دول البلقان.. التداخل والتمايز

تشكل منطقة البلقان نقطة التقاء قارات أوروبا وآسيا براً، وأفريقيا بحراً وتتميز مجتمعاتها بصفات مشتركة منها طريقة بناء المدن والقرى، الطراز البيزنطي للكنائس، الجوامع العثمانية، نوعية الخانات استراحات المسافرين، الأطباق النحاسية، القهوة التركية والأرض الخصبة ووفرة المياه تجعل البلقان نقطة جذب...







عارف العبيد


إن كلمة "بلقان" هي تركية الأصل وتعني الجبل ونرمز بها إلى سلسلة جبال البلقان(1). يحد شبه جزيرة البلقان من الغرب البحر الأدرياتيكي، ومن الجنوب البحر المتوسط، ومن الشرق البحر الأسود وبحر إيجه، ومن الشمال يعتبر نهر الدانوب الحد الجغرافي، لكن الحدود الشمالية كانت تمتد تاريخيا حتى دول أوروبا الوسطى.


التاريخ الحاضر
الهجرات السكانية والصراعات
عهد القوميات وظهور الدول البلقانية


التاريخ الحاضر





خلال الحكم العثماني للبلقان حدثت متغيرات مهمة منها اعتناق فئات بلقانية الإسلام وحدوث هجرات سكانية داخلية لعناصر مسيحية خارج أراضيها، ودخول أعراق تركية جديدة المنطقة البلقانية والتي كانت تسمى "روميلية" وبهذا الشكل تغيرت الخارطة السكانية المحلية، وكان العنصر الصربي أكثر الفئات تأثرا بهذه المتغيرات
إن لمنطقة البلقان أهمية خاصة لأنها تشكل نقطة التقاء قارات أوروبا وآسيا براً، وأفريقيا بحراً. تتميز مجتمعات هذه المنطقة بصفات مشتركة منها طريقة بناء المدن والقرى، الطراز البيزنطي للكنائس، الجوامع العثمانية، نوعية الخانات التي كان تستخدم كاستراحات للمسافرين، الأطباق النحاسية، القهوة التركية. إن الأرض الخصبة ووفرة المياه تجعل البلقان نقطة جذب واستقطاب للعنصر البشري.

أهم المنتجات الزراعية لهذه المنطقة هي: الذرة، الأرز، التبغ، العنب، الزيتون، التفاح، والخوخ. وتشتهر البلقان بتربية الحيوانات والثروة الطبيعية كالذهب والفضة والنحاس، كما يبدو أنها تحتوي على كميات لا بأس بها من النفط. وأهم حضارات البلقان الأثرية هي اليونانية والألبانية.


تتميز شبه جزيرة البلقان كوحدة تاريخية حضارية وجيوبوليتيكية خاصة داخل أوروبا، ولهذا السبب إذا أراد أي باحث أو مهتم فهم العوامل البنيوية لدول البلقان بين التداخل والتمايز يجب عليه مراجعة تاريخ شعوب المنطقة، لأن التعقيدات الموجودة والصدامات والحروب التي جرت حتى اليوم، والتي يمكن أن تتكرر مستقبلاَ، لها علاقة وثيقة بمسائل ترتبط بالماضي.


منذ عام 395 م، انقسمت شبه جزيرة البلقان تاريخياً إلى قسمين: القسم الغربي، ويتضمن مناطق كرواتيا، سلوفينيا وجزءا من البوسنة والهرسك، وجزءا من ترانسلفانيا (تابعة لرومانيا اليوم) وجزء من فويفودينا Vojvodina)-Banat)، بقي هذا الجزء الغربي تحت نفوذ الكنيسة الكاثوليكية التابعة للفاتيكان. ونتيجة لذلك، تحولت شعوب هذا الجزء إلى الكاثوليكية، فيما لا تخفي رغبتها في الاندماج بالغرب، وتنأى بنفسها عن أن تكون شعوبا بلقانية بالدرجة الأولى.


أما القسم الشرقي فيتكون من مناطق صربيا والجبل الأسود وكوسوفو وبقايا البوسنة والهرسك وترانسلفانيا. حافظت شعوب هذا الجزء على هويتها الشرقية البلقانية الأرثوذوكسية المرتبطة ببيزنطة(2). ويمكن القول بأن هذا الخط التاريخي الفاصل بين الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الرومانية تحول إلى نقطة خلاف رئيسة بين شعوب البلقان نفسها. وشكل نشوء دولة يوغسلافيا المحاولة العصرية الأولى لسد هذا الانشقاق التاريخي.


ظهرت الشعوب السلافية في شبه جزيرة البلقان مع نهايات القرن الميلادي السادس وبدايات القرن السابع، واستقرت على شكل جزر بشرية داخل البلقان والمناطق اليونانية (تراقيا، مكدونيا، ثيساليّا، المورة) وتتكون تلك الشعوب اليوم من البلغار والصرب والكرواتيين والسلوفينيين. وقد تعرض السلافيون الذين وصلوا اليونان منذ القرن التاسع إلى انصهار ديني وحضاري من قبل اليونانيين، بينما تردد السلافيون الذين سكنوا مقدونيا حتى القرن العشرين في اكتساب هوية خاصة بهم.


أدت السيطرة العثمانية على البلقان إلى سقوط ممالك البلغار(1393 م)والصرب (1389-1459 م) والزعامات اليونانية (1456-1460 م) وألبانيا (1506 م) واستمرت تلك السيطرة 500 عام تقريبا(3) وأثرت على الأحداث التاريخية مقدمة صبغة آسيوية دينية وسياسية جديدة مختلفة عن تلك الأوروبية، فتوحدت المنطقة البلقانية سياسياً في إطار الخلافة العثمانية، وذلك رغم التعقيدات والأحلاف المختلفة والمتعددة والمصالح المتضاربة فيما بينها.


خلال الحكم العثماني للبلقان حدثت متغيرات مهمة منها اعتناق فئات بلقانية الإسلام وحدوث هجرات سكانية داخلية لعناصر مسيحية خارج أراضيها، ودخول أعراق تركية جديدة المنطقة البلقانية والتي كانت تسمى "روميلية" وبهذا الشكل تغيرت الخارطة السكانية المحلية، وكان العنصر الصربي أكثر الفئات تأثرا بهذه المتغيرات.



الهجرات السكانية والصراعات





يقول الألبان إنهم السكان الأصليون لمنطقة كوسوفو، وينحدرون من سلالة الحضارة الألبانية القديمة، أي قبل ظهور الصرب في شبة جزيرة البلقان. اما الصرب بدورهم فيدّعون أن الدولة العثمانية هي التي جاءت بالألبان إلى هذه المنطقة
عندما دخل الصرب والكرواتيون أراضي شبه جزيرة البلقان كانوا من عرقية واحدة، فالصرب استقروا داخل حدود بيزنطة واعتنقوا الأرثوذوكسية وتبنوا الأحرف الهجائية البيزنطية وتأثروا بشكل كبير بالحضارة البيزنطية، بينما تأثر الكرواتيون بحضارة روما، فاعتنقوا المذهب الكاثوليكي الغربي واعتمدوا اللغة اللاتينية، فأصبحوا على صلة وثيقة بالفاتيكان، بهذه الطريقة بدأ ظهور التمايز والاختلافات بين الفريقين.

وكانت من نتيجة ذلك اشتداد الخلافات بين الشعبين السلافيين، مع اتساع المسافة بين روما والقسطنطينية، وامتد الخلاف والتمايز إلى مجالات الفلسفة والآداب والفنون. على رغم ذلك التنافر، فما تزال هناك نقاط تلاقٍ، مثل اللغة العامية المتكلمة بين الشعبين، رغم كتابتها بشكل مختلف في أبجديتي اللغتين.


استطاع الصرب بين القرنين 12 و15 بناء حضارة بيزنطية أرثوذوكسية متقدمة منافسة للقسطنطينية نفسها، وتمكنت الأمة الصربية من إنشاء أقوى دولة مزدهرة في جنوب شرق أوروبا. وقد حاول جيش هذه الدولة السيطرة على بيزنطة، وقام بالهجوم على اليونان عام 1340. من جهة أخرى لم يتمكن الكرواتيون من إنشاء دولة قوية وعاشوا تحت ظل إخوانهم الأرثوذكس، لكنهم حافظوا على علاقات ودية مع روما، وظهرت أول دولة كرواتية بين أعوام 819-1102 فكانت حياتها قصيرة، حيث اندمجت بعد ذلك مع المجر وبقية الاتحاد حتى بدايات القرن العشرين. وقد منح سقوط الأراضي الصربية تحت السيطرة العثمانية الفرصة للكرواتيين للنمو بشكل حر، ولتغطية الفارق الحضاري الذي كان يفصلهم عن الصرب.


كان الخط الذي يمتد من منطقة "دلماسيا" على البحر الأدرياتيكي حتى ترانسلفانيا في رومانيا هو الحد الفاصل بين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية "هابسبرغ" وعاصمتها فيينا التي استخدمت الكرواتيين والنبلاء المجريين لتحصين هذا الخط الدفاعي.


أدى فشل الثورات الصربية المدعومة من إمبراطور النمسا ضد العثمانيين إلى أكبر هجرة سكانية داخلية في تاريخ البلقان عام 1690 خوفاً من الرد العثماني(4). حيث ترك 185.000 صربي أراضيهم وهاجروا إلى أراضٍ نمساوية كان الكرواتيون يعتبرونها ملكا لهم، وكان ضمن هؤلاء رئيس الأساقفة الصربي "أرسينوس تشارنوفيتش" الذي أسس مركزاً روحياً جديداً للصرب في المناطق الجديدة. وحدثت هجرة داخلية ثانية للصرب عام 1737 لنفس السبب. اضطر الصرب خلال الهجرتين إلى نقل مراكزهم العسكرية والإدارية والروحية، ولكنهم لم يخفوا شغفهم في الرجوع لماضيهم المجيد. مقابل هذه التسهيلات النمساوية، قبلَ الصرب بالمساعدة في حماية الخط الدفاعي ضد العثمانيين.


هذه التحولات والتنقلات سببت خللا في التركيبة السكانية، فقد التحم المهاجرون الصرب مع الصرب الذين كانوا يعيشون أصلا في المناطق الجديدة، فازداد عددهم في بعض المناطق وأصبحوا يشكلون الأغلبية مقارنة بالسكان الأصليين. وقد نمّى انسحاب صربيا نحو نهر الدانوب والمجر الرغبة لدى الصربيين بضم هذه المناطق إلى صربيا الأم في المستقبل.


إن الصرب الأرثوذكس الذين استقروا في فويفودينا المجرية لم يواجهوا مشاكل تستحق الذكر، ولكن الذين اختاروا البقاء في المناطق الكرواتية وعانوا ضغطاَ خانقا من قبل روما لإجبارهم على التحول من المذهب الأرثوذكسي إلى الكاثوليكي. وفي حالات كثيرة نجحت روما فيما كانت تصبو إليه. لقد ساعد الكرواتيون روما في تحقيق هدفها هذا، الأمر المؤلم الذي بقي في ذاكرة الشعب الصربي حتى تاريخنا هذا.


تلك كانت أهم الخلافات بين الصرب والكرواتيين من ناحية، والصرب والمجريين من ناحية أخرى، والتي نشأت بسبب التغير في التركيبة السكانية.


أما فيما يتعلق بالسلوفينيين الذين استقروا في القسم الغربي الشمالي، فقد اعتنقوا المذهب الكاثوليكي المسيحي عن طريق البعثات التبشيرية، وتأثروا لدرجة كبيرة بالحضارة الألمانية - النمساوية. لقد بقيت سلوفينيا منذ عام 1335 حتى الحرب العالمية الأولى، باستثناء خمس سنوات من حكم نابليون لها، جزءًا أساسياً من إمبراطورية "هابسبرغ"، ولهذا السبب ظل السلوفينيون بعيدين كل البعد عن العالم الأرثوذكسي. ونتيجة لذلك فقد حافظوا على هويتهم الخاصة بهم فانخراطهم في العالم الغربي كان حتمياَ وعلاقاتهم بشعوب القسم البلقاني الشرقي المتمثل بالصرب ظلت ضعيفة. أن هذه الحقيقة التاريخية سهلت على سلوفينيا الانفصال عن يوغسلافيا بطريقة سهلة وبدون أي عواقب، خلافاً لحالة كوسوفو التي تسببت بمواجهة قاسية مع الصرب.


أما فيما يتعلق بالبوسنة والهرسك، فالمشكلة نشأت لأن هذه المنطقة هي الوحيدة التي لوحظ فيها ظاهرة الدخول الكثيف في الدين الإسلامي من قبل السكان المحليين(5). إن العلاقات بين شعوب البلقان كانت بشكل عام معقدة ومتوترة بسبب الاختلافات الدينية المتعددة.


تتعلق مشكلة كوسوفو بالعنصر الألباني الكثيف الموجود في هذه المنطقة، فالألبان يقولون إنهم السكان الأصليون لمنطقة كوسوفو، وينحدرون من سلالة الحضارة الألبانية القديمة، أي قبل ظهور الصرب في شبة جزيرة البلقان. الصرب بدورهم يدّعون أن الدولة العثمانية هي التي جاءت بالألبان إلى هذه المنطقة(6). بدأ الصراع على كوسوفو عندما دخل الألبان الدين الإسلامي، بعدما كانوا من أتباع المذهبين الأرثوذكسي والكاثوليكي. إن تحول الألبان في كوسوفو إلى الدين الإسلامي جعل عملية التعايش الصربي الألباني صعبة حتى مستحيلة، فالألبان يزعمون بأنهم أسلموا لأنهم لم يستطيعوا تحمل الضغط الصربي القوي عليهم.


إضافة إلى السلافيين، دخلت أعراق أخرى البلقان بناءً على طلب العثمانيين ولأسباب إستراتيجية، وحافظت على هويتها مستقرة في مناطق تراقيا، القسطنطينية، ضفاف الدانوب، شواطئ بلغاريا، مقدونيا، مولدافيا. وجدير بالذكر أن هنا جاليات أرمينية استقرت في جميع أنحاء السلطنة العثمانية، وأخرى يهودية قدمت من اسبانيا عام 1492 وتركزت أغلبيتها في مدينة سالونيك اليونانية(7).


هناك هجرات سكانية حدثت في القرن العشرين مثل طرد مليون ونصف مليون يوناني من آسيا الصغرى إلى القسم الشمالي من اليونان(8) وهجرة مجموعات من الأتراك البلغار المسلمين باتجاه تركيا وكذلك طرد مجموعة من الألمان من ترانسلفانيا الرومانية بين 1944-1945.



عهد القوميات وظهور الدول البلقانية الحديثة





في نهاية الحرب العالمية الثانية فُرض النظام الشيوعي على جميع دول البلقان باستثناء اليونان وتركيا، وهكذا أصبحت شبه جزيرة البلقان من جديد ذات طابع أو لون أيديولوجي وسياسي واجتماعي موحد، واستمرت هذه الحالة السياسية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990
إن عوامل مثل ازدهار أوروبا السياسي والاقتصادي والاضمحلال التدريجي للدولة العثمانية وأفكار الثورة الفرنسية ودور الكنيسة، قادت إلى تفشي النزعات القومية البلقانية في القرن التاسع عشر، فأجبرت ضغوط الثورات والحروب داخل البلقان العثمانيين على إعلان اليونان دولة قومية مستقلة عام 1830، ومنح صربيا نظام حكم شبه ذاتي تحول إلى مملكة مستقلة عام(9) 1878، ومن ثم البلغار 1878 فالجبل الأسود(10) 1910. أما البوسنة والهرسك فقد ظلت بعد مؤتمر برلين 1878 تحت إدارة الإمبراطورية المجرية النمساوية حيث ضُمّت إليها نهائيا عام 1908، كما كان الحال مع كرواتيا وسلوفينيا. وأخيراً ظهرت الدولة الألبانية عام 1913.(11) خلال الحروب البلقانية مدت صربيا سيطرتها جنوباً على كوسوفو ومقدونيا(12) وفي نهاية الحرب العالمية الأولى اندمجت صربيا مع الجبل الأسود لتشكلا مملكة متحدة.

بالتأكيد كل هذه الدول الجديدة كان لديها عدد من الأقليات حاولت تجاهلها وعدم اعتبارها باستثناء بعض الحالات حيث كانت تُستغل الأقلية لضم أراضيها. إن عملية ضمّ الأراضي أصبح جزءًا من البرنامج القومي لبعض الدول البلقانية، حيث ولدت أفكار مثل فكرة "اليونان الكبرى" و"مقدونيا البلغارية" و"صربيا الكبرى"، الأمر الذي أدى إلى نشوء نزاعات تطورت لحروب(13).


إن العامل الديني استمر يلعب دورا رئيسا في تكوين وتعايش واستمرار الحضارات في البلقان، فحتى يومنا هذا ما زال التمييز بين الهوية الدينية والقومية يسبب مشاكل ونزاعات.


يستحق الذكر أنه حتى القرن التاسع عشر كانت المجتمعات البلقانية تعتبر كل مسلم تركياً، وهذا المفهوم ما زال سارياً بين عامة الناس في بعض الدول حتى اليوم. ونتيجة لذلك فإن حروب تحرير الشعوب البلقانية المسيحية من الدولة العثمانية، كانت قاسية وأدت إلى مذابح كثيرة وهجرة عدد كبير من السكان الملقبين بالأتراك(14).


استمرت التطورات السياسية في البلقان بعد الحرب العالمية الأولى، فالرغبة الكرواتية السلوفينية للتحرر من سيطرة فيينا قادت إلى تأسيس دولة يوغسلافيا الأولى (1918) عبر الاتحاد مع الصرب بعد انحلال الإمبراطورية المجرية النمساوية. قبلَ الصرب بتأسيس الدولة المشتركة دون أن يخفوا نواياهم في إنهاء النزاعات القديمة المتعلقة بضمّ بعض المناطق لصالحهم، كما أرادوا أن يفرضوا أنفسهم كروّاد لهذا الاتحاد على حساب بقية جيرانهم السلافيين، ورغم قبولهم مبدأ الدولة الاتحادية، لم تنحسر شكوكهم بأن الكرواتيين والسلوفينيين سيبقون وسيلة في يد الغرب للتدخل في الشؤون اليوغوسلافية.


ظلّ العامل الاقتصادي من أهم العوامل المؤثرة على استمرارية هذه الدولة، فالفجوة الاقتصادية كانت كبيرة بين الشمال والجنوب، حيث كان مستوى النمو والازدهار في القسم الشمالي (كرواتيا- سلوفينيا) أعلى بكثير من مناطق القسم الجنوبي المتمثلة بصربيا وكوسوفو. إن عدم التكافؤ واللامساواة الاقتصادية والتنموية نمى إحساس التفوق والتعجرف لدى الشعوب والقيادات في المناطق الشمالية الغنية تجاه الجنوب الفقير، فازدادت الأفكار الراديكالية العصرية التحررية لديهم، وساعد على ذلك علاقات الشمال القديمة بالغرب، أما العاصمة بلغراد فكانت محافظة وتقليدية.


استمر الوضع الاقتصادي على نفس المنوال مع النظام الشيوعي في عهد الرئيس تيتو، حيث فشل النظام الجديد في تنمية ورفع مستوى الجنوب الفقير فازدادت الفجوة بين الشمال والجنوب اتساعاً بالإضافة إلى أسلوب قمع الحريات السياسية وحريات الرأي والتعبير. إن هذا الوضع المتردي اقتصادياً والمضغوط سياسيا غذّى من جديد النزعات القومية الكرواتية والسلوفينية للانفصال، كما نمّى حركات النزاع القومية بين الصرب والألبان في منطقة كوسوفو.


إن الحركات القومية ذات الطابع الانفصالي والتي ظهرت من جديد في يوغسلافيا الاتحادية، وجدت أرضا خصبة في الأزمة الاقتصادية لعدم التكافؤ في التنمية والرفاه المعيشي بين شعوب الدولة. فقد كان من أسباب انسحاب الكرواتيين والسلوفينيين من يوغسلافيا الاتحادية رفضهم التمويل المستمر للمناطق الجنوبية الفقيرة، لأنه شكّل نزيفا اقتصاديا حاداً لبلادهم وشعوبهم. إن غياب الثقة بين أطراف هذه الدولة الاتحادية قد صعّب عملية الخروج من الأزمة وبقاء الدولة متحدة.


أدت الحرب العالمية الأولى(15) إلى خروج ثلاث إمبراطوريات من الساحة البلقانية السياسية: العثمانية والروسية والمجرية النمساوية، التي لم تكف أيديها عن التدخل في الشؤون البلقانية الداخلية لسنوات طويلة. وقد ضمت معاهدة فرساي أراضي للدول المنتصرة (صربيا ورومانيا واليونان) على حساب الدول المنهزمة (بلغاريا والمجر). بهذه الطريقة أصبحت الدول القومية غير نقية وديمقراطيتها غير واقعية، لأن الأقنعة سقطت عندما ظهرت النازية الألمانية والفاشية الايطالية، فالأنظمة السياسية الحاكمة في يوغسلافيا واليونان وألبانيا ورومانيا وبلغاريا سرعان ما انقلبت إلى ممالك ديكتاتورية. في نهاية الحرب العالمية الثانية فُرض النظام الشيوعي على جميع دول البلقان باستثناء اليونان وتركيا، وهكذا أصبحت شبه جزيرة البلقان من جديد ذات طابع أو لون أيديولوجي وسياسي واجتماعي موحد، واستمرت هذه الحالة السياسية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990.
_______________
أستاذ العلوم السياسية والتاريخية البانديوس اليونانية



الإحالات:


1 - نظرا لأهميتها اجتاحت الجيوش الروسية هذه الجبال مرات عديدة لتحارب جيوش الإمبراطورية العثمانية على أراضي البلقان.



2 - في القسم الشرقي من البلقان، درّست البعثات التبشيرية البيزنطية تعاليم الديانة المسيحية باللغة السلافية، مما أدى إلى انتشار المذهب الأرثوذوكسي، على عكس الرهبان الألمان اللذين درّسوا باللغة اللاتينية في الجزء الغربي من المنطقة.



3 - Georges Castellan, HISTOIRE DES BALKANS, Librairie Artheme Fayard, 1991, (الطبعة اليونانية) p.12


4 - Georges Castellan pp. 13



5 - هناك عدد من الكتاب البلقانيين الذين يزعمون بأن الدولة العثمانية استغلت ظاهرة أن هؤلاء كانوا مسيحيين أصحاب هرطقة، وليسوا من أتباع المذهبين الأرثوذكسي أو الكاثوليكي، لزجهم جماعيا بالدين الإسلامي. يستحق الذكر أن من بين هؤلاء المسلمين الجدد كان هناك أناس بسطاء وآخرين من الطبقة الأرستقراطية الغنية للسلافيين البوسنيين.



6 - إن تاريخ معركة كوسوفو التي جرت عام 1389 وأدت إلى انهيار المملكة الصربية ما زال، رغم الهزيمة، يعتبر عيداَ وطنياَ للصرب حتى اليوم. لقد حارب الألبان إلى جانب الصرب ضد الأتراك في هذه المعركة. هذه الحقيقة التاريخية تواجه بالتجاهل والصمت من قبل الصربيين.



7 - كانت سالونيك في العهد العثماني من أشهر المدن بوصفها مركزا تجاريا وثقافيا عالميا، وصلة وصل بين الشرق والغرب أما اليوم فقد فقدت أهميتها.



8 - يعتقد أن استقرار هؤلاء اللاجئين في شمال اليونان كان متعمداً لأنه أدى تدريجياً إلى اضمحلال كل العناصر السلافية المتبقية واختفائها.



9 - أجج اعتراف العثمانيين ب "ميلوس أوفرينوفيتش" زعيماً للصرب، صراعاً قوياً بين الأخير وسلالة كرايوريوفيتش لاستلام السلطة.



10 - حاول الزعيم الجديد لمملكة الجبل الأسود بترفيتش الاتحاد مع إيطاليا الكاثوليكية ولكن المحاولة باءت بالفشل.



11 - إن ظهور هذه الدول البلقانية كان له أثر كبيرفي طمس بقايا وأثار السلطنة العثمانية وكذلك في طرد وإضطهاد الأقليات المسلمة من مناطق البلقان. المبادارات العثمانية لتبادل السكان لم تلقى استجابة من الأطراف البلقانية:

Mark Mazower, The Balkans, Weidenefeld&Nicolson 2000, PP. 199-204 (الطبعة اليونانية رقم 13)



12 -

Hellenic Foundation For Defense and Foreign Policy, BALKAN DEFENSE POLICY, Papazissis Press, Athens 1991. pp. 172-173, (الطبعة اليونانية)


13 - لقد اتخذت هذه الدول الجديدة مبدأ الدولة القومية كأساس لها، فاستوردته من فرنسا، وأدخلت إليها النظام البرلماني النيابي المأخوذ من بريطانيا.



14 - توجد في سوريا اليوم أقلية يونانية كريتية مسلمة اضطرت لترك جزيرة كريت اليونانية بسبب الأحداث الدامية التي جرت في ذلك العهد ولأنهم وصفوا بالأتراك.



15 - إن اغتيال ولي العهد النمساوي فرانغيسكو فرناندو من قبل القوميين الصرب كان السبب المباشر لاندلاع الحرب، فصرب البوسنة بدورهم كانوا مستائين من ضغط السيطرة النمساوية الكاثوليكية.



المصادر:


1-

Maria Todorova, Imagining the Balkans, Oxford University Press, New York 1997.

2-

Georges Castellan, HISTOIRE DES BALKANS, Librairie Artheme Fayard, 1991, ISBN: 960-270-609-0 (الطبعة اليونانية)

3-

J. C. Hurewitz, The Middle East and North Africa in World Politics, Vol. I. 1535-1914, Yale, 1975

4-

ABD AL-AZIZ M. EL-SHENNAWY, The Ottoman Empire an Maligned State, τόμος Ι. ,Cairo University Press, Publisher Anglo-Egyption Bookshop, Cairo 1986, (الطبعة العربية)

5-DAVISON RODERIC H, Reform in The Ottoman Empire 1856-1876, Princeton University- Second Printing, Gordian Press, 1973


6-

Hellenic Foundation For Defense and Foreign Policy, BALKAN DEFENSE POLICY, Papazissis Press , Athens 1991. (الطبعة اليونانية)

7-

John R. Lampe, Yugoslavia as History, second edition, Cambridge university press, 2000

8-

Hugh poulton, The BALKANS, minorities and state in conflict, Minority Rights Publications, 1991

9-

Mark Mazower, The Balkans, Weidenefeld&Nicolson 2000(الطبعة اليونانية)