الصحوة الشيعية بوصفها قوة إيران الناعمة: تحليل تاريخي

تحاول هذه الورقة تبيان التطور التاريخي للصحوة الشيعية التي تشكل الركيزة الأساسية لقوة إيران الناعمة.
2013416103434486734_20.jpg

ملخص

تحاول هذه الورقة تبيان التطور التاريخي للصحوة الشيعية التي تشكل الركيزة الأساسية لقوة إيران الناعمة.

تمثل جمهورية إيران الإسلامية حالة معقدة بالنسبة إلى العالم الخارجي؛ فمنذ الثورة الإسلامية سنة 1979، وعلاقات إيران مع جيرانها العرب وغير العرب وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية والكثير من الدول الغربية كانت "صعبة" على أقل تقدير. وأدى العداء المتأصل مع الولايات المتحدة وبريطانيا إلى نشوء علاقات عداء بين إيران ومعظم الدول العربية، لاسيما مع جيرانها في منطقة الخليج ؛ فالعلاقات الوثيقة بين دول الخليج والغرب جعلت الجمهورية الإسلامية في إيران تنظر إلى هذه الدول بوصفها أعداء محتملين. ومع ذلك، لم تخض "إيران الإسلامية" الحرب مع الدول العربية الموالية للغرب، وإنما خاضتها مع حليف السوفيت، عراق صدام حسين.

كان من شأن الحرب التي استمرت ثمانية أعوام مع العراق أن عمّقت العداء بين إيران والغرب وكذلك مع العالم العربي كله باستثناء سوريا. وبعد 23 عامًا من انتهاء الحرب مع العراق، ظلت علاقات إيران مع كثير من الدول العربية، لاسيما دول الخليج المجاورة لها، باردة وغير ودية كما كانت خلال الحرب. كما أن الصراع مع الغرب مستمرٌ بلا هوادة. وفي حين يبدو أن برنامج إيران النووي هو لُبّ الصراع، نسي الكثيرون أن الصراع بين إيران والغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة، يتجاوز برنامج إيران النووي المثير للجدل. وقد أدى التزام إيران بموقفها هذا الفريد من نوعه على مدى 33 سنة مضت إلى العديد من النظريات والتحليلات والتفسيرات، وثبت أن بعضها أكثر واقعية في حين أن بعضها الآخر كان مضلّلاً وساذجًا إلى درجة لا تُصدَّق.

لقد نجت إيران من الحرب الشرسة التي استمرت ثمانية أعوام مع العراق، وهي الحرب التي تلقّى فيها العراق دعمًا ماليًا كبيرا من دول الخليج العربية الغنية، وأسلحةً دفاعية وهجومية ثقيلة من الغرب والشرق (لاسيما من الاتحاد السوفيتي)، واستخدم فيها "الأسلحة الكيميائية على نطاق واسع"، بينما ظل العالم الخارجي يغضّ الطرف عن "فظائع صدام حسين"، كما نجت إيران من ثلاثة عقود من العقوبات التي قادتها الولايات المتحدة. ورغم أن العقوبات اشتدت كثيرًا خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، والبلاد تواجه الآن أيضًا تهديدًا عسكريًا خطرًا من إسرائيل والولايات المتحدة، إلا أن النظام لا تبدو عليه علامات الذعر من الغرب أو الاستسلام له، وإن كان الضرر قد لحق بإيران بلا شك؛ حيث لم تكن الحياة سهلة بالنسبة إلى معظم الإيرانيين خلال كثيرٍ من السنوات الثلاثة والثلاثين الماضية. ومع ذلك، يبدو القادة الإيرانيون واثقين من دعم القاعدة الشعبية، ولاسيما في المناطق الريفية من البلاد.

والأمر هذا، تُرى ما الأسباب الكامنة وراء بقاء "نظام الجمهورية الإسلامية" رغمًا عن كل الضغوط؟ ويتعلق السؤال المهم التالي بالمستقبل: هل سيُكتب البقاءُ للنظام المحاصَر كما كُتب له من قبل؟ ألن يُضطر لتغيير بعض سياساته، ومنها  تلك التي تسببت في قلق عميق في الغرب؟

يمكننا أن نتناول هذه الأسئلة بتوظيف ما يُسمّى في العلوم السياسية الحديثة بمفهوم "القوة الناعمة". فما هي نقاط القوة لدى النظام الإيراني المحاصَر التي جعلته ينجو من كل الضغوط والعقوبات خلال السنوات الثلاثة والثلاثين الماضية؟ والأهم من ذلك، هل ستزداد نقاط القوة "القوة الناعمة" لدى إيران أم تنخفض في المستقبل الذي يُفرَض عليها؟

الإسلام الشيعي والقوة الناعمة

يشكّل الدين أو الإسلام قبل كل شيء أقوى سلاح في ترسانة القوة الناعمة لدى إيران. كما تشكّل معاداة الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، ومعاداة إسرائيل العنصرين الثاني والثالث من عناصر قوتها الناعمة. ويشكّل المذهب الشيعي، ولاسيما التفسير الراديكالي الذي صاغته المؤسسة الدينية الإيرانية خلال السنوات الثلاثة والثلاثين الماضية، العنصر الرابع من عناصر القوة الناعمة لدى الجمهورية الإسلامية. أما العنصر الخامس فيكمن في شعور الإيرانيين القومي الذي يُقارب الشوفينية. وسنتناول ما يمكن تسميته أقوى ركائز "القوة الناعمة" لدى النظام الإسلامي: "الإسلام".

