بنفسها. وفي مارس/آذار من سنة 2008، اقترح دا سيلفا إنشاء مجلس دفاع أميركا الجنوبية، بهدف بلوغ تحالف دفاعي شبيه بالحلف الأطلسي، وكذلك، وعلى المدى البعيد، تكوين قوات عسكرية جنوب أميركية وصناعة أسلحة إقليمية، وسيكون للبرازيل دور الزعامة في هذا المجلس – تمامًا - كما هو عليه الأمر في اتحاد دول أميركا الجنوبية، بالنظر إلى أن نفقات البرازيل العسكرية ما بين 2005 - 2007 فاقت نفقات الأرجنتين وشيلي وكولومبيا وفنزويلا مجتمعة، وبالنظر كذلك إلى العوامل التالية: 


أولاً: أن بناء مجلس دفاع أميركا الجنوبية سيُعزَّز وضع البرازيل كقوة إقليمية ويدعم طموحها لتصير عضوًا دائمًا بمجلس الأمن الدولي.


ثانيًا: أن هذا المجلس قد يبدو مبادرة برازيلية الغرض منها التصدي لإنشاء قوات مسلحة مشتركة في إطار "البديل البوليفاري لأميركا" (بوليفاري، نسبة إلى سيمون بوليفار) (ALBA)، المدعوم من طرف الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز.


ثالثًا: وهو الأمر الأكثر إقناعًا، يهدف المجلس إلى إبعاد الولايات المتحدة (والمكسيك) عن قضايا أميركا الجنوبية الأمنية عبر تغيير آليات "منظمة دول الأميركتين" لفضِّ النزاعات، ولأن منطقة نفوذ البرازيل (أو حدودها الإقليمية) تحددها بالأساس قوة خارجية واحدة، هي: الولايات المتحدة؛ فإن هذه الحدود تطفو على السطح خلال المفاوضات بخصوص مجال التجارة الحرة للأميركتين (F.T.A.A.). 


لقد تكرَّس وضعُ برازيليا بوصفها المناهض الرئيس لواشنطن، رغم أن بلدانًا أخرى أميركو- لاتينية كانت مهتمةً بمجالِ تجارةٍ حرة قارِّي. وهو الاهتمام الذي تجلَّى في إبرامِ كلٍّ من أميركا الوسطى ودول البحر الكاريبي (إضافة إلى كولومبيا، والبيرو، وشيلي) اتفاقيات تجارة ثنائية مع الولايات المتحدة؛ هذا دون ذكر المكسيك المرتبطة بالاقتصاد الأميركي عبر اتفاقية نافتا NAFTA  للتجارة الحرة بأميركا الشمالية. وهو ما يجعل من الهيمنة الأميركية في شمال ووسط أميركا ودول البحر الكاريبي هيمنةً بلا منازع.


بعد ما تأَتَّى لنا رسمُ الخطوط الفاصلة للإقليم عبرَ جملةٍ من التفاعلات المؤسساتية الموازية للمواقف الإيجابية من التعاون, علينا أن نتساءَل هنا عن "الهُوِيَّات الجماعية" داخل هذا الإقليم.





بينما تطالب البرازيل بِبِنَى تعددية في القضايا العالمية، حيث تتوقع تزايدًا في قوتها مقابل الفاعلين الأقوى منها. تفعل عكس هذا على الصعيد الإقليمي؛ لأنها تخشى فقدان القوة أمام الفاعلين الأضعف منها، وتُظهر عدم الاستعداد للسماح بمشاركة الدول الصغرى في صنع القرار الإقليمي

وسنجد أن البرازيل وجيرانها في أميركا الجنوبية ينظرون إلى الوراء بغرض الوقوف عند سلسلةٍ واسعةٍ من التجارب التاريخية المشتركة، منها عهد سيادة القوى الاستعمارية حتى القرن التاسع عشر، وعهد الديكتاتوريات العسكرية إلى غاية نهاية القرن العشرين، ثم مسارات الدمقرطة التي تلت ذلك. بالإضافة إلى هذا، تشترك هذه الدول في الانتماء إلى نفس القاعدة الثقافية المنحدرة من الجذور الإيبيرية ذات القيم المسيحية-الكاثوليكية. ويترسخ الإحساس بالهوية الجماعية المشتركة بسبب المشاكل الاجتماعية المشتركة، مثل انتشار الفقر بين قطاعات واسعة من الشعوب، مقابل تمركز الدخل العالي في يد النخبة.


من ناحية أخرى، تتحدد هوية هذه الدول بالتقابل مع "هوية جماعية سالبة، أخرى"؛ وتترسخ هذه الهوية بفضل تشابه المواقف ضد الفاعلين الخارجيين، وضد الولايات المتحدة الأميركية تحديدًا. إنَّ الرفض الجماعي لسياسات واشنطن الأحادية، وعدم القبول بمفاهيم "الدول المارقة" و"الحرب الاستباقية"، إضافةً إلى مواقف مُجمل دول أميركا الجنوبية الناقدة لامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن الإسهام في تصحيح أوضاع البيئة (بروتوكول كيوتو لحماية البيئة)، وسياسة حقوق الإنسان (المحكمة الجنائية الدولية)، كل هذه الأمور ترسخ لدى تلك الدول الإحساس الجماعي بالوحدة. لكن بالرغم من اشتراك كل زعماء دول أميركا الجنوبية في الحديث عن القيم المشتركة، مثل: الديموقراطية وحقوق الإنسان، فإن هذا لا ينفي وجود خلافات حادة حول بعض الأمور (بعض دول أميركا الجنوبية مثل: فنزويلا شافيز وبوليفيا إيفو موراليس، لم تعد تتفق مع الآخرين على نموذج السوق الاقتصادية).


وكما سبقتِ الإشارةُ إلى ذلك قامت شيلي وكولومبيا والبيرو بإبرام اتفاقيات تبادل حُرٍّ ثنائية مع الولايات المتحدة، بينما تسعى بوغوتا (العاصمة الكولومبية) إلى التعاون الأمني والعسكري مع واشنطن في إطار "خطة كولومبيا"؛ مما يولِّد لدى كاراكاس (العاصمة الفنزويلية) شعورًا بالخطر من احتمال تدخل عسكري من طرف الولايات المتحدة. أمَّا البرازيل فتلجأ إلى موقف معتدل وهي تحاول التوسط بين مواقف الأقطاب الدولية.


وقبل الحديث عن العلاقات الإقليمية والخيارات الإستراتيجية المتداخلة والمتاحة أمام البرازيل في أميركا الجنوبية، نُعرِّج على إستراتيجيات السياسة الخارجية المحتملة من القوى الإقليمية. 


1.2. الإستراتيجيات الإقليمية بين قياداتٍ متنازعة وهيمنةٍ متعاونة


تؤكد الدراسات التجريبية وجودَ تدنٍّ في درجات قبول الزعامة الإقليمية من طرف الدول المجاورة، مقارنةً بما تحظى به هذه الزعامة من قبول على الصعيد العالمي؛ فإذا كان باستطاعة مسارات التعاون الإقليمي في أميركا الجنوبية أو غيرها -مثل سوق الجنوب المشتركة، واتحاد دول أميركا الجنوبية، والاتحاد الإفريقي، ومجموعة جنوب إفريقيا للتنمية، واتحاد جنوب آسيا للتعاون الإقليمي- توفير قاعدةِ قوةٍ لأكبر عدد من الأعضاء للبروز بمظهر القوي في القضايا الدولية من ناحية؛ فإن الديناميَّات الإقليمية، من ناحية أخرى، قد تحُدُّ من خيارات الزعامات المتعلقة بالسياسة الخارجية، حيث إنَّ القوى الثانوية تحاول أن تعرقل القوى الصاعدة بعدم منحها القدر الكافي من الاعتراف بالشرعية، إذ -ولاعتباراتٍ شتَّى- تقوم كلٌّ من الأرجنتين والمكسيك وفنزويلا – مثلاً - بتقويض مكانة البرازيل كقوةٍ إقليمية، وكذلك تعارض باكستان زعامة الهند؛ كما ترفض نيجيريا وزيمبابوي وغيرهما من الدول الإفريقية اتِّباع جنوب إفريقيا. والراجح عندنا أن الفاعِلِين الثانويين في تراتُبية القوى الإقليمية، الذين يُطلَق عليهم اسمُ القوى الثانوية، أو قوى إقليمية متوسطة، يقومون بدور جوهري فيما يتعلق بالإقرار -من الداخل- بالزعامة الإقليمية، وبالتالي في تحديد حظوظ نجاح القوى الإقليمية في بلوغ أهداف سياساتها الخارجية. ولعلَّ ما يحدد الوضع الثانوي هو نسبة ما تمتلكه هذه القوى من قُدرة مادية أو مقدار جاذبية ما تحمله من رسالة إيديولوجية.


