مصر.. ملامح دولة صنعت التاريخ

ثمة عدد قليل من الدول والأقاليم يجمع من التباين والتناقض ما يجعله بلدا لألف وجه، ومصر واحدة من أولئك. منذ فجر التاريخ، رصد فيها المسافرون والرحالة ذلك التقابل الحاد بين الرمل والطين، الثراء والفاقة، التأله والعبودية..







عاطف معتمد عبد الحميد


ثمة عدد قليل من الدول والأقاليم يجمع من التباين والتناقض ما يجعله بلدا لألف وجه، ومصر واحدة من أولئك. منذ فجر التاريخ، رصد فيها المسافرون والرحالة ذلك التقابل الحاد بين الرمل والطين، الثراء والفاقة، التأله والعبودية، عشق الذات إلى درجة الاكتفاء عن كل الآخرين، وجلد الذات إلى حافة الكفر بالوطن.


استبداد التاريخ 
النهر والأرض السوداء 
سكان مصر 
الموارد والإمكانات 
السياسة والإدارة 
خاتمة: المحروسة إلى متى؟


تارة تقتحم مصر الآفاق فتبني إمبراطورية عظمى يمتد نفوذها من آسيا الصغرى وجزر البحر المتوسط إلى غياهب الغابات الإفريقية، وتارة تنسحق دون مقدمات أمام ثلة تافهة من الغزاة والمغامرين. وإذا كانت مصر قد نسجت من الإبداع ما جعلها "مهد الحضارة" و"فجر التاريخ" و"أم الدنيا" فإن المرء يقف اليوم حائرا في سر سكرتها وخيبة رجائها.


استبداد التاريخ


لا يمكن لطالب علم في أي رقعة من كوكب الأرض أن يبدأ درس التاريخ والحضارة دون أن يستهل بمصر، لكنه حين يمضي قدما سيكتشف أنها وإن حققت السبق في بناء الوحدة السياسية والسيادة الذاتية والحكم الوطني وبناء الإمبراطورية إلا أنها كانت بالمثل واحدة من أكثر الدول التي سقطت مرات أمام الغزاة من كل لون وعرق، فخارت قواها عبر قرون مديدة أمام مطامح ومطامع غير أبنائها، بدءا من الهكسوس والفرس والرومان مرورا بالعرب ثم الترك والأوربيين. بعض من أولئك، كالإسكندر وصلاح الدين ومحمد علي، تركوا بصمات جلية في البناء والحضارة، والبعض الآخر ـ وما أكثرهم مثلا في الأمس واليوم ـ تركوا جراحا غائرة في التسلط والقهر وتهميش المحرومين وإغراق البلاد في غياهب التخلف والرجعية.


تم تعمير مصر قبل ما يقرب من مليون سنة، حين جاءت طلائع الإنسان الأول الذي هاجر إليها من شرق إفريقيا وآسيا الغربية. وينقسم تاريخ مصر إلى ثلاث فترات كبرى: مصر القديمة، ومصر العصور الوسطى، ومصر الحديثة والمعاصرة.


تبدأ مصر قصتها في الحياة بزمن ما قبل التاريخ (العصر الحجري) الذي يشمل مرحلة واسعة تضم حياة الإنسان المصري منذ الألف الخامس قبل الميلاد. وفيما بين عام 3100 قبل الميلاد، حين ظهرت أول دولة مصرية موحدة على يد مينا موحد القطرين، وعام 332 قبل الميلاد، حين غزا الإسكندر الأكبر مصر، عاشت مصر مرحلة الدولة القديمة عبر 30 أسرة حاكمة شهدت فترات مد قومي وسياسي وإنجازات حضارية مبهرة.


لم تكن هذه الفترة حكما "طوباويا" سلسا، فقد شهدت ثورات اجتماعية كتلك التي اندلعت عام 2200 قبل الميلاد حين انتفض الشعب المصري على حكامه وتمرد على دفع الضرائب وأضرب عن حرث الحقول ودمر الصروح والمعابد وهاجم مخازن الحكومة ونبش مقابر الملوك وممتلكاتهم. وانتهت الثورة الاجتماعية بحالة من الفوضى تمزقت فيها البلاد بين المتنازعين على الحكم في وسط البلاد وجنوبها.


بعد اضطرابات مؤقتة تعلم المصريون الدرس وتماسكت دولتهم مرة أخرى وبلغت أوج مجدها السياسي والثقافي حتى عام 1800 قبل الميلاد. وعلى مدار 400 سنة من تضميد جراح الثورة الشعبية وتحقيق أمجاد قومية بالغة تداعت الدولة من جديد وسقطت أمام الغزاة من قبائل الهكسوس المغيرين من أواسط آسيا والذين يسجل لهم التاريخ أنهم أول قوة مستعمرة احتلت مصر وعاثت فيها فسادا لنحو مائة سنة ( من 1800 إلى 1700 قبل الميلاد).


ما إن طرد المصريون الهكسوس وحاصروهم في شاروهين (غزة) حتى تفتحت أعينهم على حقيقة جديدة مفادها أن صحاري وجبال سيناء هي بوابة الأمن القومي المصري، وسيتبنى ملوك مصر منذ ذلك التاريخ العقيدة الاستراتيجية على هذه الحقيقة، وستبدأ مع هذه العقيدة حملات مصرية تأديبية للمغيرين خارج التخوم في كل من بلاد الشام والنوبة، فضلا عن الاحتلال المصري الدائم لأجزاء من هذه الأراضي واتخاذها مخافر دفاعية أمامية. وبعد أن كانت "أفاريس" في شرق الدلتا المصرية هى ساحة الحرب بين الغزاة والجيش المصري، صارت "مجدو" في فلسطين هي ساحة الحرب التي بات الجيش المصري يخرج إليها مهاجما متربصا بالمغيرين. وبينما كان الجيش المصري يخرج لملاقاة اعدائه على الجبهة الآسيوية والنوبية خارج التخوم عبر احتلال الأقاليم فإنه في المقابل كان يترك الهجوم الليبي يقطع مسافات بعيدة في صحراء مصر الغربية وينتظر لقاءه في غرب الدلتا ويدحر هجومه واحدا تلو الآخر.


هكذا لم يكن غزو الهكسوس شرا حتى النهاية، فقد ألهمت جبهة سيناء خيال العقيدة العسكرية المصرية وشرع حكامها في بناء الإمبراطورية التي استمرت خمسة قرون (بين عامي 1600 و 1100) وضمت تحت لوائها المناطق الاستراتيجية على الضفاف الغربية للفرات وسوريا والليفانت (لبنان) وفلسطين والنوبة وكوش (شمال السودان) فضلا عن التخوم الليبية، بل مدت هذه الإمبراطورية ذراعها التجاري في حملات بحرية بالأسطول المصري إلى بلاد بونت (اليمن وإريتريا والصومال).


