الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو (الأوروبية-أرشيف) |
عبد العليم محمد
تستلهم العلاقات بين مصر وإسرائيل طبيعتها وآلياتها من نصوص وبنود المعاهدة المصرية الإسرائيلية للسلام في العام 1979، والتي أخذت مجراها في التطبيق المتدرج بعد عام من توقيع هذه المعاهدة أي في 26 مارس/آذار 1980، أي تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين وافتتاح كل منهما سفارة لدى الطرف الآخر.
الإطار الإستراتيجي العام
تحديات في وجه العلاقات المصرية الإسرائيلية
الآثار الإستراتيجية للعلاقات المصرية الإسرائيلية
ويمكن تكييف العلاقات المصرية الإسرائيلية قانونيا ودبلوماسيا على أنها علاقات ثنائية بين دولتين ذواتي سيادة، على غرار ما هو متبع في مجال تبادل العلاقات الدبلوماسية والاعتراف القانوني بين الدول، وتشمل هذه العلاقات جوانب دبلوماسية وقنصلية وتجارية وثقافية.
بيد أن الاكتفاء والاقتصار على تكييف هذه العلاقات بين مصر وإسرائيل قانونيا ووفق الأعراف الدولية المتبعة، ينطوي على كثير من التجريد والتمويه وربما التبسيط أيضا، ذلك أن هذه العلاقات المصرية الإسرائيلية رغم طابعها الثنائي ورغم استنادها إلى إرادة الدولتين وسيادتهما، تتميز هذه العلاقات عن غيرها بخصائص وملامح تنفرد بها دون غيرها من العلاقات بين الدول، وتجعلها رهينة أوضاع وتطورات تتجاوز على الأقل من وجهة النظر المصرية والعربية حدود أي علاقات ثنائية بين دولتين من دول العالم.
معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فكت الارتباط إلى حين بين مصر وبوابتها الشرقية، حيث قبلت مصر بالخروج من الصراع العربي الإسرائيلي بثقلها الإستراتيجي والعسكري والتاريخي –حتى لو لم تكن في البداية تريد ذلك تماما– ولكن هذا ما انتهى إليه الأمر فعليا |
كما أن العلاقات مع إسرائيل رغم الاعتراف بها وتبادل العلاقات معها، وفق نصوص المعاهدة، لا يجعل من إسرائيل دولة صديقة، أو يمحو عنها صفات العدوانية والاحتلال والاستيطان والعنصرية، ذلك أن ميراث العداء لإسرائيل في مصر والبلدان العربية ليس بمقدور أي معاهدة أن تتخلص منه مرة واحدة، خاصة أن توجهات إسرائيل العدوانية بقيت كما هي، بل تعمقت بعد عقد اتفاقية السلام مع مصر، واستنفرت القوة والنزوع نحو الهيمنة على المنطقة، ورفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني وحق البلدان العربية التي تحتل أراضيها في التطلع إلى تحريرها وبسط سيادتها عليها.
من ثم فإن هذه العلاقات بين مصر وإسرائيل رغم أنها ثنائية الطابع، وتستند إلى إرادة وسيادة الطرفين، فإنها -أي هذه العلاقات- تجد نفسها في الواقع أسيرة التشابكات والتداخلات والتناقضات، في مدركات ورؤى الأطراف المختلفة، ومن بينها بطبيعة الحال العالم العربي والإسلامي ومحصلة التطورات في الساحة الإقليمية عامة والصراع العربي الإسرائيلي خاصة.
وعلى ضوء هذه الملابسات والتداخلات في الحقل السياسي المصري والعربي والفلسطيني والإسلامي الرسمي منه والشعبي، الذي بدأت فيه العلاقات بين مصر وإسرائيل، فإن هذه العلاقات اصطدمت برفض شعبي مصري حازم ومتصاعد، منذ اليوم الأول لتبادل هذه العلاقات، وقد انخرطت في هذا الرفض قوى وتيارات سياسية وطنية وإسلامية وليبرالية ونقابات كبيرة واتحادات مهنية عمالية وطلابية، تمثل كل مستويات المجتمع المدني والأهلي في مصر، وقد ارتبطت حدة هذا الرفض وتنوع أشكاله من مظاهرات واحتجاجات وبيانات إدانة، بتطور الصراع العربي الإسرائيلي ومواقف إسرائيل العدوانية إزاء الشعب الفلسطيني واللبناني والمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وانتفاضة الشعب الفلسطيني في العام 1987 وانتفاضته في العام 2000 بعد انهيار محادثات كامب ديفيد الثانية.
والحال أن هذه العلاقات باتت محصورة في المناخ الذي بدأت فيه، في الجانب الرسمي الحكومي المتمثل في تبادل السفراء وافتتاح السفارات لكلا الطرفين وبعض جوانب التبادل التجاري المختلفة، في حين أنها لم تتمكن من اختراق الحاجز الشعبي والمجال غير الرسمي والقيود التي فرضتها الضغوط الشعبية أو تلك التي أدار فيها النظام والدولة علاقات مصر بإسرائيل.
من الممكن القول إن العلاقات المصرية الإسرائيلية قد خضعت منذ بدايتها وفق أحكام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1979 لإطار إستراتيجي عام، يحدد معاييرها ووتيرتها وإيقاعها وحدودها والآليات المختلفة لمعالجة مضاعفاتها ومشكلاتها وكذلك المبادئ والأسس التي تحكمها. والمؤكد أن هذه المعايير التي تحكم العلاقات بين مصر وإسرائيل لم توجد هكذا مرة واحدة مع بدء هذه العلاقات، بل تشكلت وصيغت عبر الممارسة والتفاعل والأزمات التي اعترضت طريق تطور هذه العلاقات وبناء على تداعيات وآثار هذه العلاقات على الصعيد المصري والعربي على حد سواء وردود الفعل إزاءها.
ويمكن تلخيص هذه المعايير والضوابط التي حكمت العلاقات المصرية الإسرائيلية، وتطورها وتحديد السقف الذي تدور فيه هذه العلاقات، على ضوء الواقع والممارسة فيما يلي:
1- مراعاة الحساسية الشعبية
يرتبط هذا المعيار بفهم عموم المصريين لعملية السلام والمعاهدة مع إسرائيل، ذلك الفهم الذي اقتصر على إنهاء الحروب بين مصر وإسرائيل، وليس فتح القلوب والمشاعر للإسرائيليين، أو تجاهل جرائمهم في حق المصريين والعرب والشعب الفلسطيني، والحال أن المصريين أدركوا أن العلاقات مع الإسرائيليين يجب أن تقتصر على العلاقات الرسمية، وفي الحدود الدنيا للمعاهدات والبروتوكولات، بينما العلاقات مع المصريين يتوقف مصيرها على موقف إسرائيل من عملية السلام مع بقية الشعوب العربية والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
بين هذين الحدين أي فهم المصريين لحدود السلام بين مصر وإسرائيل، وحصر العلاقات معها في الحدود الدنيا الرسمية بعيدا عن العلاقات الشعبية، حاولت الدولة والنظام بجميع مستوياتهما إدارة العلاقات مع إسرائيل بطريقة لا تخرج بها عن منطق ومتطلبات هذين الحدين، وذلك مع بعض الاستثناءات، كاتفاقية الكويز الموقعة بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل عام 2004 (1)، واتفاقية تصدير جزء من الغاز المصري لإسرائيل الموقعة عام 2005.
ترتب على خروج مصر من الصراع نشوء فراغ إستراتيجي عربي، ليس بمقدور بلد آخر أن يملأه، وهذا الفراغ قد منح إسرائيل مزايا نوعية إضافية، تضاف إلى رصيدها الإستراتيجي العسكري |
2- ربط تطور العلاقات بموقف إسرائيل من الشعب الفلسطيني وعملية السلام مع الدول العربية
ربطت الدوائر الرسمية المصرية بين تطور العلاقات مع إسرائيل وانخراط هذه الأخيرة في عملية جدية للسلام مع الشعب الفلسطيني والدول العربية، فليس من المنطقي والمعقول أن تتطور هذه العلاقات في ظل العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان في قانا 1996 وحزب الله 2006 وتنغيص حياة الشعب الفلسطيني والانقلاب على عملية أوسلو واستمرار الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين.
فطوال عهد الرئيس مبارك الممتد لم يقم بزيارة إسرائيل إلا مرة واحدة لتشييع جنازة رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين الذي أسهم في صنع عملية أوسلو للسلام مع الفلسطينيين، وهذه الزيارة الوحيدة التي لم تتكرر كانت تتضمن رسالة ألا وهي تقدير مصر لدور القادة الإسرائيليين الذين يمتلكون الجرأة لصنع السلام مع الشعب الفلسطيني، ورغم الانتقادات المستمرة لمبارك بسبب عدم زيارة إسرائيل وتكرار هذه الزيارة في الإعلام الإسرائيلي المكتوب والمرئي، فإن الرئاسة المصرية لم تر سببا لهذه الزيارات طالما بقي موقف إسرائيل على ما هو عليه من عملية السلام، وطالما استمرت السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين كما هي دون تغيير. وقد التزم جميع المسؤولين أو أغلبهم بهذا السقف الذي وضعه مبارك، فلم يبادر أي منهم لزيارة إسرائيل إلا لضرورة تحتمها الظروف وتتوفر لها المسوغات المقبولة.
3- مراعاة الخطوط الحمراء
وينطبق هذا المعيار على الحالة المصرية والحالة الإسرائيلية على حد سواء، فالطرفان حريصان على عدم تجاوز الخطوط الحمراء في إدارة علاقاتهما ومعالجة الأزمات التي تمر بها هذه العلاقات. والمقصود بالخطوط الحمراء هو عدم الوصول إلى المنطقة الأمنية والعسكرية من هذه العلاقات التي ترتبط باتجاهات التسليح واحتمالات وقوع حرب. وذلك لم يمنع أو يحل دون العديد من الاحتجاجات على نشاطات عسكرية أو إشارة إلى عمليات تسلحية أو انتقاد الحملات المصرية بشأن السلاح النووي الإسرائيلي، وانضمام إسرائيل لمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي وإخضاع منشآتها النووية لرقابة وكالة الطاقة الذرية.
بيد أن جميع هذه الاحتجاجات قد أديرت بمنطق الأزمات العابرة، التي لا تقترب من الخطوط الحمراء والمنطقة العسكرية والأمنية وتستبعد المواجهة العسكرية.
4- احترام السلام التعاقدي
حرصت مصر ربما أكثر من إسرائيل على احترام السلام التعاقدي المعقود بين البلدين وفقا لمعاهدات كامب ديفيد 1978 والمعاهدة المصرية الإسرائيلية للسلام عام 1979، وقبلت بالالتزامات الواردة في هذه النصوص كما قبلت بها إسرائيل، وعند نشوء أزمة طابا في المرحلة النهائية للانسحاب الإسرائيلي من سيناء ورفض إسرائيل إخلاءها، لجأت مصر إلى التحكيم الدولي، وقبلت إسرائيل بمبدأ التحكيم الذي انتهى كما هو معروف (عام 1988) بإقرار حق مصر في طابا.
وبالمثل عندما توترت الأمور في غزة على حدود مصر، طلبت مصر من إسرائيل زيادة عدد قوات الأمن على الحدود بين مصر وغزة، ووقعت اتفاقية بين الطرفين حددت عدد هذه القوات وتسليحها للمساعدة في حفظ الأمن على الحدود (عام 2009).
وفي جميع الأزمات والظروف ظلت العلاقات الرسمية بين مصر وإسرائيل تخضع للتقاليد والأعراف الدبلوماسية المعروفة، رغم المطالبات الشعبية بقطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق السفارة الإسرائيلية.
5- مراعاة العلاقات مع الولايات المتحدة من قبل مصر وإسرائيل
رغم الطابع الثنائي للعلاقات بين مصر وإسرائيل باعتبارهما دولتين ذواتي سيادة تدير كل منهما علاقاتها الخارجية من منظور المصلحة الوطنية، فإن كلا من طرفي العلاقة، أي مصر من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى، يضعان في اعتبارهما الاحتفاظ بعلاقاتهما مع الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها -على الأقل- راعية السلام بين مصر وإسرائيل منذ عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وباعتبار أن واشنطن تقدم المساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية لكلا البلدين، وإن بدرجات متفاوتة، حيث تحصل إسرائيل على نصيب الأسد من المساعدات المالية والعسكرية وتحصل مصر على نصيب متواضع منها، ويتوقف الأمر في المحصلة النهائية على طبيعة هذه العلاقات مع الولايات المتحدة والمكانة والحظوة التي تتمتع بها كل من مصر وإسرائيل.
فالأولى أي مصر تلعب دورا هاما في عملية السلام على الصعيد الإقليمي، فهي أول دولة عربية وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل واعترفت بها وقدمت نموذجا من وجهة النظر الأميركية لبقية الدول العربية من المفترض أن يحتذى به، واحترمت حتى الآن التزاماتها بموجب نصوص وبنود هذه المعاهدة، أما الثانية أي إسرائيل فهي الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة والأكثر أمانا واستقرارا في منظور الولايات المتحدة، وتحظى إسرائيل بأدوات ضاغطة في دوائر الكونغرس والبنتاغون وفي أوساط الرأي العام عبر منظمة "الإيباك" وغيرها من المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية.
والحال أن كلا البلدين أي مصر وإسرائيل ورغم تفاوت علاقاتهما بالولايات المتحدة الأميركية يحرصان على أخذ مواقف وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة محل الاعتبار، خاصة إزاء عملية السلام في الشرق الأوسط، التي تعدها الولايات المتحدة خاصة في عهد باراك أوباما مدخلا صحيحا وملائما لمعالجة الملفات المختلفة في المنطقة، خاصة في العراق وأفغانستان وإيران ولبنان، وعلاجا جذريا لتقليص التطرف الديني والإرهاب.
6- علاقة مصر بالعالم العربي والإسلامي
تدير مصر ملف العلاقات مع إسرائيل في دائرة أوسع من مجرد العلاقات الثنائية، فمصر ترى أن ملف العلاقات مع إسرائيل يتميز بحساسية خاصة تقتضي الحرص والحذر والتوازن، وإذا كان من الصحيح أن هذه العلاقة مع إسرائيل تدار وفق اعتبارات المصلحة الوطنية المصرية في المقام الأول، فإن هذه المصلحة الوطنية تنخرط في منظور شامل لمصالح مصر عامة وعلاقاتها الخارجية خاصة مع العالم العربي والعالم الإسلامي لما لمصر من مكانة وتأثير في هاتين الدائرتين.
على ضوء ذلك تتميز إدارة العلاقات مع إسرائيل بالحذر والحرص وعدم الاندفاع أو التلبية السريعة لمطالب الجانب الإسرائيلي، ومن ثم تحرص مصر على أن تكون العلاقات مع إسرائيل مجرد علاقات عادية محدودة بالسقف القانوني والدبلوماسي المتعارف عليه بين الدول، كما تحرص مصر على أن تربط بين المطالب الإسرائيلية لتطوير العلاقات مع مصر بشروط سياسية تخص الأداء الإسرائيلي والسياسات الإسرائيلية تجاه عملية السلام وحقوق الشعب الفلسطيني، وتوظف في الكثير من الأحيان العلاقات مع إسرائيل لتوصيل وجهة النظر العربية والفلسطينية عبر القنوات الرسمية.
من ناحية أخرى فإن مصر، بلد الأزهر الشريف، تربطها بالعالم الإسلامي روابط تنظيمية وسياسية بالغة الأهمية وتدرك أن القضية الفلسطينية تنطوي بالإضافة إلى بعدها العربي القومي والفلسطيني على بعد إسلامي واضح لا لبس فيه، خاصة يتعلق بالقدس والأقصى، وهو ما يستلزم منظورا شاملا لأخذ هذه القضايا في الاعتبار إزاء عملية السلام إن بين إسرائيل وفلسطين وإن بين الدول العربية وإسرائيل.
هذه الاعتبارات الدولية والإقليمية والعربية والإسلامية تنخرط في منظور إدارة العلاقات المصرية الإسرائيلية بدرجات متفاوتة، وفق الأولويات والظروف والأزمات التي تعترض مسار العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل.
تحديات في وجه العلاقات المصرية الإسرائيلية
تواجه العلاقات المصرية الإسرائيلية تحديات كبيرة تفوق بكثير العلاقات المصرية بأي دولة أخرى، نظرا لحساسية هذا الملف وخطورته والميراث العدائي بين مصر والشعوب العربية وبين إسرائيل، ذلك الميراث الذي يصعب التخلص منه بتوقيع معاهدة وتطبيق بنودها، خاصة مع بقاء إسرائيل كما هي دون تعديل في هيكل توجهاتها إزاء شعوب المنطقة ومحيطها العربي، أي بقائها عدوانية استيطانية عنصرية وتستخدم تفوقها التكنولوجي والعسكري في قهر البلدان العربية ورفض الحقوق الفلسطينية.
يبرز من بين هذه التحديات -على سبيل المثال لا الحصر- تحدي الأمن الإقليمي والقيادة، والتحدي النووي أي امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية ورفضها الانضمام والتوقيع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وقبول منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وكذلك التحدي الإيراني وتحدي الانخراط في عملية سلام شاملة بين إسرائيل والدول العربية سوريا ولبنان وبين إسرائيل وفلسطين وكذلك التحدي الداخلي المتعلق بمستقبل مصر في حقبة ما بعد الرئيس مبارك والمحاذير والمخاطر التي ينطوي عليها وتأثيرها في العلاقات المصرية الإسرائيلية أو معاهدة السلام بين البلدين.
1- تحدي الأمن الإقليمي والقيادة
استندت مصر في توقيع معاهدات كامب ديفيد حول إطار السلام في الشرق الأوسط عام 1978 بعد مبادرة الرئيس أنور السادات في العام 1977 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1979، إلى رؤية مفادها سعي مصر للسلام والاستقرار في المنطقة والاعتراف بإسرائيل أمرا واقعا، وضرورة تخصيص موارد المنطقة نحو التنمية الشاملة وتقليص نفقات الحروب وآثارها وتداعياتها التي عانت منها مصر عبر حروبها مع إسرائيل.
يضاف إلى ذلك صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على إسرائيل يجبرها على الاعتراف بالحقوق العربية والفلسطينية والانسحاب من الأراضي التي احتلتها في العام 1967، وذلك بسبب التحالف الإستراتيجي الوثيق بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وحرص هذه الأخيرة على استمرار تفوق إسرائيل عسكريا على جميع الدول العربية المحيطة، واستحالة فك هذا الارتباط بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وبصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق حول هذه الرؤية بين التيارات السياسية المختلفة، فإن هذه الرؤية وعناصرها المبينة آنفا هي التي حكمت هذا التوجه السياسي المصري منذ بدايته في أواخر السبعينيات وحتى الآن، رغم رحيل الرئيس أنور السادات وقدوم الرئيس حسني مبارك واستمراره في الحكم حتى الآن ورغم جهوده لإعادة مصر إلى العالم العربي أو إعادة العالم العربي إلى مصر فإن هذا التوجه ظل كما هو.
بيد أن الواقع والممارسة وتطبيق هذه الرؤية قد خلقت مضاعفات كثيرة تحول دون تطوير العلاقات مع إسرائيل وتجعلها في الحدود الدنيا حتى إشعار آخر.
أدركت مصر أن السلام مع أكبر دولة عربية وانتهاء الحروب بينها وبين إسرائيل لم يكن كافيا لإيقاف مسلسل العدوان والحرب في المنطقة، فما أتمت إسرائيل آخر مراحل انسحابها من سيناء في العام 1982، حتى بادرت بالعدوان على لبنان ومحاصرة بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية منها، وأحكمت قبضتها على الشريط الحدودي في جنوب لبنان، ورفضت كل مشاريع السلام التي طرحت آنذاك، وحتى بعد عقد اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، ماطلت في تنفيذ الكثير من بنود أوسلو، بل وقامت بالعدوان على لبنان عام 1996 وارتكبت مذبحة قانا وشنت حربا وعدوانا على المقاومة اللبنانية في صيف العام 2006.
والحال أن سعي مصر للاستقرار الإقليمي والسلام والأمن قد اصطدم بصخرة النوايا العدوانية الإسرائيلية، وتصاعد نزعة السيطرة الإسرائيلية ورفض الانصياع للضغوط الدولية والقرارات الدولية، واكتشفت مصر أن إسرائيل مصدر التهديد للأمن الإقليمي والاستقرار في المنطقة خاصة مع قدوم اليمين الإسرائيلي، ممثلا في الليكود وحلفائه من المتطرفين الدينيين في حقبة التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة.
ومن ثم فإن مصر ترهن مستقبل وتطوير علاقاتها بإسرائيل بتحقيق الأمن الإقليمي والاستقرار، وتعديل هيكل التوجهات الإسرائيلية نحو المنطقة عبر إقرار السلام وإقرار حق الشعب الفلسطيني والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وقد لا تفكر المؤسسة السياسية والأمنية في مصر في الإقدام على خطوات على طريق تطوير العلاقات مع إسرائيل قبل تحقق هذا الهدف.
السياسة المصرية الخارجية فقدت الكثير من قدرتها ومصداقيتها في مجال ضبط التفاعلات الواقعة والناجمة عن خروج مصر كفاعل إستراتيجي في مواجهة إسرائيل |
لم تكن مصر تنتظر تصريحات شمعون بيريز في مؤتمر الدار البيضاء إبان التفاؤل بعد اتفاق أوسلو عام 1996 الذي خاطب فيه الدول العربية الممثلة في المؤتمر قائلا "لقد جربتم قيادة مصر في السابق فلتجربوا قيادة إسرائيل الآن!" كانت مصر تدرك أن هاجس القيادة والسيطرة لا يزال يداعب أحلام الإسرائيليين، إذ تطرح إسرائيل نفسها منافسا لمصر وتنازعها الدور الإقليمي الذي كان حكرا عليها في وقت سابق، ولم يفارق المخيلة السياسية المصرية حتى الآن، رغم ما اعترى الكثير من الأشياء من تغير، ورغم المستجدات التي طرأت على المسرح الإقليمي.
وهكذا يمثل هاجس الأمن الإقليمي والاستقرار والقيادة تحديا كبيرا لتطور العلاقات المصرية الإسرائيلية، خاصة مع استمرار حصار غزة برا وبحرا وجوا وحشر ما يقرب من 1.5 مليون فلسطيني في هذه البقعة من الأرض بمحاذاة الحدود المصرية.
2-التحدي النووي الإسرائيلي
مصر ومعها الدول العربية صاحبة مبادرة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وتأكد ذلك عبر العديد من التوصيات والقرارات. تتمسك مصر بضرورة توقيع إسرائيل على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية وإخضاع المنشآت النووية الإسرائيلية التي يقع بعضها غير بعيد عن الحدود المصرية، لإشراف وكالة الطاقة الذرية ورقابة مفتشيها، وترفض إسرائيل التوقيع على هذه المعاهدة كما ترفض إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها.
تعتمد إسرائيل -وتؤيدها الولايات المتحدة الأميركية- ما يسمى "بسياسة الغموض النووي" وبمقتضى هذا المبدأ لا تعترف إسرائيل كما أنها لا تنفي امتلاكها أسلحة نووية، في حين أن العديد من الخبراء حول العالم ومن بينهم بعض اليهود يؤكدون امتلاك إسرائيل لما يفوق مائتي رأس نووي أو قنبلة نووية.
وترى مصر في امتلاك إسرائيل السلاح النووى تهديدا لأمنها وأمن شعوب المنطقة، قد يفتح الباب أمام سباق التسلح في الشرق الأوسط، ولا تألو مصر جهدا في الترويج لإخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي، في المحافل الدولية المختصة، وترى أن ذلك هو صمام الأمان لكل شعوب المنطقة ودرء الأخطار عنها، وتخصيص مواردها لرفاهية شعوبها.
ويعد السلاح النووي الإسرائيلي من أكبر التحديات التي تواجه تطور العلاقات مع إسرائيل، ذلك أن هذا السلاح يقف متناقضا مع أسس وعناصر الإدراك السياسي المصري لطبيعة السلام في المنطقة التي تحفل بالعديد من المشكلات والقضايا التي تعترض طريق تطور شعوبها.
لم تر مصر أي تناقض بين استمرار التزامها ببنود معاهدة السلام مع إسرائيل وتوجهها الدعائي والإعلامي والسياسي المتعلق بتملك إسرائيل للسلاح النووي ورفضها الانضمام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والحال أن ملف إسرائيل النووي يخلق مساحة للتوتر والمشاحنات والعقبات أمام تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين.
3-التحدي الإيراني
يخلق تنامي الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط مضاعفات كثيرة للسياسة المصرية من وجهة نظر النظام السياسي المصري، وتنعكس هذه المضاعفات والتداعيات على العلاقات بين مصر وإسرائيل، حيث تطرح إيران نفسها قوة إقليمية ذات تطلعات نووية، ورغم تأكيد الطابع السلمي والمدني لبرنامجها النووي فإن العديد من الشكوك تساور الدوائر المصرية والعربية حول إمكان تحول هذا البرنامج المدني والسلمي إلى برنامج نووي عسكري ينتهي بتملك إيران للسلاح النووي.
وإذا ما حدث ذلك وتملكت إيران السلاح النووي، فقد تفكر مصر في الحصول على مثل هذا السلاح، رغم أنها أوقفت برنامجها النووي في السبعينيات، فمصر والدول العربية السنية قد تجد نفسها مدفوعة للحصول على سلاح نووي "سني" في حالة تملك إيران سلاحا نوويا سيعد "شيعيا" أخذا في الاعتبار الانقسام المذهبي بين إيران والدول العربية.
تجد مصر إيران منافسا قويا لها على الساحة الإقليمية في الشرق الأوسط، فهما بلدان إسلاميان كبيران في المنطقة رغم اختلافهما المذهبي، وتمتلك إيران مثلها في ذلك كمثل مصر حضارة طويلة ضاربة في أعماق التاريخ، وذلك فضلا عن ضخامة مواردها ومساحتها وموقعها، وتخشى مصر أن تقوم إيران في المنطقة بالدور الذي قامت به مصر إبان حقبة الخمسينيات والستينيات، حيث كانت مصر قوة رائدة ترفع راية التغيير والثورة وتدفع برياحها صوب الأنظمة التقليدية المحافظة خاصة في الخليج.
بيد أن تملك إيران للسلاح النووي واحتمال توجه مصر والدول العربية لتملك سلاح نووي سيخلق مضاعفات للعلاقات بين إسرائيل ومصر، فلن تستطيع حجة مصر في حالة سعيها للحصول على سلاح نووي في مواجهة إيران إقناع الجانب الإسرائيلي، إذ سيعتبر ذلك موجها بالدرجة الأولى لإسرائيل، ولن تمتنع إسرائيل في هذه الحالة عن تعطيل هذا التوجه المصري أو العربي كما فعلت في العراق، وسوف تتوتر العلاقات المصرية الإسرائيلية.
وفضلا عن ذلك فإن التوجه الإيراني لتملك السلاح النووي –بافتراض جديته- سيفتح سباق التسلح في المنطقة وستسعى الدول العربية الخليجية لمواجهة هذا الوضع، وقد يمنح هذا التوجه الإيراني مشروعية ومصداقية لتملك إسرائيل السلاح النووي، وهو ما يتعارض كلية مع سعي مصر والدول العربية ومجموعة عدم الانحياز والدول الإسلامية لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن إيران منضمة لمعاهدة الحد من انتشار السلاح النووي وتخضع منشآتها النووية لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتؤكد الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي.
4-التحدي الداخلي
يثار كثير من الجدل خاصة في إسرائيل حول مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية في حقبة ما بعد "مبارك"، حيث تجاوز الرئيس مبارك الذي يحكم مصر منذ 1981 الثمانين عاما، ويدور الحديث حول من سيخلف مبارك في رئاسة مصر، وهذا السؤال من وجهة النظر الإسرائيلية يمثل مصدرا للقلق حول مستقبل العلاقات مع مصر، ففي حالة ترشيح مبارك الأب نفسه لولاية رئاسية أخرى * فيعد ذلك من وجهة النظر الإسرائيلية ضمانا لاستمرار العلاقات بوتيرتها الحالية، أما في حالة حدوث أزمة في انتقال السلطة يترتب عليها صعود الإخوان المسلمين إلى الحكم وبعض القوى الأخرى، فإن ذلك الاحتمال سيضع هذه العلاقات في مهب الريح بسبب نظرة الإخوان للصراع والثغرات الموجودة في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تنتقدها التيارات الوطنية في مصر.
أما في حالة ترشيح جمال مبارك للرئاسة فإنه يحتاج لدعم المؤسسة العسكرية التي يصعب تأييدها لجمال بسبب أنه يجيء من خارج هذه المؤسسة، من مجال الأعمال والبنوك، كما أن توجهات جمال مبارك سياسيا واقتصاديا قد تضر بمصالح المؤسسة العسكرية، ولكن جمال مبارك من وجهة النظر الإسرائيلية سيدعم سياسة سلفه وأبيه في دعم العلاقات مع إسرائيل وإبقائها في مستواها الراهن، وقد ينطوي الأمر على بعض المخاطر في حالة ما إذا حاول مبارك الابن، بسبب عدم شعبيته وللحصول على شعبية تبني تصعيد محسوب ضد إسرائيل لتدعيم مركزه الداخلي، ويرى المراقبون الإسرائيليون أنه ينبغي على إسرائيل أن تدعم مبارك الابن بطرق وأساليب غير علنية حتى يدعم مركزه في الحكم.(2)
وفي جميع الحالات فإن العلاقات المصرية الإسرائيلية ستتأثر بكل هذه الاحتمالات إذا ما قدر لأي منها أن يرى النور، وهكذا فإن حقبة ما بعد مبارك وطبيعتها وآلياتها ستكون من المحددات للعلاقات بين مصر وإسرائيل.
5-تحدي عملية السلام
تعد عملية السلام واستكمالها إن على المسار الفلسطيني أو المسار السوري اللبناني من أهم المحددات لمستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية والعلاقات العربية الإسرائيلية بشكل عام، حيث تربط مصر مبارك بين تطوير علاقاتها بإسرائيل وتوجه إسرائيلي جدي إزاء عملية السلام والدخول في مفاوضات بناءة، بالتخلي عن العنف الموجه ضد الشعب الفلسطيني والالتزام الإسرائيلي الجدي بقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
وليس من المتوقع أن يتحول "السلام البارد" مع مصر إلى سلام حار ودافئ كما تتمنى إسرائيل إلا مع استكمال عملية السلام لاستقرار وأمن المنطقة ومعالجة قضايا الدولة الفلسطينية والحدود والقدس واللاجئين.
ولا شك أن معالجة القضية الفلسطينية من أهم التحديات التي تقف في وجه تطور العلاقات المصرية الإسرائيلية، فهي –أي القضية الفلسطينية– لا تتعلق فحسب بالأمن الإقليمي والقومي العربي بل تتعلق أيضا بالأمن القومي المصري وعلاقات مصر الطبيعية والجغرافية والتاريخية والسياسية والإستراتيجية بفلسطين والشعب الفلسطيني قبل قيام إسرائيل وبعد قيامها.
6-نشوب حرب في المنطقة
يلعب احتمال نشوب حرب في المنطقة بين إسرائيل وسوريا أو بين إسرائيل ولبنان دورا هاما في العلاقات المصرية الإسرائيلية وكذلك تصاعد العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
فمن شأن تحقق هذه الاحتمالات أي نشوب الحرب أن يخلق مضاعفات وتحديات لمصر، ويفتح الطريق للضغوط الشعبية من أحزاب المعارضة والحركات الشعبية للمطالبة بإغلاق السفارة الإسرائيلية أو سحب السفير المصري في تل أبيب، خاصة إذا ما كانت إسرائيل هي التي بادرت بشن حرب ضد سوريا أو ضد لبنان والمقاومة اللبنانية، ففي هذه الحالة لن تستطيع مصر الوقوف في صفوف المتفرجين ولا يعني ذلك إعلان الحرب ضد إسرائيل أو بدء مواجهة عسكرية معها وإنما يعني تجميدا جزئيا أو كليا لهذه العلاقات وإضافة مصادر جديدة للتوتر بين البلدين وخلق المزيد من العقبات أمام هذه العلاقات الثنائية، ولن يكون في مقدور مصر أيا كان من يحكم أن يتجاهل الغضب الشعبي والضغوط الشعبية خاصة إذا ما كانت قوية ومؤثرة.
ولكن الوضع سيختلف إذا ما كانت سوريا هي التي بدأت الحرب -وهو سيناريو مستبعد- حيث تستطيع مصر أن تقنع الدول العربية بأن سوريا تساهم في خلق عدم الاستقرار في المنطقة وتعرض أمن المنطقة للخطر، ولا يعني ذلك بالضرورة أن مصر ستبارك رد الفعل الإسرائيلي أو توافق على إطلاق اليد العدوانية الإسرائيلية ضد سوريا، بل يعني أن قدرة مصر على المناورة ستكون أكبر في حالة بدء سوريا الحرب.
وفي جميع الأحوال فإن نشوب حرب في المنطقة بين إسرائيل وسوريا أو بين إسرائيل ولبنان أو تصاعد العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بصرف النظر عمن بدأ الحرب والعنف سيضع قيدا على تطوير العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل ويجعلها تراوح مكانها في الحد الأدنى أو يضع مستقبل هذه العلاقات في مهب الريح.
7- وضع سيناء المصرية
لقد فرضت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل قيودا على انتشار القوات المسلحة المصرية في مناطق سيناء المختلفة وفق التقسيم إلى مناطق أ وب وج من الشرق وحتى معابر سيناء الحدودية، رغم الاعتراف بالسيادة المصرية الكاملة عليها، وينظر لهذا الأمر سواء من قبل دوائر المعارضة والتيارات السياسية المختلفة أو في دوائر الأمن القومي المصري على أنه مجحف بسيادة مصر، وفي حين تتمسك إسرائيل باحترام هذا البند من المعاهدة، فإن من شأن أي إجراء مصري لخرق وتجاوز هذه القيود سيترتب عليه ردود فعل إسرائيلية تؤثر في طبيعة العلاقات بين البلدين.
ففي حالة نشوب حرب ومواجهات عسكرية بين إسرائيل وسوريا أو إسرائيل ولبنان وتدهور الوضع السياسي في إسرائيل وضعف موقفها على الساحة الدولية قد تدفع مصر ببعض قواتها في سيناء واعتبار ذلك إجراء دفاعيا بسبب وجود استعدادات عسكرية إسرائيلية ضد سيناء، وفي هذه الحالة قد تشهد العلاقات المصرية الإسرائيلية توترات وأزمات يصعب تحديد ملامحها من الآن، والمؤكد أنها -أي هذه العلاقات- ستتأثر سلبا بالمستجدات على الساحة الإقليمية.
الآثار الإستراتيجية للعلاقات المصرية الإسرائيلية
تقف العلاقات المصرية الإسرائيلية ومعاهدة السلام التي استندت إليها، وراء العديد من التداعيات والآثار ذات الطابع الإستراتيجي العام، التي تخص مصر والعالم العربي والقضية الفلسطينية، ونركز في هذه الخلاصة على أهم وأبرز هذه التداعيات وآثارها في الأوضاع العربية والفلسطينية العامة.
فيما يخص مصر أولا فإن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وتطبيقاتها في الواقع، أي في سيناء، قد فرضت قيودا على انتشار القوات المسلحة المصرية بدرجات متفاوتة، وتمثل هذه القيود -رغم السيادة النظرية المصرية على سيناء– قضية مثيرة للجدل بين النظام والمعارضة وربما أيضا في بعض كواليس أجهزة الدولة، خاصة الأمنية منها، حيث تشكل هذه القضية مساسا بالكرامة الوطنية من وجهة نظر القوى المعارضة، ووضعا يجب السعي إلى تعديله إن بإعادة التفاوض أو الدبلوماسية من وجهة نظر بعض الدوائر الأمنية.
في التاريخ المصري ثمة بوابتان للأمن القومي المصري أولاهما منطقة الشام بما فيها فلسطين في الشرق، وبوابة الجنوب المتمثلة في دول حوض النيل ومنابعه، فعبر الشام وفلسطين جاءت الغزوات من قبل الحيثيين والهكسوس وغيرهم من الطامعين في العصور القديمة في استقرار مصر ورخائها وازدهار حضارتها وثقافتها، أما من الجنوب فثمة شريان الحياة في مصر، ألا وهو نهر النيل الذي قال عنه المؤرخ اليوناني هيرودوت "مصر هبة النيل".
والحال أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية قد فكت الارتباط –إلى حين- بين مصر وبوابتها الشرقية، حيث قبلت مصر بالخروج من الصراع العربي الإسرائيلي بثقلها الإستراتيجي والعسكري والتاريخي -حتى لو لم تكن في البداية تريد ذلك تماما– ولكن هذا ما انتهى إليه الأمر فعليا.
وقد ترتب على خروج مصر من الصراع نشوء فراغ إستراتيجي عربي، ليس بمقدور بلد آخر أن يملأه، وهذا الفراغ قد منح إسرائيل مزايا نوعية إضافية، تضاف إلى رصيدها الإستراتيجي العسكري، وركزت معظم أو أغلب هذا الرصيد صوب البلدان العربية الأخرى (لبنان 1982) والشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة والعراق (تدمير مفاعل تموز 1981) وغير هذه الوقائع من حروب واعتداءات متكررة.
ومن منظور ميزان القوى بين العرب وإسرائيل فإن معظم المحللين والمراقبين العرب وغير العرب يرون الآن بعد العدوان الأميركي على العراق وتدميره واتساع نطاق الفتنة فيه، إضعافا للدول العربية في مواجهة إسرائيل، وتعزيزا لموقف هذه الأخيرة في مواجهة العرب أجمعين، فما بالنا بمصر بثقلها الديموغرافي والعسكري في مواجهة إسرائيل.
ومن ناحية أخرى فإن دور مصر الإقليمي وتأثير النموذج الذي تمكنت من صنعه وصياغته إبان حقبة الخمسينيات والستينيات، قد أصابه قدر كبير من التراجع على الصعيد العربي والأفريقي، وهذا الأخير أي الصعيد الأفريقي الذي تمثل في اتفاق دول منابع نهر النيل على إعادة توزيع حصص مياه النهر مرة أخرى، توزيعا يلائم احتياجات هذه البلدان ويقلل من نصيب مصر من المياه، وهو الأمر الذي تم الانتباه إليه مؤخرا في الدوائر والسياسات المصرية عبر ضخ المزيد من الاستثمارات المصرية في إثيوبيا ومساعدة بلدان منابع النهر في أعقاب الأزمة الأخيرة، خاصة بعد اتضاح الدور الإسرائيلي في ما آلت إليه الأمور.
ومع ذلك حاولت مصر إعادة بناء دورها على ضوء هذه المتغيرات الجديدة، التي لحقت بسياستها، حيث حاولت وعبر علاقاتها إن بإسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية أن تلعب دور الوسيط بين هؤلاء وبين ممثلي الشعب الفلسطيني، وحاولت أن تضبط الأداء الإسرائيلي المنفلت.
ومن ثم ألقت مصر بثقلها في قضية المصالحة الفلسطينية الفلسطينية بين فتح وحماس، وتمكنت من جمع الفرقاء الفلسطينيين في القاهرة لتوقيع اتفاقية القاهرة عام 2005، وبعد سيطرة حماس على غزة ورغم عدم اعترافها بذلك وعدم ارتياحها لصعود حماس، أبقت على كل القنوات مفتوحة للحوار بين شقي المشروع الوطني الفلسطيني ورأب الصدع بينهما وتحقيق التهدئة والمصالحة وتجنب حدوث كارثة إنسانية في قطاع غزة وعلى حدود مصر.
عاد العرب إلى مصر أو عادت مصر إلى العرب بعد القطيعة والعزلة التي عانتها مصر جراء المبادرة والمعاهدة والعلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل، ولكن هذا كله تم في إطار تغير كبير اعترى الموقف العربي، وأصبح فيه السلام مع إسرائيل خيارا إستراتيجيا، عبر المشاريع التي قدمت إبان وقبل هذه العودة لمصر وللعرب، وتراجع فيه مشروع التحرير بالقوة المسلحة، وقبلت الدول العربية جميعا بدولة فلسطينية على أراضي العام 1967، وتراجع فيه الخيار العسكري وبرز بوضوح مشروع المقاومة التي تتبنى تكتيك حرب العصابات على غرار حزب الله وحماس.
وأيا كانت محاولات مصر لرأب الصدع ومعالجة الاختلالات التي نجمت عن المعاهدة المصرية الإسرائيلية، فإن السياسة المصرية الخارجية فقدت الكثير من قدرتها ومصداقيتها في مجال ضبط التفاعلات الواقعة والناجمة عن خروج مصر كفاعل إستراتيجي في مواجهة إسرائيل -حتى ولو حاولت القيام بهذا الدور على الصعيد الدبلوماسي والسياسي– تجاه البوابة الشرقية للأمن المصري المتمثلة في الشام وفلسطين ككتلة إستراتيجية واحدة، رغم عدم وجود تهديد مباشر حتى الآن وأيضا تجاه البوابة الجنوبية لمصر المتمثلة في دول حوض ومنابع النيل خاصة السودان الذي يبدو أنه في الطريق للتفتت والانقسام.
وفي كلتا الجبهتين أصبحت إسرائيل قاسما مشتركا أعظم في هاتين المنطقتين، بما لها من أدوات اقتصادية وأمنية وعسكرية وتكنولوجية. لقد أفسح تراجع الدور الإقليمي لمصر المجال لظهور فاعلين إقليميين جدد أو قدامى، حيث يزداد الدور الإسرائيلي ودور تركيا ودور إيران في المنطقة وهي دول ليست عربية.
وقد أفضى ذلك إلى زعزعة وخلخلة دور المثلث الذي عرفه النظام العربي والذي كان يتمثل في السعودية ومصر وسوريا، وكان يمكن أن يلعب دور القاطرة في تماسك النظام العربي عامة في مواجهة القوى الدولية والإقليمية التي تتنازع السيطرة على مصير المنطقة.
ورغم ذلك أظهرت مصر قدرات تكتيكية ومهارات عملية لتوظيف معطيات إقليمية ودولية لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية.
وفي هذا الإطار وعلى ضوء الخلل المتزايد في علاقات القوى على الصعيد الإقليمي عامة والصعيد العربي الإسرائيلي خاصة يمكن لمصر والعالم العربي البدء في محاولة ترتيب البيت العربي على أسس جديدة وبناء توافق عربي يدعم التكامل ويحقق منافع مشتركة للبلدان العربية وفتح حوار مع إيران لتبديد المخاوف وتحقيق الأمن لكل الدول في المنطقة وكذلك اعتبار إسرائيل مصدر التهديد الرئيس على الأمن العربي عامة وممارسة كل الضغوط الممكنة والمقبولة لوحدة الحركة الوطنية الفلسطينية وترشيد المقاومة ودعمها.
وما أشرنا إليه آنفا يعد طريقا طويلا ولكنه ضروري لفتح نوافذ ومسالك جديدة واستشراف إستراتيجية مختلفة لتصحيح التوازن والخلل لصالح القضايا العربية.
__________________
كتبت هذه الورقة في 27 سبتمبر/أيلول 2010
عبد العليم محمد، مستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام.
1- الكويز: يعرف ببروتوكول المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) Qualified industrial zone، وقد وقعته مصر مع الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة الأميركية عام 2004 ويتلخص مضمونه في السماح بدخول صادرات المنسوجات المصرية إلى الأسواق الأميركية دون رسوم بشرط وجود مكون إسرائيلي في هذه المنسوجات بنسبة 10.5%، وقد بلغ عدد الشركات المصرية المنضمة والمستفيدة من هذا الاتفاق حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2008، 689 شركة في الإسكندرية والعاشر من رمضان وشبرا الخيمة وغيرها من المناطق الصناعية في مصر. ولمزيد من المعلومات انظر: التقرير الإستراتيجي الفلسطيني 2005، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات بيروت 2005، ص 103 - 104. وانظر أيضا: منار الشوربجي، العلاقات المصرية الأميركية، ملف مصر على مفترق طرق، مركز الجزيرة للدراسات 2010. (المحرر)
2- قضت الثورة الشعبية التي اندلعت في مصر يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 على مساعي جمال مبارك لخلافة أبيه. (المحرر)