وعلى الإجمالِ نستطيع أن نقول: إن القُوى الثانوية تستطيع بواسطة مُقدَّراتِها الاقتصادية والسياسية والعسكرية أن تؤثر في القضايا الإقليمية، وعلى القوى الإقليمية –بدورها- أن تأخذ آراءها مأخذ الجدِّ قبل الإقدام على أي عملٍ دبلوماسي أو عسكري. وفوق ذلك فإنَّ على القوى الإقليمية أن تدمج القوى الثانوية في حساباتها باعتبار قدرتها المحتملة على الحسم في النتائج بفعل طبيعة تحالفاتها. ومن ثَمَّ يتعين علينا البحث في أسباب عدم الاعتراف بالزعامة على الصعيد الإقليمي.


من وجهة نظر الواقعية الجديدة، قد يُفسَّرُ عدمُ الدعم الذي تنهجه القوى الثانوية انطلاقًا من مقاربة توازن القوى؛ فالدول المجاورة هي –مبدئيًّا- الأكثر تأثرًا بتزايد قوة القوى الإقليمية؛ فكُلَّما زادت قوة هذه الأخيرة، تقلَّصت قوة الأولى، وللحفاظ على توزيع القوة الراهن، قد تقيم القوى الثانوية تحالفاتٍ مع فاعلين من داخل وخارج الإقليم لموازنة القوة الإقليمية الصاعدة.


وبهذا الاعتبار، فإنَّ للقوى الثانوية حظوةً كامنةً بالقرب من شركاء متعاونين ينتمون إلى أقطاب قوة خارجية، مثل: الولايات المتحدة والصين والمجموعة الأوربية، ومن وجهة نظر القوى الإقليمية، يكمن التحدي في تطوير إستراتيجيات سياسة خارجية تحفِّز القوى الثانوية وتجعلها تعترف لها بالزعامة. ونعتقد أنه في إطار سياق الاندماج الاقتصادي العالمي، واختلال التوازن بين القوى الإقليمية المعنية والقوة العظمى، يجب على مشاريع الزعامة الإقليمية أن تتوفَّر على حوافز مادية وأيديولوجية لفائدة التابعين، تعويضًا لهم عمَّا يخسرونه من قوة. وتُعتَبَر القوى الثانوية فاعلاً محوريًّا في عملية البناء والحفاظ على بِنَى السيطرة الإقليمية في إطار الزعامة/الهيمنة التعاونية؛ فبدون دعم هذه القوى، لن تتمكن القوى الإقليمية من بناء قاعدة قوتها اللازمة لبلوغ أهداف سياستها الخارجية في القضايا الإقليمية والعالمية على السواء.


لكن ما العوامل التي يمكن أن تصبح محفِّزًا للقوى الثانوية كي تقبل أو ترفض مطالبةَ القوى الإقليمية بالحق في الزعامة؟


أولاً: يبدو أن الشرط المسبَق وراء التبعية الإقليمية هو توفر جملة من المصالح المشتركة بين القوى الإقليمية والقوى الثانوية.


ثانيًا: لابُدَّ أن تتوفر القوى الإقليمية على ما يكفي من الموارد كي تستطيع منح المحفزات المادية للقوى الثانوية. وعلى الزعيم الإقليمي أن يكون على أتم الاستعداد كي يمنح منافع عامة، ويتحمل نفقات الإدماج العالية في شكل فتح أسواق بلاده، والمشاركة بفعالية في ضخ الاستثمارات داخل اقتصاديات القوى الثانوية.


ثالثًا: يجب أن يكون رصيد القوى الإقليمية من الأفكار والتصورات -ومنها تلك المتعلقة بالشرعية والسلطة الأخلاقية- كفيلاً بجعلها تقترح معاييرَ وقِيَمًا تتضمن معتقدات وأفكار وتصورات الأتباع المحتملين، فتضمن بذلك قبولهم بمشاريعها القيادية.


ويقترح شين بورغس مفهوم "زعامة الإجماع/التراضي" لشرح نظرة بنيوية تتضمن انخراط الدول التابعة في سياق تفاعلي يستحثُّها على تبنِّي مادة المشروع الإقليمي كما لو كان مشروعها.


رابعًا: ومن الضروري أن تكون القيم والأفكار المطروحة من القوى الإقليمية متناغمة مع تصورات الشعوب والنخب السياسية في دول القوى الثانوية. وتزداد التصورات الشعبية أهميةً متى كانت أنظمة الحكم في تلك القوى ديموقراطية تلتزم بآراء الناخبين في رسم معالم سياستها الخارجية.


خامسًا: على إستراتيجية السياسة الخارجية للقوى الإقليمية الاتِّصاف بضبط النفس واقتسام القوة على الصعيد الإقليمي، كي تسمح للقوى الثانوية بتقمُّص الزعامة في قضايا معينة؛ فإنَّ السماح للأتباع الإقليميين بشيء من الانتفاع المجاني قد يزيد في ترسيخ زعامة القوى الإقليمية.


وسادسًا: يجب العمل على تصريف نقص التماثل الحاصل في القوى الإقليمية عبر المؤسسات الديموقراطية؛ لأن علاقات التراضي والتبادل والعلاقات المؤسساتية بين القوى الإقليمية وأتباعها تظل -هي أيضًا - مطبوعةً بنقص التماثل، ولو أنها لا توصف بالإمبريالية أو بالسيطرة. وفي المقابل، فإن غياب بِنَى التعاون الإقليمي أو إهمالها، تَحُولُ دون مشاركةٍ عادلةٍ للفاعلين الثانويين في صنع القرار الإقليمي ، وهو ما يُضعف رغبتهم في الاتباع.





في مارس/آذار من سنة 2008، اقترح دا سيلفا إنشاء مجلس دفاع أميركا الجنوبية، بهدف بلوغ تحالف دفاعي شبيه بالحلف الأطلسي، وكذلك، وعلى المدى البعيد، تكوين قوات عسكرية جنوب أميركية وصناعة أسلحة إقليمية، وسيكون للبرازيل دور الزعامة في هذا المجلس

يقول ديفيد بالدوين: إنَّه بالإمكان ممارسة القوة من خلال إنشاء المؤسسات ورعايتها، ثم توظيف تلك المؤسسات، وعقد تفاعلاتٍ فيما بينها؛ فالقوى الإقليمية لها أدوارٌ محورية في مؤسسات السيطرة الإقليمية، وكثيرًا ما تكون وراء إنشائها. ويتوقف تأثير الزعامة الإقليمية على قدرتها على وضع أجندة التعاون، وهو ما يمكن بلوغُه إمَّا عبرَ إستراتيجيةٍ تعاونيةٍ أو إستراتيجيةِ هيمنةٍ أُحادية لقوة متزعمة، أو عبر زعامة متعاونة. ويُفسِّر المفهوم النظري (الزعامة المتعاونة) سبب انتهاج بعض الدول الكبرى سياسة المؤسسات الإقليمية، وتركيزها على تهيئة الظروف المواتية لها للقيادة عبر مؤسسات السيطرة الإقليمية، وترى في بناء المؤسسات الإقليمية نتيجة نموذجية للإستراتيجية الكبرى المتبعة من طرف القوى الإقليمية.