في تلك الفترة أمر الفرعون المصري تحتمس الثالث (الأسرة 18) كافة أقاليم الشام والنوبة بإرسال أبناء شيوخ القبائل والأمراء الشبان إلى طيبة لينشأوا نشأة مصرية ويشبوا على حب البلاد والولاء لها والتفاني في خدمتها. بهذا الشكل من "القوة الناعمة" كان تحتمس أول من سعى إلى "التمصير" الثقافي للأقاليم الخاضعة، في وقت امتلأت فيه خزائن طيبة بثروات الدنيا.


ورغم الفتوحات العظيمة على يد تحتمس الثالث ورمسيس الثاني لم تسلم الإمبراطورية من بعض كبوات، كتلك التي صعد فيها إخناتون إلى الحكم فتراجعت قوة مصر العسكرية وتمردت الأقاليم استغلالا للانشغال الديني لإخناتون وما أنفقه من جهد كبير في توحيد مئات الآلهة المصرية ليعبد الجميع إلها واحدا (آتون أو قرص الشمس). لكن في المقابل كان التراث الديني رائعا خاصة في تلك الابتهالات الورعة التي يوجهها إخناتون وما أثارته من شهية الباحثين باعتبارها أول ابتهالات توحيدية، بل وجد البعض تشابها بين بعض مزامير نبي الله داود وبين هذه الابتهالات، رغم أن إخناتون صاغ نشيده في القرن 14 ق. م بينما ظهر النبي داود بعده بأربعة قرون.


تنتهي هذه الفترة من دورة الثراء والعظمة بتراخي عزيمة مصر واستسلام حكامها للدعة وحياة الترف وتسلط الكهنة وحاشية الملك فضلا عن توظيف الأجانب في بلاط الدولة وإغراق الجيش بالجنود المرتزقة من الأقاليم الخاضعة لمصر. هكذا عم الفساد وتباين الفقر والثراء وألمت بالبلاد ضائقة اقتصادية ودب الضعف في أوصالها فانتفض الناس يضربون عن العمل ويغيريون على صوامع ومخازن الحكومة. النتيجة المتوقعة جاءت سريعا حين انزلقت الدولة إلى دورة جديدة من الاضمحلال أوقعت مصر في صراع بين الشمال والجنوب فتفسخت أواصر الحكم بين الأقاليم وسقطت مصر لحكام من أصول ليبية (من 818 حتى 712 قبل الميلاد) ثم لحكام من النوبة، بل إن القرن الرابع قبل الميلاد لم يكن يحل على مصر إلا وقد فقدت قدرتها على حماية نفسها من السقوط أمام الغزو الأشوري ثم الفارسي.


المذابح التي ارتكبها الفرس في مصر والتخريب والإذلال الذي أذاقوه للمصريين جعل مهمة الإسكندر الأكبر في فتح  مصر أكثر من سهلة حين رحبت به المقاومة المصرية وساعدته على طرد الفرس.


مهد الإسكندر السبيل لثلاثة قرون من حكم البطالمة الذين انتهوا إلى دعة واستبداد عبّدا الطريق لسقوط  مصر أمام غزو جديد، روماني ثم بيزنطي، في أطول محنة تعرضت لها مصر حين خضعت للاستعمار الأجنبي المتتالي من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي. صحيح أن الثورات وحركات المقاومة لم تنقطع خلال تلك الألفية الاستعمارية، وصحيح أيضا أن المصري تمتع بقدر من الاستقلال الديني والروحي، إلا أن هذه المحنة الطويلة تركت تأثيرا بالغا على العقل الجمعي للمصريين وجعلت عددا من المستشرقين يتهمونهم بالاستسلام والخنوع.


وخلال العهد الروماني من هذه الحقبة ستعتنق مصر المسيحية في القرن الأول الميلادي وستنصرف بالتدريج عن عبادة الآلهة الفرعونية المتعددة لصالح الدين السماوي المنساب إليها برشاقة من فلسطين وبوابة سيناء قبل أن تفسح المسيحية بدورها الطريق، عبر سيناء أيضا، للإسلام الوافد بقوة وفتوة في القرن السابع الميلادي (640 م – 21 هجرية).


لم يكن الإسلام ليجد طريقا إلى القارة السمراء إلا عبر بوابة مصر. كل فتوحات الشمال الإفريقي، والسودان، والساحل والصحراء كانت مصر محطة انطلاقها. وحين ولى مسلمو أفريقيا وجوههم شطر البقاع المقدسة في مكة والمدينة قاصدين الحج والعمرة كل عام كانت مصر أيضا محطة العبور، منها تزود الحجاج، وفيها أنس المسافرون من طول الرحيل. على هذا النحو تشكلت نظرية دوائر مصر الثلاث، فهي قلب العالم العربي، وركن أركان أفريقيا، وواسطة عقد العالم الإسلامي.


بقيت مصر خلال عهد الخلفاء الراشدين والخلافة الأموية والعباسية جزءا تابعا خاضعا عبر أربعة قرون لولاة مفوضين من المركز الديني والسياسي في كل من المدينة ثم دمشق فبغداد.  لكن بدايات القرن العاشر الميلادي (منتصف القرن الثالث الهجري) ستجلب على مصر محاولات الاستقلال وستنجح الدولة الطولونية (868-905 م) في الانفصال بمصر عن الخلافة العباسية قبل أن تستعيد الأخيرة هيمنتها من جديد وترجع الولاية المارقة. سيمارس العباسيون بعدها سياسة الأمر الواقع فيمنحون الأخشيدين (ذوي الأصول الوافدة من بلاد ما وراء النهر) حكم مصر بشكل شبه مستقل مع تبعية اسمية لبغداد (935-969 م).


ولنحو قرنين من الزمن (358 – 567 هـ / 969 - 1171م ) سيُخضع الفاطميون الوافدون من المغرب مصر. أما الأيوبيون فلم يدم حكمهم، رغم شهرة إنجازهم وعظيم تصديهم للحملات الصليبية وأمجاد حطين،  سوى نحو 80 سنة (569-648 هـ / 1174 ـ 1250  م) . ويواصل المماليك جهود الأيوبيين بصد الصليبيين وتطهير بلاد الشام منهم، ويبقى حكمهم ثلاثة قرون ( 648 – 923 هـ - 1250 – 1517 م) ولن تسقط دولتهم إلا بالغزو العثماني الذي سيخضع مصر لسيطرته من 1517م إلى 1798، بعدها سيكتسح جيش نابليون شواطئ مصر وواديها.  