برز الإسلام الشيعي بوصفه أعتى قوة خلال الثورة الإسلامية سنة 1979؛ فقد بلغت قوته أنه لم يَقُد الكفاح الثوري ضد الشاه محمد رضا بهلوي فحسب، بل شكّل في نهاية المطاف البنية الأيديولوجية الفوقية لإيران الجديدة بعد الثورة. علاوةً على ذلك، ظل الإسلام القوة المهيمنة في الجمهورية الإسلامية على مدى 33 سنة خَلَت. لم يفهم كثيرٌ من المحللين الغربيين فهمًا صحيحًا ودقيقًا أن دور الإسلام لم يقتصر فقط على تشكيل نسيج إيران المعاصرة، بل تعدّاه إلى تشكيل علاقاتها مع العالم الخارجي، وكانت السمة الأبرز لـ "الإسلام الإيراني" هي "الراديكالية". لم تبرز هذه الميزة بوصفها أهم ما يميز الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 فحسب، ولكن قوتها تنامت في إيران ما بعد الثورة. وليس من قبيل المبالغة القول: إن هذه السمة بالذات أثّرت في معظم علاقات إيران مع العالم الخارجي أو أعطتها شكلها؛ فإن معاداة النظام الإيراني للغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، وللدول العربية المحافظة، وإصراره على إبادة إسرائيل، وبرنامجه النووي المثير للجدل، ودعمه للجماعات الفلسطينية الراديكالية مثل حماس والجهاد الإسلامي، وعلاقاته مع حزب الله، ودعمه لنظام الأسد في سوريا، بل كل تعامل آخر للنظام الإسلامي في إيران مع العالم الخارجي، ينبع من النظرة الإسلامية التي يتمسك بها القادة الإيرانيون. إن تفسير قادة إيران للإسلام هو القوة الدافعة التي تشكّل إستراتيجيتهم داخل البلاد وخارجها. ولذلك، فإن فهم هذا "الإسلام الراديكالي" الذي يؤمن به القادة الإيرانيون يُعدَّ شرطًا أساسيًا لفهم إستراتيجيات وسياسات النظام الإيراني داخليًا وخارجيًا.

التشيع في إيران

دخلت إيران في الإسلام في عهد الخليفة الثاني (عمر بن الخطاب) في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، إلا أن هناك خلافاتٍ بشأن كيفية تحول الإيرانيين إلى الإسلام؛ يقول القوميون الإيرانيون: إن الفاتحين العرب استخدموا القوة لإجبار الإيرانيين على الدخول في الإسلام. أما الإيرانيون الأكثر تدينًا فيقولون: إن ظلم النظام الحاكم في إيران واستبداده جعلا العديد من الإيرانيين يرحبون بالفاتحين ويعتنقون الإسلام طوعًا. وسواء اعتنق الإيرانيون الإسلام طوعًا أم كَرْهًا؛ فالحقيقة هي أن إيران أصبحت جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية الجديدة الناشئة، وصار الإيرانيون مسلمين بذات الطريقة التي أصبح فيها عرب شبه الجزيرة العربية مسلمين بنهاية القرن السابع الميلادي.

وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، لم يكن الإيرانيون شيعة، رغم وجود أقلية شيعية ضئيلة متناثرة في جميع أنحاء إيران، كما هي الحال في البلاد العربية. وخلال القرون اللاحقة برز عدد من السلالات الحاكمة المحلية الإيرانية في الجزء الشمالي الشرقي من إيران البعيد جدًا عن تأثير حكم بني العباس في بغداد. كان بعض هؤلاء الولاة أكثر استقلالاً عن بغداد بينما عدَّ الآخرون أنفسهم "خدمًا" للخلفاء، لكنهم جميعًا ظلوا على ولائهم للخلفاء العباسيين في بغداد وفي الوقت نفسه كانوا على المذهب السُّني. استمرت هذه العلاقة لأكثر من ثمانية قرون. في بداية القرن السادس عشر تمكن تحالف من القبائل التركية من الأناضول والجزء الشمالي من إيران بالقرب من بحر قزوين من تشكيل سلالة جديدة تسمى الصفويين. جاء ظهور هذه القوة الجديدة تقريبًا على ذات النمط الذي سارت عليه إيران خلال تلك القرون الثمانية التي اعتنقت فيها الإسلام. لكن كان هناك فرق جوهري بين هذه السلطة الجديدة وبقية القوى التي ظهرت خلال تلك القرون الثمانية؛ حيث كان الصفويون شيعة، وحين تعاظمت قوتهم أجبروا الإيرانيين على اعتناق المذهب الشيعي.

تبيَّن أن تشكيل السلالة الصفوية في إيران في بداية القرن السادس عشر هو نقطة تحول في تاريخ البلاد منذ اعتناقها الإسلام، كما كان أيضًا علامة فارقةً في تاريخ التشيُّع. لقد ظهر المذهب الشيعي "بعد وفاة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بوصفه شُعبةً من شُعَب الإسلام"، وكان نزاع الشيعة مع جُمهور المسلمين أولاً وأخيرًا نزاعًا سياسيًا؛ إذ نشأ من الخلاف على من يخلف النبي. فالشيعة يعتقدون أن عليًّا، ابن عم النبي وصهره، كان يجب أن يخلفه، كما اعتقدوا لاحقًا أن نسل علي هم وحدهم الحكام الشرعيون في الإسلام ورفضوا مبايعةَ الخلفاء الرسميين. وكانوا يعُدّون جميع الخلفاء، مهما بلغ تُقاهم، "نواصب" لا شرعية لهم. وفي الحقيقة، يرى الشيعة أنه لا تقوم حكومة إسلامية شرعية إلا إذا كان على رأسها إمامٌ معصومٌ من الشيعة.

غيبة الإمام ونظام ولاية الفقيه
يُقسَّم التاريخ السياسي الشيعي قبل القرن السادس عشر عندما جاء الصفويون إلى السلطة في إيران إلى فترتين متمايزتين: قبل "غيبة" الإمام الشيعي الثاني عشر في القرن العاشر وبعدها. خلال الفترة الأولى التي بدأت مع وفاة النبي محمد سنة 643 واستمرت ما يقرب من قرنين ونصف، كان هناك دائمًا إمامٌ للشيعة، وكان الشيعة يعتقدون أن هذا الإمام هو الحاكم الشرعي وأن حكم الخليفة كان "اغتصابًا" وغير شرعي. لكن هذا لم يكن يعني أنه من المتوقع أن يتمرد الشيعة ضد الخلفاء غير الشرعيين، وفي الواقع خلال القرنين ونصف لم توجد ثورات خطرة من قبل الشيعة ضد أي من الخلفاء.

كان الشيعة أقلية صغيرة متناثرة في جميع أنحاء "الإمبراطورية الإسلامية" وتعيش بهدوء. وفي سنة 890 اختفى إمام الشيعة الثاني عشر، ليعاود الظهور في يوم من الأيام وفق معتقد "الغيبة" عند الشيعة. لو تمرد الشيعة على الخليفة "الناصبي" قبل "الغيبة" فهذا منطقي بما أن الإمام "المعصوم" موجود وكان بإمكانه أن يتسلم زمام الحكم، لكن هذه الإمكانية انتفت في أعقاب "الغيبة" ولم يعد بالإمكان قيام حكومة شيعية في غياب إمام معصوم ليحل محل الخليفة "الناصبي". لقد غاب الإمام "المعصوم" ولا أحد يعرف متى سيظهر ثانيةً! لذلك فإن أية محاولة من جانب الشيعة لتشكيل حكم إمامي لم تكن تُجدي. وقد تعلم الشيعة شيئًا فشيئًا كيف يتقبلون فكرة غياب إمامهم الثاني عشر وأن ينتظروا عودته. وفي هذه الأثناء، كان عليهم أن يتعايشوا مع "حكم النواصب". تعاون الشيعة عمومًا مع حكم الخلفاء "النواصب" وثبت أنهم أقلية سهلة الانقياد، بل إن بعض الأسر الشيعية البارزة تعاونت بشكل واسع مع مختلف الخلفاء. وبما أن الشيعة يرون أن الشكل الشرعي الوحيد للحكم هو الذي يكون على رأسه إمامٌ معصوم، فمن البدهي أن مفهوم الحكم عند الشيعة لم يتطور نظريًا خلال غياب الإمام الثاني عشر.

جاء الصفويون إلى السلطة في بداية القرن السادس عشر على هذه الخلفية التاريخية التي دامت سبعة قرون ونصف. وكان الصفويون في المقام الأول قبائل تركية من الأجزاء الشمالية من إيران والأناضول، والعامل المهم بالنسبة إلى هذه القبائل هو دينها؛ حيث كانت على المذهب الشيعي. وكغيرهم من السلالات الأخرى، وصل الصفويون إلى السلطة بقوة السيف، ولكن كان هناك اختلاف جذري؛ ففي حين كانت القبائل السابقة تعلن ولاءها للخلفاء في بغداد، أعلن الصفويون ولاءهم لأئمة الشيعة الاثني عشر. وهكذا أُنشئت في الواقع أول حكومة شيعية رسمية منذ بداية الإسلام. لكنّ تبيان تحايل الشيعة على المفهوم الجوهري "القائل: أن الحكم اغتصابٌ ما لم يكن على رأسه إمامي شيعي معصوم" يقع خارج نطاق تحليلنا هذا. ومع أن بعض علماء الشيعة فضلوا الحكم الصفوي على الحكم السني، إلا أنهم ظلوا يعدُّونه اغتصابًا، ولكن اعترف معظم علماء الشيعة تقريبًا بالملوك والحكام الصفويين وتعاونوا معهم.

أسفر حكم الصفويين الذي دام قرنين عن نتيجة تاريخية مهمة للشيعة؛ إذ رسّخ فكرة إمكانية قيام حكومة شيعية في غياب إمام شيعي معصوم. أما عن نمط الحكم فلم يختلف كثيرًا عن نمط الحكم السني الكلاسيكي الذي نشأ بعد وفاة النبي. أمسك ملوك الصفويين بالسلطة الزمنية بينما كان لعلماء الشيعة السلطة الدينية. فإذا كان الحاكم تقيًا، وكثير منهم كانوا كذلك، كانت العلاقات بين العلماء والبلاط ودية، وإذا كان الملك أقل تدينًا، كما كان بعض الملوك الصفويين، زادت الهوة بين الدين والدولة. وقد ترسخ هذا النمط خلال القرنين اللذين حكم فيهما الصفويون. وفي بداية الحكم الصفوي أجبر الحكام كثيرًا من الإيرانيين على اعتناق المذهب الشيعي الذي أصبح دين الدولة في العهد الصفوي.

الحركة الدستورية وحكم العائلة البهلوية

استمر الإرث الصفوي خلال حكم القاجاريين لإيران في القرن التاسع عشر؛ فإيران كانت دولة شيعية بلا منازع، وكانت العلاقات بين العلماء والملوك القاجاريين تُماثل نظيرتها تقريبًا في عهد الصفويين. كان الحكام القاجاريون مسؤولين عن إدارة الدولة بينما رجال الدين هم المسؤولون عن المجال الديني. وكان الحكام القاجاريون أتقياء عمومًا؛ مما أسفر عن علاقات طيبة بين العلماء ونظام الحكم في إيران جُلَّ القرن التاسع عشر. ولكن هذه العلاقات الحميمة انهارت في أواخر عهد القاجاريين في بداية القرن العشرين عندما شهدت إيران حركة شعبية اجتماعية وسياسية ضخمة تُعرَف باسم الحركة الدستورية.

ورغم أن النضال الدستوري الذي أدى إلى ثورة فشل عمومًا في تغيير هيكل الدولة الاستبدادية في إيران، إلا أنه عرّض الإيرانيين للأفكار السياسية الحديثة؛ فحرية التعبير وفكرة الحكومة التمثيلية وسيادة القانون والبرلمان والدستور والفصل بين السلطات كانت بعضًا من الأفكار الجديدة التي اعترف بها كثيرٌ من الإيرانيين الأكثر ثقافة وثراءً وتمدُّنًا وآمنوا بها. وتغلغلت هذه الأفكار في المعاهد الدينية كذلك. وفي الواقع، أعجبت هذه الأفكار بعضًا من كبار الشخصيات الدينية وجعلتهم يتحولون لقيادة الحركة الدستورية.

لم تجلب الحركة الدستورية خلال العقد الأول من القرن العشرين الأفكار الحديثة إلى الأوساط الدينية فحسب، بل أذِنت بخروجٍ على التعايش بين العلماء والحكم الذي دام قرونًا. لم يشعر بعض العلماء بالارتياح إزاء الأفكار الجديدة القادمة إلى البلاد من الغرب، بل إنهم عارضوها وأدانوها وزعموا أنها إلحادية ومعادية للإسلام. ولكن الغالبية أيدت الأفكار الجديدة وأشادت بطبيعتها المناوئة للاستبداد، ولم تجد فيها شيئًا معاديًا للإسلام أو الدين. كان من شأن تحمُّس العلماء للقيم الديمقراطية من جهة ومعارضتهم لسلطة القاجاريين الاستبدادية من جهة أخرى أنهما لم يُغيِّرا التحالف غير المعلن بين رجال الدين والدولة فحسب، بل في الواقع وضعا رجال الدين في طليعة الحركة الدستورية ضد الدولة القاجارية. ولأول مرة في التاريخ الشيعي كان العلماء يقودون حركة ديمقراطية شعبية ضد الاستبداد والقمع السياسي.

لقد فشلت الثورة الدستورية عمومًا في إصلاح هيكل السلطة في إيران على الرغم من الحماس والتوقعات، وقد قدّم الباحثون الغربيون وكذلك الإيرانيون تفسيرات مختلفة لشرح هذه النكسة التاريخية؛ حيث أُنشئ برلمانٌ يُدعى "المجلس" سنة 1906، وصيغَ دستورٌ من قبل أعضاء المجلس الأول الذين كان أبرزهم من رجال الدين. وقد قيَّد الدستور سلطة الملك المطلقة، وأرسى قواعد الحريات المدنية، وضمن حرية التعبير وحرية الصحافة والمساواة أمام القانون، وسيادة القانون ضد رغبات الملك المطلقة، وجعل الدولة مسؤولة أمام البرلمان أو المجلس. كانت هذه التدابير في الواقع كافية لإرساء أسسِ دولة ديمقراطية في إيران الحديثة لكن الحكومات المتعاقبة تجاهلتها منذ الثورة الدستورية إلى حد كبير.

لقد أضعفت الحركة الدستورية الدولة القاجارية في حين أن الدستوريين لم يشاركوا إلا في جزء من السلطة. وقد أدى ضعف الحكومة المركزية إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في جميع أنحاء البلاد. لكن السلطة القاجارية لم تكن فعالة جدًا في أجزاء كثيرة من إيران حتى قبل الاضطرابات الدستورية، ولم تؤدِّ الاضطرابات والصراع على السلطة الذي أعقب قلاقل الدستور إلا إلى إضعاف الإدارة المركزية الضعيفة أصلاً. لقد أدى انهيار السلطة المركزية في أنحاء كثيرة من إيران إلى ظهور قوى مستقلة في تلك المناطق. لقد تحدت الجماعات العرقية المختلفة في كردستان وأذربيجان وخوزستان وبلوشستان وجيلان وأجزاء أخرى من البلاد الحكومة المركزية في طهران وشكّلت حكومات محلية مستقلة أو حكومات انفصالية.

وعلى هذه الخلفية جاء انقلاب سنة 1921 الذي نفذه لواء القازاق الذي مثّل القوة العسكرية الوحيدة في البلاد بدعمٍ من البريطانيين، فأدى إلى تغييرات جوهرية في إيران. كان زعيم الانقلاب العسكري، رضا خان، مجهولاً تمامًا في إيران؛ فلا الشخصيات السياسية في العاصمة تعرفه ولا كان البريطانيون يعرفونه جيدًا. كانت تلك محاولة أخيرة من قبل القادة العسكريين البريطانيين لإنشاء إدارة فعالة في إيران قبل مغادرتهم إيران بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

أثبت رضا خان أنه قائد عسكري جريء وكفء، كما كان زعيمًا سياسيًا مرموقًا. وقد سحق رضا خان جميع التمردات والانشقاقات عن الحكومة المركزية، وأرسى القانون الذي كانت البلاد في أمسِّ الحاجة إليه، وثبَّت النظام والاستقرار في جميع أنحاء إيران، وأعاد تشغيل عجلة البلاد الاقتصادية التي كانت قد توقفت، ووضع حدًا للاضطراب السياسي والفوضى التي سادت إيران منذ ما يقرب من عقدين من الزمن منذ اندلاع الحركة الدستورية. كما وظَّف شعبيته الهائلة التي خلقتها خدماته بين الإيرانيين لإنهاء سلالة القاجار الضعيفة والفاقدة للمصداقية وخلق سلالة جديدة تُسمى في إيران سلالة بهلوي التي كان أول ملوكها رضا خان الذي سُمِّي رضا شاه سنة 1925.

كان صعود رضا شاه إلى السلطة سريعًا وفعالاً؛ فقد خلق دولة استبدادية لا رحمة فيها، وكان هو على رأسها. وكانت شرطته السرية الشريرة تسحق كل معارض. ومع تنامي قوته، لم يعد يسمح بأي انتقادات لسياساته وقراراته، وقتلت شرطته السرية عددًا من خصومه ومنتقديه وغيَّبت في السجون أكثر من هؤلاء لخلافات مع أفكار صاحب الجلالة. كما ألغى جميع الأحزاب السياسية التي ظهرت في أعقاب الحركة الدستورية، وأغلق جميع الصحف المستقلة، وزجَّ بعشرات الكتّاب والصحفيين في السجون.

وبغضّ النظر عن أسلوبه الديكتاتوري في الحكم، أدخل رضا شاه سلسلةً من الإصلاحات الحديثة التي غيرت كثيرًا من جوانب المجتمع الإيراني بشكل جذري في حكمه الذي دام ستة عشر عامًا. ومن بين برامج التحديث الهائلة التي وضعها رضا شاه إلزامية التعليم المجاني للجميع، وإرساء نظام قضائي علماني حديث، وبيروقراطية مركزية حديثة، وجيش حديث، وعشرات الصناعات الحديثة، والسكك الحديدية، وإنشاء جامعة، ونظام صحي حديث. لم يكن تحديثه إلحاديًا أو معاديًا للإسلام، ولكنه في بعض النواحي تسبب في غضب رجال الدين وأدى إلى مظاهرات من قبل الإيرانيين الأكثر تدينًا، كما في مثال نزع الحجاب قسرًا عن النساء؛ حيث حظر الشاه بمرسوم حكومي حجاب المرأة في الأماكن العامة، مما أغضب الإيرانيين الأكثر تدينًا الذين خرجوا للاحتجاج. ولكن قمع رضا شاه المظاهرة؛ فقُتِل عشرات من المحتجين برصاص الجيش وجُرح عدد أكبر بكثير.

ومع أن هذا الحادث المأساوي عُدَّ دليلاً واضحًا على إستراتيجية رضا شاه المناهضة للإسلام، إلا أنه في واقع الأمر يجب التوكيد على أن نزع الحجاب لم يكن المقصود منه إضعاف الإسلام، بل كان جزءًا من الإصلاحات التحديثية التي أطلقها رضا شاه. فقد أراد النساء أن يخرجن من منازلهن كي يذهبن للمدرسة والجامعة ويشغلن الوظائف العامة. وبما أن الحجاب في تلك الفترة كان يغطي الوجه بأكمله، فإن تحقيق تلك الأهداف لم يكن ممكنًا إذا تمسكت النساء بالحجاب. وما خلا تلك المواجهات، تعايش رجال الدين مع الدولة في سلام، وعاد رجال الدين إلى معاهدهم الدينية وهجروا جميع المجالات السياسية والاجتماعية التي كانوا قد دخلوها في العهد الدستوري.

انتهى حكم رضا شاه القوي والاستبدادي نهاية مفاجئة في أغسطس/آب 1941 حين غزا الحلفاء إيران في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان رضا شاه قد راح يميل إلى ألمانيا خلال الثلاثينيات من القرن العشرين. وحين اندلعت الحرب كان آلافٌ من الألمان يعملون في مشاريع مختلفة في إيران. وكان الحلفاء، ولاسيما البريطانيون، قلقين من وجود آلاف الألمان في إيران؛ فحثوا الحكومة الإيرانية على أن تطلب من الألمان مغادرة البلاد. لكن رضا شاه كان عنيدًا، فرفض وردّ على لندن أن هؤلاء الألمان ليسوا إلا فنيين ومستشارين لمساعدة الإيرانيين على بناء الصناعات الحديثة والسكك الحديدية وما إلى ذلك. وحين قرر الحلفاء في نهاية المطاف دعم "الجبهة الشرقية" عبر إيران أطاحوا بحكومة رضا شاه الموالية للألمان.

الراديكاليون الإسلاميون

شهد عصر ما بعد رضا شاه اضطرابًا سياسيًا دام أكثر من عقد، ولكن في الوقت نفسه تمتع الإيرانيون بفترة من الحرية السياسية، وكان فراغ السلطة الذي أعقب سقوط دولة رضا شاه القمعية والقوية قد خلق وضعًا لم يعد ممكنًا فيه لأية مؤسسة أو زعيم سياسي أن يمارس سلطة مطلقة؛ فظهر عدد من الجماعات السياسية وكذلك العشرات من الصحف المستقلة في السنة الأولى بعد سقوط رضا شاه. كما شهدت تلك الفترة أيضًا ظهور حركة اليسار الشعبية المنظمة جيدًا التي أثّرت بشكل متزايد في الحياة السياسية الإيرانية. وعلى غرار العديد من البلدان الأخرى في فترة ما بعد الحرب أواخرَ الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، هيمنت الأفكار اليسارية على العديد من المثقفين الإيرانيين والكتّاب والصحفيين والفنانين والنشطاء السياسيين. كما اجتذب اليسار أيضًا العديد من الطلبة والنقابيين والناشطين الإثنيين، ولاسيما دعاة القومية الكردية والأذربيجانية، ودعاة حقوق النساء وغيرهم من المدافعين عن الحقوق المدنية. وأصبح حزب توده اليساري روح الحياة الفكرية الإيرانية وضم تياراتٍ إسلامية، وتبنى الإسلاميون الإيرانيون الأكثر راديكالية وثقافةً كثيرًا من المفاهيم الماركسية، بل إنه تغلغل بين بعض رجال الدين الشباب أيضًا. وقد تبين أن أثر الأفكار اليسارية الراديكالية على الإسلاميين كان علامةً فارقة في التوجهات السياسية للشيعة.

وهكذا تأثرت حركة الإحياء الشيعي بقوتين متناقضتين: قيم الغرب الليبرالية الديمقراطية، وكذلك أفكار اليسار الثورية الراديكالي، وسنرى بوضوحٍ كلا الاتجاهين داخل الصحوة الشيعية/الإسلامية التي راحت تهيمن شيئًا فشيئًا على السياسة الإيرانية منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم. في الفترة التالية لعصر رضا شاه وحتى أوائل ستينيات القرن العشرين ساد التيار "الليبرالي". لكن، ولأسباب خارجة عن نطاق بحثنا، راح التيار الراديكالي يتصدَّر الواجهة منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، ولن نجانب الصواب لو قلنا: إن مهدي بازركان، أول رئيس وزراء إيراني بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، يمثل "التيار الليبرالي"، وأن آية الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية، يجسد التيار الراديكالي؛ فكلاهما حاول إحياء التفسير الكلاسيكي للإسلام الشيعي الذي كان إلى حد كبير غير سياسي؛ ففي حين كان المذهب الشيعي الكلاسيكي، كما لاحظنا من قبل، ينبذ السياسة والحكم كان التفسير الشيعي الذي بُعِث من جديد تفسيرًا سياسيًا أولاً وقبل كل شيء. أراد التيار المعتدل إسلامًا ديمقراطيَ التوجُّه في أساسه، ليبراليًا في قيمه الاجتماعية، ولا يسعى إلى مواجهةٍ مع الغرب. بالمقابل، شجب "التيار الراديكالي" القيم الديمقراطية ومقَتَ الليبرالية وعادى الغرب عداءً شديدًا. كان التيار الأول يمثل القيم الميالة للغرب التي جاءت بها الحركة الدستورية في أوائل القرن العشرين، بينما كان التيار الثاني من مخلفات التيارات اليسارية الراديكالية التي جاءت إلى إيران بعد ما يقرب من خمسين عامًا. وعلى الرغم من التوجهات المتناقضة لهذين التيارين، إلا أنهما تعاونا بشكل كامل لأنه كان لديهما عدو قوي مشترك يُدعى الشاه محمد رضا بهلوي.

دام تعاونها طيلة أيام الثورة، بل حتى بعد الثورة؛ فعُيِّن مهدي بازركان رئيسًا للحكومة الثورية من قبل آية الله بعد الإطاحة بالشاه. ولكن منذ البداية بدا أن لكلٍّ منهما تفسيرًا مناقضًا؛ فقد عارض المهندس بازركان آية الله في كل شيء من الاقتصاد إلى القضايا الاجتماعية والسياسية والنظام القضائي والسياسة الخارجية والحجاب وحقوق المرأة وما إلى ذلك. رأى المعتدلون أن الثورة يجب أن تنتهي بسقوط الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية. أما الراديكاليون فرأوا أن انتصار الثوار في إيران هو بداية صراع عالمي ضد الغرب المنحط الذي يقوده الشيطان الأكبر أو الولايات المتحدة. وحثّ بازركان الثوار على التوقف عن النضال والعودة إلى أعمالهم وإلى كل ما كانوا يفعلونه قبل أن تبدأ الثورة، أما آية الله فقد حثّ الثوار على عدم إلقاء أسلحتهم إلى أن يحرروا المسلمين المضطهدين في جميع أنحاء العالم، وهو الذي صاغ فكرة "تصدير الثورة"، وهذا يعني ضمنًا شنَّ حربٍ على الصهاينة من أجل تحرير فلسطين، وتحرير الجماهير العربية من طغيان الملوك والحكام العرب المستبدين الذين كانوا مجرد دمى للغرب، ولاسيما الولايات المتحدة.

رفض بازركان قطع علاقات إيران مع الولايات المتحدة، بينما نظّم الراديكاليون تجمعاتٍ حاشدةً تهتف: "الموت لأميركا". عارض بازركان المحاكم الثورية الإسلامية التي أنشأها وعيَّن قضاتها آيةُ الله والتي حكمت بالموت على مئات المشتبه بهم بتهمة التعاون مع نظام الشاه وباتهامات أخرى بما في ذلك إطلاق النار على المتظاهرين خلال الثورة. وكانت المحاكمات في كثير من الأحيان لا تدوم إلا بضع دقائق من دون وجود أي محام يدافع عن المتهمين. دعا بازركان إلى سيادة القانون والنظام واحترام الملكية الخاصة، وعارض مصادرة ممتلكات الإيرانيين الأغنياء الذين إما غادروا البلاد خلال الثورة أو اتُّهِموا بالتواطؤ مع النظام القديم. واتهم آية الله الإيرانيين الأغنياء بكونهم "طابورًا خامسًا" للعدو وعملاء للإمبريالية الأميركية، والتف وراء آية الله معظمُ الثوار واليساريين والنشطاء بين الطلاب والراديكاليون الإسلاميون والفقراء والإيرانيون الأكثر تدينًا وسكان الأرياف والطبقة العاملة والحرس الثوري المشكَّل حديثًا ورجال الدين. أما بازركان وزملاؤه فقد اتُّهموا تدريجيًا بأنهم "جواسيس" للولايات المتحدة.

كان من شأن الاستيلاء على السفارة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1979 أن أنهى الصراع بين المعتدلين والمتشددين؛ فقد هيمنت رؤية آية الله الراديكالية على إيران هيمنةً جارفة، ولكن وفاته عام 1989 لم تغير النظرة الراديكالية التي خلَّفها وراءه. وقد جرت محاولتان جديتان للنأي بإيران عن تطرف آية الله: كانت المحاولة الأولى من جانب أكبر هاشمي رفسنجاني عندما أصبح رئيسًا عام 1989 بعد وفاة آية الله، وجرت المحاولة الثانية بعد ثماني سنوات عندما فاز محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية عام 1997 فوزًا ساحقًا. وكانت محاولة رفسنجاني تهدف أساسًا إلى إدخال اقتصاد السوق الحرة إلى الاقتصاد الذي تديره الدولة، أما خاتمي فقد كان يطمح إلى إجراء إصلاح سياسي، ولكنَّ كليهما فشل؛ حيث ظل تفسير الإمام الخميني الإسلامي الراديكالي هو السائد من غير مساسٍ طيلة الأعوام الثلاثة والعشرين الماضية. لكن هذا التفسير الراديكالي، الذي شكّل العمود الفقري لقوة إيران الناعمة حتى الآن، قد يتوجب عليه أن يتغير في المستقبل.

على عكس عصر الإمام، فإن معظم الإيرانيين الأكثر ثقافةً نأوا بأنفسهم عن التفسير الراديكالي للإسلام؛ فالغرب والولايات المتحدة، اللذان عاداهما كثيرٌ من الإيرانيين خلال العقدين الأولين من قيام الثورة الإسلامية، لم يعودا كذلك بالنسبة إلى الأجيال الجديدة. ومع أنه لا توجد أبحاث موثوق بها قام بها أكاديميون إيرانيون، يبدو أن الإيرانيين أصبحوا أقل تدينا مقارنةً بما كانوا عليه قبل ثلاثة عقود. وعلاوةً على ذلك، يبدو أن الدين أصبح أقل تسييسًا وأكثر روحانية. وختامًا، هناك جيلٌ من الشباب الإيراني القوي والمتفاني يؤمن إيمانًا صادقًا بالإسلام الراديكالي الذي أرساه الإمام الخميني. ومع أن هذا الجيل لا يمثل إلا أقلية، إلا أن إيمانهم القوي بالإسلام الراديكالي لا يزال يمثل قوةً ناعمةً كامنةً لا يُستهان بها.

أثر "الصحوة الشيعية" في المنطقة

منذ غزو العراق وسقوط صدام حسين في عام 2003، جرى حديث كثير عما يسمى "الهلال الشيعي". وتزعم هذه النظرية في أبسط أشكالها أن النظام الإيراني يحاول خلق منطقة هيمنة شيعية تمتد من إيران إلى العراق وسوريا وتنتهي في لبنان. ويهدف هذا "الهلال" في المقام الأول إلى محاربة السُّنَّة وزعزعة استقرار الأنظمة العربية الموالية للغرب. ويشير أصحاب نظرية "الهلال الشيعي" إلى الدعم الإيراني للنظام العراقي ذي الغالبية الشيعية، ونظام بشار الأسد في سوريا وحزب الله في لبنان. كما يشيرون كذلك إلى علاقات طهران العدائية تجاه معظم الأنظمة العربية في المنطقة؛ فالأزمة السورية التي اصطفت فيها قطر والسعودية وتركيا ضد إيران والنظام السوري ذي الغالبية العلوية أشعلت الصراع بين الشيعة والسنة.

ومما لا شك فيه أن نظرية "الهلال الشيعي" هي مجرد أسطورة لا أساس لها؛ فأولاً: تشكّل معاداة الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل مرتكزات أساسية للسياسة الخارجية للنظام الإسلامي في إيران، وليس خرافة ما يُسمى "الهلال الشيعي". ثانيًا، يُكذِّب الدعم الإيراني لحماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من مختلف الفصائل الفلسطينية السنّية الراديكالية الفكرةَ القائلة: إن طهران تسعى لنشر النفوذ الشيعي في المنطقة. وبالمثل، تدعم إيران حزب الله ليس لأنه حزب شيعي، بل لأن حزب الله يعادي الولايات المتحدة وإسرائيل. وإيران ستوقف كل دعمها لحزب الله لو أنه غيّر من عدائه المتشدد تجاه أميركا وخفّف من نبرته تجاه إسرائيل. والشيء ذاته ينطبق على الدعم الإيراني القوي لبشار الأسد في سوريا؛ فلو أن النظام السوري كان مواليًا للغرب، لما دعمته طهران على الإطلاق، بغضّ النظر عن كونه علويًا أو شيعيًا أو سنيًا. والأمر نفسه ينطبق على عدو إيران اللدود في المنطقة: المملكة العربية السعودية؛ فلو ساءت العلاقات بين الرياض وواشنطن في يوم من الأيام، فلا شك أن طهران ستنسى كل العداوات بين السنة والشيعة وتمد ذراعيها لقادة السعودية الوهابيين. ويمكننا أن نستنتج هذا من خلال مراقبة النفوذ الإيراني في العراق؛ فكلما زاد عداء جماعة شيعية للغرب، تمتّنت علاقاتها مع طهران. بالمقابل، نجد أن العلاقات بين الجماعات الشيعية العلمانية الموالية للغرب في العراق مع طهران علاقات عدائية.

باختصار، فشلت الصحوة الشيعية كقوة سياسية في أن يكون لها أثرٌ كبير بين الشيعة خارج إيران؛ فالشيعة خارج إيران لا يستحقون الدعم الإيراني إلا إذا كانوا معادين للولايات المتحدة، وإلا فإن النظام الإسلامي في طهران سيتجاهلهم. وبمعنى أوسع، لم تُفلح الصحوة الشيعية، كعقيدة سياسية، في استقطاب الشيعة الآخرين في المنطقة؛ فشيعة البحرين، على سبيل المثال، يستلهمون القيم الديمقراطية من "الربيع العربي" أكثر مما يستلهمونها من الموقف الإيراني المتشدد في عدائه للولايات المتحدة والغرب. وبشكل عام ينطبق نفس الانطباع فيما يبدو على الحركات الشيعية الأخرى في مختلف الدول العربية في المنطقة بما في ذلك شيعة العراق.
____________________________________
صادق زيباكلام - بروفسور في الدراسات الإيرانية، كلية القانون والعلوم السياسية في جامعة طهران
ترجم الورقة عن الإنجليزية: د. موسى الحالول    

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب