منذ عام 1979 وإيران تتصرف بمنطق الدولة التي تعي مصلحتها القومية، لا بمنطق الثورة التي تلتزم بمبدأ النقاء الأيديولوجى.
ولعل ما من شعار اختبرت مصداقيته مراراً و تكراراً قدر شعار "نصرة المستضعفين" الذي تضمنه دستور الثورة، وأكده الخطاب الرسمي للنظام على مدى ثلاثين عاماً، فقد اختبر هذا الشعار على سبيل المثال لا الحصر مع قمع حركة إخوان سوريا في مدينة حماة، وإبان حرب أرمينيا مع أذربيجان، وفى حرب يوليو/ تموز 2006 على لبنان، وأخيراً في العدوان الهمجي الإسرائيلي على غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008.
في الحالات المذكورة اختلف ما يربط بين إيران وبين الطرف المستضعف، فكان هو الدين بالأساس مع إخوان سوريا ومقاومة فلسطين، وكان هو الدين والطائفة مع حزب الله، وكان هو الدين والامتداد الديموغرافي العرِقي -وربما الطائفي أيضا- مع أذربيجان.
وفى هذه الحالات أيضاً اختلف شكل العلاقة بين إيران والطرف المستضعف، وتراوح ما بين التحالف الإستراتيجي كما هو الحال مع حزب الله، و بين الجوار الجغرافي كما هو الحال مع أرمينيا، وفيما بين الحدين كانت هناك أشكال من العلاقة، تختلف في طبيعتها، وتتباين من حيث جوهرها. لكن في أي من تلك الحالات لم تسمح إيران لا لمقومات ارتباطها بالطرف المستضعف، ولا لعلاقتها به مهما كان عمقها بأن تقودها إلى حيث لا تريد أن تذهب، فسواء كان موقفها هو التجاهل كما حدث مع الإخوان في سوريا، أو نصرة المستكبر على المستضعف كما فعلت مع الآذريين، أو الدعم المادي والمعنوي واللوجستي الذي قدمته لمقاومة لبنان وفلسطين -مع اختلاف بيًن في حجم هذا الدعم مابين مقاومة وأخرى-، فإن إيران تصرفت دائماً بمنطق الدولة القومية وإن تكن إسلامية.
تلك المقدمة تبدو ضرورية لأنها تضع سياسة إيران حيال غزة قبل العدوان الهمجى عليها وبعده في سياقها التاريخي، وتربطها بالنسق العام للتحرك الخارجي الإيراني منذ الثورة، و ذلك قبل أن تتعرض الورقة لنقاط ثلاث هي على التتابع:
أ- تحليل الأداء الإيراني أثناء العدوان على غزة.
ب- الأهداف التي ترمى إليها إيران من وراء ذلك.
ج- وأفق تحقيق تلك الأهداف على ضوء السيناريوهات المحتملة لتطور العدوان.
أ- تحليل الأداء الإيراني خلال العدوان
بشكل عام كان لإيران موقفها الرافض لحصار غزة ومعاقبة شعبها على انتخابه الحر نواباً خرجوا من بين صفوف حركة المقاومة الإسلامية حماس. ويمكن القول إن نمواً حثيثاً في علاقة إيران بحماس كان قد بدأ بشكل خاص بعد انتخابات عام 2006 التي برزت فيها الحركة كقوة قادرة على استثمار شعبيتها في سنوات الانتفاضتين الأولى والثانية في مجال العمل السياسي، علماً بأن تلك العلاقة عرفت توتراً على مدار التسعينيات مقارنة بعلاقة إيران مع حركة الجهاد الإسلامي مثلاً.
ويمثل احتفاظ إيران بروابط وثيقة مع حركتي الجهاد وحماس -على ما بينهما من اختلاف في زاوية النظر لقضية التسوية- أحد مظاهر مرونة الجمهورية الإسلامية في التعامل مع معطيات الواقع السياسي. وفى هذا الإطار دأب المسؤولون الإيرانيون على المطالبة برفع الحصار عن غزة، والتعبير عن تعاطفهم مع مظلومية الشعب الفلسطيني، والتأكيد على ثقتهم من أن الكيان الصهيوني إلى زوال وأن "النهج الحسيني" الذي يتمثله المقاومون أكانوا من الجهاد أو من حماس هو النهج المفضي إلى النصر.
وبحلول نهاية 2008 اتخذ الموقف الإيراني أبعاداً جديدة بارتفاع حدة النقد الرسمي للموقف المصري من قضية معبر رفح، وهو النقد الذي انعكس شعبياً في خروج مظاهرات اعتدت على مكتب رعاية المصالح المصرية في طهران، ولفتت الانتباه إلى تزامنها مع مظاهرات أخرى ضد الموقف المصري جابت شوارع العاصمتين دمشق وبيروت.
وعندما بدأ القصف الوحشي الإسرائيلي للقطاع في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008 نشطت السياسية الإيرانية وكثفت تحركها على محاور أربعة أساسية هي:
1. المحور الرمزي إذا جاز التعبير
2. المحور الدبلوماسي
3. المحور الإعلامي
4. والمحور الإنساني
1- المحور الرمزي
والمقصود بالمحور الرمزي هو مجموعة الأفعال التي أتاها مسؤولو النظام، والتي تنحصر وظيفتها في رفع الحرج عن الجمهورية الإسلامية إزاء موقف تم فيه استهداف واحدة من قوى المعسكر الذي بات يطلق عليه منذ صيف 2006 معسكر الممانعة، وذلك من دون أن تكون لتلك الأفعال جدوى من الناحية العملية. ومن قبيل ذلك فتح باب التطوع للكتائب الاستشهادية والإعلان عن أن مالا يقل عن 70.000 إيراني قد سجلوا أسماءهم فيها، علماً بأنه كان مفهوم سلفاً أن طريق تلك الكتائب لا يمر عبر الأراضي المصرية، كما أن لبنان كان قد أعلن منذ بداية العدوان رفض جره إلى مواجهة مع إسرائيل عن طريق إشعال جبهة الجنوب وتوريط حزب الله.
ومن ذلك أيضاً مشاركة المسؤولين الإيرانيين في المظاهرة الحاشدة التي نظمت في ساحة فلسطين في 29 ديسمبر/ كانون الأول، وهو اليوم الذي كان قد أعلنه آية الله على خامنئي يوم حداد رسمي في الجمهورية الإسلامية، بعد ما أفتى بأن كل من يقتل في مجازر غزة يعد شهيداً، وليس أكثر في دلالته الرمزية من فتوى.
وفى الإطار نفسه يدخل قرار الحكومة الإيرانية تشكيل لجنة قانونية لرفع قضية أمام محكمة خاصة لمحاكمة قادة الكيان الصهيوني على جرائمهم في غزة، بعد توثيقها من طرف أهالي القطاع، وهو قرار تنحصر أهميته في مزيد من تسليط الضوء على الفظائع الإسرائيلية من دون أن يقترن ذلك بمعاقبة دولة لم يعرف عنها احترام القانون الدولي على مدار ستين عاماً هي عمر الصراع العربي معها.
2- المحور الدبلوماسي
وذلك من خلال الزيارات المكوكية التى قام بها مسؤولو النظام وفى طليعتهم وزير الخارجية منوشهر متقى ، ورئيس مجلس الشورى على جواد لاريجاني ، ورئيس المجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي، ووزير الصناعة علي أكبر محرابيان للعديد من الدول العربية ، كسوريا و لبنان و الجزائر و دول أمريكا اللاتينية كفنزويلا و نيكارجوا و كوبا ، وذلك من أجل تكوين جبهة متماسكة تواجه العدوان وتطالب بوقفه.
يضاف إلى ذلك سلسلة الاتصالات التى أجراها الرئيس محمود أحمدي نجاد بدء من يوم العدوان نفسه على غزة والتى شملت بالأساس قيادات إسلامية فى إطار العمل على عقد قمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي (وهو الهدف ذاته الذى تحركت من أجله الترويكا البرلمانية الآسيوية المكونة من كلٍ من إيران وسوريا وأندونسيا)، كما شملت قيادتى حركتي الجهاد وحماس للتأكيد على معنيين اثنين:
• ضرورة مواصلة المقاومة والثقة فى نصر هذه المقاومة ، وهذا بخلاف المساعي التي بذلتها إيران من أجل حث مجلس الأمن على سرعة التدخل لوقف لعدوان.
• الدعوة لدور فاعل لجامعة الدول العربية التى وصفها نجاد فى أحد تصريحاته بأنها لا تؤدى واجبها القانوني.
3- المحور الإعلامي
وقد استثمرته إيران باقتدار تام من خلال إلهاب مشاعر المواطنين الإيرانيين ، وتحويل تلك المشاعر الساخطة فى اتجاه الولايات المتحدة بالأساس ، فضلاً عن بعض الدول العربية التي تقاعست عن نصرة أهالي القطاع ، وربما أعانت عليهم وشاركت إسرائيل في التخطيط لعدوانها.
ومن السهل في هذا الخصوص أن نحشد عشرات التصريحات التى انسابت من قمة النظام ممثلة فى المرشد إلى رئيس الجمهورية إلى مسؤولي الخارجية، والتي تراوحت في اتهامها ما يعرف بدول الاعتدال العربي، ما بين وصفها بالتقاعس واتهامها بالخيانة.
وكعادتها فإن صحيفة كيهان المعروفة بقربها من المرشد ، وبشكل خاص رئيس تحريرها حسين شريعتمدارى الذي تسبب في أكثر من أزمة بين إيران وجاراتها العربيات سيما البحرين، مثلا رأس حربة للهجوم الإعلامي الذي انصب على عموم الدول العربية و جامعتها، و تركز على مصر ، وبدرجة أقل على الأردن والسعودية.
وحول هذا المعنى خرجت افتتاحية كيهان فى 4 يناير/ كانون الثاني 2009 بمقال عنوانه "لماذا الخيانة؟"، ألمح إلى ما نسب لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت من تنسيق دولته مع كلٍ من مصر والسعودية والأردن من أجل ضرب حماس، فيما اعتبرت صحيفة جمهوري إسلامي أن النظام المصري هو أول من قصم ظهر العرب بتوقيع السادات معاهدة كامب ديفيد.
وساعد على تحويل الأنظار بعيداً عن رفض إيران التورط عسكرياً فى الحرب إعمالاً لشعار نصرة المستضعفين أمران أساسيان:
الأمر الأول: ضعف الموقف العربي عموماً، والمصري خصوصاً بعدما فشل حتى الساعة في التمييز بين حركة حماس وعموم الفلسطينيين وبين الخصومة مع الإخوان المسلمين وأوليات الأمن القومي المصري والعربي.
الأمر الثاني: هو تهافت الآلة الدعائية والإعلامية المصرية، إذ ما كان أسهل من تسجيل متناقضات مواقف أطراف عربية وإقليمية من بينها إيران التي تعاملت بمصلحية شديدة مع عدوان غزة ووظفته لصالحها.
وكمثال على ذلك فإن قائد الحرس الثورى باقر زاده صرح بعد العدوان البرى على غزة بأن "مقاومة سكان غزة وطبيعة الحرب لا تقتضى مساعدة عسكرية من بلدان أخرى "وأضاف" يبدو أن لديهم الأسلحة الضرورية للدفاع عن مدينة غزة والقطاع".
ومؤدى التصريح أن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن ما بحوزة الغزيين من سلاح يكفى لتأمينهم ، ويذكر أنه بعد أيام قليلة من تصريح باقر زادة، دعا أحد قادة حماس الدول العربية والإسلامية إلى إقامة جسر لتزويد الحركة بالسلاح فى إشارة إلى عدم كفايته. ومثال آخر نأخذه أيضا من دعوة قائد الحرس لقطع الصادرات النفطية عن مؤيدى إسرائيل، و ذلك من دون أن تبادر إيران نفسها بأول خطوة على طريق إنفاذ الحظر.
4- المحور الإنساني
والمحور الأخير الذي كثفت إيران تحركها فيه هو المحور الإنساني أو الإغاثي، وذلك من خلال إرسال المساعدات لأهالي القطاع جواً و بحراً، وعرض إقامة مستشفى ميداني في رفح المصرية لعلاج جرحى العدوان الهمجى الإسرائيلي، والإلحاح على مصر للسماح بوصول الطواقم الطبية وقوافل المساعدة والإغاثة إلى الفلسطينيين عبر معبر رفح. هذا فضلاً عن إطلاق حملة لجمع تبرعات لصالح أهالي غزة واستنفار جهود العديد من مؤسسات المجتمع المدنى بهدف الانخراط في تنظيم الحملة وتمويلها .
وفى الأخير فإن الأداء الإيراني خلال أول أسبوعين من العدوان على غزة يمكن وصفه بأنه تمكن عبر استخدام عدد محدود من الأدوات والأساليب من تحقيق حزمة أهداف منها الداخلي ومنها الخارجي، و هذا ما ينقلنا إلى النقطة التالية.
ب- أهداف إيران فى غزة
إيران صاحبة مصلحة فى ألا تكسر حركة المقاومة الإسلامية في غزة، فالجمهورية الإسلامية تعلم علم اليقين أن عرض القوة المفرطة الذي تمارسه الآلة العسكرية الإسرائيلية في مواجهة بضعة آلاف من المقاومين الفلسطينيين ومثلهم أو أقل من الصواريخ، هو عرض موجه إليها بالأساس وبدرجة أقل إلى سوريا.
وتلك ليست المرة الأولى التي تتبادل فيها الدولتان الرسائل، فحرب يوليو/ تموز 2006 كانت محملة بالرسائل المتبادلة سواء في تطوراتها العسكرية أو في نتائجها النهائية.
وإذا كانت إسرائيل لم تخفِ عداءها للجمهورية الإسلامية ونظامها السياسي خصوصاً بعد اعتلاء محمود أحمدي نجاد السلطة و حديثه عن حتمية زوال الكيان الصهيوني وتشكيكه في المحرقة اليهودية، وإذا كانت إسرائيل لا تحتمل إيران النووية بعد باكستان النووية وتقود الحملة الدولية من أجل إجبار إيران على وقف تخصيب اليورانيوم وتعتبر نفسها الطرف الأساسي المعني بتلك القضية، فإن تأجيل قرار توجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية الإيرانية لا هو مردود إلى تحسب إسرائيل من رد فعل المجتمع الدولي ولا هو يعود إلى التزامها بمبادئ القانون الدولي، لكنه يعود إلى تقدير دقيق لحسابات المكسب والخسارة. فلإيران مواطئ أقدام في ساحات قادرة على أن تصل لإسرائيل في العمق، وقد وقع اختبار قدرة صواريخها على إدراك حيفا وما بعد حيفا وما بعد بعد حيفا في صيف 2006 عندما هوجم جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية.
وعليه إن بقي شركاء إيران في محور الممانعة (سوريا
، حزب الل، حماس، الجهاد) على حالهم من القدرة على الصمود و المقاومة فسيظل القرار الإسرائيلي بالحرب على إيران مؤجلا.
وإذا كانت إسرائيل قد فشلت قبل أكثر من عامين في ثقب هذا المحور من جهة الشمال حيث الدعم الإيراني أكثف، والعلاقة الإيرانية بحركة المقاومة أوطد، فإن عدوان 2008 على غزة يمثل تجديد المحاولة مع الوعي بالاختلاف الكبير في موازين القوى والملابسات والسياق بين الحالتين، لذلك قيل كلام كثير في تبرير وحشية العدوان على غزة، أبرزه عدم استطاعة الجيش الإسرائيلي تحمل هزيمتين في عامين، ومن هنا أهمية معركة غزة لإيران كما هي لإسرائيل، تلك واحدة.
والأخرى أن الإدارة الأمريكية الجديدة لباراك أوباما لم تخفِ تفضيلها بديل التفاوض في التعامل مع الملف النووي الإيراني على البديل العسكرى الذى تستصوبه إدارة الرئيس جورج بوش، وتحتاج إيران في خوض تلك المفاوضات لأن تراكم أكبر عدد من أوراق التأثير، ولاشك أن إضعاف الدور الإيراني على الساحة الفلسطينية من خلال إضعاف حماس، أو تغيير الوضع السياسي فى غزة بحسب المسؤولين الإسرائيليين، لا يصب في هذا الاتجاه.
أكثر من ذلك يمكن القول إنه إذا كان أحد أسباب تحريك المفاوضات الإسرائيلية على المسار السوري هو إضعاف حاجة سوريا لإيران، فالحرب على غزة وصمود حماس الأسطوري فيها قد أحبط هذا المسعى من زاويتين:
الأولى: التجميد "ولو المؤقت" للمفاوضات السورية –الإسرائيلية.
الثانية: التأثير سلباً على العلاقات التركية –الإسرائيلية نفسها، علماً بأن تركيا تضطلع بدور الوسيط بين سوريا وإسرائيل. وفى تجسيد لمثل هذا التأثير السلبي جاء تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، إنه إذا كان عليه أن يختار في الحرب الدائرة في قطاع غزة ما بين إسرائيل والفلسطينيين فإنه سوف يختار أن يقف مع الفلسطينيين.
الثالثة: إن محافظي إيران يستثمرون حرب غزة لتعزيز موقعهم السياسي والانتخابي، وهم على أبواب الانتخابات الرئاسية صيف 2009، فكما سبق القول فإن هؤلاء المحافظين يحسنون توظيف العدوان على غزة من أجل تعبئة الجماهير من خلفهم وضد الولايات المتحدة وإسرائيل ومن لف لفهما، وهى نقطة بالغة التأثير على حملتهم الانتخابية. ليس لأن تلك الحملات تركز على القضايا الخارجية فقضايا الخارج تتراجع في الانتخابات، لكن لأن قضية الاستكبار الصهيوني والأمريكي يمكن أن تحرف النظر عن المصاعب الاقتصادية والمشكلات المعيشية اليومية التي يعاني منها المواطن الإيراني البسيط، وهى مشكلات كانت ملحة في وقت بلغ فيه سعر برميل النفط 150 دولاراً لكنها مع انخفاض السعر إلى ما دون الـ 50 دولاراً للبرميل صارت أكثر إلحاحاً منها في أي وقت مضى.
وعلى الجملة يمكن القول إن صمود حماس كفكرة وكاتجاه سياسي قبل أن تكون حركة مسلحة يخدم محتوى مشروع "الشرق الأوسط" الذي تتبناه إيران والذي يقف على طرف نقيض مع المشروع الأمريكي – الإسرائيلي المناظر.
ج- الأفق المتاح أمام الأهداف الإيرانية
يختلف الأفق المتاح أمام أهداف إيران من العدوان الإسرائيلي على غزة بقدر ما تختلف سيناريوهات المستقبل وتتباين. إذ يمكن الحديث في هذا الخصوص عن ثلاثة سيناريوهات أساسية لاحتمالات التطور في المستقبل القريب في قطاع غزة، وهي:
1. سيناريو الفشل الإسرائيلي
2. سيناريو احتلال جزء من قطاع غزة
3. سيناريو عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العدوان.
1- سيناريو الفشل
يمثل سيناريو الفشل الإسرائيلي السيناريو الأمثل من وجهة نظر إيران لأنه يقضى من الناحية العملية على أي تفكير في المدى القصير على الأقل في تنفيذ عمل عسكري ضد إيران.
ويلاحظ هنا أنه بالقياس إلى الخلل الفادح في توازن القوة بين أحد أقوى الجيوش على مستوى العالم وحركة مقاومة محدودة العدد والعتاد ، فإن فشل إسرائيل المشار إليه لا يقصد به إلحاق هزيمة عسكرية فادحة بها ، لكن يقصد به عجزها عن تحقيق الهدفين اللذين سعت لتحقيقهما ، تماماً كما كان الحال فى صيف 2006، مع اختلاف في أن الهدفين في هذه المرة هما هدف وقف إطلاق الصواريخ وتقويض حكم حماس في غزة.
بقول آخر، فإنه بقدر ما تقف الآليات الحربية الإسرائيلية على مشارف مدينة غزة عاجزة عن اختراقها للوصول إلى مواقع إطلاق الصواريخ وتدميرها، بقدر ما يتأكد نصر المقاومة الإسلامية. هذا علماً بأن مثل هذا الوضع الساكن أو الراكد يصعب أن يستمر حيث تبدأ عمليات المراجعة والتقييم، ويأخذ المزاج الإسرائيلي في التغير، وتنطلق جهود الوساطة الدولية بمختلف أطرافها ومستوياتها ، إما لإدخال القرار 1860 حيز التنفيذ، وإما لإدخال تعديلات طفيفة عليه.
ويفيد استقراء تطورات النموذج اللبناني بعد حرب صيف 2006 كثيراً في تحليل مستقبل غزة في ظل سيناريو الفشل الإسرائيلي، حيث يتعزز الموقف السياسي لحركة حماس وتتأكد شرعيتها بإضافة البعد المقاوم أو العسكري المتحصل من الحرب، إلى البعد الانتخابي الناجم عن انتخابات عام 2006 إلى تلك الشرعية. وقد يرتبط هذا السيناريو بتطورات أعمق خصوصاً مع انتهاء الولاية الفعلية لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية.
2- سيناريو إعادة احتلال أجزاء من القطاع
ويمثل سيناريو إعادة احتلال بعض أجزاء من قطاع غزة ، وبالذات الشريط الحدودي مع مصر الذي تزعم إسرائيل انتشار أنفاق تهريب السلاح على امتداده ، ويمثل السيناريو الأسوأ بالنسبة لإيران.
وذلك أن مثل هذا السيناريو لا يتحقق إلا في ظل تقويض معظم البنية العسكرية لحركة حماس لا قدر الله ، و بالتالي فإن نجاحه يفترض أيضاً إضعاف الحركة سياسيا ً، كما أن نجاحه يعيد للحل العسكري أرجحيته في مواجهة الأزمات الإسرائيلية مع القوى المعروفة بقوى الممانعة ومنها سوريا وإيران. وربما تمثل سوريا هدفاً أيسر لإسرائيل ، على الأقل في المرحلة الأولى لإعادة إحياء الحل العسكري ، كما أن تجربته في سوريا تسمح باختبار جدية التزام إيران بالمعاهدة العسكرية التي توجب على طرفيها دفاع أحدهما عن الآخر في حال تعرض للعدوان.
وهكذا يغدو هذا السيناريو كارثياً من منظور الأمن القومي العربي فضلاً عن الأمن القومي الإيراني ، وذلك مع التسليم التام بأن فظائع العدوان الأخير غرست بذور المقاومة في كل بيت من بيوت غزة ، وأنضجت مبكراً وعي الصغار بمعنى الاحتلال و قبحه ، بما يجعل إعادة إخضاع بعض أجزاء القطاع للسيادة الإسرائيلية - إن هي حدثت لا قدر الله - مسألة تتعلق بالأمد القصير لا أكثر.
3- سيناريو استعادة الوضع السابق
أما سيناريو عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العدوان فهو بالنسبة لإيران حل سيئ وإن لم يكن هو الأسوأ لأنها تعايشت معه واستثمرته ولعبت على التناقضات فى مواقف القوى الفلسطينية في الضفة و غزة ، لكن يبقى أن هذا السيناريو هو الأقل حظاً في فرص تحققه بالنظر إلى هول ما نجم عن العدوان من خسائر في الأرواح و البنى التحتية على نحو يجعل من المستبعد أن ينحاز أهالي غزة لمعسكر الاعتدال ورموزه الفلسطينية التي لم تر في كل ما حاق بغزة من دمار إلا خطأ من حماس ، و التي ربطت عدوان 2008 بقرار إنهاء التهدئة من طرف واحد تماما ً، كما سبق أن تم الربط بين أسر الجنديين الإسرائيليين و بين الحرب على لبنان في 2006.
________________
أستاذة جامعية وكاتبة متخصصة في الشأن الإيراني