ثلاث سنوات فقط بقيت فيها فرنسا في مصر لكنها تركت تأثيرا ثقافيا وعلميا ملموسا سيكون سببا في توجيه أنظار محمد على، الحاكم الألباني الأصل المنتخب من أعيان مصر، لتحديث مصر اقتصاديا وعسكريا، وسيصل الجيش المصري في عهده (1805- 1848) إلى أوج مجده بانتصاراته المدوية في كل من اليونان والأناضول وقبرص وكريت وشبه الجزيرة العربية والسودان. كما سحق الجيش المصري والمقاومة الشعبية غزوا إنجليزيا على سواحلها الشمالية عرف باسم حملة فريز (1807 م). وفي خضم الإنجاز والنجاح، لم يعدم محمد علي كافة الوسائل الشرعية وغير الشرعية لإزاحة المنافسين وذبح المناوئين من المماليك فهيمن بقبضة حديدية على البلاد.


ستبقى مصر أسيرة الحكم الملكي في أسرة محمد علي حتى الاحتلال الإنجليزي عام 1882 ومعها تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ مصر تدخل بها القرن العشرين حبلى بالمفآجات كان أبرزها ثورتي 1919 و1952، وقد تمكنت الأخيرة من إرساء نظام جمهوري سيمر في مخاض عسر لمصارعة الاستعمار الأجنبي والاحتلال الصهيوني لفلسطين وسيناء (حروب 1956، 1967، 1973) وستعيش مصر من نهاية سبعينات القرن العشرين وحتى اليوم في سلام "بارد" على المستوى الدبلوماسي مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وتتقلب النخبة الفكرية فيها بين أيدولوجيات متباينة: قومية وماركسية وإسلامية وعلمانية وتغريبية وفوضوية.


النهر والأرض السوداء


نهر النيل أهم ظاهرة جغرافية في مصر ماضيا وحاضرا، يقطع هذا النهر رحلته في مصر عبر ما يزيد عن 1000 كم. قبل شق بحيرة ناصر وبناء السد العالي في ستينيات القرن العشرين كان النيل في صعيد مصر نهرا جامحا ضيقا خانقيا يزداد اتساعا وفيضانا كلما اتجه شمالا. وبينما لم يكن اتساع الوادي في جنوب أسوان يزيد عن 100 متر كان الوادى يطرد اتساعا بالاتجاه شمالا فيبلغ 15 كم في قلب الصعيد، حتى إذا بلغ القاهرة وتشعب إلى شعب الدلتا فرش ماءه وتربته على أرض واسعة زادت عن 200 كم عرضا عند الساحل المتوسطي.


صنع النيل أرض مصر على شكل نخلة باسقة، الوادي من أسوان إلى القاهرة جذعها، والدلتا من القاهرة إلى المتوسط جريدها المتشابك كمروحة خصبة. وهذه النخلة هي واحة في الصحراء يحيط بها الرمل والصخر من كل حدب وصوب.


لم تكن صدفة إذن أن يتخذ المصريون القدماء من النيل إلها أسموه "حابي" يتضرعون إليه طلبا للحياة، بمثل ما جعلوا من الشمس الإله "رع". ولم يكن هناك من إله ثالث قادر على المنافسة سوى الفرعون الملك. على هذا النحو تبزغ نظرية "الطغيان الفيضي" مفسرة التسلط والاستبداد في نظم الحكم في مصر بإرجاعها إلى نهر النيل.


ببناء السد العالي نزع المهندس المصري، بدعم سوفيتي، مخالب النهر وأسنانه وروضه واستأنسه، وحول الإنسان المصري النيل من نهر هائج إلى قناة رى عريضة طويلة من أسوان إلى البحر المتوسط. الجيل الحالي من المصريين يعرف من النيل روعته كممشى للتنزه والتأمل، بينما الأجداد فقط يتذكرون النيل الغاضب الغامر الذي يكتسح البيوت والحقول حاملا الخصب والحياة قبل أن تخمد ثورته وينكمش راقدا في مجراه إلى العام التالي.


طوال تاريخها الاقتصادي، من الفرعوني إلى الجمهوري، بزغت في مصر طبقة من كهنة المعابد  وكبار رجال الدولة ـ أولئك الذين تملكوا مساحات هائلة من الأراضي ـ مثلت شريحة علوية في الترتيب الهرمي من  المنتفعين. وفي ظل هذا النظام البرجوازي العتيد كانت هناك تلك الثنائية المجتمعية القائمة على قلة تملك كل شيئ ولا تنتج شيئا وأغلبية من الفقراء تلفح ظهورهم الشمس ممن ينتجون كل شيئ ولا يملكون شيئا. 


لكن هذه الرؤية الماركسية لترتيب الطبقات في المجتمع المصري عبر العصور لا تتعارض مع حقيقة أن أرض النيل قدمت لشعبها من الخيرات الكثيرة ما أقعد شعبها عن التمرد أو على الأقل لم تتكرر كثيرا ثورة الجياع أو المحرومين. وتبدو العلاقة بين الوفرة والعطاء في البيئة المصرية جد ظاهرة من تلك المقولة الشهيرة التي يذكرنا بها المقريزي في "المواعظ والاعتبار" في ذلك الحوار الشيق الذي جاء فيه "قال العقل أنا لاحق بالشام فقالت الفتنة وأنا معك، وقال الشقاء وأنا لاحق بالبادية فقالت الصحة وأنا معك، وحين قال الخصب أنا لاحق بمصر سارع الذل وقال وأنا معك". علينا أن نفهم "الذل" هنا بعيدا عن الدلالات المعاصرة لمفردات الوضاعة والخسة، فالمقصود هنا الاستكانة والاستسلام والزهد في التمرد، فالمتمردون دوما لا يملكون شيئا يخافون عليه.


ومع ذلك، ورغم هبات النيل وجهود المصريين، لم تكن مصر جنة غناء طيلة تاريخها. فقبل إتمام نظم الري الحديثة وضبط مائية النيل، ومنذ قصة نبي الله يوسف في السنوات العجاف ومصر مبتلاة بنوبات من المجاعات والأوبئة المهلكة. ولعل ذلك يبدو جليا في تعداد سكان مصر نهاية القرن 18 على يد الحملة الفرنسية التي لم تجد في مصر أكثر من 2.5 مليون نسمة. فرغم تاريخ التعمير الطويل أجهزت الأوبئة والمجاعات، خاصة خلال العصور الوسطى، على سكان مصر بتكرارية مقدارها مجاعة كل 12 عاما، حين تعرضت مصر خلال ما يقرب من خمسة قرون من العصور الوسطى والحديثة لأكثر من 50 مجاعة.


ولعل فيما يورده البغدادي مثالا لعظم ما أصاب المصريين من جوع وفناء بسبب ضعف فيضان النيل، ففي عهد المستنصر بالله الفاطمي، (حين كانت مصر شيعية في نظامها السياسي) وقعت ما اشتهرت بالشدة المستنصرية (1065م إلى سنة 1071م) والتي وصل الحال ببعض المصريين الجوعى أن أكلوا لحوم القطط والكلاب. ولعل هذا ما دفع المقدسي إلى وصف مصر قائلا " هذا الإقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه، وإذا أجدب فنعوذ بالله من قحطه".


بتاريخ مزدوج من الحرمان والعطاء، قحط المجاعة وفيض الرخاء، قدم نهر النيل للمصريين أقدم بوصله في التاريخ، فانحداره من الجنوب إلى الشمال وتناوب شروق الشمس وغروبها على جانبيه رسم الجهات الأربع للبيئة المصرية. وبقدر ما كان المصري أول من فهم الجغرافيا بقدر ما كانت بيئة مصر من البساطة والتوجيه المباشر ما جعلها لا تصنع جغرافيين عظام أو رحالة ومسكتشفين جسورين، فالبيئة جد محدودة في محاورها وما بواديها من موارد من المياه والتربة والزرع والنخل ما يستنفد الجهد والعرق، بمثل ما يقنع بالبقاء ويزهد كل طموح في شق غبار الصحراء، التي لم تكن هوامشها سوى مقصدا لشق الجبانات وتشييد الآثار.


كانت بيئة مصر ولا تزال مثالا للتقابل بين الحياة (النهر وتربته السوداء المعروفة لدى قدماء المصريين بأرض كيميت) والموت ( الصحراء وتربتها الصفراء المعروفة لديهم بأرض ديشيرت). على هذا النحو أمكن تقسيم مصر إلى أبسط تصنيف جغرافي: وادى النيل ودلتاه في مقابل ثلاث صحراوات (الشرقية والغربية وسيناء) يترامى جميعها على مساحة تبلغ مليون كم2.


ولأن في مصر نيلا واحدا، ولأن مياهه تنحدر من الجنوب إلى الشمال، وينتظر الفلاحون ورود الماء من حقل إلى حقل، فقد نشأ نظام الري فيها كليا لا جزئيا. واعتمدت الزراعة بالتالي على نظام موحد للفيضان.


لم تكن مصر كإيطاليا أو الجزر البريطانية أو روسيا التي بها من تباين طبيعي يجعل كل إقليم قادر على تكوين إمارات مستقلة او منفصلة عن العاصمة المركزية. لم يكن يصلح لمصر سوى نظام مركزي واحد يرعى الفيضان وينظم مياهه، يراقب انسياب النهر في كلٍ واحد مجمع، حيث حياة الجميع رهينة بحياة الجميع ولا يمكن قيام دول المدن كالجزر المنعزلة المتناحرة.


المناخ المصري لا يعرف التذبذب أو المفاجآت، المصري لا يشبه الأوربي أو الصيني أو الروسي في انشغاله الدائم بمعطف البرد ومظلة المطر ووشاح العنق. فمنذ فجر التاريخ تظهر النقوش الفرعونية المصري ( رجلا أو إمرأة) متخففا من ثيابه إلى حد بعيد، وما زال مناخ مصر إلى اليوم يتسم بجفاف ثابت وقحولة مهيمنة على الصحاري والجبال، هذا إذا ما استثنينا نوبات من العواصف الممطرة تسحق الصحاري بزخات كأفواه القرب، لكنها لا تدوم غير سويعات، ولا تتكرر سوى مرات قليلة كل بضع سنين.


أطلت مصر برأسها على البحرين الأبيض والمتوسط، لكنها مع ذلك انشغلت بالطين والنيل فغدت دولة فلاحة لا ملاحة، أتقنت الفأس والمحراث بينما تواضعت أحلام أساطيلها في البحرين فجلبت على نفسها أكبر كارثة حين سمحت لشعوب البحر بأن يأتوا من الشمال مغيرين ومخربين. فرغم ألفي كيلومتر من الواجهات البحرية على البحرين الأحمر والمتوسط، لم تعرف مصر الكثير من الثغور والقلاع البحرية بقدر ما عرفت ثغورا تجارية.


وبينما كان لمصر بعض ثغور وقلاع بحرية قبل الفتح العربي في كل من الفرما ورشيد والإسكندرية والقلزم ( السويس) وعيذاب (حلايب) حوّل عمرو بن العاص الجغرافيا السياسية لمصر من قوة بحر إلى قوة بر حين أدار ظهره للإسكندرية العاصمة البحرية وأنشأ عاصمة جديدة، صحراوية هذه المرة على النيل عرفت بالفسطاط وستصبح نواة للقاهرة. على هذا النحو كتب الفتح العربي لمصر نهاية لزمن الثغور البحرية وأحدث تغييرا رجعيا في قوة مصر البحرية عرضها لأسوأ هجمات بحرية شنها الصليبيون عبر قرون. وحده محمد علي غير هذا القانون وأعاد لمصر قوتها البحرية في القرن 19 قبل أن ينهار إنجازه بتدمير الأسطول المصري بسبب التآمر الدولي على طموحاته في البحر المتوسط.


وتبدو المفارقة جلية حين وصل الأسطول الفرنسي (الضعيف بالمعايير الأوربية) إلى مصر ليسيطر في رشيد على قلعة مملوكية متواضعة تدعو على السخرية حين قارنها نابليون بالقلاع الأوربية المتوسطية.


لكن قلعة رشيد المبنية من صخور مختلفة المصادر لم تكن متواضعة حتى النهاية، فقد قدمت للعالم ذلك الحجر الشهير المنسوب إليها والذي من خلاله فك شامبليون رموز الكتابة الهيروغليفية وولج بالناس إلى الكنوز المعرفية للحضارة المصرية القديمة.


تقصير مصر في قدراتها البحرية لا يقف فقط عند تحويل الثغور إلى منافذ للتجارة وتوديع الحجاج إلى الأراضي الحجازية، بل فرطت مصر في ثروتها السمكية البحرية فقنعت بخيرات الأرض من الخضر والفاكهة وأسماك النيل قريبة الصيد سهلة المنال ولم يكن صيادوها مضطرون ـ كما هم اليوم ـ للإبحار بقواربهم المتواضعة أميالا بعيدة بحثا عن مصائد قريبة من الشاطئ في كل من اليمن وليبيا والصومال فيلقون من غوائل البحر ومخاطر القرصنة ما يلقون.


لم يكن هذا التنوع والتباين بمستغرب في أرض حكمت عليها الصحراء بالإعدام بينما مد لها النيل شريان الحياة الوحيد، أرض حار الغرباء في الجزم بمن له الفضل عليها، هبة النيل أم إبداع المصريين؟ أرض تأرجحت في منحنى الصعود والهبوط الحضاري ما جعل نفرا من المفكرين يجدون فيها "قصرا منيفا فوق رمال سائبة" وربما "رمال متحركة".


سكان مصر


لا يقف المصري بعيدا عن تباين البيئة وتزاحم مشاهد التاريخ، فهو وإن سلم العالم له بسبق الحضارة وعراقة التاريخ معترفا به كأول مهندس وأبدع فنان وأكثر المتعبدين ورعا، لا ينسى له أنه الفلاح الفقير المستسلم لحكامه ممن استخفوا به حين أطاعهم فمضوا يثخنونه بحيل الطواغيت.


ومع خبرة التجربة، وعمق التاريخ، وتبدل ألوان الحكام مع ثبات مخططاتهم، وولوج وخروج الغزاة والمغامرين، وبقاء النيل مصدرا للخير وتوفير الحد الأدنى من سبل الحياة، تفنن المصري في حلول الوسط ومكر الخنوع وتكتيك الخضوع، فُوسم بأنه "سلطان الحلول الوسطى" بقدر ما وصفت مصر بأنها "ملكة الحد الأوسط". ومع هذا ما تزال تلك الخصال قادرة على إقناع البعض بأن يروا المصري وبلده مثالا لمزج المتناقضات معا بما يصنع مزاجا وسطيا.


من أين أتى المصري وما أصوله الجنسية؟ تميل الدراسات إلى اعتبار الإنسان المصري إبنا لبيئة محلية ذات جذور إفريقية تأثرت بموجات هجرة وافدة عبر البحرين الأحمر والمتوسط. ورغم أن نزرا قليلا من أبناء شمال مصر يحتفظون اليوم ببشرة فاتحة وشعر بني وعيون خضراء وزرقاء نتاج المؤثرات الجنسية الأوربية والتركية والقوقازية التي عزفت عن الجنوب الحار الجاف ورضيت بالشمال المتوسطي الرطب، ورغم أن نزرا قليلا آخر انحدر من الرقيق الأبيض (الشراكسة والسلاف) والرقيق الأسود ( الأفارقة) إلا أن غالبية أبناء الوادي ما يزالون يحتفظون بسمات الإنسان المصري الذي عاش هنا قبل آلاف السنين. ومما يدهش أن التماثيل والمومياوات التي اكتشفت في جنوب مصر كانت تلقى من أبناء الصعيد مشاعر من الافتخار لما بها من الشبه الكبير بين الماضي والحاضر حتى أن أغلبها وكأنه يجسد واحدا أو آخر من السكان المعاصرين، رغم آلاف السنين التي تفصل بينهم.


 وفي ذلك ما يؤكد على أن موجات الوافدين التي أتت مصر كانت دوما غزوات لا هجرات، تركت آثارها الطفيفة على المستوى الجنسي في الشمال الألطف مناخا بينما بقي الجنوب الحار الجاف مستودعا للقبطي (المصري) العريق.


ليست في مصر أقليات بالمعنى الجيوسياسي التقليدي، فسكان النوبة في أقصى جنوب الوادي لم تكن لهم أية مشكلات إثنية طوال التاريخ، وباستثناء ما أحدثه مشروع السد العالي حين غمرت بحيرته الاصطناعية أرضهم وهجرتهم إلى أرض شمالية غير متوافقة معهم بيئيا، فإنه لم تكن هناك أية صراعات بشرية بين النوبيين وبقية القبط (المصريين). وبالمثل لا يمثل البربر في صحراء مصر الغربية سوى أقلية لغوية محدودة لا تصل نسبتها إلى 0.5 % من السكان وليست لديها أية قضايا تمييزية.


يمثل المسيحيون في مصر ثاني طائفة دينية بعد المسلمين، حيث تتراوح نسبتهم لإجمالي السكان بين 8 و 10 %، لكنهم لا يشكلون نطاقا جغرافيا خالصا لهم، كنظرائهم في لبنان، أو كالسيخ في شمال غرب الهند، أو الشيعة في شرق السعودية، أو المسيحيين في جنوب السودان، بل هم ممتزجون بين المسلمين في القرى والحقول في صعيد مصر وفي الحواضر الكبرى كالقاهرة والإسكندرية.


الكنيسة المصرية ليست كنيسة هاربة مهاجرة بل هي أقدم من الإسلام وواحدة من معاقل الفكر المسيحي الأصيل الذي انتشر في مصر منطقيا بعد أن كانت أرض مصر مقصدا للعائلة المقدسة التي فرت من الاضطهاد في فلسطين.


أتت كلمة قبط من محلة قفط (أو كبتوس) في قنا بصعيد مصر، وسمى اليونان كل المصريين قبطا، ومنها جاءت كلمة "جيبت" في اللغات واللهجات ذات الأصل اللاتيني قبل أن يتم تحويرها لاحقا إلى "إيجيبت" . أما اسم "مصر" الذي ورد في القرآن عدة مرات وجاء في التوراة تحت اسم "مصرايوم" فمسمى لاحق للعهد الفرعوني أطلقته العرب والشعوب المحيطة دلالة على مقر التمدن والنظام السياسي. ويذهب البعض إلى أن لكلمة مصر في اللغة الهيروغليفية جذورا دلالاتها "الأرض التي يرعاها الإله" أو "الأرض المحروسة".


يقدم التنوع الطفيف في الجماعات الدينية والإثنية في مصر ثراء ثقافيا في المعتقد والممارسات والطقوس رحب به المصريون عبر أغلب فترات التاريخ وقبلوه بتسامح وتعايش، وإن لم يسلم في بعض الفترات من تشاحن وتطرف دموي خاصة في نصف القرن الماضي.


يتكلم الجميع العربية لغة واحدة جامعة، وليس هناك معقل أو جيب لغوي واحد في مصر، من هضبة السلوم على حدود ليبيا إلى رفح المصرية على حدود فلسطين، ومن الإسكندرية إلى النوبة. وإن تحدث بدو سيناء وعرب مطروح وبربر سيوة ونوبة الجنوب لغات ولهجات موازية، فإن العربية ليست "اللينغوفرانكا" التي تربطهم بالأغلبية العربية الساحقة بل هي لغة اللسان المزدوج. يمكنك باختصار أن ترى المصريين شعبا "ضد الطائفية" لم يعرف مفهوم الملل والنحل الذي عايشه المشرق العربي، بل إن جل المصريين لا يدركون ما الفرق بين أن أن يكون المرء شيعيا أو سنيا، فمزاجهم الديني سني المذهب وأفئدتهم تهوي إلى آل البيت، وهذه أيضا خصلة من خصال وسطية مصر الحضارية في محيطها الإسلامي.


في مرحلة الانفجار السكاني تقف مصر اليوم بعدد سكاني يزيد عن 82 مليون نسمة، رغم أنها عاشت آلاف السنين بحجم سكاني متواضع. فقبل قرنين فقط من الزمن، لم يكن عدد سكان مصر يزيد عن 2.5  مليون نسمة. بل إن مصر قبل نصف قرن فقط لم تكن تزيد عن 20 مليون نسمة. المسؤول الاول عن الانفجار السكاني في مصر هو التحسن الكبير في الرعاية الطبية وتراجع الوفيات خاصة وفيات الأطفال الرضع.


التداعيات البيئية للنمو السكاني المفرط كارثية في مصر، فالسكان لا يتحركون خارج الوادي ويستبدلون المروج والأشجار والزروع بغابات من الأسمنت من بيوت خرسانية تقتلع تربة طينية تعد من أخصب أنواع التربة في العالم، تربة أنفق نهر النيل في فرشها مليوني سنة، بينما يدمرها السكان اليوم في لمح البصر.


زحف السكان على الأراضي الزراعية في مصر أشبه بالانتحار الجماعي الصامت، فالمصريون وحكومتهم يخربون بيئتهم بأيديهم، حتى أن الرقعة الزراعية في دلتا النيل، فقدت في نصف القرن الأخير نحو ثلث أراضيها لصالح التوسعات العمرانية المتلاحقة التي تذهب بغير رجعة بأرض تنتج الغذاء وتضع شعبا على حافة الهاوية في عملية أشبه بالاغتيال الجماعي الأعمى لحقوق الأجيال المقبلة.


البديل الوحيد لإنقاذ مصر من هاوية المجاعات المستقبلية هو نقل السكان الجدد إلى خارج الوادي والدلتا، وهو مشروع أقل ما يقال عنه أنه مشروع الألفية الثالثة. لكن مشروعا قوميا بهذا الحجم يحتاج إلى حكومة راشدة واعية حازمة وقادرة على إيقاف فساد الانتحار الجماعي حين يضع فلاح فقير حفنة جنيهات رشوة لمسؤول في الحكومة المحلية يسكت الأخير بموجبه عن تجريف التربة وتحويل الحقل الزراعي إلى منزل خرساني لمواليد جدد وجدوا ما يسكنون فيه لكن قريبا لن يجدوا ما يأكلون.


ففي زمن تبلغ فيه الفجوة الغذائية في مصر 50 % يعني الأمر أننا نستورد نصف ما نأكل. وإذا ما استمر معدل العدوان على الأراضي الزراعية بما هو عليه اليوم فسترتفع النسبة حتى يشب شبح المجاعة من جديد. وإذا استمر معدل تلوث مياه نهر النيل وبحيرات شمال الدلتا على ما هو عليه فستفتك الأمراض المهلكة بالمصريين.


سكان مصر لا يهاجرون خارج وطنهم، وهم ملتصقون بالأرض بدرجة كبيرة. كان العراق والدول العربية الخليجية المقصد الأول لهم بعد ثروة وثورة النفط في السبعينيات حين هاجر نحو ثلاثة ملايين مصري، عاد أكثر من نصفهم بعد التقلبات السياسية المضطربة التي تأججت بغزو العراق للكويت في مطلع تسعينيات القرن العشرين، وتزايد الاعتماد على العمالة الآسيوية والتخفف من عمالة المصريين لصالح عمالة وطنية.


ولا يمكن التعويل على الجاليات المصرية في الخارج في استقطاب مصريين مهاجرين، فباستثناء ما شهده ربع القرن الأخير من تبلور جالية مسيحية منتقاة ومرحب بها في الولايات المتحدة وكندا تحت ذرائع الإضطهاد الديني، ليست هناك جاليات مصرية مهاجرة على نحو ما شكل الصينيون والهنود والشوام في أوربا والعالم الجديد. فعوامل الطرد في القرون الماضية لم تكن بتلك القسوة التي هي عليها اليوم، وحين اضطر الشباب المصري لهجرة وطنه مع انسداد الأفق في الداخل وجد الظروف العالمية وقد تغيرت وأصبح هناك حصار عالمي يقيم أسيجة على الموانئ وفي المطارات تحول دون طوفان الهجرة من الدول الفقيرة. من هنا عرفت مصر مؤخرا مراكب الموت التي تحمل الشباب المصري في عرض البحر المتوسط فيغرق بعضها جراء المطاردة وإغلاق الموانئ المؤدية إلى "جنة الاتحاد الأوربي".


الريف المصري ، وليس المدينة ، يقدم صورة مصر الحقيقية. في ذلك الريف بوسعك اليوم أن تقف مشدوها أمام بيت من طين الفيضان القديم يلاصق قصرا فارها، ساقية صدئة وآلة ري فائقة الطاقة، بغال وحمير تعرقل سير سيارات وردت للتو من مصانع يابانية. هذا التجاور الجغرافي والتاريخي يقدم لك خليطا مربكا بين مشاهد الألف الثالثة بعد الميلاد وقد زاحمت مشاهد الألف الثالثة قبل الميلاد.


الموارد والإمكانات


بعد رحلته الطويلة القائمة على الزراعة المعيشية والنمط الإقطاعي، انتقل الاقتصاد المصري في نصف القرن الماضي من حالته المركزية الحديثة في العهد الناصري إلى ما عرف باسم سياسة الانفتاح في عهد السادات ثم إلى النمط الرأسمالي الزائف في عهد مبارك.


تتسم الموارد الأساسية للميزانية المصرية بتنوع مصادرها ما بين زراعية وتجارية (بما فيها رسوم المرور في قناة السويس) وصناعية ( بما فيها الصناعات النفطية) وسياحية. وما تزال مصر ـ مثلها مثل الهند ـ تشهد تلك الإزدواجية بين ارتفاع مؤشر النمو الاقتصادي نتيجة الإصلاحات الاقتصادية المشهود بنجاحها عالميا وبين استمرار مستوى المعيشة لدى أغلبية السكان عند درجات متدنية.


تبلغ قيمة الناتج المحلي الإجمالي (معبرا عنها بمكافئ القوة الشرائية) نحو 470 بليون دولار وتحتل بذلك المرتبة 27 من بين دول العالم. وان كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 6 آلاف دولار سنويا مما يجعلها في المرتبة 137 بين دول العالم. وكان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي قد تجاوز 7 % قبيل الأزمة المالية العالمية.


ورغم عدد السكان الذي يزيد عن 82 مليون نسمة إلا ان المنخرطين في فئة القوة العاملة لا يتجاوزون 25 مليون نسمة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار النسبة المرتفعة لأشكال البطالة المقنعة المتفشية في قطاعات القوى العاملة والتي تهبط بحجم القوى العاملة لنحو ثلث أو نصف طاقتها الكلية فإن الحجم الفعلي للقوة العاملة قد لا يتجاوز 10-13 مليون نسمة. ولعل هذه هي الأزمة الحقيقية في بنية العمل في مصر حين يعول 15 % من السكان 85 % منهم. وبحسب التعريفات الإجرائية الرسمية فإن حجم البطالة يبلغ نحو 10 % من إجمالي القادرين عن العمل في الوقت الذي تقدر فيه الجهات غير الرسمية وجماعات المعارضة هذه النسبة بأكثر من 30 %. وتبلغ نسبة السكان الذين يعيشون دون خط الفقر نحو 20 % من الإجمالي البشري لمصر.


وتعاني الميزانية السنوية لمصر من عجز مقداره  12 بليون دولار، إذ يبلغ حجم الإنفاق السنوي نحو 63 بليون دولار بينما لا يدخل الميزانية من العائدات الإجمالية سوى 51 بليون دولار. وترتبط تلك المشكلة بأزمة الدين العام الذي يبلغ في مصر أكثر من 80 % من الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يجعل مصر واحدة من أكثر الدول في العالم التي تعاني من ارتفاع الدين العام، محتلة المرتبة 13 على مستوى دول العالم. ويتأرجح معدل التضخم بين 12 و 18 % رغم أن متوسطه في الدول النامية لا يزيد عن 6 % والدول الغنية عن 1.5 %.


ويعود جزء أساسي من هذه المشكلة إلى الاختلال في قيمة الصادرات والواردات، فمصر تصدر سنويا ما قيمته 25 بليون دولار (موارد الطاقة والمواد الغذائية) بينما تستورد سنويا ما قيمته 50 بليون دولار (التقنيات العسكرية والآلات والمعدات ومنتجات الأخشاب ومواد زراعية في مقدمتها القمح، فضلا عن الأدوية). ويمكن تلمس آثار ذلك في حجم الدين الخارجي لمصر البالغ نحو 30 بليون دولار.


المحاصيل الرئيسة في مصر هي القطن والأرز والذرة والقمح، بينما الصناعات الأساسية هي المنسوجات والصناعات الغذائية والكيماويات والصناعات البترولية ومواد البناء خاصة صناعة الأسمنت إضافة إلى السياحة.


تحتل مصر المرتبة 29 بين دول العالم في إنتاج البترول، وبعد أن كانت دولة مصدرة للنفط انتقلت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى دولة تلتهم كل انتاجها، بل هي تتحول تدريجيا إلى دولة مستوردة له. في المقابل يمثل الغاز الطبيعي الركيزة الكبرى في موارد الطاقة حيث تحتل مصر المرتبة 16 من بين أكبر دول العالم إنتاجا ولديها فائض سنوي مقداره نحو 10 بليون متر مكعب يتجه للتصدير. والشركاء التجاريين لمصر ممن يستقبلون صادرتها هم الولايات المتحدة وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا إضافة إلى الهند والسعودية.


وفي الوقت الذي تستأثر فيه الزراعة بنحو 32 % من النشاط البشري ترتفع نسبة العاملين في الخدمات ( الإدارية والتعليمية والطبية والأمنية.. إلخ) إلى أكثر من 50 % بينما لا تمثل الصناعة أكثر من 17 % من إجمالي النشاط البشري.


وتنفق مصر على التسليح سنويا ما نسبته 3.5 % من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة مرتفعة عالميا تجعل مصر في المرتبة 37 من بين دول العالم أخذا في الإعتبار التهديدات الإقليمية المحيطة بها وصراعها الدائم مع إسرائيل رغم السلام الظاهري الذي تقتضيه الممارسات الدبلوماسية الإقليمية.


تعتمد القدرات العسكرية المصرية على جيش نظامي قوي وأسلحة تقليدية وقدرات غير معلنة من الأسلحة الكيماوية، أما القدرات النووية فلم تتمكن مصر بعد من امتلاك أيا منها رغم ما تقوم أن البرنامج النووي المصري بدأ منذ أكثر من خمسين عاما، أما المفاعل الكبير الذي جاهدت مصر لإقامته في منطقة الضبعة غربي الإسكندرية منذ 20 سنة فما زال محاصرا بالضغوط الدولية والإسرائيلية.


السياسة والإدارة


مصر دولة جمهورية يمثل السلطة التنفيذية فيها رئيس الجمهورية والحكومة ( مجلس الوزراء) والإدارة المحلية والمجالس القومية المتخصصة. وتنقسم إداريا إلى 29 محافظة. ويمثل السلطة التشريعية فيها مجلس الشعب والشورى. وقد عرفت مصر الحياة البرلمانية قبل ما يقرب من قرن ونصف من الزمن وتعاقبت علي البلاد خلالها أكثر من‏32‏ هيئة نيابية تراوح عدد أعضائها ما بين‏75‏ عضوا و‏454‏ عضوا.


كانت بداية الحياة البرلمانية في مصر في عهد الخديو إسماعيل الذي أنشأ "مجلس شورى النواب" واستمر العمل به إلى أن احتلت بريطانيا مصر في عام 1882، بعدها أنشأ الخديو توفيق "مجلس شورى القوانين" و"الجمعية العمومية". ثم في 1913 نشأت "الجمعية التشريعية" والتي حالت الحرب العالمية الأولى دون اتمام عملها ثم صدر قرار بحلها في 1923.


وكانت صياغة دستور عام 1923 نقطة انطلاق لتأليف البرلمان المصري الذي تألف من مجلسين هما "مجلس النواب" و"مجلس الشيوخ". وحين قامت ثورة يوليو 1952 قام مجلس قيادة الثورة بمهام السلطة التشريعية وخلت البلاد لثلاث سنوات من حياة برلمانية إلى أن صدر دستور 1956 فتم على أساسه انتخاب "مجلس الأمة" الذي ظل يحمل نفس الاسم خلال فترة الوحدة مع سوريا (1958-1961).


وكانت تداعيات الانفصال سلبية على الحياة البرلمانية في مصر، إذ بقيت مصر دون برلمان منذ 1961 وحتى 1964 وهو العام الذي شهد صدور دستور مؤقت لمصر أعيد من خلاله بناء "مجلس الأمة" حتى صدور الدستور الدائم لمصر عام 1971 الذي منح الاختصاص التشريعي لـ "مجلس الشعب" الذي يتألف من 444 عضوا يتم انتخابهم في 222 دائرة بواقع عضوين عن كل دائرة، احدهما على الأقل من العمال والفلاحين. وإضافة إلى ذلك يعين رئيس الجمهورية عشرة أعضاء ليصبح المجموع 454 عضوا.


وتعرف مصر تعددية حزبية شكلية تضم 23 حزبا أهمها الحزب الوطني الديموقراطي (الحزب الحاكم) والوفد وحزب العمل (جمدته الحكومة لتبنيه خطا إسلاميا) والحزب الناصري وحزب الأمة. وحزب الغد. وتعاني أغلب هذه الأحزاب من الضعف والتشتت وضعف ثقة رجل الشارع في قدرتها على العمل والممارسة الحزبية الفاعلة. وفي العقد الأخير ظهرت حركات احتجاجية لا حزبية أهمها حركة "كفاية" "والجمعية الوطنية للتغير"، وفي خلفية المشهد الرسمي يبدو الحضور المؤثر لجماعة الإخوان المسلمين التي تسميها الدولة وأجهزتها الإعلامية بـ "الجماعة المحظورة" والتي ليس لها تمثيل حزبي لكن لها تأثير فاعل في الشارع.


خاتمة: المحروسة إلى متى؟


السؤال الملح في مصر اليوم ليس "إلى أين تسير المحروسة؟" بل "إلى متى ستبقى مصر محروسة؟". كي ندرك أهمية هذا التساؤل ليس علينا إلا أن نتابع المصريين اليوم وقد فتحوا أبواب بيوتهم بإعجاب ودهشة طفولية لعشرات الآلاف من فتيات وفتيان أتوا من الصين يخترقون الريف والحواضر المصرية يحملون على أكتافهم مصنوعات رخيصة كان بوسع العامل المصري المشهود بذكائه وألمعيته أن ينتج مثلها لو كانت الدولة قد وفرت له مكانا خلف آلة في مصنع بدلا من أن تضطره للعمل خادما في قرية سياحية، جهزت له ورشة بدلا من مقهى، وفرت له إعلاما توعويا وتدريبيا لا أن تهدر أمواله في أجور مدربي ولاعبي كرة القدم.


لو كان ماركس حيا في مصر اليوم لنقّح أطروحته وتعلم الكثير عن أشكال الاستعمار الخفي وكيف يحتكر المستثمرون الأجانب ووكلائهم من رجال الأعمال والساسة موارد البلاد وأرضها. سيغير ماركس قطعا مفهومه عن أفيون الشعوب بعد أن تصدمه عشرات القنوات الفضائية التي تبث الخلاعة ووجبات الجنس ناخرة كالسوس في تقاليد وأعراف الأسرة المصرية المحافظة. سيتعلم ماركس درسا جديدا حين يجد هذه الأسرة تتحول بالتدريج ـ بفعل تزاوج البرجوازية المحلية من الصهيونية والرأسمالية العالمية ـ  إلى مسخ مشوه. قد يحدونا الأمل في أن الريف المصري والبادية هما الحصن الأخير، لكن من أسف أن هذا الحصن تهتز أسواره أمام الزحف المدنس الساعي بهمة لتدمير التراث الثقافي والأخلاقي المصري.


الطريق إلى إنقاذ المحروسة من مسيرتها العمياء إلى حافة الهاوية جد بسيط وواضح. شباب مصر هم الطاقة وأرض مصر بها من الكنوز الكثير، توشكى والنوبة وحلايب وشلاتين، وشمال سيناء والساحل الشمالي للصحراء الغربية، وجبل العوينات والواحات كلها مواقع صالحة لاحتضان مشروعات عملاقة صناعية وزراعية كفيلة بالخروج بسكان مصر إلى الإنتاج والعمل، كفيلة بأن تنقل مصر "المحبوسة" أمام شاشات التلفاز والمقاهي والأزقة المرصعة بمخلفات القمامة إلى بر الأمان حتى تستحق أن توصف بأنها "الأرض التي يرعاها الله".


ولأنه من السذاجة وضع كل التهم في رقبة الحاكم وتبرئة المحكومين، ولأن هناك قدرا من الصواب في الحكمة القائلة "كل شعب يستحق حكامه" فإننا لا نبرئ أنفسنا كمصريين. فقد احترفت شرائح منا ثلاثية مهلكة تقوم على "التناقض" و"هوان النفس" و"ضعف المبادرة". في هذه الثلاثية المخزية يقول كثير منا ما لا يفعل ويقبض بعضنا الرشوة وهو يخطب في الناس بالفضيلة، وترتدي بعض نساءنا الحجاب فوق زي الخلاعة والمجون.


وفي ظل مناخ فاسد سياسيا يستمرأ كثير من المصريين أنواعا مختلفة من الفوضى والإهمال والتراخي والتقصير، حتى صار كثيرا من الناس فاسدا "كل على قدر استطاعته" وغدت البلاد في بعض قطاعاتها "فسادستان" و"نفاقستان" وضياعستان".


حين يصح العزم وتمتلك مصر إرادتها وتنتقل من عصر التوريث والملكية والبرجوازية الصدئة والرأسمالية الزائفة إلى حكومة وطنية ذات مشروع قومي، وحين يتخلص المصريون من ثلاثية الهلاك ستتحول مصر خلال عقدين إلى ثلاثة عقود من "دولة صنعت التاريخ" إلى "دولة تستعيد المستقبل".


____________


عاطف معتمد عبد الحميد، أستاذ مساعد الجغرافيا السياسية بكلية الآداب في جامعة القاهرة.


المراجع:



  • جلال أمين (1997) ماذا حدث للمصريين، دار الشروق، القاهرة. 
  • جمال حمدان (1993) شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان، دار الهلال.
  • حسين مؤنس (1955) مصر ورسالتها، طبعة الهيئة المصرية العالمة للكتاب عام 1998، القاهرة.   
  • دوجلاس بريوير و إيملي تيتير (2009) مصر والمصريون، ترجمة عاطف معتمد ومحمد رزق، مكتبة الشروق الدولية. 
  • رؤوف عباس (2000) التنوير بين مصر واليابان، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة. 
  • رفاعة الطهطاوي (1869) مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2010، القاهرة.
  • زكي نجيب محمود (1997) ثقافتنا في مواجهة العصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
  • سليمان حزين (1943) البيئة والموقع الجغرافي وأثرهما في تاريخ مصر العام، مجلة الجمعية الجغرافية المصرية، القاهرة.
  • صفاء حافظ (2010) الموانئ والثغور المصرية من الفتح الإسلامي حتى نهاية العصر الفاطمي، سلسلة تاريخ المصريين، القاهرة. 
  • عاطف معتمد (2009) "مصر.. العدو في الداخل" مقال بصفحة قضايا وتحليلات، الجزيرة نت. http://www.aljazeera.net/NR/exeres/
    895AD427-CF4C-418D-94BB-20ECFAC4CDC8.htm
     
  • عبد الحليم نور الدين (2007) تاريخ وحضارة مصر القديمة، مطبوعات كلية الآثار، جامعة القاهرة.
  • عبد الرحمن الرافعي (1929) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، طبعة الهيئة العامة للكتاب عام 1998، القاهرة.
  • عبد المنعم سعيد (2010) مراجعة للمشهد السياسي المصري، جريدة الأهرام بتاريخ 11 سبتمبر 2010، القاهرة.  عزت قرني (2006) تاربخ الفكر السياسي والاجتماعي في مصر الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
  • لويس عوض (1987) تاريخ الفكر المصري الحديث، مكتبة مدبولي، القاهرة.
  • محمد الحديدي (2001) استرداد مصر: هل هناك مخرج مما نحن فيه، مركز الحضارة العربية، القاهرة.
  • محمود الحويري (1996) مصر في العصور الوسطى، مركز عين للدراسات والنشر، القاهرة.
  • المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، القاهرة.
  • يونان لبيب رزق (محرر- 2009) المرجع في تاريخ مصر الحديث والمعاصر. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.