مستقبل السياسة والحكم في مصر يتوقف على تفاعل أكثر من عامل وقرارات أكثر من فاعل سياسي. وتسعى هذه الدراسة لإعادة رسم المشهد السياسي في مصر للبحث في مسارات وسيناريوهات متعددة: هل ستكون مصر نموذجا آخر لثورة شعبية على النمط الأوكراني أو الجورجي حيث مقومات الغضب وتفكك الدولة تجعل الكثيرين يشبهون مصر في 2010 بأحوال هذين المجتمعين في 2003 و2004 ؟ أم أن مصر تسير نحو نمط التسلطية التنافسية كما هو الحال في الانتقال الهادئ للسلطة في روسيا من يلتسين إلى الشخص الذي اختاره لكي يخلفه وهو بوتين ثم من بوتين إلى الشخص الذي اختاره وهو ميدفيدف؟ عناصر التشابه بين مصر وروسيا تبدو واضحة بنيويا وثقافيا؛ حيث المعارضة المتعارضة وشعورها بالأمان في ظل تسلط الحزب الحاكم كبديل عن تسلطية دينية في ظل الإخوان في مصر أو العودة إلى الشيوعية في روسيا، فضلا عن ثقافة سياسية مترهلة وسلبية، والحقيقة أن هناك نمطا ليس بعيدا عن النمط الروسي وإن كان يحمل نفس دلالاته وهو انتقال السلطة من الأب إلى الابن على نمط انتقال السلطة من الأب عمر بونجو إلى ابنه علي بونجو الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في 2009 في أعقاب انتخابات قاطعتها المعارضة وشككت في نزاهتها.
وهناك بديلان ديمقراطيان يقومان على نموذجي الإصلاح الديمقراطي التركي القائم على استبعاد القوى الدينية من الحياة السياسية بالتأكيد على علمانية/مدنية العمل السياسي أو السيناريو الإسباني وهو القائم على عدم استبعاد أي طيف سياسي من الحياة السياسية من خلال صفقة أو عقد اجتماعي جديد يلتزم فيه بقواعد ديمقراطية وفقا لمعايير دولية. وكي يتحقق أي من هذين السيناريوهين فلابد أولا من أن ينجح الجناح الإصلاحي (الضعيف) داخل الحزب الحاكم في خلق مساحة ينفصل فيها الحزب عن بيروقراطية الدولة المدنية والأمنية وأن يتخلى عن التفكير بعقلية أنه وريث الاتحاد الاشتراكي؛ والشرط الثاني أن ترتفع تكلفة بقاء الوضع الراهن على نحو يجبر الحزب الوطني على إدخال إصلاحات بنيوية (وليست فقط شكلية) على قواعد الحكم والسلطة في مصر. وهو ما يبدو بعيدا عن مصر في ظل حكم الرئيس مبارك، حيث التغيير الحقيقي يبدو في زيادة القبضة الأمنية على قوى المجتمع المدني والسياسي، أكثر منها محاولة لاستيعاب مطالب هذه القوى نحو أفق أكثر ديمقراطية.
المنهاجية والقوى السياسية الفاعلة في مصر
وللتعرف على ملامح مستقبل مصر السياسي، سيكون من المفيد الاستعانة بمقولات "نظرية المباريات" وهي نظرية مستخدمة على نطاق واسع في علوم الاقتصاد والسياسة وتحليل الصراعات الدولية. وتفترض هذه النظرية أن كل فاعل سياسي يتصرف على أساس من الرشاد، أي أن أحدا لا يقدم تنازلات مجانية أو تبرعات بلا مقابل لأي فاعل آخر، وإنما يسعى الكل إلى تحقيق مصالحه وفقا لتعريفه لها.
ولتبسيط البيئة السياسية المصرية فإننا سنفترض أن هناك مباراة سياسية بين ثلاثة فاعلين أساسيين: الحزب الوطني، وتحالف ضيق للمعارضة المدنية (الأحزاب الثلاثة الكبرى ومعهم عدد من الأحزاب الأصغر)، وثالثا الإخوان المسلمين، ويقف في الخلف منهم لاعبون أقل فاعلية مثل قوى الاحتجاج الشعبي والتي يبدو أن حضورها الإعلامي أكبر من حجم تأثيرها الحقيقي سواء من وجهة نظر السواد الأعظم من المواطنين أو من وجهة نظر القوى السياسية الأخرى. وهذا يرجع بالأساس لعدم قدرتها على خلق أجندة بديلة تتخطى حدود رفض الوضع الراهن تحت شعارات من قبيل "لا للتمديد ولا للتوريث" دون توضيح: نعم لمن؟ ولماذا؟ مع رؤية متكاملة لأجندة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بل إن تعدد قوى الاحتجاج الشعبي وتكرار تواجد بعض الشخصيات العامة في العديد منها (مثل حالة كفاية وأخواتها، والجمعية الوطنية للتغيير ومنافسيها) تؤكد على ضبابية رؤيتها وعدم قدرتها على بلورة رؤية متكاملة وذات دعم شعبي حقيقي. كما سترصد هذا الورقة الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه قوى خارجية إقليمية ودولية مختلفة في التأثير على الفاعلين المحليين.
ولنفترض، وفقا لنظرية المباريات، أن أمام كل لاعب من هؤلاء اللاعبين إحدى إستراتيجيتين: إما البراجماتية (بمعنى تطوير استجابات تتسق مع فكرة التنسيق وربما التحالف مع القوى الأخرى من أجل تحقيق مكاسب متبادلة بمنطق المكسب المعقول لكل طرف)، أو التعنت (أي رفض التنسيق والتحالف وعدم الاكتراث بمطالب الأطراف الأخرى بمنطق المكسب الأقصى). وعلى هذا الأساس، فإننا أمام معادلات أربع تفضي إلى سيناريوهات أربعة. وقبل توضيح ماهية هذه السيناريوهات يكون من المهم الإشارة إلى أن نظرية المباريات تساعد في ترشيد عملية صنع القرار من خلال تحديد ماهية الإستراتيجية المثلى (dominant strategy) والتي تعني أفضل قرار يمكن أن يتخذه كل فاعل بغض النظر عن قرارات الفاعلين الآخرين.
ومن المفيد كذلك توضيح أن القدرة على معرفة المستقبل تكون محدودة مع تعدد الفاعلين المحتملين فضلا عن عدم قدرتهم هم أنفسهم على تحديد أولوياتهم أو الإعلان عنها بوضوح؛ ومن هنا لا يستطيع الباحث أن يتنبأ بأن الحدث (أ) سيحدث، وإنما ما نعلمه هو أن لو (أ) حدث؛ فإن سلسلة من الأحداث ستأتي في أعقابه. وهو ما يجعل معظم تحليلات باحثي العلوم الاجتماعية احتمالية أكثر منها حتمية.
ويكون من المهم كذلك التذكير بما يملكه كل طرف من عناصر قوة ومساومة تحدد ثقله في الحياة السياسية المصرية؛ فالحزب الوطني هو حزب الحكومة ببيروقراطيتها المدنية والأمنية التي تتدخل بأساليبها الناعمة والصلبة من أجل حماية أمن الدولة وأمن النظام وقدرتهما على الاستمرار. والإخوان هم الأكثر تنظيما وقدرة على الحشد والتعبئة، ويكفي أن نشير إلى أنهم من بين 150 عضوا تقدموا بهم كمرشحين في انتخابات مجلس الشعب 2005 نجح منهم 88 بنسبة 59%، هذا مع استبعاد ما قاله السيد رئيس الوزراء من أنه لولا تدخل الأمن في المرحلة الثالثة لكانوا حصلوا على 40 مقعدا أخرى. أي أن الإخوان لو قرروا التعبئة الشاملة في انتخابات 2010 ونزلوا بـمرشحين في كل الدوائر فمن المرجح أنهم سيحصلون على الأغلبية، مع حياد عاملي الأمن والتزوير. وهذه الأغلبية ستأتي من مصدرين: أحدهما أنصار الإخوان والمتعاطفين معهم من ناحية والتصويت الاحتجاجي ضد سياسات الحزب الحاكم من ناحية أخرى.
أما المعارضة المدنية، رغما عن تواضع تمثيلها في مجلس الشعب المنقضي (إجمالا 12 عضو فقط) فهي أشبه بالطرف الذي يجرى حوله الصراع بين القوتين السابقتين، فلو نجح الإخوان في التحالف مع هذه المعارضة، أو على الأقل مع الفصيل الأكبر منها، فإنهم بهذا يخلقون استقطابا من نوع جديد كبديل عن الاستقطاب الديني/العلماني الذي ساد في مرحلة ما بعد الثورة لنشهد استقطابا مختلفا على أساس جبهة ديمقراطية معارضة في مواجهة حزب حاكم مسيطر. ولو نجح الحزب الوطني في تجسير الفجوة مع أحزاب المعارضة المدنية، مع استبعاد الإخوان وغيرها من قوى الاحتجاج الشعبي، فإنه بهذا يخلط أوراق القوى المعارضة له بتقديم تنازلات مرحلية تخلق فجوة بين الأحزاب المعارضة المدنية وجماعة الإخوان المسلمين تحديدا من باب "فرِّق تسُد".
وسيكون الاختيار لهذه الأحزاب والقوى المدنية المعارضة إن كانت تريد أن تتعاون وتنسق مع الإخوان (بفرض رغبة هؤلاء في ذلك)، أو أن تتعاون وتنسق مع الحزب الوطني (بفرض رغبة الأخير في ذلك)، أو أن تتعنت تجاههما بما يفضي إلى استمرار الأوضاع وزيادة احتمال سيناريو التوريث على النمط الروسي.
وفيما يلي تفصيل ما سبق إجماله بتوضيح السيناريوهات الأربعة:
السيناريو الأول:
انتقال السلطة داخل الحزب الحاكم على النمطين الروسي أو الجابوني
هذا هو نمط انتقال السلطة على الطريقة الروسية أو الجابونية الموضحة في المقدمة. وتشير المؤشرات إلى أن هذا هو الاحتمال الأقرب؛ حيث تكون هذه نتيجة منطقية لاختيارات اللاعبين الحالية فضلا عن بقاء حالة السلبية السياسية عند القطاع الأوسع من المواطنين المصريين. فإذا استمرت تفضيلات الفاعلين السياسيين وفقا للمعادلة التالية: تعنت الحزب الوطني + تعنت الإخوان + تعنت الأحزاب المدنية؛ إذن فالرئيس القادم سيكون من داخل بنية المؤسسة الحاكمة. وهو ما سيؤدي إلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه من سيطرة الحزب الحاكم على الحياة السياسية وتزايد احتمالات التوريث مع تعارض المعارضة. وهذا يجعل مصير مصر، سواء في ظل حكم الرئيس مبارك، و الأهم في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك محكوما بمؤسسات لا تعير المعارضة اهتماما كبيرا.
فهناك أولا المؤسسة العسكرية التي يشغل رئيس الجمهورية منصب قائدها الأعلى والتي بالقطع سيجتمع مجلسها الأعلى بمن يتضمنهم من قادة المناطق والأفرع الرئيسية والذين سيقرون الخطط المعدة سلفا من أجل تأمين القاهرة، وتأمين الحدود، وتأمين مؤسسات الدولة الحيوية والتي يمكن أن تصل لحد حظر التجول لحين عودة الاستقرار، وضمان عدم عبث العابثين بمصالح الدولة، وهو ما قد يقتضي كذلك ألا تخرج أية مظاهرات سواء لكفاية أو المعارضة أو الإخوان من باب أن الاستقرار له أولوية مطلقة في مثل هذه الظروف. وقد يساعد على ذلك إعلان رئيس مجلس الشعب -والذي يصبح بحكم الدستور رئيس الجمهورية لمدة ستين يوما- حالة الطواريء إن كانت قد رُفِعت في مرحلة سابقة.
وبحكم أن شرعية يوليو وما بعدها تستند أساسا للدور الحيوي الذي تقوم به القوات المسلحة -ليس فقط في حفظ الأمن وسلامة التراب الوطني ولكن كذلك في تخريج رؤساء الجمهورية الأربعة- فإن الجدل سيثور حول ما إن كان دور القوات المسلحة سيقتصر على القبول بما ستفرزه المؤسسات المدنية من مجلس الشعب والحزب الوطني (بحكم كونه حزب الأغلبية الرسمية) أم أنها سيكون لها تفضيلاتها بشأن من يتولى حكم مصر؟ والأغلب أن بنية القيادات العليا للقوات المسلحة، لاسيما مع عدم بقاء قيادات كثيرة في موقعها لفترة طويلة من الزمن، سيقتصر على ممارسة حق الرفض أو الفيتو على بعض الأسماء المطروحة من الحزب الوطني والقبول ببعضها الآخر. وسيكون المعيار الأساسي في القبول أو الرفض هو الحفاظ على المكانة المتميزة للقوات المسلحة من حيث التدريب والتسليح والامتيازات حتى لو كان رئيس الدولة مدنيا شرط أن يكون ذا حس عسكري عالٍ. وهذا مفهوم في ضوء أن معظم قيادات القوات المسلحة لا تظل في مواقعها إلا لفترات محدودة لا تكفي لأن تنمو شعبية أي منهم بالقدر الذي يجعله مفضلا من قبل قطاع واسع من أبناء القوات المسلحة.
وهناك ثانيا الحزب الوطني والذي سيسعى لأن يطرح بديلا لمن يشغل المنصب الخالي، وبحكم تطورات ما بعد عام 2002 سيكون الاسم الأكثر ترددا هو اسم "جمال مبارك"، والذي سيجد نفسه "مضطرا" لقبول المنصب بحكم "المسئولية التاريخية" و"مقتضيات المرحلة" و"نداء الشعب"، ومقولات "التكليف لا التشريف" التي عادة ما يروَّج لها في مثل هذه الظروف.
وفي هذا المقام سيكون على الحزب أن يحصل على موافقة المؤسسة العسكرية والتي غالبا ما ستقبل بهذا البديل بحكم عدم وجود اسم عسكري بديل يحظى بالقبول المدني والعسكري في آن واحد. وحتى إن ظهر هذا الاسم، فإنه من الممكن أن يُدفَع به في منصب نائب لرئيس الجمهورية دون أن يكون الرئيس مباشرة بحكم الحاجة لوجود رئيس مدني "منتخب" يعطي إشارات خارجية واضحة بأن الإصلاح السياسي قد أفضى إلى تغير في نوعية القيادة السياسية.
وهناك ثالثا السفارة الأميركية بالقاهرة. وهي تمثل دور المتغير الخارجي في التفاعلات الداخلية؛ فما من شك في أن الولايات المتحدة ستكون أكثر اهتماما بمن يحتل موقع الرئاسة بحكم مصالحها المباشرة وكذلك بحكم مخاوف إسرائيل على أمن حدودها الجنوبية. وكما قيل مرارا فإن العلاقات العربية مع أي من دول العالم هي علاقات ثنائية إلا مع الولايات المتحدة فهي علاقات ثلاثية بحكم وجود الطرف الإسرائيلي فيها. ولا يبدو أن الكثير من القرارات الكبرى في مصر تتم بمعزل عن "التشاور" مع الولايات المتحدة. وتكفي الإشارة إلى ما قاله أمين السياسات بالحزب الوطني في أثناء انعقاد المؤتمر السنوي الرابع للحزب في 2006 بأن الحزب يطرح للنقاش فكرة الاستفادة من كافة بدائل الطاقة بما فيها الطاقة النووية. وقد عقَّب السفير الأميركي في مصر بعد هذا التصريح بساعتين تقريبا، فيما يشبه التزامن، بأن الولايات المتحدة تدعم حق مصر في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية. وما أظن أبدا أن يكون تصريح أمين السياسات ثم في أعقابه خطاب الرئيس مبارك قد تم دون التنسيق المسبق مع السفير الأميركي حتى لا تفاجَأ مصر بحرج من قبيل تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية بأن الولايات المتحدة ترفض إقدام مصر على هذه الخطوة لاسيما مع الأزمة المتصاعدة مع إيران. وهكذا لم يكن رد فعل السفير الأميركي السريع إلا كشفا عن موقف مسبق اتفقت عليه حكومتا الدولتين.
وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ستقبل بالاسم الذي سيطرحه الحزب الوطني طالما أنه يسير على خط الحزب من قبول بالتسوية مع إسرائيل، وعدم السعي لإنشاء تحالف مضاد للمصالح الغربية في المنطقة، والالتزام اللفظي بالديمقراطية والليبرالية ومقولات اقتصاد السوق، وأخيرا أن يستوفي الحزب إجراءاته الدستورية في انتخابات "نزيهة" بالمعايير المصرية. وأغلب الظن أن يكون الاسم الأكثر قبولا هو جمال مبارك أيضا.
السيناريو الثاني:
العصيان المدني الديمقراطي على النمط الأوكراني
قد يؤدي تحالف القوى السياسية المختلفة حول أجندة وطنية ديمقراطية مضادة لتحالف الوضع الراهن المتمثل في الحزب الحاكم إلى نقلة نوعية في توجهات كتلة حرجة من المواطنين بحيث تتصاعد مطالب تغيير الوضع الراهن ديمقراطيا على النمطين الجورجي والأوكراني. ولكن نقطة البداية في هذا السيناريو تقتضي أن تتشكل تفضيلات الفاعلين على النحو التالي:
تعنت الحزب الوطني + براجماتية الإخوان + براجماتية الأحزاب المدنية بما يؤدي إلى تحالف واسع من المعارضة ينتهي بكسر احتكار الحزب الوطني للهيمنة السياسية. بيد أن مثل هذا التحالف الواسع له صعوبات تكمن في أسباب نجاحه، إن نجح.
ومن المفيد توضيح أن بناء تحالفات معارضة أصبح واحدًا من أهم إستراتيجيات مواجهة الحزب المسيطر في كثير من دول العالم بغض النظر عن نصيبها من الديمقراطية؛ فخلال الفترة من يناير 2000 وحتى سبتمبر 2006 أجريت 478 انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية في 163 دولة من دول العالم وفقا لموقع http://psephos.adam-carr.net، دخلت فيها المعارضة كتحالف واسع في حوالي 35% منها، وفازت بالأغلبية في 76 % من هذه الانتخابات التي دخلها المعارضون متحالفين، ودخلت المعارضة كتحالف ضيق في حوالي 45% من الحالات بنصيب فوز في حدود 41% من الانتخابات التي دخلوها متحالفين. والنسبة الباقية (20%) من الحالات دخلت أحزاب المعارضة دون تحالفات مسبقة فكان نصيبها من الفوز بالأغلبية في حدود 17% فقط من الانتخابات. أي أن التحالف "الضيق" يرفع فرص أحزاب المعارضة في الفوز بنسبة الضعف على الأقل مقارنة بدخولها الانتخابات منفردة (من 17% إلى 41%)، وبنفس المنطق فإن التحالف "الواسع" يرفع فرص الفوز في الانتخابات إلى ضعف فرص التحالف "الضيق" (من 41% إلى 76%). إذن، وبفرض أن هذه المؤشرات الرقمية دليل لنا في قابل أيامنا، فإن الدرس المستفاد لقادة المعارضة المصرية يكون: ولكم في التحالف حياة يا أولي الألباب.
بيد أن هذه الأرقام تكشف أيضا أن بناء التحالف الواسع أصعب لكن فرص نجاحه أكبر. وكأن الصعوبة الحقيقية هي في بناء التحالف أكثر مما هي صعوبة في الفوز في الانتخابات؛ فالفوز في الانتخابات -وفقا لهذا المنطق- ليس هدفا بعيد المنال، بل هو نتيجة منطقية للتحالف الواسع متى تحقق.
وهنا يكون السؤال: ما شروط بناء تحالف واسع للمعارضة بناء على تجارب الدول الأخرى؟ وهل من الممكن أن تبني المعارضة المصرية تحالفا واسعا يؤدي إلى إجهاض سيناريو التوريث في ظل المعارضة المتعارضة؟ ففي ظل سيناريو التوريث وقفت المعارضة موقف التعارض المفضي إلى العدم السياسي. ومن هنا فقد كانت القوى السياسية المحددة للتوريث من عدمه هي: الحزب الوطني، والمؤسسة العسكرية، والسفارة الأميركية كممثلة للمصالح الغربية على أرض مصر مع ثبات دور المعارضة.
إن شروط بناء هذا التحالف الواسع هي خمسة على الأقل:
1- شرط البراجماتية المحسوبة: فاختفاء التناقضات البينية لصالح التناقض الأكبر مع الحزب الحاكم هو جوهر بناء تحالف قوي لأحزاب المعارضة المصرية بما يفوِّت الفرصة على الحزب الحاكم لإحداث انقسام رأسي يشرخ التحالف. وهو ما يقتضي ابتداء أن يتفق الجميع على أنهم انتقلوا من مرحلة المعارضة الودودة للنظام إلى مرحلة الحكم؛ فما حدث تداول للسلطة في مالي -وهي بالمناسبة من الأمثلة القليلة للدول ذات الأغلبية المسلمة والتي تحظى بديمقراطية مستقرة- إلا بتحالف المعارضة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وآخرها ما عرف بـ "تحالف الأمل" في الانتخابات التشريعية عام 2002. بل إن هذه البراجماتية أدت في بعض الدول إلى التحول من التحالف نحو اندماج الأحزاب كما حدث في كوريا الجنوبية عام 1990 حين وجد الحزب الحاكم استحالة البقاء في السلطة دون الاندماج التام مع حزبين معارضين آخرين على برنامج اقتصادي مشترك وكوَّن ثلاثتهم الحزب الديمقراطي الليبرالي؛ مما دفع أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة إلى خطوة مماثلة مما أنتج الحزب الديمقراطي في عام 1991. وهذه البراجماتية تبدو أسهل في حالة التحالفات الضيقة وشديدة الصعوبة في حالة التحالفات الواسعة.
ومن هنا لا بد أن تكون هذه البراجماتية محسوبة حتى لا تأتي على حساب تأمين قواعد الأنصار والمؤيدين أو حدوث انقسامات تؤدي إلى فقدان أي من هذه القوى لجانب كبير من مؤيديها على نحو يجعل من التحالف انتقاصا من القدرات الأصلية لكل قوة سياسية.
2- شرط التكيف والاستمرار: فالتحالف الناجح يتوقف على استمراره ومن ثم تكيفه مع معطيات الحياة السياسية سواء من النجاحات أو الإخفاقات لفترة زمنية طويلة نسبيا. فلا يكون كافيا أن يظهر التحالف في مرحلة ما قبل الانتخابات مباشرة ثم تنقض عراه وكأن شيئا لم يحدث؛ ففشل التحالف المعارض لابن رئيس توجو السابق في انتخابات أبريل 2006 يرجع ابتداء إلى عنصر المفاجأة في موت الرئيس السابق بما لم يتح للمعارضة أن تبني تحالفا له وجود مشفوع بالبقاء على الساحة لفترة زمنية كافية.
وهذا الشرط يبدو منطقيا في ضوء أن التحالف المعارض ينبني في مواجهة قوة أو حزب له بقاء مستقر لفترة طويلة نسبيا في السلطة، لاسيما أن الناخب يجد نفسه في صراع الاختيار بين الحزب الحاكم الموحد والمستقر، وإن كانت سياساته لا تحظى بالتوافق العام، وبين الجديد المستحدث حتى وإن كان صوابا. وهذه الاستمرارية هي جوهر نجاح زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي "عبد الله واد" الذي ظل زعيما لتحالف المعارضة لمدة 25 عاما، بما فيها من إخفاقات ونجاحات، ضد الحزب الاشتراكي السنغالي الذي احتكر الحياة السياسية في السنغال لمدة 40 سنة حتى فاز تحالف المعارضة ضد الحزب الحاكم برئاسة "عبده ضيوف" في مارس 2000. لكنه لم ينجح إلا عندما كون تحالفا ضخما ومستقرا لحد بعيد من الأحزاب السنغالية ومعها العديد من مؤسسات المجتمع المدني والصحافة الحرة التي اتفقت على حتمية تغيير قواعد اللعبة السياسية.
3- شرط النواة المركزية: فتوافر نواة مركزية صلبة للتحالف من بين أحزاب وقوى الوسط تحديدا شرط مهم لبناء أي تحالف موسع، لأن قوى الوسط تكون الأقدر على أن تدير الحوار الخلاق بين الشتيت المتنافر من أحزاب اليمين وأحزاب اليسار بحيث تستطيع أن تبتكر مساحة اتفاق تضمن بقاء التحالف حيا.
وأهم ما يمكن أن تقوم به قوى الوسط هو مهمة استبعاد بعض القوى من التحالف إن اضطرت لذلك؛ فهناك قوى ترى أن الإطار الأيديولوجي الحاكم لها يحظى بأولوية مطلقة بغضِّ النظر عن نتائج الانتخابات بحكم أن الفجوة بينها وبين بعض شركاءها في التحالف أوسع كثيرا من الفجوة بينها وبين الحزب الحاكم (علاقة التجمع بالإخوان مثالا). وعلى هذا تكون قوى الوسط بمثابة حاملة ميزان القوة التي عليها أن تخلق "أوسع" تحالف "ضيق" ممكن إن فشل التحالف الموسع، وهو ما فعله الرئيس الكيني "كيباكي" حين استبعد من تحالف "قوس قزح" بعض القوى التي أرادات أن تمارس حق الفيتو على كافة القوى الأخرى، ونجح التحالف بفضل قوة النواة الصلبة من أحزاب الوسط.
وبتأمل الواقع المصري، فإن الأكثر قدرة نظريا على قيادة هذا التحالف هو حزب الوفد، بميراثه الليبرالي وتنسيقه السابق مع الإخوان المسلمين في انتخابات 1984، أو أعلام قوى الاحتجاج الشعبي مثل الدكتور محمد البرادعي. ولكن الصعوبة الحقيقية في أن الطرفين غير متفقين وتزداد المسافة بينهما اتساعا مع اقتراب استحقاقات الانتخابات؛ فيدعو البرادعي وفريقه إلى المقاطعة وتتكالب الأحزاب والقوى السياسية الرئيسية على إعلان المشاركة في الانتخابات التشريعية مع غياب ضمانات النزاهة المتعارف عليها عالميا.
4- تحييد المؤسسة العسكرية والمتغير الخارجي: إن التحالفات الناجحة قامت دائما على البحث عن نقاط التقاء من أجل توسيع دائرة الـ"نحن" وتضييق دائرة الـ "هم"؛ وهو ما يقتضي من أي تحالف موسع أن يتجنب إدخال أطراف خارجية ذات قدرة استثنائية على توجيه مسار العملية السياسية في اتجاه الإبقاء على الأوضاع الراهنة؛ فليس من المنطق أن يقوم التحالف على فكرة استعداء قوى أجنبية أو على الانتقاص من الدور الوطني الذي طالما قامت به المؤسسة العسكرية؛ فحين وصل تحالف المعارضة إلى الحكم في اليابان عام 1994 لأول مرة منذ عام 1955 تجنب تماما إثارة حنق الولايات المتحدة أو محاولة تعديل العلاقات المدنية العسكرية في الدولة؛ لأن هذه القضايا -رغما عن استقرار الديمقراطية اليابانية- كانت ستحدث انقسامات هائلة في التحالف الجديد. ويغلب على قوى المعارضة المصرية أنها الأكثر انتقادا لسياسات الولايات المتحدة بما يجعلها أقرب إلى الركون إلى الوضع الراهن منها إلى مساعدة الساعين لتغييره.
5- ترجمة التحالف إلى أشخاص: فللأفكار حضورها، ولكنها والعدم سواء إن لم ينطق بها الرجال؛ ففساد الرئيس "شفرنادزه" في جورجيا -فضلا عن استبداده- كانا موضع اتفاق الجميع لسنوات، بيد أن مقاومته كانت تتطلب أن يتقدم رجل يحظى بالمصداقية والقبول العام من قبل قوى المعارضة حتى يقود تحالفا معارضا لشفرنادزه. وكان هذا الشخص هو الرئيس الحالي "ساكاشفيلي" الذي أدى كونه رجل قانون ووزير عدل سابق أن يُنظَر إليه من قبل قطاع واسع من المواطنين على أنه نظيف اليد وديمقراطي التوجه.
ومن هنا تأتي أهمية أن يترجم التحالف الواسع نفسه إلى شخص أو مجموعة أشخاص تتقدم كفريق محدد المعالم ومتجانس المضمون كي يحمل على عاتقه مسئولية موازاة الحزب الحاكم. ومن الممكن، بسبب الاستقطاب الأيديولوجي الحاد، أن تنجح التحالفات أكثر حين يكون هذا الشخص أو مجموعة الأشخاص بلا انتماء سياسي جامد؛ وإنما يكون رأس مالهم السياسي أنهم يمثلون مباديء عليا ومستقرة في المجتمع.
وبإسقاط هذه الشروط على الواقع المصري، يتبين لنا أن شروط تحقق هذا المسار تبدو غير واقعية؛ فمثلا هناك الإخفاق الواضح في قدرة بعض الشخصيات العامة (مثل محمد البرادعي، وحمدين صباحي، وأيمن نور، وحسن نافعة وغيرهم) في تشكيل جبهة وطنية واسعة -تعتمد أساسا على المواطنين المتشوقين للتغيير فضلا عن الأحزاب والقوى السياسية النشطة- تهدف إلى إجبار الحزب الحاكم على تقديم تنازلات ديمقراطية، لكن لأخطاء تكتيكية واضحة (مثل السفر المتكرر للدكتور البرادعي، وغموض في برنامج عمل فريق الجمعية الوطنية للتغيير، وبعض الوعود بتعديل المادة الثانية من الدستور والتي تقضي بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، فضلا عن انتقادات للفترة الناصرية، والرفض التام للتعامل مع الأحزاب المصرح بها رسميا) كان من الواضح أن فكرة بناء تحالف واسع بعيدة عن واقع مصر الحالي.
السيناريو الثالث:
التحول الديمقراطي على النمط التركي
أَمَا وأن الإخوان متهمون من القوى الأخرى باستغلال شعارات دينية للحصول على مكاسب غير مستحقة ديمقراطيا، يكون السؤال: ماذا لو تقرر التحالف بين القوى "المدنية/غير الدينية" من أجل إعادة ترتيب قواعد النظام مع استبعاد الإخوان؟ وكي يتحقق هذا المسار فلا بد أن يتصرف الفاعلون على النحو التالي: براجماتية الحزب الوطني + تعنت الإخوان + براجماتية الأحزاب المدنية، بما يؤدي إلى تنسيق وتوزيع أدوار بين الحزب الوطني الذي يضمن الأغلبية الرسمية والأحزاب المدنية على نحو يهمش من الإخوان ويضمن للأحزاب المدنية أن تحقق شيئا من مطالبها السياسية.
وهذا البديل يبدو واقعيا إذا ما افترضنا الرشاد في الطرفين المدنيين (الحزب الوطني وأحزاب المعارضة) على اعتبار أن أحزاب المعارضة ستحقق بعض المكاسب مثل تعديل بعض المواد الدستورية التي طالما طالبت بتعديلها مثل المادة 74 والتي تعطي لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة للغاية إذا ما " قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري". وكلها تعبيرات متروك أمر تفسيرها لرئيس الجمهورية ذاته، أو تعديل بعض المواد الأخرى التي طالما طالبت بها المعارضة مع استمرار الحظر على تكوين حزب سياسي مستندا إلى أسس دينية، وربما حتى وضع قيود قانونية على حق المستقلين في المشاركة السياسية بما يعني ضمنا ألا يشارك الإخوان إلا من خلال حزب رسمي. وهذا ليس أمرا مستحيلا إذا تم تعديل القانون بحيث تكون الانتخابات بنظام القائمة الحزبية فقط. وكل هذه بدائل ستقرب من وشائج العلاقة بين الأحزاب المدنية (الحاكم والمعارضة) على حساب الإخوان باعتبارهم خارجين على الإجماع الوطني بحتمية أن لا يكون هناك حزب على أساس ديني أو يثير النعرة الدينية بين أبناء الوطن الواحد. وكأننا نقترب خطوة غير مكتملة نحو نموذج الحياة السياسية التركية التي تستبعد القوى الإسلامية التي ترفع شعارات إسلامية صريحة أو الألمانية التي تستبعد النازيين والشيوعيين من الحياة السياسية مع السماح بالتنافس الديمقراطي بين القوى التي تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية.
ولكن هذا البديل نفسه يفترض أن الحزب الحاكم غير مستفيد من وجود الإخوان ويريد التخلص منهم. وحقيقةً فإن هذا افتراض غير دقيق؛ فالنظام الحاكم في مصر يجيد استخدام "فزاعة" الإخوان ضد الغرب، إن ضغط عليه من أجل إصلاحات ديمقراطية أو تنازلات في قضايا إقليمية، وضد القوى السياسية التي ترى أنها أكثر حرية في ظل الحزب الوطني منها في حالة فوز الإخوان سواء كان هؤلاء من الأحزاب السياسية الأخرى أو من مسيحيي مصر. وهذا هو ما يفسر لماذا استمرت إستراتيجية الرئيس مبارك في تعامله مع الإخوان بمنطق التحجيم دون الاستئصال، حيث يرتفع وينخفض سقف حرية الحركة للإخوان على نحو يوحي بالرغبة في الاستيعاب الجزئي والاستبعاد الجزئي دون وضوح في طبيعة الخطوط الحمراء؛ فعملياً يُسمَح للإخوان بخوض الانتخابات العامة والنقابية والطلابية شرط ألا يفوزوا فيها بالأغلبية فيجري تزويرها أو استبعاد مرشحي الإخوان منها إدارياً أو القبض عليهم أمنياً. يضاف إلى ذلك أن الدولة تسن قوانين هي أشبه بالعقاب الجماعي الذي ينال من حرية الحركة المتاحة لجميع القوى السياسية بما فيها الأحزاب الشرعية. والحالة المصرية متميزة حقا عن حالة الاستيعاب القانوني والتحييد السياسي، كما يتضح في النموذجين الملكيين الأردني والمغربي، وحالة الاستبعاد مع الاستبداد كما في تونس وسوريا وليبيا.
وبالتالي تكون الإستراتيجية المثلى للحزب الوطني هو أن يدخل في حوار مباشر مع الأحزاب المدنية بل وفي صفقات تضمن لهم نسبة من مقاعد مجلسي الشعب والشورى بما يضيق الخناق على الإخوان المسلمين، وهو ما يبدو عليه الحال في مرحلة ما قبل انتخابات مجلس الشعب القادمة في نوفمبر 2010. وبفرض الرشاد أيضا، فإن الإستراتيجية المثلى لأحزاب المعارضة المدنية أن تتبنى البراجماتية (أي التعاون) تجاه من يقدم على التعاون معها سواء كان الحزب الوطني أو الإخوان المسلمين، وإن أقدم الطرفان ببراجماتية على التعاون معها فهي ستفضل المكسب المعقول مع الحزب الوطني عن المكسب الأقصى مع الإخوان المسلمين. وقد أفصحت أحزاب المعارضة المدنية عن نزعتها البراجماتية تجاه الحزب الحاكم في جولات الحوار حول تعديل المادة 76 بيد أن تعنت الحزب الوطني وقف حائلا دون استمراره. ولو خُيِّر الكثير من الأحزاب السياسية المصرية، لاسيما اليسار، بين استمرار الحزب الوطني في السلطة وبين وصول الإخوان للحكم فإنهم سيفضلون استمرار الحزب الوطني حتى لو كان الثمن هو القبول بالتوريث المشفوع بإصلاحات سياسية حقيقية على النحو الذي أشرنا إليه. وهي رؤية محققة لذاتها؛ فشيوعها يعطي إشارة واضحة للإخوان باستحالة التحالف مع اليسار فيزدادون هجوما عليه ورفضا للتعاون معه بما يخلق فجوة أكبر بين قوى المعارضة.
السيناريو الرابع:
قيادة النخبة الحاكمة للتحول الديمقراطي على النمط الأسباني
في هذا المسار، تنزع القوى المختلفة وعلى رأسها الحزب الحاكم (أو على الأقل جناح إصلاحي داخله) للسعي إلى صفقة تقوم على أساس القبول الطوعي من كافة القوى لقواعد جديدة للعملية السياسية تضمن ديمقراطية استيعابية لكافة القوى الموجودة على الساحة مع الالتزام بقواعد فوق دستورية (supra-constitutional) تلزم الجميع باحترام مدنية الدولة وديمقراطية صنع القرار على نحو ما فعل الملك خوان كارلوس بعد أن قاد عملية التحول الديمقراطي في أسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو. وهذا يقتضي براجماتية الحزب الوطني (و جناح داخله) + براجماتية الإخوان + براجماتية الأحزاب المدنية.
وفي هذه الحالة، فإن النخبة الحاكمة ستسعى للبراجماتية والإصلاح مضطرة إذا ما وَجَدت -وغالبا هذا سيكون في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك- أن الاسم المطروح حزبيا (مثل جمال مبارك) غير مقبول جماهيريا، وبالتالي ستسعى لأن تطرح إما اسما بديلا (مثل عمرو موسى) أو أن تضيف لجمال مبارك اسما آخر في منصب نائب الرئيس (مثل الوزير عمر سليمان) وبالتالي سيكون هناك رغبة في خلق شرعية جديدة تقوم على صفقة تتجنب أن يتحد أعداء الحزب ضده. ولكن هذا سيقتضي أولا أن يستعد الجميع للتعاون من أجل شرعية جديدة تحترم صندوق الانتخاب وحده.
ولكن هناك معضلة حقيقية وهي مدى استعداد الإخوان لأن يتنازلوا عن الجانب الدعوي/الديني في خطابهم. وكي يتحقق هذا المسار على أرض الواقع فإن الإخوان المسلمين مطالبون بألا يظنوا أنهم الأقوى على الساحة بحكم تآكل شرعية الحزب الوطني وهشاشة أحزاب المعارضة المدنية؛ فحاجة قيادات الحزب الحاكم للتنسيق مع المعارضة (المدنية والدينية) لا ينبغي أن تزيد الإخوان إحساسا بالنرجسية السياسية، وأن يسارعوا -والزمن حقيقة ليس في صالحهم- إلى أن يتقاربوا سياسيا مع القوى المدنية، وأن يهرولوا نحو تأكيد طابعهم المدني والتخلي عن الجانب الدعوي وإلا فإن الحزب الحاكم -وبفرض الرشاد أيضا- سيحكم الخناق عليهم بعزل قدرتهم على بناء تحالفات أوسع مع المعارضة أو الحصول على عدد أكبر من المقاعد في أية انتخابات قادمة. وهذا ليس صعبا فآليات التعديل الدستوري والتشريعي لتقليم أظافر الإخوان متوفرة بتوسيع فرص الأحزاب في الترشح للانتخابات كقوائم نسبية دون إتاحة فرصة مماثلة للمستقلين بما يضعف من قدرة الإخوان على تحقيق مراكز متقدمة في الانتخابات.
ومهمة الإخوان في تبديد مخاوف القوى المدنية ليست سهلة على الإطلاق؛ فالتحالف مع الإخوان ليس البديل الأمثل من وجهة نظر المعارضة إلا إذا تعنَّت الحزب الوطني ورفض الاستجابة لبعض مطالبهم على الأقل. فلا أحد يحب أن ينام بجوار الفيل (كناية عن الإخوان)، كما يقول المثل الإنجليزي، لأن أية حركة منه تعني الموت لمن يجاوره.
هذا المسار يعتمد على فكرة تبدو غير واقعية إلا في ظروف استثنائية تؤدي إلى هذا "الاستيعاب الديمقراطي" لجميع القوى السياسية في مصر، ولكن تاريخ هذه القوى في علاقاتها البينية يشير إلى أن هذا السيناريو غير قابل للتحقق في عهد الرئيس مبارك.
الخاتمة
هناك مؤشرات واضحة على أن الرئيس مبارك ينوي أن يظل في الحكم إلى آخر يوم في حياته؛ فأولا هو أعلن بوضوح أنه لم يجد الشخص المناسب الذي يمكن أن يصلح لمنصب نائب رئيس الجمهورية وبالتالي من باب أَوْلَى فهو لن يجد من يصلح لأن يتولى منصب رئيس الجمهورية ما دام هو قادرا على الاستمرار في منصبه. ثانيا: يرفض الرئيس مبارك تعديل المادة 77 بما يضع حدا لعدد مرات تولي رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى أنه بانتهاء هذه المدة يكون قد ظل في الحكم خمس دورات متتالية، وبالتالي قد يكون آملا في فترات رئاسية لاحقة لاستكمال المسيرة التي بدأها عام 1981. وهذا لم يكن شيئا بعيدا عن أفكار دارت داخل البيروقراطية المصرية؛ فنحن نتذكر خطة "مصر 2017" التي روجت لها الحكومة المصرية في عهد الدكتور كمال الجنزوري. وكان السؤال المحير لماذا عام 2017 وليس 2020 مثلا؟ فكانت الإجابة أن عام 2017 هو عام انتهاء الفترة السادسة لحكم الرئيس مبارك. كما أن الرئيس وعد صراحة بأنه سيظل يخدم الوطن "طالما في الصدر نفس يتردد وقلب يخفق"، وما ترجمه الكثير من المقربين من أروقة صنع القرار السياسي في مصر من أنه هو مرشح الحزب الوطني لانتخابات الرئاسة في عام 2011. إذن النقاش الحقيقي بشأن مستقبل مصر هو نقاش حول ما بعد الرئيس مبارك.
وقبل ترجيح مسار على آخر، لا بد من توضيح أن خيال الإنسان قد يجنح به لتصور مسارات أخرى لا تعتمد على شرط الرشاد الذي تتبناه نظرية المباريات، بما يجعلنا نتخيل نظريا حدوث ثورة شاملة على نمط الثورة الإيرانية أو العودة إلى لجوء طرف إلى استخدام العنف على نحو ما شهدت مصر في فترة الثمانينيات، أو فكرة قيام انقلاب عسكري ينال من استقرار/رتابة المشهد السياسي الحالي. كل هذه المسارات أقرب إلى التنظير المستبعد منه إلى الواقع المتصور.
وبالعودة إلى المسارات الأربعة التي ناقشناها (الروسي/الجابوني، الأوكراني، التركي، الأسباني) فإن المستقبل المنظور، ومع ثبات مواقف الفاعلين المختلفين، يبدو فيه الحزب الحاكم وكأنه الحزب الوحيد الذي يملك إستراتيجية مسيطرة واضحة المعالم بغض النظر عن تفضيلات وقرارات الفاعلين الآخرين؛
فأولا: أية تنازلات من قبله لن تكون مبررة لأنه ببساطة ليس مدفوعا لها بتكلفة عالية ترتبط باستمرار الوضع الراهن على ما هو عليه. ثانيا: فإن استمرار الرئيس مبارك في السلطة ثم انتقال السلطة بعده داخل النخبة الحاكمة على النمط الروسي/ الجابوني بغضِّ النظر عن اسم الرئيس القادم يحافظ للنخبة الحاكمة وتحالف مراكز الثروة والسلطة والأمن على مكاسب الثلاثين عاما الماضية.
ثانيا: تلعب المعارضة المصرية إجمالا لمصلحة الحزب الحاكم طالما هي تحافظ على تشرذمها وعدم جديتها في تكوين تحالف سياسي قوي يهدد المراكز الآمنة للحزب الحاكم.
ثالثا: يغيب عن الساحة المصرية كذلك المثقف العضوي القادر على قيادة الجماهير نحو ترجمة مطالبهم الفئوية إلى مطالب تغيير سياسي حقيقي بما يؤكد أن الفاعل الوحيد في الساحة السياسية المصرية هو النخبة الحاكمة والتي ستقرر مستقبل مصر.
رابعا: استمرار سيطرة الحزب الحاكم في مصر على الحياة السياسية المصرية لا تعني عدم وجود أسباب عدم الاستقرار السياسي لكنه سيظل عدم استقرار محكوم نسبيا؛ فعدم الاستقرار السياسي (وفي قمته الثورات السياسية) يساوي المطالب السياسية مقسومة على المؤسسات السياسية. وبالتالي فإن عدم الاستقرار السياسي يزيد كلما زادت المطالب السياسية وضعفت قدرة المؤسسات السياسية على الاستجابة الفاعلة لها. لكن تظل معظم مطالب المجتمع المصري السياسية أقرب إلى مطالب "سياسة دنيا" (low politics)؛ لأنها تهدف لتحقيق مطالب محدودة جغرافيا أو مهنيا ولا ترتقي إلى مطالب السياسة العليا (high politics) والتي تستهدف تغيير القواعد السياسية الحاكمة للمجتمع أو تغيير مؤسسات الدولة وإسقاط الحكومة أو نظام الحكم.
بيد أن الملاحظ في مصر خلال آخر عشر سنوات أن المؤسسات السياسية نجحت إما في قمع أو استيعاب هذه المطالب. وتنقسم هذه المؤسسات إلى ثلاثة أنواع أساسية: فهناك المؤسسات الخدمية مثل المدارس والمستشفيات والمحاكم والجمعيات الاستهلاكية وغيرها والملاحظ أنها تزداد ترهلا في مصر في مواجهة موجات متزايدة من المطالب نتيجة زيادة عدد السكان وتنوع مطالبهم. وهناك ثانيا مؤسسات التمثيل السياسي التي تقوم بمهام التعبير عن مطالب المواطنين، والرقابة على أعمال الحكومة، وتداول السلطة على نحو يفضي إلى التغيير في القواعد الحاكمة لـ "من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟" ويبدو أن الأحزاب ومجلس الشعب والمجالس المحلية غير قادرة على أن تقنع المواطن المصري بالمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية سلميا. وهناك ثالثا المؤسسات الأمنية وعلى رأسها الشرطة والمحاكم والمؤسسة العسكرية والتي يبدو أنها الأكثر نجاحا حتى الآن في القيام بمهام الضبط الاجتماعي والسياسي.
إذن فالعلاقة الطردية بين زيادة المطالب السياسية وبين عدم الاستقرار السياسي إذا لم تنجح مؤسسات الدولة المختلفة في استيعابها إما بتلبيتها (المؤسسات الخدمية)، أو التعبير عنها (المؤسسات التمثيلية) أو بقمعها (المؤسسات الأمنية)، تعني أن فترة حكم الرئيس مبارك ومن سيأتي بعده لن تكون مستقرة تماما وإنما ستزداد احتمالات عدم الاستقرار.
______________
أستاذ مساعد العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وميتشجان المركزية بالولايات المتحدة.