العلاقات المصرية الأميركية: كيف يصحح الخلل ويتحقق التوازن؟

بعد سنوات ثمان من التدهور غير المسبوق أثناء فترة حكم بوش، شهدت العلاقات المصرية الأميركية تحسنا ملحوظا منذ تولي أوباما الرئاسة. لكن ذلك التحسن الذى يقاس بالمقارنة بسنوات سابقة...
c15c65bc45fb4ad7aa1e4d9148f259ca_18.jpg
(الجزيرة )

بعد سنوات ثمان من التدهور غير المسبوق أثناء فترة حكم بوش، شهدت العلاقات المصرية الأميركية تحسنا ملحوظا منذ تولي أوباما الرئاسة. لكن ذلك التحسن الذى يقاس بالمقارنة بسنوات سابقة لا يعني بالضرورة أن تلك العلاقات جيدة أو تحقق المصلحة المصرية؛ فالعلاقات المصرية الأميركية انطوت منذ البداية على خلل جوهري لا يمكن دون علاجه إحداث توازن في تلك العلاقة يحقق مصالح البلدين ويرعى المصالح الحيوية المصرية على وجه التحديد.

فالعلاقات المصرية الأميركية شهدت تحولا نوعيا بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979. وقد صارت تلك المعاهدة هى نقطة البدء لفهم العلاقة الحالية بين مصر وأميركا، والتى صار يطلق عليها أوصاف من نوع العلاقات "الخاصة" و"الإستراتيجية".. إلخ. ولعل السمة الأهم التى اتسمت بها العلاقات المصرية الأميركية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن هي أنها لم تكن أبدا علاقة ثنائية وإنما ظلت منذ اللحظة الأولى وحتى الآن علاقة ثلاثية؛ فإسرائيل طرف رئيسي في تلك العلاقة، لا يغيب عنها أبدا.

معنى ذلك أن العلاقة المصرية الأميركية لم تكن في أي وقت علاقة ثنائية بين دولتين كل المطلوب من كل منهما هو فهم المصالح المشتركة والعمل على تنميتها وصيانتها بشكل ثنائي أحيانا وفردي أحيانا أخرى عبر مراعاة الطرف الآخر؛ فلأن هناك طرفا ثالثا، فقد كان يتعين رعاية مصالحه هو الآخر. ولأن أميركا هى التى لها في الحقيقة علاقة "خاصة" و"إستراتيجية" مع إسرائيل، فقد صار على مصر في علاقتها بأميركا أن تراعي ليس فقط المصالح الأميركية وإنما كان عليها كجزء محوري في بناء العلاقة مع أميركا أن ترعى أيضا مصالح إسرائيل، صاحبة المصلحة الأولى في تهميش دور مصر أو على الأقل تحييدها في المنطقة.

ومن هنا، فإنه مهما قيل عن تحسن العلاقات المصرية الأميركية في لحظة من اللحظات، فإن تلك العلاقات انطوت على تناقض داخلي دائم. فبينما يُفترَض نظريا أن يكون من مصلحة أميركا ألا تكون مصر ضعيفة حتى تستفيد أميركا من دورها ونفوذها الإقليمى، فإن وجود طرف ثالث –هو إسرائيل- كان معناه في أحيان كثيرة أن تكون المصلحة هي تحجيم دور مصر وليس العكس. وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الإضرار بمصالح مصر بل وأحيانا بمصالح أميركا نفسها كما بدأت الأخيرة تدرك مؤخرا.

وكما سوف يتضح من هذه الدراسة فإن كل مسارات العلاقات المصرية الأميركية لم تكن أبدا ملك الطرفين الأميركي والمصري فقط، وإنما ظلت دوما رهنا لرغبات إسرائيل ومصالحها، بل صارت إسرائيل قادرة على توتير علاقة أميركا بمصر أو تقويتها حسب مصلحتها في كل فترة زمنية. بعبارة أخرى، فإن تحسن العلاقة مع أميركا ليس في الحقيقة في يد مصر وأميركا وإنما في يد مصر من جانب وأميركا وإسرائيل معا من الجانب الآخر.

وسوف تنقسم هذه الدراسة إلى أجزاء ثلاثة تتناول الأبعاد الاقتصادية والعسكرية والسياسية للعلاقات المصرية الأميركية، وتنتهى بخاتمة تشرح نتائج الدراسة.

أولا: العلاقات الاقتصادية

دشنت معاهدة كامب ديفيد ما صار يُعرَف "بالدعم الأميركي المالي للسلام"، وهو ما تمثل في معونات اقتصادية وعسكرية للطرفين الموقعين على الاتفاق. وقتها صدر في 1979 قانون الاعتمادات المالية الأميركي الذى وضع الأسس التى يتم بناء عليها تقديم تلك المساعدات لمصر وإسرائيل. ومنذ اللحظة الأولى ومن خلال هذا القانون -وكما ظل الحال لعقود طويلة لاحقة- كان حجم المعونات الأميركية المقدمة لإسرائيل أعلى من تلك المقدمة لمصر بنسبة 2:3.

وبموجب ذلك، فقد ظل حجم المعونة الاقتصادية السنوية المقدمة لمصر حوالى 850 مليون دولار، وذلك منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد وحتى عام 1998؛ ففي ذلك العام، وقعت إسرائيل مع الولايات المتحدة اتفاقا يقضي بالعمل بشكل تدريجي على تخفيض المعونة الاقتصادية لإسرائيل في غضون عشر سنوات حتى تنتهي تماما، وذلك بالتزامن مع زيادة المعونة العسكرية بشكل تدريجي أيضا خلال المدة نفسها.

ولأن المعونات المقدمة لمصر كان قد تم ربطها منذ اللحظة الأولى بالمعونات لإسرائيل، بل كان هناك حرص شديد على الاحتفاظ بنسبة 2:3 آنفة الذكر؛ فقد تم البدء منذ عام 1998 أيضا في تخفيض المعونة الاقتصادية لمصر على نحو تدريجي هى الأخرى، بينما لم تحصل مصر على زيادة في معونتها العسكرية كما حدث مع إسرائيل. بعبارة أخرى، اتفقت أميركا مع إسرائيل بناء على مطلب إسرائيلى على تخفيض المعونة الاقتصادية وزيادة المعونة العسكرية تدريجيا خلال مدة عشر سنوات فتم بالتبعية تخفيض المعونة الاقتصادية لمصر لتظل النسبة 2:3، بينما لم تتم زيادة المعونة العسكرية لمصر للاحتفاظ بالنسبة نفسها!

وقد ظلت المعونة الاقتصادية لمصر تنخفض بواقع 40 مليون دولار كل عام إلى أن وصلت إلى 411 مليون دولار في العام المالى 2008. لكن إدارة بوش قامت بتخفيض المعونة 200 مليون إضافية دون إبداء الأسباب؛ فهي حين تقدمت كأي إدارة بطلب الاعتمادات المالية للكونجرس للعام المالى 2009، طلبت فيه لمصر معونة اقتصادية مقدارها 250 مليون دولار وهو ما وافق عليه الكونجرس. وقد طلبت إدارة أوباما للعام المالى 2010 حجم المعونات الاقتصادية نفسه أي 250 مليون دولار.

ونظرا للتخفيض التدريجي للمعونة الاقتصادية فضلا عن أن 50 مليون دولارا كان يتم استقطاعها من تلك المعونة في عهد بوش لتوجه مباشرة لمنظمات المجتمع المدنى المصرى ، فقد سعت الحكومة المصرية لإحداث تحول في العلاقة الاقتصادية مع أميركا على محورين: الأول: هو تحويل المعونة إلى صندوق وقفي، والثانى: هو تحويل العلاقة الاقتصادية من علاقة معونة إلى التركيز الأكبر على التجارة والاستثمار.

أما فيما يتعلق بالمعونة، فقد طالبت مصر بإنشاء صندوق تشارك فيه الولايات المتحدة بمبلغ ما، على أن تضع الحكومة المصرية في ذلك الصندوق مبلغا مماثلا ويتم استخدام أموال الصندوق في تمويل مشروعات تنموية مشتركة. وتحويل المعونة إلى صندوق وقفي في صالح الجانب المصرى بلا شك لأنه من ناحية يعطي للعلاقة الاقتصادية شكلا مختلفا، ومن ناحية أخرى يخلص مصر من مشروطية المعونات، ويعفيها من خوض عملية الاعتمادات السنوية والتي يتم خلالها إعادة فحص العلاقة مع مصر في الكونجرس قبل الموافقة على تخصيص المبالغ المقترحة. إلا أن المطلب المصرى قوبل بالرفض من جانب الكونجرس وإدارة بوش. لكن تحولا محدودا حدث مؤخرا حين ضم مشروع قانون اعتمادات العام المالى 2010 في مجلس الشيوخ فقرة تقضي بإنشاء مثل ذلك الصندوق، وإن لم يتم الموافقة على ذلك في نهاية الأمر.

أما على مستوى التجارة والاستثمار، فقد سعت مصر لعقد اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة. وقد تم فعلا في عام 1999 توقيع اتفاق إطاري للتجارة والاستثمارTrade and Investment Framework Agreement (TIFA) كخطوة أولى. إلا أن التوتر في العلاقات المصرية الأميركية في عهد بوش حال دون توقيع ذلك الاتفاق الذى وقَّعت أميركا على مثله مع الأردن والبحرين والمغرب (وهى كانت قد وقعته مع إسرائيل فيما سبق بطبيعة الحال). ورغم تحسن العلاقات في عهد أوباما إلا أن سيطرة الحزب الديمقراطي على الرئاسة والكونجرس تجعل من الصعوبة بمكان التوصل لمثل ذلك الاتفاق. فمن ناحية يظل الديمقراطيون هم الأكثر تحفظا إزاء اتفاقات التجارة الحرة عموما، ومن ناحية أخرى، فإن الأوضاع الاقتصادية الراهنة في الولايات المتحدة من شأنها أن تدفع نحو المزيد من تشدد الديمقراطيين إزاء مثل تلك الاتفاقات. أما فيما يتعلق بالاستثمارات الأميركية في مصر فقد بلغت وفق آخر التقديرات حوالى 7,5 مليار دولار أغلبها في مجال البترول والغاز.

والحقيقة أن أميركا هي الشريك التجاري الأول- كدولة- لمصر بينما تأتي مصر في المرتبة الثانية والخمسين بين شركاء أميركا التجاريين. لكن لأن أميركا هي الشريك التجاري الأول لمصر، بما يعني حاجة المصدِّرين المصريين للسوق الأميركية فقد نجحت الولايات المتحدة في أن تفتح الباب لإسرائيل للتطبيع مع الصناعة المصرية عبر ما صار يُعرَف باتفاقية الكويز.

ففي عام 1996، كان الكونجرس قد أنشأ ما يُسمَّى بالمناطق الصناعية المؤهلة Qualified Industrial Zones (QIZ) ، وجوهر الفكرة هو تشجيع التعاون بين الدول العربية وإسرائيل عبر منح البضائع التي تُنْتَج في تلك المناطق الصناعية المنشأة في دول عربية إعفاء جمركيا لدى دخولها السوق الأميركية، بشرط أن يدخل في صناعاتها مكونات إسرائيلية. وبناء على ذلك عقدت مصر مع إسرائيل في 2004 اتفاقا لإنشاء تلك المناطق في مصر، ليتم التعامل مع منتجاتها وفق قرار الكونجرس وفي إطار اتفاقية التجارة الحرة الأميركية الإسرائيلية. بعبارة أخرى، فإن مصر التى لم توقع اتفاقا للتجارة الحرة مع أميركا صارت بضائعها تدخل السوق الأميركية وفق اتفاق التجارة الحرة بين إسرائيل وأميركا وبشرط وجود مكونات إسرائيل في المنتج المصدَّر. وقد تم التوسع في إنشاء تلك المناطق في عام 2007، ثم مرة أخرى عام 2009 بموجب اتفاق عقدته مصر مع الولايات المتحدة الأميركية عُرِف باسم "الخطة المصرية الأميركية للشراكة الإستراتيجية". أما البضائع التى تنتج في تلك المناطق الصناعية في مصر فهي في غالبيتها العظمى من المنسوجات وهي تصدر لأميركا معفاة من الجمارك بشرط أن يضم إنتاجها مدخلات إسرائيلية بنسبة 10.5%، بينما ينص اتفاق الكويز الأردني على مدخل إسرائيلى بنسبة 8% فقط.

والحقيقة أن قطاع المنسوجات المصري قد وجد نفسه محاصرا قبل إبرام تلك الاتفاقية حتى إن المصدرين المصريين بعد أن عارضوا الاتفاق بشدة أول الأمر صاروا من أكثر المؤيدين له؛ فقد جاء الاتفاق في وقت كانت فيه تلك الصناعة تعاني من أزمة حقيقية في التصدير؛ فحتى عام 2005، كان المصدرون المصريون يستفيدون من نظام الحصص الدولى الذى كان قد استثنى صناعة النسيج والملابس العالمية من تحرير التجارة وفق الجات. وذلك لأن تلك الحصص المفروضة على عمالقة الصناعة كالهند والصين كانت تحمي بدرجة معقولة نصيب مصر وغيرها من الدول في الأسواق. لكن إنشاء منظمة التجارة العالمية في 1995 ثم توقيع اتفاق المنسوجات والملابس في العام نفسه والذي كان يقضي بالتخلص التدريجي من نظام الحصص في غضون عشر سنوات (حتى انتهى العمل به فعلا في 2005) قد فتح الباب واسعا للمنافسة الشرسة. وفضلا عن ذلك، فإن الولايات المتحدة كانت قد أصدرت في عام 2000 قانون النمو والفرص لأفريقيا، المعروف اختصارا باسم أجوا AGOA، وهو القانون الذى أعطت بمقتضاه معاملة تفضيلية في الدخول للسوق الأميركية للكثير من الدول الأفريقية المنتجة للمنسوجات. ولأن مصر لم تنجح في توقيع اتفاق للتجارة الحرة مع أميركا من ناحية فضلا عن أن السوق الأميركية ظلت هي سوق التصدير رقم واحد بالنسبة للمنسوجات والملابس المصرية من ناحية أخرى، فإن المصدرين المصريين الذين كانت صناعتهم في وضع مأزوم أصلا وجدوا في الكويز-بعد أن عارضوها في البداية- الوسيلة المتاحة للبقاء في المنافسة فقبلوها بل دافعوا عنها بمنطق براجماتي . ومن الواضح أن العلاقة الثلاثية استُخدِمت هنا بذكاء. فما تحصل عليه إسرائيل تجاريا واقتصاديا من وراء ذلك التعاون لا يمثل عائدا كبيرا؛ فالمصلحة الحقيقة لم تكن العائد الاقتصادى وانما كانت التطبيع الإسرائيلى مع قطاع من أهم قطاعات الصناعة المصرية.

ثانيا: العلاقات العسكرية

بعد كامب ديفيد مباشرة وقَّعت الولايات المتحدة الأميركية مذكرتي تفاهم منفصلتين مع كل من مصر وإسرائيل. وفي المذكرة الإسرائيلية تعهدت الولايات المتحدة بأن "تأخذ في اعتبارها وتستجيب لمتطلبات المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل" أما في المذكرة التى وقعتها مع مصر فقد كانت مختلفة من حيث نوع التعهدات ومداها؛ فهى نصت على أن الولايات المتحدة "مستعدة للدخول في علاقة أمنية موسعة مع مصر فيما يتعلق ببيع المعدات والخدمات العسكرية، وتمويل جزء من تلك المبيعات على الأقل" .  ثم بدأت مصر بموجب قانون اعتمادات 1979 الذي سبقت الإشارة إليه في تلقي معونة عسكرية سنوية مقدارها 1,3 مليار دولار تنقسم إلى أنواع ثلاثة، هي: بيع الأسلحة، وتطوير أسلحة موجودة، وعقود صيانة وخدمات.

وقد ظلت الولايات المتحدة تنظر للمعونة العسكرية لمصر باعتبارها ذات أهمية خاصة للمصالح الأميركية؛ فتلك المعونة هي المرتكز الذى يقوم عليه التعاون العسكري المباشر بين البلدين. وتحصل الولايات المتحدة على عوائد مباشرة من ذلك التعاون؛ فالبحرية الأميركية تتلقى معاملة استثنائية عند مرور سفنها الحربية في قناة السويس حيث تُعطَى الأولوية في المرور الذى قد يستغرق دون ذلك أسابيع طويلة كما هو الحال مع السفن الحربية لدول أخرى. كما تمنح مصر للولايات المتحدة حقوق المرور الجوي أيضا. هذا كله إلى جانب العائد المادى الضخم من وراء المعونة؛ إذ يتحتم على مصر أن تحصل على المعدات العسكرية والخدمات والتدريب والصيانة من الولايات المتحدة نفسها.

ورغم كل ذلك، فإن تلك المعونة العسكرية التي تجد فيها الولايات المتحدة مصلحة مباشرة لها قد تأثرت بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة بموجب توتر العلاقات المصرية الأميركية وهو التوتر الذي لعبت فيه إسرائيل الدور المحوري في صنعه. بل كان توترا ناجما عن عدم رضا إسرائيل عن الأداء المصري كما سوف يتضح حالا. فرغم كل ما يقال عن دور مسألة الديمقراطية كمصدر للتوتر في العلاقات المصرية في عهد بوش إلا أن السبب الرئيسي لذلك التوتر كان الدور الذى تلعبه إسرائيل في واشنطن بخصوص موضوع الأنفاق منذ أن رحلت إسرائيل عن غزة في 2005.

والأنفاق التي تربط بين مصر وقطاع غزة ليست ظاهرة جديدة؛ فهي موجودة منذ عقود طويلة. بل كانت إسرائيل على علم بوجودها منذ البداية. إلا أنها لم تبدأ في اعتبارها خطرا عليها إلا منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987. ولم تبدأ فعليا في تركيز جهودها على القضاء عليها إلا منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005) معتبرة أنها أسهمت في المعركة ضد إسرائيل. غير أن تعامل إسرائيل مع تلك الأنفاق كان عسكريا بالدرجة الأولى؛ فعلى سبيل المثال، كان أحد أهم أهداف عملية قوس قزح الإسرائيلية في 2004 هو القضاء على أكبر كم ممكن من تلك الأنفاق. ولطالما استخدمت إسرائيل البلدوزرات لهدم المبانى والبيوت التى كانت تشك في أن الأنفاق تمر تحتها.

ثم انسحبت إسرائيل أحاديا من غزة، وهو الانسحاب الذى كان هدفه كما قال الإسرائيليون أنفسهم الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية . وقتها وقعت إسرائيل مذكرتي تفاهم إحداهما مع مصر والأخرى مع السلطة الوطنية والاتحاد الأوربى. أما المذكرة الأولى التي وقعتها مع مصر، فقد تمت بوساطة أميركية عام 2005 وحددت بشكل تفصيلى عدد الجنود المصريين على الحدود مع غزة وطبيعتهم بل ونوع الأسلحة والمعدات التى يستخدمونها. فقد نص الاتفاق على أن يتواجد على طول الحدود مع غزة 750 جنديا فقط من حرس الحدود المصرى، ويستخدمون أسلحة خفيفة وسيارات الجيب بينما تم حظر المدرعات.

أما الاتفاق الثانى فهو ما سُمي باتفاق العبور والحركة، وبمقتضاه ظل لإسرائيل رغم عدم وجودها ماديا على الحدود الحق في مراقبة ما يجرى فيها عبر دوائر تليفزيونية مغلقة. بل واحتفظت إسرائيل بحقها في فتح  وإغلاق معبر رفح وفق منظورها الأمني.

غير أن فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 وما تلاه من قطع المعونات الدولية عن القطاع أدى إلى تصاعد أهمية الأنفاق كشريان حياة لغزة مما زاد من إصرار إسرائيل على الدفع بمصر لاتخاذ خطوات ناجزة بشأن تلك الأنفاق. وقد ازدادت الضغوط الإسرائيلية بعد انفراد حماس بغزة والسلطة الفلسطينية بالضفة وما تلاه من حصار كامل لغزة.

وقد قامت إسرائيل بشن حملة شرسة على مصر داخل الولايات المتحدة الأميركية وخصوصا في الكونجرس وصلت لذروتها في عامي 2006 و2007. والجدير بالذكر أن تلك الحملة تختلف عن الكثير من الحملات المماثلة التى تجري في واشنطن؛ ففي هذه الحملة لم يكن الأمر متروكا للوبي إسرائيل وحده ليتولى المهمة؛ فقد دخلت إسرائيل بنفسها طرفا مباشرا وبشكل صريح للغاية. فعلى سبيل المثال صرح مدير الشين بيت (جهاز الأمن العام) في 2006 بأن مصر تعرف جيدا المهربين ولا تقوم بالقبض عليهم، وأن إسرائيل قدمت لها معلومات استخباراتية تفصيلية لكن مصر لم تستخدمها. وقد كتب عضو الكنيست الإسرائيلى السابق يوفال ستانيز بنفسه لأعضاء الكونجرس يطالبهم بتجميد المعونة العسكرية لمصر.

ثم حدث تحول في الاتهامات التى كانت توجَّه لمصر؛ فبعد أن كانت اتهامات بالعجز عن السيطرة على حدودها مع غزة صار الاتهام أن مصر تغض الطرف عما يحدث عمدا، وأن استمرار ما يجري في الأنفاق هو سياسة مصرية عمدية. وهو ما قاله صراحة وزير الأمن العام الإسرائيلى وقتها.

وفي التوقيت نفسه نشرت صحيفة النيويورك تايمز الأميركية تحقيقا قالت فيه: إن مسئولين إسرائيليين قدموا لنظرائهم الأميركيين شرائط فيديو "تثبت تواطؤ حرس الحدود المصرى مع الفلسطينيين". وقد تلا ذلك تصريحات فجة لوزيرة الخارجية الإسرائيلية وقتها تسيبي ليفنى قالتها ضمن شهادة لها في الكنيست الإسرائيلى قالت فيها: إن "فشل مصر في تأمين حدودها مع غزة بالغ السوء ويمثل إشكالية، ويضر بالقدرة على التقدم في عملية السلام". وهو التصريح الذي وصفه الرئيس مبارك بأنه تخطٍ "للخطوط الحمراء".

وقد كان لكل تلك الحملة الإسرائيلية أثرها الواضح في واشنطن خصوصا في الكونجرس الذي ظل يشهد منذ 2004 دعوات مستمرة ومتصاعدة لتخفيض المعونة العسكرية لمصر؛ ففي عام 2004 بدأ الأمر على استحياء قليلا فقد كان هناك مقترح بتخفيض يصل إلى 570 مليون دولار من المعونة العسكرية مع زيادة في المعونة الاقتصادية. وفي 2005 كان المقترح يصل بالتخفيض في المعونة العسكرية إلى 750 مليون دون اقتراح زيادة للمعونة الاقتصادية. أما في 2006 كان التصعيد واضحا فقد استهدفت المقترحات تخفيض المعونتين الاقتصادية والعسكرية معا، بينما كان الاقتراح في 2007 يقضى بتخفيض المعونة العسكرية على مدى ثلاثة أعوام متتالية، وإلغاء جزء ضخم من المعونة الاقتصادية تماما.

غير أن الكونجرس اتخذ قراره في عام 2007 بصدور قانون الاعتمادات المالية للعام المالي 2008 والذي تم فيه النص على تعليق 100 مليون دولار من المعونة العسكرية حتى تتقدم وزيرة الخارجية للكونجرس بتقرير تشهد فيه أن مصر قد اتخذت خطوات جادة لوقف تهريب السلاح وتدمير الأنفاق. وهو القانون الذى دخل حيز التنفيذ حين وقَّع عليه بوش في ديسمبر 2007.

وقد ثارت ثائرة الحكومة المصرية وقتها واتهمت إسرائيل علنا بأنها تقوض العلاقات الأميركية المصرية وتضر بالمصالح المصرية وهددت بالانتقام. لكن الواضح أن الاستجابة المصرية للمطالب الأميركية الإسرائيلية والبدء فعليا في اتخاذ الخطوات المطلوبة أدى في النهاية إلى كتابة كوندوليزا رايس في مارس 2008 لتقرير للكونجرس شهدت فيه بالتعاون المصرى الجدي، وتم إلغاء مسألة تعليق المائة مليون دولار.

فقد وصل لمصر في نهاية عام 2007 مساعد وزير الخارجية الأميركي ومعه نائب مساعد وزير الدفاع لدراسة الموقف على الأرض. وبعد أن زارا المنطقة قدما مجموعة من الاقتراحات للتعامل مع الموقف كان أولها: ضرورة توفير معدات وأجهزة عالية التقنية لمصر حتى تتمكن من مراقبة الحدود والكشف عن الأنفاق والتخلص منها. وثانيها: حفر قناة على طول الحدود بين مصر وغزة فضلا عن جدار عازل يمتد بعمق كبير تحت الأرض حتى يتم خنق الأنفاق نهائيا. وقد تلا تلك الزيارة زيارة لوفد من سلاح المهندسين الأميركي عاد لبلاده هو الآخر بتوصيات.

وبالفعل كانت الخطوة التالية هي الاتفاق بين مصر والولايات المتحدة على استقطاع 23 مليون دولار من المعونة العسكرية الأميركية لمصر لتشتري بها الأخيرة المعدات والأجهزة عالية التقنية المطلوبة للتعامل مع مسألة الأنفاق.

وقد تلا ذلك الإعلان في منتصف 2008 عن بدء تدريب الجيش الأميركي للقوات المصرية على استخدام المعدات والأدوات الجديدة التي اشترتها مصر، كما شرع سلاح المهندسين الأميركي في تركيب أجهزة عالية التقنية للبحث عن الأنفاق ومراقبتها على طول الحدود . وقد نُشِر فيما بعد أن مصر حصلت على 50 مليون دولار إضافية من الولايات المتحدة من أجل تعزيز عمليات تأمين الحدود مع قطاع غزة. ويبدو أن مصر بدأت أيضا في ذلك التوقيت نفسه في بناء الجدار الفولاذى بمساعدة سلاح المهندسين الأميركي، وهو الجدار الذى كان فكرة أميركية أصلا جاءت ضمن حزمة المقترحات الأميركية كما سبقت الإشارة

ثالثا: العلاقات السياسية

تحسنت علاقة مصر الرسمية مع أميركا في عهد أوباما تحسنا ملحوظا بعد أن شهدت توترا شديدا في عهد سلفه. والتوتر بين مصر وأميركا لم يكن خافيا على أحد بل إنه عبَّر عن نفسه وسط كاميرات الإعلام بشكل صارخ في شرم الشيخ حين انسحب بوش من القاعة لحظة إلقاء مبارك خطبته فما كان من مبارك إلا أن امتنع عن حضور كلمة بوش.

لكن بعد أن تولَّى أوباما الرئاسة زار مبارك أميركا لأول مرة بعد أن كان قد انقطع عن زيارتها خمس سنوات كاملة. كما تم استئناف الحوار الإسترتيجى بين البلدين وهو الذى كان قد بدأ في عهد كلينتون في 1998 بهدف توسيع التعاون وحل الخلافات التي تنشأ في لقاءات على أعلى مستوى سياسى ودبلوماسى. ولأن العلاقات المصرية الأميركية بُنِيت منذ البداية على أساس أن يكون جوهرها التعاون الأمني والعسكري والاستخباراتي-وهي الجوانب التي تهم أميركا بالدرجة الأولى في علاقتها مع مصر- فقد اقتصر الجانب السياسى على التخديم على ذلك البُعد إذا جاز التعبير، عبر استثمار الموقف المصرى الذى تجلَّى في زيارة السادات للقدس ثم اتفاقات كامب ديفيد لإعادة تشكيل المنطقة ودفع الأطراف العربية المختلفة نحو القبول الواسع بتسوية سياسية للصراع العربى الإسرائيلى. وهو دور كان يقوم بالضرورة على استخدام مصر لقوتها الناعمة ورصيدها الذى بُنِي عبر عقود طويلة في المنطقة.

وقد لعبت مصر فعلا دورا محوريا في إحداث تحول عميق في المنطقة أدى لقبول عربي تدريجي لمسألة التسوية، تجلى في مدريد ثم أوسلو ثم المعاهدة الأردنية الإسرائيلية ووصل إلى ذروته في شكل المبادرة العربية عام 2002.

كما لعبت مصر دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين من ناحية وبين الفلسطينيين وبعضهم البعض من ناحية أخرى. وقد كان لهذا الدور أهميته لدى أميركا وإسرائيل خصوصا مع صعود حماس التى لا علاقة بينها وبينهما باعتبارها منظمة "إرهابية" وفق القانون الأميركي والرؤية الإسرائيلية. غير أن انهيار مشروع التسوية السياسية أدى في الواقع إلى دفع مصر ثمنًا فادحًا. فقد أدى لانحسار النفوذ المصرى الذي كان مخططا له أن تكون التسوية هى مصدره الوحيد تقريبا، فضلا عن انهيار مصداقية مصر والتشكك في حيادها خصوصا مع التوتر المتزايد في العلاقة بينها وبين حماس، الأمر الذي أدى في الحقيقة إلى استنفاد مصر أغلب رصيدها من القوة الناعمة في الإقليم بأكمله.

بعبارة أخرى، ظلت العلاقات المصرية الأميركية على المستوى السياسى تدور في إطار منظومة كامب ديفيد وحدها منذ توقيع الاتفاق وحتى عهد أوباما، وهو الإطار الذى يمثل الفائدة الكبرى لأميركا التى تحتاج للدور المصرى لإخماد الحرائق كلما تدهورت الأوضاع في المنطقة بعد كل عدوان إسرائيلى جديد. وتلك العلاقة لم تكن إذن بعيدة عن إسرائيل. بل لعل البعد السياسي في العلاقات المصرية الأميركية هو الأكثر وضوحا في تجسيده للعلاقة الثلاثية.

غير أن البعض رأى خصوصا في عهد بوش، أن تلك العلاقة تتناقض مع ارتفاع صوت دعم الديمقراطية في واشنطن خصوصا في عهد بوش الابن. وهو أمر ليس دقيقا إذا كنا نتحدث عن إدارة أيديولوجية كان يهيمن فكر المحافظين الجدد تحديدا على رؤاها؛ فتلك ليست المرة الأولى التى يستخدم فيها المحافظون الجدد قضية الديمقراطية ضد خصومهم في الخارج؛ فمنذ ظهور هذا التيار في نهاية الستينيات برزت تلك القضية إزاء الكتلة الشيوعية، وقد استخدم المحافظون الجدد موضوع الديمقراطية في الخارج وقتها بالطريقة نفسها التي استخدموه بها في عهد بوش أي كأداة لإحراج الخصوم سواء في الداخل أو الخارج ولتحقيق مصلحة أميركية.

فالمحافظون الجدد الذين عادَوا الشيوعية بكل قوتهم واعتبروا الصراع معها صراع وجود يتحتم معه القضاء عليها قبل أن تقضي على الوجود الأميركي ذاته، قد استخدموا في إطار ذلك العداء مسألة غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الكتلة الشيوعية. وعارضوا بشدة مواقف نيكسون وفورد الجمهوريين بشأن أي وفاق مع الاتحاد السوفيتي.

لكن لعل موقف المحافظين الجدد من إدارة كارتر تحديدا كان بمثابة اللحظة الكاشفة التي عبَّرت بجلاء عن زيف ما يدَّعون بشأن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم؛ فكارتر الجنوبي الديمقراطي لم يكن ليبراليا بل شهدت بداية عهده الزيادة المطردة في الميزانية العسكرية التي عادة ما يروج المحافظون الجدد إلى أن الفضل فيها يعود إلى ريجان. كما أن فريق كارتر للسياسة الخارجية لم يكن أيضا ينتمي للتيار الليبرالي الأميركي. لكن مشكلة المحافظين الجدد مع كارتر الذين أيدوه في أول الأمر ثم انقلبوا عليه لاحقا كانت أنه تبنَّى بشكل جاد الديمقراطية وحقوق الإنسان كأحد محددات السياسة الخارجية الأميركية وجعلها ذات أهمية في سياسته الخارجية، الأمر الذى كان يعني التخلي عن حكومات ديكتاتورية طالما دعمتها الولايات المتحدة. وبسبب ذلك، واجه كارتر انتقادات حادة من جانب المحافظين الجدد؛ ففي الوقت الذي استخدموا فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان في عهدي نيكسون وفورد للهجوم على سياسات الوفاق التى اعتبروها "غير أخلاقية" لأنها تقبل التعامل مع نظم دكتاتورية تنتهك حقوق شعوبها،  فقد وجدوا في سياسة كارتر إضعافا لأميركا في العالم؛ فقد أدت سياساته إلى إضعاف ديكتاتوريات يمينية حليفة لأميركا وهو ما لم يكن يريده المحافظون الجدد. ووقتها قدمت جين كيركباتريك أحد أهم رموز المحافظين الجدد تعريفا فريدا فرَّقت فيه بين النظم الشمولية والسلطوية، وقالت: إن على الولايات المتحدة أن تدعم النظم السلطوية المناهضة للشيوعية لأن تلك النظم أقدر من النظم الشيوعية على التحول نحو الديمقراطية!!.

وقد كتب تشارلز كروذامر الذي ينتمي للجيل الأصغر من المحافظين الجدد ليؤكد على أن أميركا لم تفعل ما يستدعي الاعتذار حين أيدت نظام بينوشيه في شيلي وماركوس في الفلبين بل قال صراحة: إن على أميركا أن تفرق بين ما أسماه "بأنواع الشر"، فتؤجل الوقوف ضد نظم دكتاتورية بعينها إذا ما كان في بقائها مصلحة أميركية ، وهي فكرة مماثلة إلى حد كبير للفكرة التي قدمتها جين كيركباتريك في السبعينيات وإن كانت أكثر صراحة في صياغتها.

وكما يتضح من تلك المواقف، فإن قضية نشر الديمقراطية في العالم لاتدخل في خانة المطلق عند المحافظين الجدد؛ إذ يتم التعامل معها بنسبية واضحة تتعلق بالمصلحة الأميركية كما يرونها هم؛ ففي زمن الشيوعية، اقتضت المصلحة رفع شعار الديمقراطية ضد نظم كانت مناهضة، والقبول في الوقت ذاته بنظم لاتقل سلطوية لأنها تخدم المصلحة الأميركية في القضاء على الشيوعية. وبالمنطق نفسه في عهد بوش، الذي تبنى فيه المحافظون الجدد رؤية للعالم فيها عدو عربي إسلامي لا يجوز في اعتقادهم مهادنته اتسم الأمر بالانتقائية من جديد.

وقد كان واضحا في أداء إدارة بوش أن الديمقراطية لم تكن تُستَخدم ضد كل النظم العربية ولا تُستخدم ضد كل منها بالدرجة نفسها. فهى انتقت نظمًا بعينها في لحظة تاريخية بعينها مستخدمة أهم نقاط ضعفها أي غياب الديمقراطية بهدفين: أولهما: ابتزازها والضغط عليها لاتخاذ مواقف إقليمية لا علاقة لها بقضية الديمقراطية أصلا كما اتضح بجلاء أثناء معركة أنفاق غزة ضد مصر. أما الهدف الثاني فقد جاء في إطار فكرة الفوضى الخلاقة التى اخترعها المحافظون الجدد والتي كانت قائمة على هدف المحافظين الجدد الأساسي في المنطقة وهو إعادة رسم خريطتها بالكامل على نحو يجعلها خالية تماما من أي تحد للهيمنة الأميركية. وإعادة التشكيل هذه كان معناها أن أميركا تبني "واقعا" جديدا تماما؛ فالواقع القائم بكل تعقيداته لم يكن حتى يهمهم فهمه لأنهم بصدد تغييره. ومن هنا فإن الدمار الشامل لم يكن يثير قلقهم. فهو ليس إلا "مخاض ولادة" لا ينبغي التركيز عليه، فآلامه أمر طبيعي في أية ولادة، وإنما ينبغي التركيز على "المولود الجديد" الذي تقوم أميركا بتشكيله بنفسها، وأهم مواصفاته أنه مولود مطيع تخلو جيناته تماما من أي روح للمقاومة –بمعناها الواسع– للهيمنة الأميركية بكافة صورها. وفي هذا السياق فإن الفوضى ليست بالضرورة مناهضة للمصالح الأميركية، لأنها تسمح للولايات المتحدة بإعادة تشكيل المنطقة من جديد. لذلك كان تغيير النظم واردا بشرط أساسي هو أن تنتقي أميركا بنفسها لشعوب المنطقة حكامهم الجدد عبر آليات تبدو "ديمقراطية". وقد انفضح أمر ذلك المعنى عندما وصل عبر انتخابات ديمقراطية في فلسطين طرف-حماس- لم تنتقه أميركا ولم تُردْه. والشئ نفسه عندما حصل الإخوان المسلمون على 88 مقعدا في انتخابات مجلس الشعب المصرى. بعدها بلعت إدارة بوش بل وأعضاء الكونجرس ألسنتهم بعد أن كانوا قد ملأوا الدنيا ضجيجا بخصوص الديمقراطية.

لكن المهم في كل ذلك هو أن القضية -في الحقيقة- لم تكن أن غياب الديمقراطية أدى لتوتر العلاقات المصرية الأميركية، وإنما القضية المحورية هي أن غياب الديمقراطية كان أحد الأسباب التي أضعفت مصر في علاقتها الثلاثية مع أميركا وإسرائيل. فغيابها جعل مصر أكثر انكشافا وضعفا في مواجهتها للضغوط الشرسة التى تعرضت لها. فأية حكومة لا يمكنها أن تقيم علاقة مع دولة عظمى إلا إذا كان ظهرها محميا في الداخل بإجماع وطني حول المواقف التي تتخذها وهو ما يتطلب وجود وفاق وطني جامع لا يتأتى إلا في حالة انفتاح سياسي حقيقي. أما إذا كانت العلاقة بتلك القوة العظمى علاقة ثلاثية -كما هو الحال في العلاقة المصرية مع الولايات المتحدة- فإن الديمقراطية تصبح ليس مجرد مصدر قوة وإنما تتحول إلى مسألة تتعلق بالأمن القومي المصرى ذاته.

الخاتمة
بعد اتفاق كامب ديفيد لعبت مصر دورا مهما أدى إلى إحداث تحول عميق في المنطقة أدى لقبول عربي تدريجي لمسألة التسوية، تجلَّى في مدريد ثم اتفاقات أوسلو ثم المعاهدة الأردنية الإسرائيلية ووصل إلى ذروته في المبادرة العربية عام 2002.

لكن مصر لم تنتبه في الوقت المناسب إلى أن هذا الدور المصرى المرسوم في إطار منظومة كامب ديفيد سوف يستنفد أغراضه ويمثل خطورة حقيقية على مصالح مصر، لأسباب سيتم شرحها حالا. ومن ثَمَّ كان يتحتم عليها أن تعيد تعريف مصالحها في العلاقة مع أميركا، وتحدد أهدافا جديدة في إطار رؤية شاملة لسياسة مصر الإقليمية والدولية يتم تسكين العلاقة مع أميركا وإسرائيل فيها بدلا من أن يتم تعريف علاقات مصر الإقليمية بناء على تلك العلاقة.

فمصر لم تنتبه في الوقت المناسب إلى أن استمرار التعنت الإسرائيلى، والشيك على بياض الممنوح لها من أميركا معناه أن استمرار مصر في لعب دور وسيط التسوية سوف يخصم بشكل منتظم من رصيدها وقوتها الناعمة. ولم تنتبه أيضا إلى أن القبول العربى الواسع بمبدأ التسوية رغم أنه يمثل نجاحا للدور المصرى فإنه سيعني -في الوقت ذاته- أن ذلك الدور قد استنفد أغراضه، الأمر الذى يتحتم معه صياغة رؤية شاملة جديدة تقوم على إعادة النظر في طبيعة المصالح المصرية، ويتم بناء عليها رسم الدور المصري الإقليمي والدولي.

ولأن هذا لم يحدث فقد انكفأت مصر على نفسها، وصارت العلاقة مع أميركا -التي هي علاقة ثلاثية أصلا لا تغيب عنها إسرائيل أبدا- هى المحدد للعلاقات المصرية الإقليمية وليس العكس، بناء على رؤية قاصرة للغاية مبنية على أحد تنويعات فكرة مصر أولا.

ومع انهيار عملية التسوية السياسية والصعود المتنامى لليمين الإسرائيلى المتطرف ازداد صعود محور الراديكالية في المنطقة. عندئذ أخطأت مصر خطأ فادحا حتى لو كان اختيارها أن تظل تمثل محور "الاعتدال" في المنطقة وفي مسار التسوية السياسية؛ فبدلا من أن تعتبر صعود محور الراديكالية ورقة مهمة تستخدمها وتمارس من خلالها ضغوطا قوية على محور أميركا-إسرائيل لاتخاذ مواقف أكثر جدية من عملية التسوية السياسية، دخلت بنفسها طرفا في الصراع ضد محور الراديكالية وتمترست وراء الموقف الأميركي الإسرائيلي عبر تعريف ضيق الأفق لمصالحها يجعل من أطراف هذا المحور تهديدا لمصر ذاتها الأمر الذى كان يعني أيضا علاقات محدودة للغاية أو غائبة بأطرافه. ومن شأن تلك الرؤية القاصرة التقليل من أهمية مصر لدى أميركا وليس العكس؛ فمصر ظلت مهمة لأميركا لأنها كانت فاعلا إقليميا مهما ذا علاقات معقدة ومتشعبة بمحيطه الإقليمى؛ ومن ثَمَّ تستفيد أميركا بالضرورة من تلك العلاقات إذا ما كانت مصر حليفتها. أما إذا كانت مصر تعادي من تعاديه أميركا فإن هذا يستدعي لجوء الأخيرة لقوى أخرى تستفيد من علاقاتها مثل تركيا.

ولأن أميركا وإسرائيل صارت مواقفهما متطابقة في عهد بوش تماما صارت مصر في تلك العلاقة الثلاثية في وضع يزداد سوءا مع الوقت؛ حيث ازدادت الضغوط على مصر والسعي لابتزازها عبر المعونة العسكرية من ناحية وانهيار القوة الناعمة المصرية من ناحية أخرى نظرا للمواقف التى اتخذتها مصر بناء على تلك الضغوط. وهى مواقف لم يكن من الممكن أن تقبلها مصر لو أنها لم تُعرِّف مصالحها على ذلك النحو الذى عرَّفتها به. ومن هنا، صارت المسألة كالحلقة المفرغة التي تغذي كل حلقاتها بعضها البعض والمحصلة النهائية هى تراجع مصر إقليميا وصعود قوى أخرى لتقوم بدور الوسيط مثل تركيا!

ولأن تعريف مصر نفسها لمصالحها على هذا النحو البائس يضعها في خصومة مع الأطراف نفسها التى تعاديها أميركا وإسرائيل، فإن أيتهما لم تكن في العامين الأخيرين (أي بعد معركة الأنفاق وما نتج عنها من مواقف مصرية) في حاجة حتى إلى دفع أي ثمن مقابل اتخاذ مصر تلك المواقف! فهى تستجيب للضغوط الأميركية والإسرائيلية المستحدثة لأنها في التحليل الأخير لا تتعارض مع رؤيتها الحالية لمصالحها.

ومن هنا، فإن المشكلة ليست في العلاقة مع أميركا في ذاتها ولا هي في الضغوط الأميركية التي تستجيب لها مصر، وإنما مكمن الخلل هو في رؤية مصر الحالية لذاتها ودورها، وتعريف النخبة الحاكمة القاصر لمصالح مصر وأمنها القومي ودورها الإقليمي.
____________
منار الشوربجي، أستاذ مساعد العلوم السياسية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، متخصصة فى النظام السياسي الأميركي

نبذة عن الكاتب