سيناريوهات بلقانية في ضوء الماضي والحاضر.. النموذج البوسني

يحاول لاتييش أن يستطلع مستقبل البوسنة في السنوات القادمة وهل ستقود إرادة المجتمع الدولي إلى سلام دائم، وهل سيحتفل في سنة 2014 بالذكرى المئوية لبدء الحرب العالمية الأولى في سراييفو؟ أم أن تقسيم البوسنة سيكون أهم ملامح هذه الفترة؟







نجاد لاتيتش



من المثير جدا للانتباه ملاحظة عدم وجود دراسات وتحاليل استراتيجية حول مستقبل البوسنة والهرسك في سياق التطورات الجيوسياسية في غربي البلقان وجنوب شرق أوروبا في المؤسسات الدولية وعند خبراء التعامل مع مثل هذه التحاليل والتي تنشر في وسائل الإعلام المحترمة. وبصرف النظر عن المادة التحليلية التي يتم نشرها أحيانا في الصحف، والتي تؤكد على آراء بعض السياسيين، ومعظمهم من السفراء السابقين الذين خدموا في البوسنة.


البوسنة والهرسك وغياب الدراسات الجادة 
ثلاث فترات تاريخية رئيسية
الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى
الآخر يقرر تاريخ البوسنة والهرسك
سيناريو مزدوج للبوسنة والهرسك


البوسنة والهرسك وغياب الدراسات الجادة





يجيب الدبلوماسيون ردا على السؤال حول مستقبل البوسنة والهرسك بالعبارة الدبلوماسية المناسبة بأنه "سؤال جائزة المليون دولار"
لا أحد يجرؤ أن يتنبأ بالنتائج من خلال المسار الذي اتخذته البوسنة والهرسك بعد اتفاقات دايتون للسلام. وإذا استثنينا عددا من ساسة العالم الذين ألفوا كتبا، تحتوي على مذكراتهم في الغالب، مثل مارغريت ثاتشير وبيل كلينتون، بشأن الحرب في البوسنة باعتبارها قضية سياسية عالمية، ومثل ريتشارد هولبروك، وساروس فانس وكارل بيلت، الذين شاركوا مباشرة في المفاوضات الدولية بشأن البوسنة، فإنك لا تجد كتبا تركز حصرا على هذا الموضوع، ثم يمكن القول إن البوسنة والهرسك كموضوع كان في تلك الفترة في قمة أولويات السياسة العالمية.

أما اليوم فيجيب الدبلوماسيون ردا على السؤال حول مستقبل البوسنة والهرسك بالعبارة الدبلوماسية المناسبة بأن هذا السؤال هو "سؤال جائزة المليون دولار".


وهناك عدة أسباب لهذا الصمت وعدم الرد على سؤال حول مستقبل البوسنة والهرسك. وبصرف النظر عن أزمة اقتصادية حادة جدا، وعن علاقات سياسية أكثر صعوبة، وعن علاقات معقدة بين شعوب البوسنة والهرسك، والتي تولد في الواقع مستقبلا غامضا جدا لهذا البلد.


صحيح أن هناك أسبابا تاريخية تشكل عبءا على الواقع حيث إنه من الصعب جدا خلق منظور ستحدد من خلاله مستقبل البوسنة والهرسك. وعلى الرغم من الاتجاه السياسي، وبصورة عامة بالنسبة لجميع المراكز ذات الصلة السياسية بالسلطة، والذي يتم إنشاؤه من خلال وسائل الإعلام، يطلب من الناس في البوسنة والهرسك أن ينسوا الماضي ويتجهوا نحو المستقبل.


إن مثل هذه السياسة، التي تعتمد على المجتمع الدولي بشكل خاص، والتي قوامها شرح كيفية العمل على المصالحة بين شعوب البوسنة والهرسك الذين حتى وقت قريب مسرحا لنزاعات مسلحة خطيرة، يمكن أن نفهم إلحاحها على القمع وعلى مراجعة وإعادة النظر حول الماضي على أنها محاولة من جانب المجتمع الدولي لتجنب مواجهة الأخطاء، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالجرائم الخطيرة التي وقعت في البوسنة والهرسك.


يمكن لهذا التفكير أن يؤدي إلى إجابة لماذا لا توجد أي دراسة جادة وأي تحليل عميق يتناول البوسنة والهرسك.



ثلاث فترات تاريخية رئيسية في البوسنة والهرسك






إن منطقة البلقان المليئة بالدماء لم تعرف فترة سلام أطول من تلك التي عاشتها في العهد العثماني والتي امتدت 330 سنة. وتم ذلك في وقت دمرت فيه أوروبا المسيحية آلاف المساجد واستبعد الآلاف من قبل محاكم التفتيش، وأحرق عشرات الآلاف من النساء وغيرهن
هناك ثلاث فترات تاريخية رئيسية تحدد حاضر البوسنة والهرسك، ويمكن أن تحدد مستقبلها كذلك. أما الفترة الأولى فتشير إلى البوسنة في العصور الوسطى، حيث شكلت هذه المنطقة ملجأ لـ"بوغوميل" أو "باترين".

وبدأت الفترة الثانية مع وصول العثمانيين للبلقان في القرن الرابع عشر، بقيادة السلطان مراد والاحتلال التركي ثم اعتناق الإسلام من قبل سكان البوسنة والهرسك، الذي كان يقوده السلطان محمد الفاتح. أما الفترة الثالثة فهي سقوط وتهافت الشيوعية، وهدم حائط برلين، والعدوان على البوسنة والهرسك 1992 بتنفيذ صربيا والجبل الأسود، وكرواتيا جزئيا.



موضوع الهوية الدينية للباترين وطريقة اعتناقهم للدين الإسلامي ما زال موضوع خلاف بين خبراء تاريخ البوسنة في القرون الوسطي بين البوشناك والكرفات منهم. إن تاريخ البوغوميل في البوسنة ما زال أمرا محاطا بستار من السرية. أما بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية نفسها، وعلى رأسها الفاتيكان، فهي المسألة (التاريخية) الوحيدة التي بقيت مفتوحة حتى الآن.


إن كثير من خبراء التاريخ يحاولون فهم الدين الباتاريني في البوسنة وتاريخهم بمنهج يقارنه بحركات مماثلة ومذاهب مشابهة في ذلك الوقت، مثل الالبيجان. حيث يبدو هذا التاريخ وكأنه فرع من الملحدين الجدد أو الموحدين الجدد أو المانويين الجدد في جنوب فرنسا خلال القرنين 12 و13 (آلبي اسم محافظة /مدينة. سماها الباتارينيون، التطهريون (kataros)، على الرغم من أنها لم تكن سوى جزء من حركة التطهريين. لم يكن الالبيجان يؤمنون حتى ببشرية المسيح حيث كان بالنسبة لمعتقدهم مجرد وهم. (ويشبه هذا المعتقد دعوة دوسيتية مماثلة من القرون الأولى كانت ترفض الطبيعة البشرية لعيسى عليه السلام).


شن البابا إنوسنت الثالث حملة على الالبيجان، عندما تحولت فرنسا الشمالية بأكملها ضد جنوبها. ولا تزال كلمات أخرى محفوظة قد صدرت عن منفذي ذلك العمل الذي طلب كيفية التمييز بين الكاثوليك من تطهريين، مثل: "اقتل الجميع فالرب هو الذي سوف يعرف من كان يؤمن به". ويعتقد أن مصرع آخر فرد من التطهريين كان سنة 1321م، كما يعتقد أنه بمصرعه ذلك أبيدت تلك الحركة إبادة شاملة، وكان يتوقع حدوث نفس هذا المصير لهذه الحركة لولا وصول الإسلام إلى البوسنة.


على الرغم من أن البلقان كمفهوم جغرافي وثقافي وجيوسياسي لم ينشأ قبل العهد العثماني غير أن مؤرخين فرنسيين وصرب يمون أنه يعود إلى خمسة قرون قبل هذا التاريخ. وذلك تم خلق خرافات وأساطير تاريخية مزورة وسابقة للعهد العثماني نفسه وسابقة للثقافة والدين الذين جاء بهما العثمانيون على وجه الخصوص. ظهرت مؤخرا كتب مثل كتاب "البلقان" من تأليف الكاتبة ماريا تودوروفا من بلغاريا، ويشكل هذا الكتاب قراءة تأهيلية أو تصحيحية للدور العثماني في البلقان كما يشكل تفكيكا للأساطير الصربية المنتمية لتلك الفترة. لقد تم تدمير الوثائق التركية بعد ثورة الضباط الأحرار في تركيا ولم يسمح للمؤرخين بالوصول إلى تلك الوثائق. كما تم منع دراسة التاريخ العثماني من قبل السلطات التركية بعد قرار منع استعمال الحروف العربية لكتابة اللغة التركية. ولذلك فقد ظلت أساطير صربية وفرنسية تهيمن على فترة الحكم العثماني الدموية في منطقة البلقان. ومع ذلك، فإن "البلقان المليئة بالدماء" لم تعرف فترة سلام أطول من تلك التي عاشتها في العهد العثماني والتي امتدت 330 سنة. وتم ذلك في وقت دمرت فيه أوروبا المسيحية آلاف المساجد واستبعد الآلاف من قبل محاكم التفتيش، وأحرق عشرات الآلاف من النساء وغيرهن.


يمكن أن تكون سمة الفترة الثالثة، وهي فترة الشيوعية التي كانت في الصدر الثاني من القرن الماضي، أنها تلامس جوانب الفكر الإنساني، وخاصة التاريخ، وهي فترة ذات أفق واحد وأحادي الفكر. إن التاريخ والأحداث التاريخية وخاصة أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، قد فسره الشيوعيون بوصفهم الفائزون. وكان الستار الحديدي والذي اتفق الحلفاء مع روسيا القوة جديدة على جعله الخط الفاصل بين المصالح والنفوذ، قد تم إسقاطه فوق البوسنة والهرسك، ألا وهو منطقة نهر درينا، على الحدود بين صربيا والبوسنة.


وبسبب الخلفية التاريخية الغير مؤكدة من الأحداث التي وقعت في منطقة البلقان، أو بالأحرى بسبب التفسيرات الذاتية لهذه الأحداث، فقد تم تشكيل العديد من الأحكام المسبقة التي بثت الكراهية بين الأمم. وبما أن منطقة البلقان منطقة متعددة الأعراق ومتعددة الأديان فإن الكراهية بين الأمم كانت سببا للحروب المتكررة والكبيرة. ومن المفيد أن نتذكر أن الكاتب البلقاني الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل للأدب إيفو أندريتش كان عمله الرئيسي "جسر على نهر درينا"، يعكس ظاهرة الكراهية. وخلال العدوان على البوسنة، وعندما الإبادة الجماعية للبوسنيين من قبل الصرب، كان الاقتباس من نصوص الكاتب أندريتش ظاهرة ملفتة للنظر وهو اقتباس كان الهدف منه محاولة فهم وتعقل ظاهرة الإبادة الجماعية. والجانب التاريخي هذا، وحتى الآن وبعد عمليات الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا، فإن العالم بأسره فضلا عن الجمهور المحلي ما فتئ فاشلا في توضيحه.



الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى






ينوي الاتحاد الأوروبي الاحتفال بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى مجسدا في انضمام كامل غرب البلقان إلى الاتحاد مما سيجلب للبوسنة والهرسك علاقات مع دول وشعوب ويولد سلاما طويل الأمد، وسيكون شرطا مسبقا لتحقيق سلام دائم في هذه المنطقة
بدأ مع القرن 21 في منطقة البلقان توجه نحو نوع من أنواع السلام وذلك بعد تفكيك كامل ليوغوسلافيا، والتي تشكلت منها سبع دول مستقلة (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود وصربيا وكوسوفو ومقدونيا)، والملاحظ أن أعضاء الاتحاد الأوروبي لم يحاولوا دمج دول البلقان الغربية إلى الاتحاد. وبصورة شكلية يعتبر مصير ومستقبل البوسنة والهرسك، من حيث بقاؤها دولة، هو أن تدخل في عضوية التكامل الأوروبي الأطلسي. و هذا يعني العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وكما هو معروف فالاتحاد الأوروبي أدمج الدول الأوروبية الشرقية الشيوعية السابقة مثل بلغاريا، ورومانيا والجمهورية التشيكية وسلوفاكيا وبولندا وسلوفينيا، وتم اعتبارها عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي منذ 8 إلى 12 سنة. وعضوية الاتحاد الأوروبي مفتوحة حتى أمام قبرص، على الرغم من أنها لا تنتمي لمنطقة البلقان. ومع كل ذلك فدولة البوسنة والهرسك لم تتلق بعد دعوة للانضمام إلى هذا الاتحاد، وحتى لو حصلت على هذه الدعوة كما يتوقع في هذا العام 2011، فينبغي عليها أن تبقى ما لا يقل عن عقد من الزمن لتصبح عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي، وهذا السبب جعل الكثير من المراقبين يشككون في أن البوسنة والهرسك ستكون قادرة على البقاء على قيد الحياة لمدة عشر سنوات. فعبء العلاقات بين أعراقها وما يتولد عنه من انزعاج يرجع أساسا إلى النزعة الانفصالية الصربية والكرواتية، وهي نزعة تغذيها بلغراد وزغرب، أمر يهدد الكيان البوسني. ويعتقد الكثيرون أن زعماء الاتحاد الأوروبي ربما سيكون باستطاعتهم ممارسة الضغط على صربيا وكرواتيا فيما لو تم انضمام هاتين الدولتين للاتحاد الأوروبي، ومن شأن هذا الضغط الأوروبي على صربيا وكرواتيا أن يحدث انفراجا في العلاقات السياسية داخل البوسنة والهرسك. ومع هذا التفاؤل الكبير بشأن المعالجة الأوروبية الإيجابية لمستقبل البوسنة والهرسك، والذي يعني فتح المجال أمام اندماج أوروبي أطلسي، فإن هذا الحل لن يكون قبل 2014.

ووفقا لبعض الرؤى المستقبلية جدا فإن الاتحاد الأوروبي يريد الاحتفال بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى مجسدا في انضمام كامل غرب البلقان إلى الاتحاد مما سيجلب للبوسنة والهرسك علاقات مع دول وشعوب ويولد سلاما طويل الأمد، وسيكون شرطا مسبقا لتحقيق سلام دائم في هذه المنطقة. ومن الصعب الاعتقاد بأنه في غضون أربع سنوات مقبلة يمكن للبوسنة والهرسك الاندماج في الاتحاد الأوروبي أو غيرها من بلدان البلقان ولا سيما صربيا وكوسوفو والبوسنة، حيث يصعب الاندماج "بطريقة مستعجلة"، لكنه من الواقعية اعتقاد أنه يمكن تحقيق مثل هذا المستوى من العلاقات وتلبية متطلبات العدد الكبير من الشروط المسبقة من جانب الاتحاد الأوروبي لكي تكون دولة ما عضوا فيه، ويبقى الوضع في هذه البلدان البلقانية بعيدا من كونها ستصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي في المستقبل، بل على هذه العضوية علامات استفهام عديدة.



الآخرون دائما يقررون تاريخ البوسنة والهرسك






تتحدد سياسة القوى العظمى والدول المؤثرة في البلقان جيوسياسيا بحسب موارد الطاقة، وبحسب المصالح العسكرية والإستراتيجية. وهذه المصالح هي التي قادت الدول الاستعمارية السابقة إلى احتلالل البوسنة والهرسك، فمملكة النمسا الهنغارية كانت بحاجة إلى الفحم الذي كان في القرن 19 معادلا لموارد النفط اليوم
على الرغم من أن العالم، وخصوصا سياسيو الاتحاد الأوروبي، يشيرون بأصبع الاتهام إلى السياسة المحلية وإلى القادة البوسنيين، متهمين إياهم بأنهم المسؤولون عما يجري، ويعبرون دائما عن حسن نية أوروبا تجاه البوسنة، وإذا كان التاريخ يقول لنا إن مصير شعوب البلقان كان في أيديهم فإنه لا يمكن أن يقول ذلك عن البوسنة والهرسك. فالبوسنة والهرسك ظاهرة متميزة من وجهة نظر الجغرافيا السياسية. كيف ولماذا يظل هذا البلد الصغير في المساحة والسكان موضع اهتمام الكثير من القوى العالمية؟ قد نستطيع التأكيد أن الشعب البوسني لم يقرر مصيره أبدا بشكل مستقل! ولو عدنا إلى التاريخ فسنرى كيف كان مصير هذا البلد يقرر في الخرج دائما: ففي سريمسكي كارلوفاتس(صربيا) سنة 1699، في برلين (ألمانيا) 1875- 1878، وفي يالطا (روسيا) 1945، وفي واشنطن ودايتون (الولايات المتحدة)، وفي بون (المانيا) وفي باريس (فرنسا) وفي لندن (بريطانيا) 1993-95.. ولا يزال المؤرخون يتكهنون حول تواطؤ سري بين القوى الكبرى على حساب البوسنة، ولهذا جاء الاتفاق سري مع نهاية القرن 19 بين كل من صربيا وتركيا وبرعاية انكلترا، حول هجرة البوشناق من منطقة البلقان إلى تركيا.


اندلعت الحرب العالمية الأولى 1914 من أراضي البوسنة والهرسك، عندما حدث اغتيال ولي عهد المملكة النمساوية الهنغارية فرانس فرديناند وزوجته ماري من قبل جافريلو برينسيب المتعصب الصربي. وبالإضافة إلى الحرب العالمية الثانية، وما سمي بالحروب اليوغوسلافية الأخيرة التي استمرت منذ عام 1991- 1995. جرت بهذه المنطقة ما سمي الحروب البلقانية من 1912 حتى 1914. وبالإضافة إلى الخسائر البشرية التي تعد بالملايين والتي تميزت به هذه الحروب فقد عكست مشاركة وتدخل الدول والقوى العظمى، إما بطريقة منفردة أو بطريقة مجتمعة، وإما بشكل مباشر أو غير مباشر. كما تم تشكيل ائتلاف الدول المقدس ضد تركيا خلال القرن 15 أثناء حروب البلقان، ويسمى اتفاق الوفاق الثلاثي، وبعد الحرب العالمية الثانية كانت شبه جزيرة البلقان على حدود فاصلة بين التحالفات العسكرية لحلف شمال الأطلسي وحلف وارسو. وغالبا ما تم تجديد هذه التحالفات التاريخية أو تمت صياغتها بشكل أو بآخر بسبب مصالحها في البلقان. عندما يتعلق الأمر بالبوسنة، على سبيل المثال، يمكن أن نأخذ مثلا مجموعة الاتصال التي شكلت للمفاوضات الخاصة لتحقيق السلام في البوسنة، وهي شكلت في الأساس من قبل البلدان التي تتألف منها قوات التحالف السابق، الوفاق الثلاثي: انكلترا، فرنسا، ألمانيا، روسيا مع العضوية الملحقة بها للولايات المتحدة.



في مذكراته كتب ونستون تشرشل أن بداية الحرب العالمية الثانية كانت عند اغتيال الملك الصربي الكسادر قاراجورجيفيتش في مرسيليا في العام 1934. تشرشل في ادعاءاته هذه ينطلق من حقيقة أن فرنسا كانت حليفا تاريخيا للصرب في جميع الحروب، لا سيما في الحرب العالمية الأولى وحروب البلقان. ولذلك، فإن اغتيال الملك الصربي في مرسيليا يمكن أن يفهم على أنه محاولة لزعزعة استقرار العلاقات وزعزعة الاستقرار في البلقان قبل الاحتلال النازي الوشيك. والمواقف المشابهة حول أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية يذكرها هنري كيسنجر في كتابه "الدبلاواسية ". وهو يرجع أسباب الحروب العالمية إلى منطقة البلقان.


وتزعم العديد من نظريات المؤامرة أن جافريلو برينسيب كان عضوا في المحفل الماسوني في باريس، واستشهد كدليل على رحلته إلى فرنسا قبل اغتيال فرديناند. وهي محاولة لإثبات أنه لم يكن من المتحمسين الشباب، ولم يكن حتى من الثوار، كما يكتب المؤرخون الصرب، ولكنه دليل عن التدخل المباشر للقوى الخارجية التي تسببت في إشعال الحرب العالمية الأولى. قد تكون دلائل هذه النظرية صحيحة وقد لا تكون إلا أنه من الواضح أنه في كلتا الحالتين ظهر البلقان مكانا لانطلاق أكبر حربين في تاريخ البشرية. لذا فمن الممكن إعداد أطروحة استنادا على أساس التجربة التاريخية، أن مستقبل أوروبا يعتمد على مستقبل منطقة البلقان، وهذا ما يفسر الاهتمام الأساسي لأوروبا في تحقيق الاستقرار في البلقان. على أنه سيكون من المناسب أن تكون الرسالة السياسية الأكثر رمزية تتعلق بالبلقان بعد مرور قرن على الحرب العالمية الأولى. كيف يمكن الحفاظ على هذا الاحتفال خارج سراييفو، حيث وقعت عملية الاغتيال، وبدأت الحرب العالمية الأولى؟ هذه المسألة الواردة ذات صلة بالسياق الأخلاقي في الماضي القريب لمدينة سراييفو، عندما كانت تحت أطول حصار بل هو أطول من حصار ستالينغراد، وكذلك من حيث وضعها كعاصمة للبوسنة. فالجانب المعنوي يوجب على الاتحاد الأوروبي أن يفعل شيئا ما تجاه سراييفو، وذلك بتقديم اعتذار عن المأساة التي كانت تعيشها. ولا ننسى في جانب من الجوانب السياسية أن سراييفو تعتبر رمزا للتعددية الثقافية، حيث تتعايش بسلام جميع الأديان الرئيسية. إذا كان التوجه نحو تقسيم البوسنة والهرسك فسوف تداس جميع المبادئ الأوروبية الأمر الذي ترمز إليه مدينة سراييفو. والواقع أن أوروبا تأسست على جملة من المثل والمبادئ والتي تنعكس فقط في مدينة سراييفو. ولذلك، حتى عام 2010 عندما ظهر في البلدان الأوروبية عدد من الظواهر التي هزت أسس الاتحاد الأوروبي، كان من المتوقع من الاتحاد الأوروبي أن يعمل لصالح السياسية في البوسنة، وفي سراييفو، حفاظا على تلك المبادئ. وكما اقتربنا أكثر فأكثر من تلك الذكرى التاريخية لبدء الحرب العالمية الأولى فإن الحوادث المعادية للأجانب و التي تنسب إلى الحركات اليمينية وبعض التجمعات السياسية، يمكن للمرء أن يميز حدوث عدة أعمال تعكس كراهية الإسلام (الإسلاموفوبيا) من قبل أفراد وجماعات، ولعله من المفيد الإشارة إلى ما أكده طارق رمضان في كتابه "ما أؤمن به" أو (ما أعتقد) حين يقول: "اعتقد أن المسلمين، وإذا كنا ننظر قليلا إلى الماضي، فإنهم اليوم يقتربون من الوضع الذي كان عليه اليهود فيه ما بين ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي".


اعترفت المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل أن علينا أن ندرك أن التعددية الثقافية قد فشلت في ألمانيا. ولذلك، فإن الشك يزداد في مدى تصميم السياسات الراهنة في أوروبا للسماح بالاحتفال بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى تجسيدا للسلام وتمجيدا لقيم التعددية الثقافية. وببساطة فإن أوروبا السياسية تعتبر أن التعددية الثقافية شيء من الرومانسية.


ولذلك فإن المحللين ظلوا أكثر حذرا في توقعاتهم، أخذا بالاعتبار المصالح الأكثر واقعية الخاصة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا، والمتعلقة بتحديد مستقبل البوسنة والهرسك، ومنطقة البلقان عموما. في هذه السياق فإن سياسة القوى العظمى والدول المؤثرة في البلقان إنما تتحدد جيوسياسيا بحسب موارد الطاقة، وبحسب المصالح العسكرية والإستراتيجية. وهذه المصالح هي التي قادت الدول الاستعمارية السابقة إلى احتلالل البوسنة والهرسك، فمملكة النمسا الهنغارية كانت بحاجة إلى الفحم الذي كان في القرن 19 معادلا لموارد النفط اليوم.



سيناريو مزدوج للبوسنة والهرسك






لا يوجد اليوم زعماء مثل فرانسوا ميتران وجون ميجور وجورج بوشن أولئك السياسيون الذين اعتقد علي عزت بيغوفيتش أنهم هم من مكن وسمح بالعدوان على البوسنة والهرسك، لذلك يمكن للمواطنين البوسنة والهرسك زراعة الأمل والنظر بتفاؤل لمستقبل بلدهم
ببساطة فإن لكل الجماعات العرقية والدينية بدولة البلقان ولا سيما الدولة الناتجة عن تفكك يوغوسلافيا أصدقاءهم وحلفاءهم السياسيين. فروسيا تمثل مصالح الصرب سواء الصرب في صربيا أو صرب البوسنة، بوصفها عضوا في مجلس تنفيذ السلام. ويحرص القادة الروس أمام مجلس الأمن على الحفاظ على مصالح القادة الصرب. و تقف ألمانيا وراء كرواتيا حكومة وأمة. ومعلوم أن حلفاء الصرب ولو بشكل عرضي على الأقل خلال الحرب، إنما كانوا السياسيين الإنجليز والسياسيين الفرنسيين، الخ... بينما على جانب البوسنة والهرسك، الذين يسمو أنفسهم البوشناق، نجد الولايات المتحدة وبلدان العالم الإسلامي.

خلال العدوان على البوسنة والهرسك أظهرت الدول الإسلامية اهتماما متزايدا في مصير البوشناق والبوسنة. وتتمسك تركيا فقط من بين الدول الإسلامية بنهج نشط وإيجابي تجاه البوسنة والهرسك، وهي تمثل في الواقع مصالح بلدان رابطة العالم الإسلامي. ومعلوم تريد تركيا أيضا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهل البلد الذي عرف أطول حالة انتظار للدعوة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي العام الماضي كان للدبلوماسية التركية أكبر نشاط في منطقة البلقان. ولأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي ولأنها واحدة من الدول الإسلامية القليلة ذات النظام الديمقراطي التعددي، فالدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة تنظر بعين العطف إلى دور تركيا في منطقة البلقان. كما قامت تركيا في الآونة الأخيرة بتطوير علاقات جيدة مع موسكو، كما لتركيا تجربة غنية في العلاقات الدبلوماسية مع عدد من البلدان الإسلامية في منطقة ما وراء القوقاز، تلك البلدان المتعددة الأعراق، والتي أصبحت مستقلة وحصلت على استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك فإن الدور التاريخي وخبرة لتركيا في منطقة البلقان لا يزال يشكل عقبة أمام تلك الطموحات التريكة. وقد أعرب عن ذلك مثقفون صرب هذا العام عند تنظيم مائدة مستديرة في بانيا لوكا تحت عنوان "العثمانية الجديدة". وبالإضافة إلى ذلك لا يروق معظم البلدان الأوروبية، ولا سيما فرنسا التي تعارض فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، مزيد من تفعيل نشاط التركي الدبلوماسي وتموضعها حقا كقوة إقليمية في البلقان.



الخلاصة: هل ستكون الأربع سنوات المقبلة فترة حاسمة بالنسبة لمستقبل البوسنة والهرسك أم أن إرادة المجتمع الدولي وخصوصا الاتحاد الأوروبي وأمريكا وروسيا ستقود إلى سلام دائم، وسيحتفل في سنة 2014 بالذكرى المئوية لبدء الحرب العالمية الأولى في سراييفو؟ أم أن تقسيم البوسنة والهرسك سيكون أهم ملامح هذه الفترة، مع احتمال وجود "الصراع مرتقب" جديد!


لا شك أنه لا يوجد اليوم زعماء مثل فرانسوا ميتران وجون ميجور وجورج بوشن أولئك السياسيون الذين اعتقد علي عزت بيغوفيتش أنهم هم من مكن وسمح بالعدوان على البوسنة والهرسك، لذلك يمكن للمواطنين البوسنة والهرسك زراعة الأمل والنظر بتفاؤل لمستقبل بلدهم. وكما تغيرت السياسة العالمية من الأساس تجاه العالم الإسلامي وخاصة بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في نيويورك، فقد تم وضع علامة في البوسنة والهرسك على بعض الجماعات الدينية المتطرفة ذات الإيديولوجية الإسلامية المشابهة لأولئك الذين اتهموا بتنفيذ الهجمات الإرهابية على نيويورك، وهناك كثيرين من يرون في ظهور هذه الجماعات تهديدا وتبريرا محتملا لنشوب حرب جديدة في البوسنة. تحدث عن هذا الأمر سيناريو زلاتكو لاغومجيا في مقابلته الأولى لـ"التايمز" بعد فوزه في انتخابات أكتوبر2010. هل كانت هذه المواقف ليست سوى بديل من البدائل التي ينبغي على المواطنين البوسنيين اختيار أحد منها، أم أن هناك معايير مزدوجة وسيناريوهات مزدوجة أعدت مسبقا للبوسنة والهرسك، ولن ننتظر وقتا طويلا للحصول على الإجابة؟ هذا هو السؤال الأخير المطروح أمام مستقبل البوسنة والهرسك!
______________
كاتب وصحفي من البوسنة


المصادر:


1. مصطفى إماموفيت، تاريخ البوشناق، سراييفو 1997 ( كتاب بالبوسنة والإنكليزية)


2. جنان تشاوشيفيتش "التطور القانوني والسياسي للبوسنة والهرسك، سراييفو 2005.(باللغة البوسنية)


3. ونستون تشرشل، الحرب العالمية الأولى من المجلد الأول إلى السادس. صدر في بلغراد 1964 (الصربية)


4. طارق رمضان، مقابلة، لمجلة غلوبوس، 10/9/2010. (باللغة البوسنة)


5. مارغريت تاتشر، مهارة والفن رجل الدولة، ستيتكرافت، زغرب 2004. (باللغة الكروفاتية)


6. بيل كلينتون، حياتي، زغرب 2004. (باللغة الكرفاتية).


7. ريتشارد هولبروك، لإنهاء الحرب، سراييفو 1998.(باللغة البوسنية)


8. اللورد ديفيد أوفين، أوديسي البلقان، بلغراد عام 1996. (باللغة الصربية)


9. هارون يحيا اليد الخفية في البوسنة، وسراييفو 2001. (بالبوسنية)


10. هنري كسينجير، الدبلوماسية، بلغراد، 1999م (باللغة الصربية)



المصادر باللغات السلافية الجنوبية:


1) Mustafa Imamović, Historija Bošnjaka, Sarajveo 1997.


2) Dženan Čaušević, Pravno političlki razvitak BiH, Sarajevo 2005.


3) Vinston Čerčil, Drugi svjetski rat I. –VI., Beograd 1964.


4) Tarik Ramadan, intervju, Globus, 09/10/2009.


5) Margaret Tačer, Državničko umijeće, Statecraft, Zagreb 2004.


6) Bil Klinton, Moj život, My life, Zagreb 2004.


7) Ričard Holbruk, Završiti rat, Sarajevo 1998.


8) Lord David Oven, Balkanska odiseja, Balkan Odyssey, Beograd 1995.


9) Harun Yahya, Tajna ruka u Bosni, Sarajevo 2001.


10) Henry Kisinger , Diplomacy, Diplomatija, Beograd 1999.