ومن هذه الزاوية، تتوفَّر إستراتيجية الزعامة (الهيمنة) المتعاونة على مَزِيَّة الاستقرار، وهي معيار لقياس القوة الإقليمية؛ فإنَّ مُراكمةَ القوة أمرٌ في غاية الأهمية بالنسبة لكل قوة إقليمية تطمح إلى أن يكون لها دور عالمي؛ فذلك يوفر لها قاعدة انطلاق لعرض قوتها في القضايا الدولية. ولبلوغ هذا الهدف يجب على الدولة القائدة صياغة مشروع سياسي يغري دول الجوار بالتماهي معه، وتبدو قدرة الدولة المتزعمة على وضع الأجندات ضروريةً لمراكمة القوة في بعض القضايا (القدرة على المراكمة). في حال كان الزعيم المتعاون من أكثر دول المنطقة فعالية في مجال الاقتصاد، خاصة عندما تكبر منافع السوق الإقليمية الموحَّدة. أمَّا إذا كانت القوة الإقليمية محاطة باقتصاديات ضعيفة أوضعيفة جدًّا، فعندها تكون المنافع قليلة تكاد لا تذكر.


ولكن يجب أن يكون واضحًا أنه بقدر ما تُعطي إستراتيجية الزعامة المتعاونة -خصوصًا على المدى البعيد- وعودًا بتحقيق منافع، فهي تُكلِّف ثمنًا ونفقات؛ وذلك لعدة أسباب:


أولاً: لأن القوة الإقليمية تتقاسم القوة مع جيرانها بصفة دائمة، وداخل مؤسسات مشتركة تتوفر على كفاءات مهمة (اقتسام القوة).


ثانيًا: على القوة الإقليمية القبول بالخضوع للإستراتيجية بعيدة المدى للمؤسسات الإقليمية (القدرة على الالتزام)؛ فقرارات القوى الإقليمية رهينةٌ بكُلفة الالتزام، وهي كلفة أعلى بالنسبة للاقتصاد الإقليمي منها بالنسبة للاقتصاد المعَوْلم.


بالطبع، هناك روابط بين العوامل المذكورة التي تفيد تغير أشكال الزعامة المتعاونة؛ فحيثما تجتمع كفاءة مراكمة القوة، والقدرة على اقتسام القوة مع ضعف القدرة على الالتزام، فالأمر سيفضي لا محالة إلى زعامة متعاونة غير رسمية، أو إلى زعامة متعاونة على صعيد مؤسساتي متواضع.


بينما إذا اجتمع اقتسام القوة والقدرة العالية على الالتزام، مع ضعف القدرة على مراكمة القوة، فمن المنتظر أن يقع تحوُّل باتجاه اتحادٍ متماثل في أحسن الأحوال. وعلى العكس من ذلك؛ فحيثُما تجتمع مراكمة القوة والقدرة العالية على الالتزام مع ضعف القدرة على اقتسام القوة، فمن المنتظر أن تتحول الزعامة المتعاونة إلى اتحاد غير متماثل.


وحتى يكون اقتسامُ القوة فعَّالاً، ويتم تفادي الاتحاد غير المتماثل، فإنَّ على البنية الإقليمية أن تغطِّيَ جملة من القضايا القِطاعية، وأن تَمنحَ القُوى الثانوية فرصة التأثير الحقيقي في سياسة الدولة المسيطرة؛ ففي هذا الباب يكون اقتسام القوة بين القوى الإقليمية والقوى الثانوية حاسمًا؛ ذلك أن القوى الثانوية بإمكانها تقمُّص الزعامة في مجالاتٍ معينة تخرج عن حدود الإقليم، وهي شريك محتَمَل للقوة العظمى.


يُلاحِظ الباحثون في مجال العلاقات الدولية مَيْلاً إلى عدم الاعتراف الإقليمي بمُدِّعي الزعامة، ونُزوعًا نحو عدم الإقرار بقوته من طرف دول الجوار؛ وهذا ليس في جنوب أميركا فحسب، بل في جنوب آسيا، وفي إفريقيا جنوب الصحراء كذلك.


وقد يُعبَّرُ عن المعارضة للزعامة الإقليمية بالدعوة إلى زعامةٍ إقليمية أصغر من طرف قوى ثانوية. وفي هذا الباب، تُوصَفُ نيجيريا بأنها "الضامن لاستقرار حيِّزٍ إقليمي أصغر"، و"زعيم غرب إفريقيا"، و"شرطي إفريقيا الجديد"، أمَّا باكستان فتُوصَفُ بأنها "منافس الهند" و"القوة الموازنة" في جنوب آسيا. وأما فنزويلا فيُشار إليها كـقوة إقليمية متوسطة، وزعامة إقليمية في جنوب أميركا اللاتينية، وهو مايفسِّر سياسة فنزويلا النفطية، ومشروعها الإقليمي البديل للإدماج (ALBA).


إن الإستراتيجياتِ المطبَّقة من طرف القوى الإقليمية في علاقاتها الثنائية مع القوى الثانوية محوريةٌ لتوليد التبعية الإقليمية - من ناحية - كما قد ينظر إليها كعناصر مهمَّة أو نماذج من الإستراتيجية الإقليمية المتَّبَعة من ناحية ثانية.


2.2. مقاربة البرازيل الإقليمية: كيف التعامل مع فنزويلا البوليفارية؟


يتم توزيع الموارد المادية، داخل اتحاد دول أميركا الجنوبية، بالتساوي نسبيًّا، مقارنةً بأنحاء أخرى من العالم؛ لهذا علينا أن نُعير الاهتمام إلى فاعلين آخرين في وُسعهم أن يتنافسوا حول مكانة القوة الثانوية، من بينهم فنزويلا والأرجنتين وشيلي، لكن وضع البرازيل كقوة إقليمية قد تأكَّد بفعل التوزيع الإقليمي للموارد المادية، وللحصول على إطلالةٍ عامة، والتمكن من إجراء المقارنة، نقف على الجدول التالي المتضمن للموارد المادية، والعسكرية والديموغرافية والجغرافية والاقتصادية وموارد الطاقة.          


إمكانات البرازيل ومواردها

































































المجال العسكري


التقدير


النفقات العسكرية لعام 2006 (مليون

دولار $ أمريكي).

13.446


مرتبة البرازيل في النفقات العسكرية بين دول الأوناسور

UNASUR

1


تقديرات عام

2006لحجم القوات المسلحة (بالآلاف).

287


مرتبة البرازيل في حجم القوات المسلحة بين دول الأوناسور

UNASUR

1


الطاقة



الإنتاج النفطي في عام

2006 (مليون برميل / اليوم).

1,6


مرتبة البرازيل في إنتاج النفط بين دول الأوناسور

UNASUR

2


إنتاج الغاز الطبيعي في عام

2005(بليون متر مكعب).

9,4


مرتبة البرازيل في إنتاج الغاز الطبيعي بين دول الأوناسور

UNASUR

3


الاقتصاد



حجم الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006 (تريليون دولار أمريكي).


1,1


مرتبة البرازيل في حجم الناتج المحلي الإجمالي بين دول الأوناسور

UNASUR

1


منزلة البرازيل في نمو مؤشر التنافسية بحسب إحصاءات عام 2007.


72


مرتبة البرازيل في معدل نمو مؤشر التنافسية بين دول الأوناسور

UNASUR

3


الديموغرافيا/الجغرافيا



عدد السكان (مليون

نسمة).

188,7


مرتبة البرازيل في الحجم السكاني بين دول الأوناسور

UNASUR

1


المساحة (مليون كم مربع).


8,5


مرتبة البرازيل في المساحة بين دول الأوناسور

UNASUR

1



 إمكانات فنزويلا ومواردها

































































المجال العسكري


التقدير


النفقات العسكرية لعام 2006 (مليون

دولار $ أمريكي).

1.924


مرتبة فينيزويلا في النفقات العسكرية بين دول الأوناسور

UNASUR

4


تقديرات عام

2006لحجم القوات المسلحة (بالآلاف).

82


مرتبة فينيزويلا في حجم القوات المسلحة بين دول الأوناسور

UNASUR

3


الطاقة



الإنتاج النفطي في عام

2006 (مليون برميل/اليوم).

2.8


مرتبة فينيزويلا في إنتاج النفط بين دول الأوناسور

UNASUR

1


إنتاج الغاز الطبيعي في عام

2005(بليون متر مكعب).

27.5


مرتبة فينيزويلا في إنتاج الغاز الطبيعي بين دول الأوناسور

UNASUR

2


الاقتصاد



حجم الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006 (تريليون دولار أمريكي).


0.181


مرتبة فينيزويلا في حجم الناتج المحلي الإجمالي بين دول الأوناسور

UNASUR

3


منزلة فينيزويلا في نمو مؤشر التنافسية بحسب إحصاءات عام 2007.


98


مرتبة فينيزويلا في معدل نمو مؤشر التنافسية بين دول الأوناسور

UNASUR

7


الديموغرافيا/الجغرافيا



عدد السكان (مليون

نسمة).

27


مرتبة فينيزويلا في الحجم السكاني بين دول الأوناسور

UNASUR

5


المساحة (مليون كم مربع).


0.912


مرتبة فينيزويلا في المساحة بين دول الأوناسور

UNASUR

6


مصادر هذه المقارنات:


Military: HDR 2006, http://hdrstats.undp.org/buildtables
Energy: CIA World Factbook, https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/
Economy: Human Development Report 2006, http://hdrstats.undp.org/buildtables/;
Growth Competitive Report 2006: World Economic Forum, http://www.weforum.org
Demo-/Geography: World Bank Data & Statistics (2006), www.worldbank.org


وفضلا عن المعلومات الواردة في المقارنة السابقة يلاحظ أنه بينما تتوفر البرازيل على أكبر المقدَّرات العسكرية في المنطقة، فإنَّ نفقات شيلي العسكرية فاقت نفقات فنزويلا لسنة 2006، لكن عدد الطواقم العسكرية في  فنزويلا يفوق عددها في شيلي والأرجنتين. وتُعتبر فنزويلا أكبر منتج للبترول في المنطقة - بلا منازع - وتُستَعمَلُ ثروةُ البترول كسلاح سياسي في الحلبة الإقليمية. 


والأرجنتين التي تنتج كمياتٍ من الغاز تفوق إنتاج فنزويلا والبرازيل،  لا تعتمد في دبلوماسيتها الإقليمية على موارد الطاقة. ويفوق الناتج المحلي الإجمالي في الأرجنتين مثيله في فنزويلا؛ أمَّا فيما يتعلَّق بالناتج المحلي الإجمالي موزَّعًا على الأفراد، فتأتي شيلي في المرتبة الأولى، متقدمةً فنزويلا والأرجنتين والبرازيل، علاوةً على هذا؛ فإن الاقتصاد الشيلي أكثر قدرة على التنافس من الاقتصاد البرازيلي، والأرجنتيني والفنيزويلي، في حين تتوفر الأرجنتين على أكبر نسبة من السكان والأراضي مقارنة بفنزويلا.


واعتمادًا على هذه المؤشرات، يمكن اعتبارُ الأرجنتين وفنزويلا قوىً ثانويةً في منطقة اتحاد دول أميركا الجنوبية، لكن فنزويلا تقوم بدور محوري في دينامية الإدماج في الإقليم، بل يمكن اعتبار الاتحاد نفسه مبادرة برازيلية – فنيزويلية؛ إذ بالإضافة إلى مشروع البديل البوليفاري ALBA المذكور سابقًا، اقترح الرئيس شافيز "حلف أطلسي جنوب أميركي"، وشركة إعلامية إقليمية (تيليسور). هذا إضافةً إلى جملة من الاتفاقيات الثنائية واتفاقيات بين دول الإقليم الصغرى أبرمتها فنزويلا مع دول البحر الكاريبي (بيتروكاريب)، ودول غرب أميركا الجنوبية المعروفة باسم الأندين (بيتروأندين)، وجنوب أميركا اللاتينية، وكلها اتفاقيات تقضي بتموين هذه الدول بالنفط وفق شروط خاصة. هذه الاتفاقيات الخاصة بالطاقة تفضي إلى حالة من التبعية بين المستوردين للمواد الخام. ولعل أكثرَ المشاريع جلبًا للأنظار - من بين المشاريع الدبلوماسية الفينزويلية القائمة على مواردها من الطاقة - هو مشروع أنبوب الغاز الطبيعي المقترح من طرف شافيز، وهو الأنبوب الذي يؤمِّن حاجاتِ أميركا الجنوبية من الغاز، انطلاقًا من فنزويلا وصولاً إلى الأرجنتين.


أخيرًا، ولفهم التراتبية القائمة بين كاراكاس وبيونس آيرس، لابُدَّ من العودة إلى ما قامت به فنزويلا منذ سنة 2005 عندما اقتنت ما يعادل 3 بلايين دولار أميركي من سندات الحكومة الأرجنتينية، الشيء الذي مكَّن الأرجنتين من أداء ديونها لدى صندوق النقد الدولي، ومكَّنها من العودة إلى الأسواق الرأسمالية الدولية. 


ولكن لا تحظى فنزويلا شافيز بكامل الثقة في توجهات سياستها الخارجية نظرا لتقلب مواقف الرئيس هوغو شافير كما حدث على سبيل المثال حينما قرر الخروج من تجمع "الأنديان". أو كما حدث على إثر ملاسناته مع رؤساء المكسيك والبيرو والتي أدَّت في نهاية المطاف إلى سحب السفراء. كما أن علاقة الرئيس شافيز الوثيقة مع زعماء من أمثال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ورئيس بيلاروسيا أليكسندر لوكاشينكو، ورئيس زيمبابوي روبرت موغابي، لا تخدم صورة فنزويلا على الساحة الدولية. وقد أسهمت توجسات الكثير من دول العالم من سياسات شافيز في إحباط محاولات فنزويلا الحصول على مقعد مؤقت في مجلس الأمن الدولي؛ كما لم تحقق فكرة البديل البوليفاري (ALBA) التي طُرِحَت في الأصل كمقتَرَحٍ معادٍ لليبرالية الجديدة، وضد مشروع التجارة الحرة بين الأميركتين (F.T.A.A.) الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ولم يستطع شافير استقطاب سوى بوليفيا وكوبا والإكوادور ونيكاراغوا والباراغواي، إضافة إلى الأرجنتين التي تكتفي بدور الصديق الذي يتابع عن بعد.


يمكن الختام بالقول: إن ديبلوماسية فنزويلا القائمة على الموارد الطبيعية تمثل سعيًا منافسًا نحو الزعامة؛ ففنزويلا تمثِّل شريكًا بديلاً بالنسبة لدول أصغر، مثل: بوليفيا والإكوادور، بديلاً قد يمنح هذه الدول مجالاً للمناورة في علاقاتها الثنائية مع البرازيل. وهو ما يفسر ترحيب دولتين أخريين صغيرتين مثل الباراغواي والأورغواي بإدماج فنزويلا في سوق الجنوب المشتركة، ويكمن وراء هذا الترحيب أملُهما في أن يُفضِيَ محور كاراكاس - بيونس آيرس إلى قوة تفاوضية تُنزِلُ البرازيل من مكانة الصدارة والسيطرة.


وهنا يجب التساؤل عن خياراتِ البرازيل الإستراتيجية للرد على مبادرات شافيز؟





الرفض الجماعي لسياسات واشنطن الأحادية، وعدم القبول بمفاهيم "الدول المارقة" و"الحرب الاستباقية"، إضافةً إلى مواقف مُجمل دول أميركا الجنوبية الناقدة لامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن الإسهام في تصحيح أوضاع البيئة، وسياسة حقوق الإنسان، كل هذه الأمور ترسخ لدى تلك دول أميركا اللاتينية الإحساس الجماعي بالوحدة

فمن جهة، إنَّ اكتشافات البترول الأخيرة في المياه الإقليمية للبرازيل سترفعها - لا محالة - إلى مصاف العَشْرِ الأوائل بين منتجي البترول في العالم، وهو ما سيجعل البرازيل في وضعٍ مريحٍ حين يتعلق الأمر بمواجهة مبادرات فنزويلا القائمة على مواردها من الطاقة، أوبالتصدي لسياستها الخارجية عمومًا. ومن المتوقع أن تزداد مستقبلاً حِدَّةُ التنافس - الذي صار يطفو على السطح - بين شركة فنزويلا الوطنية للبترول (PDVSA)، وشركة بيترو براس البرازيلية للاستثمار في البترول والغاز في جنوب أميركا (Petrobras). بالمقابل، تحاول البرازيل استقطاب فنزويلا وإدماجها في سياقات التعاون الإقليمي.


لم تعد مشاريع الإدماج تتمتع بالأهمية التي كانت لها باعتبارها وسيلةً من وسائل التعاون. غير أنها - ورغم ذلك - تظلُّ أداةً مُساعدةً في تحديد القوى المحركة لها سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي؛ ففي حالة سوق الجنوب المشتركة جاءت الاعتبارات الإستراتيجية في المفاوضات الدولية لتغطي على المصالح التجارية والاقتصادية الصِّرْفة على الصعيد الإقليمي. وهو ما يفسِّر سعي البرازيل إلى إنشاء اتحادٍ جمركي بدلاً من مجال تجارة حرة. إضافةً إلى ذلك؛ فإن إدماج فنزويلا قد أضعف الأهمية الاقتصادية للسوق لكنه في الوقت ذاته ضاعف من أهميتها الإستراتيجية.


وتقوم "المبادرة لدمج البنية التحتية الإقليمية في أميركا الجنوبية" (IIRSA) على المصالح المشتركة والتي يمكن تحقيق أهدافها بمعزل عن التوافق السياسي والأيديولوجي. ويقبع في قلب هذه المبادرة شبكة من الطاقة والنقل، وممرات تكنولوجيا المعلومات، والاتصالات الهادفة إلى ربط مراكز القارة الاقتصادية ببعضها البعض. وستكون البرازيلُ - بوصفها تتوفَّر على أكبر اقتصادٍ في القارَّة - أكبرَ مستفيد من التحسينات المدخَلَة على البنية التحتية وأمن الطاقة. وفي هذا السياق، فإن دولارات النفط التي في حَوْزة شافيز يُرحَّبُ بها في شكل استثمارٍ يحقق تمتين القاعدة التي تقوم عليها قوة البرازيل الجيو - إستراتيجية.


ولا تقف الانقسامات السياسية والأيديولوجية عند فصل البرازيل عن فنزويلا، بل تتعدى ذلك لتشمل كل قارة أميركا الجنوبية؛ حيث تطوَّرت اقتصاداتٌ سياسيةٌ متنوعة خلال العقد الأخير. وتبدو الديمقراطيةُ القاعدةَ المشتركةَ الوحيدة لاحتواء التعدد داخل الإقليم، رغم نزوع فنزويلا بزعامة هوغو شافيز نحو الإستئثار بالقرار. بل إن الديموقراطية نفسها تجلب معها المشاكل بما ينتج عن إعادة تأميم الموارد الطبيعية، إرضاءً للمطالب الاجتماعية والانتخابية بسبب أسعار السوق العالمية، من توترات إقليمية (ما بين البرازيل وبوليفيا مثلاً) في سياق عدم التماثل البنيوي في أميركا الجنوبية.


وبالنظر إلى واقع الانقسامات يبدو أنَّ أكبر المعارضين لشافيز وللتبعية لمشروعه البديل (ALBA) هما: كولومبيا وشيلي؛ فكولومبيا المحكومة من طرف المحافِظ المتشدِّد ألفارو أوريب تتعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة في القضايا الأمنية (خطة كولومبيا). أما شيلي فهي أكثر اقتصاديات أميركا الجنوبية قدرةً على التنافس، وإحدى زعامات التجارة الحرة في الإقليم. وكلاهما أبرم اتفاقيات تجارة حرة ثنائية مع الولايات المتحدة الشبح العدو لشافيز. ولعلَّ القبول بالبرازيل كقوة متزعمة للإقليم يتوقف كثيرًا على قدرة هذا البلد على القيام بدور الوساطة بين هذه المواقف المتباعدة.  


ومن جانبها تحاول البرازيل ردم هُوَّةِ الانقسامات السياسية والأيديولوجية بتوجيه أنظار دول المنطقة نحو فضاء جنوب أميركي يكون هدفًا مشتركًا، وتتمحور "زعامتها المتراضية" حول جملة من الأفكار، أهمها: حماية الديموقراطية، والنمو الاقتصادي، والمواجهة الإقليمية لتحديات العولمة؛ مواجهة قائمة على اتفاقيات نابعة من رُوحِ التعددية داخل أميركا الجنوبية. وتجتهد الحكومة البرازيلية في الترويج لهذه المقاربة ولمؤسسات التعددية بوصفها تمثل أرحب مكانٍ للمصالح الإقليمية، لكنَّ "المبادرة لدمج البنية التحتية الإقليمية في أميركا الجنوبية" (IIRSA)، وسوق الجنوب المشتركة يجلبان منافع لا مثيل لها لصالح أقوى اقتصادٍ إقليميٍّ في شكل صادراتٍ برازيلية من المنتجات المصنَّعة، واستثمارات أجنبية مباشرة في أميركا الجنوبية؛ ففيما يتعلَّق بمفاوضات مجال التجارة الحرة للأميركتين (F.T.A.A.)، أعادت المقاربة التعددية البرازيلية تشكيل العلاقات الشمالية – الجنوبية، ومكَّنت الدول المشاركة من التفاوض مع الولايات المتحدة على قاعدة المساواة. وقد مارست البرازيل قوتها باقتراح أفكار أولية، ثم أعقبتها بتوجيهات للمحادثات. وتُسلِّط الدبلوماسية البرازيلية الضوء على إستراتيجية الدفع باتجاه المواجهة الجماعية القائمة على التشاور والدمج، وتُعتبر هذه الإستراتيجية أبرز أوجه قوتها. وفي سياق "المبادرة لدمج البنية التحتية الإقليمية في أميركا الجنوبية" (IIRSA)،  وسوق الجنوب المشتركة خصوصًا، تصوغ الحكومة البرازيلية أجندة جماعية، وتتبنَّى خطابًا يحظى بالإجماع في أميركا الجنوبية.


لكن هل يكفي مشروع التراضي والإجماع للشروع في تكوين إقليم متمحور حول قوة البرازيل؟


ولماذا يُنتَقَدُ دور البرازيل في هذا السياق من طرف أتباعها المفترضين؟


ولماذا تنجح فنزويلا شافيز - ولو جزئيًّا على الأقل - في إخراج "مشروع أميركا الجنوبية" من تحت سيطرة البرازيل؟


والإجابة على ذلك أنه من وجهة نظر "الزعامة المتعاونة"(65) تساعد إستراتيجيات التعاون (أو التراضي) على تجنب تعارض القوى داخل الإقليم، كما تضمن منافذ إلى المواد الخام النادرة. لكن للزعامة المتعاونة جملةٌ من الشروط، من بينها الاستعداد لدفع ثمن الدمج واقتسام القوة، والبرازيل – في الواقع - لا تقتسم قوتها مع جيرانها بشكل دائم؛ لأن سوق الجنوب المشتركة، واتحاد دول أميركا الجنوبية لا يتوفَّران على كفاءاتٍ عالية، وبدون مشاركة فاعِلِين ثانويين مثل: فنزويلا وشيلي والأرجنتين - وكذلك دول أميركا الجنوبية الأصغر - في صنع القرار الإقليمي، ستظل رغبتُهم في الاصطفاف وراء البرازيل رغبةً محدودة.


بالإضافة إلى هذا كله، فالبرازيل لا تتحمل كثيرًا تكاليفَ الدمج؛ فهي - على سبيل المثال - لا تدعم الأعضاء الأصغر بإسهاماتٍ في الصناديق الهيكلية؛ فرغم أنها خفَّفت من ديون بوليفيا (50 مليون دولار أميركي)، والباراغواي (1 بليون دولار أميركي) خلال السنوات الأخيرة، إلا أنَّ ما يُطالِب به جيرانُها الصغار يفوق ذلك بكثير؛ لذا فعلى البرازيل أن تمنح منافعَ عامَّةً، وتفتح سُوقَها الاستهلاكية أمام سلعِ هذه الدول. ولكن غالبية المجتمع البرازيلي تشكِّكُ في الدمج الإقليمي، وتُبدي عدم استعدادها لأداء ثمن الزعامة الإقليمية. ينطبق هذا على قطاع الأعمال، خصوصًا قطاع التصدير، الذي قد يتضرَّر من تقليص الإجراءات الحمائية والانفتاح الاقتصادي. وأثناء ذلك يستثمر الرئيس شافيز بسخاء مستغِلاًّ الوفرة المالية وتقديم فرص استثمارية لشركات أميركا الجنوبية بغرض تقوية جاذبية فكرة البديل البوليفاري (ALBA) لمنافسة المقاربة البرازيلية القائمة على السوق. 


باختصار، إن القوة الإقليمية البرازيلية لا تُظهر حاليًا ما يثبت أن الإرادة السياسية لتحقيق الدمج الإقليمي ليست مجردَ بلاغةٍ دبلوماسية؛ فرغم دورها المشهود في الدفاع الإقليمي والسياسات الأمنية الذي مكَّن حكومة دا سيلفا من تكريس نفسها بمثابة الضامن للاستقرار في أميركا الجنوبية؛ فإن سياسات البرازيل الإقليمية الخاصة بالاقتصاد والطاقة والبنية التحتية ظلَّت تضع نُصْبَ أعينها بلوغ أعلى سقف في تحقيق المصالح الوطنية ولكن بأقل التكاليف والاستثمارات.


وبقدر ما يتوافر للبرازيل من مقوماتٍ للعب دورٍ ريادي في سوق الجنوب المشتركة، واتحاد دول أميركا الجنوبية، ومجال التجارة الحرة للأميركتين، بقدر ما تبدو غير مستعدة للقيام بتنازلات اقتصادية أو للتنازل عن قدرٍ من السيادة لفائدة المؤسسات الإقليمية، ويُعتَبَرُ الوضعُ الذي آلت إليه اليوم سوق الجنوب المشتركة - بحيث أصبحت كيانًا لا هو سوق مشتركة ولا هو مجال تبادل تجاري حرٍّ كامل - نتيجةً من نتائج سياسة البرازيل الخارجية في جزء منه، نظرًا لتركيز هذه السياسة على السيادة الوطنية أكثر من تركيزها على إدماج البلاد في المؤسسات الإقليمية على المدى البعيد. فالبرازيل لا تدعم توطيد أركان مؤسسة السوق، وعكس المتوقع، فهي البلد الأقل تصديقًا على قرارات هذه السوق، أو كما يقول بيديرسون: "إن صُنَّاعَ سياسة البرازيل الخارجية يحتفظون ببنية الإقليم الاتحادية غير المتماثلة"؛ حيث تستعمل البرازيل أميركا الجنوبية كقاعدة لقوتها الجيو-إستراتيجية من أجل تحقيق مصالحها في حلبة السياسة الدولية. من هذا المنطلق، يظلُّ نجاح مشروع دمج أميركا الجنوبية بعيدَ المنال على المدى المتوسط، وتبدو حكومة دا سيلفا كأنها تفترض أن البرازيل تستطيع أن تتحول إلى فاعل عالمي دون دعم وتكافل من تحالف دول أميركا الجنوبية.


3. خاتمة


في القضايا العالمية، تنهج البرازيل مقاربة التوازن الناعم إلى جانب شريكيها: الهند وجنوب إفريقيا. وتنهج هذه الدول، بوصفها أعضاء في "منتدى إيبسا IPSA" سياسة "القوى المتوسطة" وهي تدافع عن مبادئ المواطنة العالمية الرشيدة والتعددية الديمقراطية، لكنَّ خطاب المنتدى بخصوص العدالة الدولية أمرٌ تحوم حوله شكوك؛ لأن التوسع في مجلس أمن الأمم المتحدة لن يمنح الامتياز إلا لأقليةٍ من الفاعلين. ولتحقيق دمقرطة المنظمة بشكل دائم، يجب تقوية الجمع العام. ولا غرابة في ذلك؛ فالنقد التحليلي لتصرفات دول هذا المنتدى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية يكشف عن ميول نحو استعمال المؤسسات المنادية بالتعددية بغرض بلوغ غايات نفعية في المقام الأول. ومن هنا نلحظ أنه أحيانا لا تتحدث هذه الدول الثلاث دَوْمًا باسم كافَّة دول الجنوب.


فعلى سبيل المثال، إن غالبية الدول المستوردة للمواد الغذائية بكثرة - كأغلبية الدول الأقل نموًّا - لا تكترث بأمر تقليص الدعم الأوربي والأميركي للزراعة الذي يحافظ على الأسعار منخفضة.





مُراكمةَ القوة أمرٌ مهم لكل قوة إقليمية تطمح إلى أن يكون لها دور عالمي؛ فذلك يوفر لها قاعدة انطلاق لعرض قوتها في القضايا الدولية. ولبلوغ هذا الهدف يجب على الدولة القائدة صياغة مشروع سياسي يغري دول الجوار بالتماهي معه

وقد أثبتت قوى الجنوب الصاعدة أنها – بدورها - تبحث عن مكانةٍ اعتبارية، ووضع شرعي، بينما تُراوِحُ مفاوضاتُ منظمة التجارة العالمية بخصوص المضمون مكانها. ومن وجهة نظر القوى الجنوبية، هذه هي الخطوات الأولى كما تمليها على المدى المتوسط إستراتيجية المراجعة المنهجية التي تهدف بلوغ نظام عالمي متعدد الأقطاب. أمَّا إجابة سؤال: هل سيكون هذا النظام المستقبلي نظامًا يضم مجموعة من القوى الإقليمية، أم نظامَ علاقاتٍ دولية يقوم على التعددية الإقليمية؟ فهذا يتوقف بالأساس على بنية العلاقات داخل الإقليم.


فبينما تطالب البرازيل بِبِنَى تعددية في القضايا العالمية، حيث تتوقع تزايدًا في القوة في مقابل الفاعلين الأقوى منها. تفعل عكس هذا على الصعيد الإقليمي؛ حيث تخشى البرازيل فقدان القوة أمام الفاعلين الأضعف منها، وتُظهر عدم الاستعداد للسماح بمشاركة الدول الصغرى في صنع القرار الإقليمي. وتحاول البرازيل أن تبلغ إجماعًا شكليًّا حول مشروع أيديولوجي بخصوص الديموقراطية والنمو الاقتصادي، ونهوض الإقليم لمواجهة تحديات العولمة، وهي على أتم الاستعداد لصياغة خطاب ينطق باسم جنوب أميركا مجتمعة؛ لكنها ليست على استعداد لبناء مؤسسات وظيفية بالموازاة مع ذلك. وبالتالي فإن مقاربات البرازيل الإقليمية تناقض بشكل ملموس خطابها حول العدالة الدولية والديموقراطية التعددية.


هل يُعتبر تماسك الأفكار المؤسِّسة للإستراتيجيات الإقليمية شرطًا ضروريًّا لبلوغ أهداف السياسة الخارجية (كالارتقاء إلى مرتبة صانع القرار داخل نظام عالمي متعدد الأقطاب)؟


نعتقد أن التماسك مهم لا سيما في أقاليم تتميز ببِنَى تفاعلية داخلية، سواء كان التفاعل منافسةً أو تعاونًا؛ فإنَّ البرازيل تحافظ على علاقات يطبعها التنافس جزئيًّا -وليس الصراع- مع القوى الثانوية، كما تنهج إستراتيجيةَ زعامةٍ متعاونة في أميركا الجنوبية؛ حيثُ يقوم التعاون الإقليمي على الهُوِيَّات والمعايير المشتركة. وعليه فإن مصداقية القوى الإقليمية وما تتمتع به من شرعية وسلطة أخلاقية لها دور مهم في استقطاب الأتباع وإدماجهم في سياقات التعاون الإقليمي.


وحاليًا، لا تتوفر البرازيل على هذه الشروط المطلوبة؛ بل على العكس من ذلك، ترسِّخ إدارة دا سيلفا عدم التماثل داخلَ الاتحاد بلجوئها إلى سوق الجنوب المشتركة واتحاد دول أميركا الجنوبية لتحقيق أغراضها الخاصة، عوضًا عن العمل على توطيدهما وتمتيعهما بحس المسؤولية تجاه الإقليم.


أمَّا في حالة ما إذا كان النظام العالمي المستقبليُّ عبارةً عن قوى كبرى متناغمة ومنسجمة وليس نظامًا متعدد الأقاليم؛ فإن حظوظ البرازيل في أن تصبح أحد أقطاب تلك القوى ستكون ضعيفة؛ وذلك باعتبار مواردها المادية المتواضعة مقارنةً بالولايات المتحدة والمجموعة الأوربية والصين.


فما يزال الدمج الاقتصادي العالمي والتفوق المادي للقوى الخارجية المذكورة يُنتج، حتى الآن، مزيدًا من التداخل والتشابك بين القضايا الإقليمية والعالمية؛ فالدول الصغرى -وخصوصا القوى الثانوية- تستطيع أن تتفادى مصالح القوى الإقليمية بالتعاون مع فاعلين خارج الإقليم. ولقد أبرمت بعض دول أميركا الجنوبية –مثلاً- اتفاقياتِ تبادلٍ تجاري حرٍّ مع الولايات المتحدة، كما أن القوى الثانوية لم تكن تخشى أيَّةَ عواقب حين اعترضت على ترشيحات القوى الإقليمية لمجلس أمن الأمم المتحدة. ويمكننا أن نتوقع تزايد بدائل شركاء محتملين في سياق التعددية القطبية العالمية، بل -وليس مستبعَدًا- أن يكون النظام العالمي المستقبلي انعكاسًا لمزيج من التناسق والتناغم بين قوى كبرى من جهة، وبين بِنَى إقليمية متعددة من جهة أخرى.


قد يتكون هذا النظام من زعامات متعاونة وأقاليمها، مثل: المجموعة الأوربية وجنوب أميركا -من جهة- ، وقد يتكون -من جهة أخرى- من قوىً كُبرى بدون أقاليم فعَّالة، مثل: الولايات المتحدة والصين. وعلى القوى الإقليمية الجنوبية، بوجه خاص، مثل البرازيل، التي تتوفر على قاعدة مادية متواضعة نسبيًّا، أن تمنح محفِّزاتٍ مادية وأيديولوجية لأتباعها الإقليميين من أجل توليد ما يكفي من القوة التفاوضية اللازمة لبلوغ مرتبة صنع القوانين المتحكمة في النظام العالمي مستقبلاً.  
______________________
دانييل فليمس، حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هامبورغ، وكان مجال دراسته الأساسي في القانون الدولي وأميركا اللاتينية. عمل فليمس لفترة أستاذا بنفس الجامعة قبل أن يلتحق باحثا أول بالمعهد الألماني للدراسات الإقليمية والدولية ومقره مدينة هامبورغ GIGA)). وفليمس عضو مجموعة دراسات القوى الإقليمية بالمعهد ذاته. كما اشتغل فليمس باحثا زائرا في العديد من مراكز الدراسات الأجنبية وبالأخص في البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. أهم الحقول المعرفية الأساسية التي تحظى باهتمام فليمس هي العلاقات الدولية، والسياسة الخارجية، وسياسات الأمن والدفاع، والتعاون الإقليمي، أما التخصص المباشر فمتعلق بدراسات القوى الصاعدة عموما والبرازيل خصوصا. وله العديد من الدراسات والأبحاث والكتب المنشورة باللغتين الإنجليزية والألمانية. ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية خالد حجي وعاطف معتمد عبد الحميد.


(*) بريتون وودز (Bretton Woods‏) هو مؤتمر للنقد الدولي عُقد بالقرب من غابات بريتون بالولايات المتحدة عام 1944 بغرض وضع خطط وإستراتيجيات تهدف إلى تحقيق الاستقرار في النظام المالي والنقدي العالمي بعد الفوضى التي ألمت به جرّاء الحرب العالمية الثانية، والاتفاق على الآليات الكفيلة بتشجيع التجارة الدولية. وقد رفع المؤتمر توصياته إلى صندوق النقد والبنك الدوليين، وأصبحت هذه التوصيات بمثابة سياسات معتمدة لهاتين المؤسستين فيما بعد، لكن ونتيجة للأزمة المالية العالمية عام 2008 ارتفعت الأصوات المنادية بإعادة النظر في "نظام بريتون وودز" بأكمله. (المحرر)


المراجع:



Adebajo, A, ‘Nigeria: Africa's new gendarme?’, Security Dialogue, 31.2, 2000, pp. 185-99.
Bach, D C, ‘Nigeria: can a failing state be a regional power?’ Paper presented at the German Institute of Global and Area Studies, Hamburg, 11-12 December 2006.
Baldwin, D A, ‘Power and International Relations’, in W Carlsnaes, T Risse & B A Simmons (eds.), Handbook of International Relations. London: Sage, 2002, pp. 177-191.
Bergstresser, H & D M Tull, ‘Nigeria als regionale Ordnungsmacht in Westafrika’, SWP-Studie (February). Berlin: Stiftung Wissenschaft und Politik, 2008.
Bischoff, P H, ‘External and domestic sources of foreign policy ambiguity: South African foreign policy and the projection of pluralist middle power’, Politikon 30.1, 2003, pp. 183-201.
Bodemer, K, ‘Petropolitics - Politischer Diskurs, Geopolitik und ökonomisches Kalkül in den Beziehungen zwischen der "Bolivarischen Republik Venezuela" und den Vereinigten Staaten’,  Lateinamerika Analysen, 16.1, 2007, pp. 169-201.
Boeckh, A, ‘Vom „Quasi-Staat“ zur regionalen Führungsmacht und zurück’. Paper presented at the Conference “Führungsmächte in Lateinamerika”, 10-12 January 2003.
Bonn International Center for Conversion (BICC), Global disarmament, demilitarization, and demobilization. Baden-Baden: Nomos.   
Breslin, S et al. (ed.), New regionalism in the global political economy. London: Routledge, 2002.
Brooks, S G. & W C Wohlforth, ‘Hard times for soft balancing’, International Security, 30.1, 2005, pp. 72-108.
Burges, S W, ‘Consensual hegemony: theorizing Brazilian foreign policy after the cold war’, International Relations, 22.1, 2008, pp. 65-84.
Buzan, B & O Waever, Regions and powers: the structure of international security. Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
Cardozo de Da Silva, E, ‘Venezuela: ¿Potencia media en el Carivbe?, in S Andrés (ed.), Venezuela y las relaciones internacionales en la cuenca del Caribe. Caracas: Instituto Latinoamericano de Investigaciones Sociales, 1987, pp. 179-194.
Christie, R & D Dewitt, ‘Middle powers and regional security’ Paper presented at the Universidad de San Andrés, Buenos Aires, May 2006.
Cohen, S P, ‘India’s Hard Power. Conventional and nuclear build-up’ Paper presented at the German Institute of Global and Area Studies, Hamburg, 11-12 December 2006.
Cooper, A F, R A Higgott & K R Nossal (eds.), Relocating middle powers: Australia and Canada in a changing world order. Vancouver: UBC Press, 1993.
Cox, R, ‘Middlepowermanship: Japan and the future of the world order’, in R Cox & T Sinclair (eds.), Approaches to World Order. Cambridge: Cambridge University Press, 1996, pp. 241-275.
Economist, ‘Brazil: an economic superpower, and now oil too’, 17April 2008.
Engel, U, ‘Westafrikanischer Hegemon oder Scheinriese? Nigeria in der internationalen Politik’, GIGA Focus Afrika 7. Hamburg: German Institute of Global and Area Studies, 2007.
Flemes, D, ‘Brazil’s cooperative leadership in Southern Latin America’s security policies’, 2006, available at    http://www.dissertation.de/englisch/index.php3?active_document=
buch.php3&sprache=2&buch=4580

Flemes, D, ‘Conceptualising regional power in International Relations: lessons from the South African case’,  GIGA Working Paper  53. Hamburg: German Institute of Global and Area Studies, 2007a.
Flemes, D, ‘Emerging middle powers’ soft balancing strategy: state and perspectives of the IBSA dialogue forum’. GIGA Working Paper  57. Hamburg: German Institute of Global and Area Studies, 2007b. 
Flemes, D, ‘Brasilien – Regionalmacht mit globalen Ambitionen’. GIGA Focus Lateinamerika 6. Hamburg: German Institute of Global and Area Studies, 2007c.
Friedberg, A L, ‘Ripe for rivalry: prospects for peace in a multipolar Asia’, International Security, 18.3, 1993-94, pp. 5-33.
Gratius, S, ‘Lula’s foreign policy: global overstretch and regional understatement?’ Paper presented at the German Institute of Global and Area Studies, 11-12 December 2006.
Haass, R, ‘The Age of Nonpolarity: What Will Follow U.S. Dominance?’, Foreign Affairs, 87.3, 2008, pp. 44-56.
Habib, A & N Selinyane, ‘Constraining the unconstrained: civil society and South Africa's hegemonic obligations in Africa’, in W Carlsnæs & P Nel (eds.), In full flight - South African foreign policy after Apartheid. Midrand: Institute for Global Dialogue, 2006, pp. 175-194.
Hakim, P, ‘The reluctant partner’, Foreign Affairs, 83.1, 2004, pp. 114-123.
Harris, J, ‘Emerging third world powers: China, India and Brazil’, Race & Class 46.3, 2005, pp. 7-27.
Huntington, S, ‘The lonely superpower’, Foreign Affairs, 78.2, 1999, pp. 35-49.
Hurrell, A, ‘Some reflections on the role of intermediate powers in international institutions’, in A Hurrell et al. (ed.), Working Paper 244 “Paths to power: foreign policy strategies of intermediate states”. Washington, DC: Latin American Program, Woodrow Wilson International Center, 2000, pp. 1-11.
Hurrell, A, ‘Power, institutions, and the production of inequality’, in M Barnett & R Duvall, Power in global governance. Cambridge: Cambridge University Press, 2005, pp. 1-32.
Hurrell, A, ‘Hegemony, liberalism and global order: what space for would-be great powers?’, International Affairs 82.1, 2006, pp.1-19.
Hurrell, A, ‘One world? Many worlds? The place of regions in the study of international society’, International Affairs, 83.1, 2007, pp. 127-146.
Ikenberry, G J ‘The future of international leadership’, Political Science Quarterly, 111.3, 1996, pp. 375-399.
International Institute for Strategic Studies (IISS). The military balance. London: IISS, 2006.
Kelly, P, ‘Punching Above Our Weight’, Policy, 20.2, 2004, pp. 29-34.
Keohane, R, ‘Lilliputian’s dilemmas: small states in international politics’, International Organizations, 23.2, 1969, pp. 291-310.
Khan, S, ‘Nuclear weapons and the prolongation of the India-Pakistan rivalry’, in T V Paul (ed.), The India-Pakistan conflict: an enduring rivalry.  New York: Cambridge University Press, 2005, pp. 156-177.
Kindleberger, C P, ‘Dominance and leadership in the international economy: exploitation, public goods and free riders’, International Studies Quarterly, 25, 1981, pp. 242-254.
Kugler, J et al., ‘Integrating theory and policy: global implications of the war in Iraq’, International Studies Review, 6, 2004, pp. 163-179.
Kugler, J, ‘The Asian ascent: opportunity for peace or precondition for war?’ International Studies Perspectives, 7, 2006, 36-42.
Kugler, J & A F K Organski, ‘The power transition: a retrospective and prospective evaluation’, in M Midlarski (ed.),  Handbook of War Studies. Boston: Unwin Hyman, 1989, 171-194.
Mearsheimer, J J, The Tragedy of Great Power Politics, New York: Norton, 2001.
Miller, D, ‘South Africa and the IBSA Initiative: constraints and challenges’, Africa Insight, 35, 2005, pp. 52-57.
Nolte, D, ‘Macht und Machthierarchien in den internationalen Beziehungen: Ein Analysekonzept für die Forschung über regionale Führungsmächte’. GIGA Working Paper 29. Hamburg: German Institute of Global and Area Studies, 2006.
Nolte, D, ‘How to compare regional powers: analytical concepts and research topics’ Paper presented at the ECPR Joint Session of Workshops on "The Rise of (New) Regional Powers in Global and Regional Politics", Helsinki, 7-12 May 2007.
Nolte, D, ‘How to compare regional powers: analytical concepts and research topics’ Unpublished Manuscript, Hamburg, 2008.
Nye, J, Soft Power: The means to success in world politics. New York: Public Affairs, 2004.
Organski, A.F.K., World politics. New York: Alfred A. Knopf, 1958.
Pape, R A, ‘Soft balancing against the United States’, International Security, 30.1, 2005, pp. 7-45.
Paul, T V, ‘Soft balancing in the age of U.S. primacy’, International Security, 30.1, 2005, pp. 46-71.
Pedersen, T, ‘Cooperative hegemony: power, ideas and institutions in regional integration’, Review of International Studies, 28, 2002, pp. 677-696.
Rais,  R B, ‘Pakistan in the regional and global power structure’, Asian Survey, 31.4, 1991, pp. 378-392.   
Rajmaira, S, ‘Indo-Pakistani relations: reciprocity in long-term perspective’, International Studies Quarterly, 41.3, 1997, pp. 547-560. 
Schirm, S, ‘Führungsindikatoren und Erklärungsvariablen für die neue internationale Politik Brasiliens‘, Lateinamerika Analysen, 11, 2005, pp. 107-130.
Schirm, S, ‘Emerging power leadership in global governance: assessing the leader - Follower nexus for Brazil and Germany’, Paper presented at the ECPR Joint Session of Workshops on "The Rise of (New) Regional Powers in Global and Regional Politics", Helsinki, 7-12 May 2007.
Schoeman, M, ‘South Africa as an emerging middle power: 1994-2003’, in J Daniel, A Habib & R Southall (eds.), State of the nation: South Africa 2003-2004. Cape Town: HSRC Press, 2003, pp. 349-367.
Sitaraman, S, ‘Multilateral institutional order and intermediate strategies – The case of the Indian nuclear programme’, in A Hurrell et al. (ed.), Working Paper 244 “Paths to Power: Foreign Policy Strategies of Intermediate States”. Washington, D.C.: Latin American Program, Woodrow Wilson International Centre, 2000, pp. 118-151.
Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI), SIPRI Yearbook 2007: Armaments, Disarmament, and International Security. Oxford: Oxford University Press, 2006. 
Soares de Lima, M R, ‘Brasil en América Latina: Liderazgo regional en América del Sur’, Foreign Affairs En Espanol (October-November), 2007.    
Soares de Lima, M R & M Hirst, ‘Brazil as a intermediate state and regional power: action, choice and responsibilities’, International Affairs, 82.1, 2006, pp. 21-40.
Ubiraci Sennes, R., ‘Intermediate countries and the multilateral arenas: the case of Brazil in the GATT and UN Security Council between 1980 and 1995, in A Hurrell et al. (ed.), Working Paper 244 “Paths to Power: Foreign Policy Strategies of Intermediate States”. Washington, D.C.: Latin American Program, Woodrow Wilson International Centre, 2000, pp. 82-117.
United Nations Development Programme (UNDP), Human Development Report 2007. New York (NY): UNDP, 2007.
Valladão, A, ‘Brazil: a wavering leader’ Paper presented at the German Institute of Global and Area Studies’ Conference “Regional Powers in Asia, Africa, Latin America, the Near and Middle East”, 11-12 December 2006.
Wagner, C, ‘India and its neighbours: regional cooperation and beyond’ Paper presented at the German Institute of Global and Area Studies, Hamburg, 11-12 December 2006.
Walt, S, Origins of alliances. Ithaca, N.J.: Cornell University Press, 1987.
Wight, M, Power Politics. London: Royal Institute of International Affairs, 1978.
Wilson, D & R Purushothaman, ‘Dreaming with BRICs: The path to 2050’ Global Economics Paper 99. New York: Goldman Sachs, 2003.
Wohlforth, W C, ‘The stability of a unipolar world’, International Security, 24.1, 1999, pp. 5-41.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف