مسلمو مقدونيا: تحديات ومستقبل غير واضح المعالم

يصل تعداد سكان مقدونيا اليوم حوالي مليوني ساكن (2.022.547)، يمثل المسلمون 33-35% منهم أي ما يقرب من 700.000 نسمة. تبحث هذه الورقة واقع مسلمي مقدونيا والتحديات التي تواجههم كما ترسم ملامح مستقبلهم استنادا إلى مؤشرات الحضور الإثني والديني.
201382510512237734_20.jpg
يتعرض مسلمو البلقان لحملات تشويه تقدّمهم كإرهابيّين هدفهم القضاء على القيم الأوروبية (أسوشيتد برس)

ملخص
يصل تعداد سكان مقدونيا اليوم حوالي مليوني ساكن، يمثل المسلمون ما بين 33-35% منهم، أي: ما يقرب من 700.000 نسمة. ويعيش اليوم أكثر من ثلثهم في مناطق الشمال الغربي، وفي غرب وجنوب غرب مقدونيا، أما الثلث المتبقي فهو موزع بالتساوي تقريبًا في مختلف أنحاء مقدونيا الحضرية والريفية. وذلك نتيجة لحملات التطهير التاريخية التي تعرضوا لها بعد انتقال الحكم في مقدونيا من الدولة العثمانية إلى السلطات الصربية.

إن مقدونيا دولة علمانية ولكن دستورها يعترف ضمنيًا بالإسلام كدين متساو مع باقي الأديان، وعليه فمن الناحية القانونية ترعى جمعية مسلمي جمهورية مقدونيا شؤون المسلمين وتحفظ قانونية حضور الإسلام وممارسته، وتدافع عن حقوق المسلمين كمواطنين في دولتهم.

ولكن هذا لم يمنع من أن يتعرض المسلمون لضغط سياسي من قبل شخصيات سياسية نافذة في الحكومة المقدونية، وأغلبهم من "الحزب الثوري المقدوني" اليميني المتشدّد الذي له حضوره في البرلمان والحكومة، وجُلّ هدفهم تشويه صورة المسلمين المقدونيين.

تصنّف جمهورية مقدونيا من خلال تركيبتها الديموغرافية ضمن دول جنوب شرق أوروبا التقليدية. وهذا يعني أن مقدونيا، تماما كباقي دول البلقان، أرض عرفت تقاليد عريقة من التعدّد الثقافي، فتركيبتها الديموغرافية توصف،منذ القدم، بأنها فسيفساء متعدّدة الإثنيات والديانات. وظلت التغيّرات على مكونات الحضور الإثني والديني للشعب المقدوني، باعتبارها مؤشرا للقياس، بما تعنيه من رصد لتمثيلية هذه الجماعات ضمن المجتمع المقدوني، ظلت لقرون عديدة مؤشرا شبه ثابت لم تتغيّر طبيعته.

المعطى الديموغرافي والخصوصيات

يصل تعداد سكان مقدونيا اليوم حوالي مليوني ساكن (2.022.547)، يمثل المسلمون ما بين 33-35% منهم أي ما يقرب من 700.000 نسمة، في حين يبلغ عدد المسيحيين الأرثوذوكس بين 64-66% ، ويصنّف 1% من باقي الشعب المقدوني ضمن الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم(1).

يمثل المقدونيين من اصل ألباني أغلبية داخل المجتمعات المقدونية المسلمة تقارب نسبتها 72% أو 509.083 ألف نسمة من مجموع عدد المسلمين المقدونيين البالغ (702.492)، ، في حين تبلغ نسبة السكان المقدونيين من أصل تركي 11% أو (77.959)، والرّوما 8% أو (53.879)، أما نسبة التورباشيين والغورانيين والمقدونيين المسلمين فتقرب من 5% أو (35.000)، ويعدّ البوشناق ما نسبته 4% (25.000) نسمة (2).  ولأن مسلمي مقدونيا عاشوا قبل قرن من الزمان داخل حدود الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف والتي تعرّف بأنها دولة مسلمة، وذلك لغاية اشتعال شرارة حروب البلقان عام 1912، فإن أعداد المسلمين في مقدونيا كانت أكبر بكثير وكان توزيعهم داخل التراب المقدوني متساوٍ في مختلف أنحاء تراب جمهورية مقدونيا في حدودها المتعارف عليها اليوم.

وكان من نتائج حروب البلقان المباشرة، انتهاء حكم العثمانيين واحتلال مقدونيا من طرف صربيا، وهو ما أدّى إلى تقلّص أعداد المسلمين بشكل لافت بعد أن نُظّمت حملات لمطاردتهم وتهجيرهم قسريا من مدن وقرى مقدونيا، كما أدّت تلك الحملات إلى تغيير خارطة توزّعهم الديمغرافي على أراضي مقدونيا، وفي رحلتهم للبحث عن ملاذات أكثر أمنا تجمّع مسلمو مقدونيا في الأماكن التي تقع على حدود الأراضي التي تتواجد فيها أغلبية مسلمة: الشمال الغربي حيث المنطقة التي تقع بالقرب من كوسوفو حيث كانت تعيش أغلبية مسلمة ألبانية مع أعداد معتبرة من الأتراك كانت تقطن المراكز الحضرية، وفي جهة الغرب حيث المناطق المحاذية لألبانيا التي كان يعمُرُها المسلمون دون غيرهم، وفي الجنوب الغربي باتجاه المناطق المحاذية للأجزاء الشمالية لليونان الحديثة، وتحديدا في المناطق التي كانت تتواجد فيها آنذاك أغلبية مسلمة.

ونتيجة لهذه التحولات الطارئة على التجمعات الديمغرافية، نجد اليوم أن أكثر من ثلثي المسلمين المقدونيين يعيشون أساسا في مناطق الشمال الغربي، وفي غرب وجنوب غرب مقدونيا. ويتجمع العدد الأكبر من مسلمي مقدونيا في العاصمة سكوبيا، ثمّ في مدن كومانو، تيتوفو، غوستيفارو، كيتشيفو، ديبرو، ريسينو، ستروغو وأوهريد. أما الثلث المتبقي من المسلمين فنجده موزّعا بالتساوي تقريبا في مختلف أنحاء مقدونيا الحضرية والريفية.

غادر مئات الآلاف من البوشناق في هجرة جماعية إلى كوسوفو ومقدونيا، على إثر احتلال الامبراطورية النمساوية-المجرية للبوسنة والهرسك عام 1878، كما هاجر حوالي 10.000 منهم إلى المناطق الساحلية من ألبانيا بالقرب من مدينة دراتشا (دورّيس)، التي كانت حينها تابعة للإمبراطورية العثمانية، وكانوا يأملون في العودة إلى ديارهم إذا ما توفرت الظروف الملائمة.

لقد ورث قادة الحزب الشيوعي اليوغسلافي نفس الشعور المعادي الذي كانت تكنّه الحكومة الملكية الصّربية للمسلمين في عهد المملكة اليوغسلافية، وهو ما أدّى إلى هجرة جزء كبير من الجيلين الأول والثاني من البوشناق، الذين كانوا قد غادروا من قبل مناطق سكنهم الأصلية على إثر احتلال الامبراطورية النمساوية-المجرية للبوسنة والهرسك نحو كوسوفو ومقدونيا، بعد أن أجبروا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي على الهجرة إلى تركيا، وهكذا فإنّ عدد المسلمين في مقدونيا لم يتناقص فحسب وإنّما تغيّر وضعهم كمكوّن ديموغرافي أصيل في المنطقة بشكل راديكالي.

أمّا العدد المتبقي من البوشناق اليوم في مقدونيا والبالغ حوالي 30 ألف نسمة فلا يمثلون سوى جزء بسيط من إجمالي عدد البوشناق الذين كانوا يسكنون مقدونيا، بشكل مؤقت أو دائم، خلال القرن الماضي. وتبعا لما تقدّم شرحه، ينبغي هنا ملاحظة أنّ غالبية المسلمين البوشناق في مقدونيا (90%) ينحدرون من أصل كوسوفي، أمّا عدد بوشناق البوسنة والهرسك في مقدونيا فمحدود للغاية. ُكما يفسّرُ تقلّصُ أعداد المسلمين في مقدونيا اليوم بتأثير حملات التهجير القسري التي طالت كلّ المنتمين إلى الإسلام من الألبانيين والأتراك على حدّ سواء.

ثمّة مغالطة كبرى يتم الترويج لها بشكل واسع حول تاريخ الحضور الإسلامي في مقدونيا، وتقول تلك المغالطة إنّ أول حضور إسلامي يعود إلى القرن 14 ميلادي إثر توسع الامبراطورية العثمانية، إلاّ أنّ الدراسات والأبحاث الحديثة تؤكّد أنّ السكان الأصليين في هذا الجزء الأوروبي (شبه الجزيرة البلقانية) بدأوا باعتناق الإسلام خلال القرن السابع الميلادي، وتؤكّد تلك الدراسات على أنّ القرن الثامن شهد تجذّرا واضحا للإسلام في منطقة جنوب شرق البلقان بما في ذلك المنطقة التي تقع فيها جمهورية مقدونيا المعاصرة(3).

يكشف هذا المعطى أنّه إلى جانب الدّولة التي شيّدها المسلمون -الأندلس- في شبه الجزيرة الإيبيرية عام 710 ميلادية، فإنّ الإسلام كدين وحضارة وثقافة سبق بتسجيل حضوره على أرض القارة الأوروبية ثلاثة قرون كاملة قبل أن تعرف مناطق واسعة من أوروبا شيئا عن المسيحية، فقد سجّل الإسلام حضوره الأوروبي قبل أن تعرف كامل المنطقة الاسكندنافية المسيحية، وقبل أن تعتنق روسيا وشعوب شمال أوروبا ووسطها الدين المسيحي!

من المسلّمات اليوم القول بأنّ مسلمي مقدونيا، مثل إخوانهم من مسلمي البلقان عموما، هم السكّان الأصليون في أوروبا، وأنّهم طيلة 13 قرنا من الزّمن وهم يواصلون دون انقطاع العمل على إثراء حضارتهم وتاريخهم وثقافتهم الإسلامية، هذه الحقيقة التاريخية تزداد أهمية في ضوء ما يمكنها أن توفّره من شواهد وأدلّة ملموسة تفنّد وتدحض بقوّة ما يُنشر من أيديولوجيات ومقولات تعتبر الإسلام وافدا على أوروبا غير مرغوب فيه وأن المسلمين غرباء ليس من حقهم العيش في أوروبا، ويصوّرون الثقافة والتقاليد الإسلامية على أنّها العدوّ اللّدود لما يسمّونه الثقافة والتقاليد الأوروبية الأصيلة.

المسلمون الذين يعيشون في مقدونيا اليوم، هم بلا شك جزء من الشعوب الأوروبية الأصيلة في المنطقة، ويشاركهم في هذه الصفة كلّ مسلمي مناطق شبه الجزيرة البلقانية دون ريب، ويشمل هذا التوصيف سكان الجزء الأوروبي من تركيا مرورا ببلغاريا فرومانيا واليونان وصولا إلى ألبانيا وصربيا فكوسوفو والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكرواتيا.

ساعدت المميزات التاريخية والثقافية التي يتصف بها مسلمو مقدونيا على تحديد موقعهم ضمن المجتمع المقدوني المتجانس نسبيا، ومع أن مقدونيا تُعرّفُ على أنها دولة علمانية تفصل الدين عن الدّولة، فإنّ دستورها يعترف ضمنيا بالإسلام كدين متساو مع باقي الأديان، وكان تأسيس جمعية مسلمي جمهورية مقدونيا من العوامل التي ساعدت على الحفاظ على موقع الإسلام وقانونية حضوره وممارسته، باعتبار أنّ هذه المؤسسة الإسلامية ترعى شؤون مسلمي مقدونيا وتدافع عن حقوقهم كمواطنين مقدونيين كاملي المواطنة في دولتهم مقدونيا.

وإلى جانب جمعية مسلمي جمهورية مقدونيا (وتسمّى أيضا دار الإفتاء)، يوجد عدد من المؤسسات الثقافية والتربوية ودور للنشر ومنظمات إغاثية تُعنى بالمسلمين وتعمل على نشر الوعي والثقافة الإسلامية بينهم وتدافع عن حقوقهم المشروعة دستوريا وتنشّؤهم تنشئة إسلامية روحيا وتعليميا، كما يوجد عدد من الأحزاب السياسية التي تتألّف أساسا من منتسبين مسلمين ولها ممثلين في البرلمان يبلغ عددهم حوالي 30 نائبا من أصل 123، هذا بالإضافة إلى وجود عدد من المنتديات الإسلامية الشبابية التي تعمل بشكل مكثف على التقريب بين الديانات ونشر قيم التسامح بين الشباب في مقدونيا وخارجها.

يمكن أن نحُصي على أرض مقدونيا حوالي 600 مسجد جامع، من بينها 580 تفتح أبوابها للمصلين بانتظام. ووفقا لبعض الإحصاءات الموثوقة فإن عدد المسلمين الممارسين لطقوس دينهم بشكل منتظم يوميا يبلغ حوالي 230 ألفا، في حين يؤمّ صلاة الجمعة أسبوعيا ما يقرب من 350 ألف مصلّ. وتؤدّى خطب الجمعة والتعليم الديني في المساجد والمدارس الإسلامية باللغات الألبانية والتركية والمقدونية والبوسنية والغجرية ( الرّوما)، وهذه أيضا إحدى مميزات مسلمي مقدونيا.

التحديات القائمة

إنّ أبرز التحديات التي تواجه مسلمي مقدونيا تبدو متركّزة أساسا داخل نفس الدّوائر التي تُعتبر من مميّزات الجماعات المسلمة وخصوصياته. ولكون مسلمي مقدونيا من سكان أوروبا الأصليين، فإنّ هويتهم الإسلامية لها تقاليد تمتدّ لأكثر من 12 قرنا من الزمان، وهذه الحقيقة الموضوعية تمثل في نفس الوقت أحد أهم الخصوصيات لمسلمي مقدونيا، وتشكّل شوكة في أعين المعادين للإسلام الذين يبذلون جهودا حثيثة لوصم الإسلام والمسلمين بكلّ الصفات السيئة ويحاربون وجود المسلمين من خلال دوائر ضغط سياسية وثقافية وإعلامية موجّهة وتحمل قدرا من الكراهية للإسلام والمسلمين كبير.

نذكّر في هذا الصدد بالحملات المخوّفة من الإسلام التي يطلقها سياسيون يمينيون متطرّفون وفاشيّون جدد موجودون على الساحة السياسية في عدد من الدول الأوروبية الغربية مثل زعيمة اليمينيين في فرنسا مارين لوبان وهانز كريستيان شترايخه الذي خلف يورغ هايدر في النمسا وغيرت فيلدرز في هولن، غيرهم...، هذا بالإضافة طبعا إلى التصريحات النارية المعادية لكل ما هو إسلامي لوجوه سياسية صربية تحاول استغلال كلّ المنصات والفرص السانحة لتصوير المسلمين على أنهم خطر على السلام والاستقرار في أوروبا، وخاصّة في هذه المنطقة منها. 

كما أنّ حملات تشويه أخرى، قد تبدو أقل راديكالية ولكنّها ليست بأقل تأثير، ما تزال تلاحق الإسلام لتصوّره على أنّع أيديولوجيا فوضوية مبنية على ردّ الفعل، وتقدّم المسلمين كإرهابيّين هدفهم الأخير القضاء على القيم الأوروبية.

وفي نفس هذا السياق، فقد كان مستقبل مسلمي مقدونيا تحت ضغط متواصل استهدف مؤسسات المسلمين وحياتهم الاجتماعية وذلك منذ انتهاء حروب البلقان عام 1912 وحتى آخر حرب بلقانية شهدتها المنطقة عام 1991، حيث تحولت مقدونيا إلى جمهورية تعترف بتعدّد الأعراق فتحولت تبعا لذلك وضعية المسلمين إلى حال أفضل. وأصبح بالإمكان تأسيس أحزاب سياسية على أساس إثني (قومي) تشارك في العمل السياسي، وهو ما ساهم بقوة في التأسيس لحراك سياسي أنتج تكوين عدد من الأحزاب بات حضور المسلمين فيها واضحا وجليا، واصطبغت تلك الأحزاب بالهوية الثقافية الدينية للمسلمين المقدونيين.

من الأكيد، أنّه لم يكن منتظرا أنّ هذا المُتغيّر الطارئ في الحياة السياسية سيكون كافيا وحده لإيقاف سيل الاتهامات الموجهة للمسلمين في مقدونيا من طرف الجهات الرّسمية السياسية والقضائية بدعمهم وتبنيهم للإرهاب، كما لم يكن كافيا لتحقيق مطالب المسلمين المشروعة في مقدونيا ولا لمنع الهجمات القاسية والمتعدّدة التي تستهدف القضاء على الإسلام والمسلمين  ويكفي هنا إيراد مثال دالّ على هذا التوجّه القاضي بافتعال المكائد وتلفيق التّهم جزافا دون إثباتات وإنّما كان يكفي مجرّد الشكّ لإلباس التّهم بالمسلمين ومنعهم من حقهم في العيش بصفتهم مواطنين في هذا البلد.

وكان نفس التمشي من قبل السلطات المقدونية قد طال ما عُرف عام 1991 بحركة تأميم ممتلكات الأفراد والمؤسسات، والتي صاحبت قرارات إرجاعها لمالكيها فيما بعد إخلالات تنمّ عن تفرقة مقصودة، حيث استرجعت الكنيسة الأرثوذوكسية المقدونية كلّ أملاكها في حين لم تتمكّن جمعية مسلمي مقدونيا من ذلك بسبب اختلاف الإجراءات والشروط المطلوبة من الطرفين أثناء تقديم طلبات استعادة الأملاك.

فعدد الطلبات، التي لم تجد طريقها إلى الحلّ أو التي رُفضت لاسترجاع الأملاك المؤمّمة، والتي تقدّم بها مسلمون أفرادا ومؤسسات، تبلغ أضعاف الملفّات التي استجابت السلطات لحلّها، ولم تتمكن جمعية مسلمي مقدونيا من استرجاع سوى عدد بسيط من أملاكها الوقفية وأراضيها، بل وحتى المساجد، في حين كانت إجراءات استرجاع أملاك الكنيسة الأرثوذكسية المقدونية سهلة وانتهت إلى استعادتها جلّ أملاكها.

وعلى هذا النسق تسير أيضا عمليات ضغط سياسي مكثّف، تنفذّها وتسهر على نسج خيوطها شخصيات سياسية نافذة في الحكومة المقدونية، وأغلبهم من "الحزب الثوري المقدوني" اليميني المتشدّد الذي حصل على 55 مقعدا في البرلمان وله عدّة وزراء في الحكومة المقدونية، تهدف إلى تشويه صورة المسلمين المقدونيين. من ذلك أنّه في قضية مقتل خمسة شبان بالقرب من سكوبيا تمّ توجيه الاتهام مباشرة ودون أدلّة إلى أشخاص قيل إنهم مواطنون مقدونيون من المسلمين وُصفوا بأنّهم من ينتمون إلى مجموعة جهادية قاتلت إلى جانب القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان وباكستان. وبعد إعلان وزارة الداخلية تمّ إيقاف المتهمين، كما اقتيد أمهات وآباء وكلّ أقارب المتهمين إلى مخافر الشرطة للتحقيق معهم، وكانت كلّ الأدلّة المحجوزة لإثبات تهمة الإرهاب لا تتعدّى كونها مصاحف مترجمة إلى اللغتين الألبانية والمقدونية.

ورغم تهافت الأدلّة وثبوت عدم سفر أي من المتهمين إلى أفغانستان أو باكستان، فضلا عن مشاركتهم في القتال إلى جانب طالبان أو القاعدة، وبرغم عدم العثور على أي سلاح يمكن أن يكون قد استخدم في تنفيذ عملية القتل فإنّ ثلاثة من المتهمين المقدونيين ما يزالون يقبعون في السجن، في حين سلّم المتّهمين الآخرين إلى السلطات الكوسوفية بصفتهما من كوسوفو. وطبعا لم تتخذ السلطات القضائية والشرطية أي إجراء في حق الصحف ومحطات التلفزيون التي شنت حملة شعواء ضدّ المسلمين واصفة إياهم بشتى النعوت وملصقة بهم أقذر التّهم، وانتهت القضايا المرفوعة من قبل المسلمين لردّ الاعتبار إلى الإهمال من طرف القضاء، بل تواصل إلى اليوم تلك الصحف والتلفزيونات تصوير العملية على أنّها إرهاب منظم من المسلمين ضدّ المقدونيين الأرثدوكس، وبالرغم من أنّ السلطات الأمنية لم تعثر على الجناة، فإنّ التوجه العام في الإعلام المقدوني ما زال يكيل التهم إلى المسلمين ويصفهم بالإرهاب.

حقيقة أنّ المسألة تتعلّق بشيطنة المسلمين بصفتهم تلك لا غير، تؤكّدها تصرّفات السلطات الأمنية المخالفة للإجراءات القانونية السليمة، والتي تدعمها أجهزة الإعلام الموجّه ضد المسلمين المقدونيين.

ورغم أنّ التعاون بين المكوّنات السياسية الإسلامية وغير الإسلامية قائم ومتطوّر، بشكل خاص داخل البرلمان المقدوني وفي غيره من الدوائر السياسية، إلاّ أنّ التوتّر الذي يسود على مستوى خطوط التّماس الديني بدوره قوي وواضح مع ما يصاحبه من عدم ثقة جلية في كلّ من وما هو مسلم.

ملامح المستقبل

هذه الشكوك والقدر الكبير من عدم الثقة تجاه المسلمين أصبح ثقافة وتقليدا قائما مع أنّه لا مبرّر منطقي أو تاريخي لوجوده في مقدونيا، التي تعدّ جمهورية تتمتع بقدر عال من التعدّد الثقافي والتسامح الديني الذي يميزها.

التوجّه المعادي للإسلام برز بشكل أكثر شراسة مؤخّرا خاصّة مع صدور تقارير عن الاتحاد الأوروبي تحمل في طياتها عدم رضى أوروبي على وجود المسلمين في مقدونيا، وغذت تلك التقرير الحملة المعادية والمُخوّفة من الإسلام التي تسابقت دوائر إعلامية وسياسية في تنفيذ سيناريوهاتها المختلفة معتبرة أن إظهار كراهيتها للإسلام والمسلمين دليل على تقارب التوجه الأيديولوجي لدولة مقدونيا مع الاتحاد الأوروبي.(4)

في نفس هذا السياق، وكي يمكننا رصد واقع مسلمي مقدونيا، فإنّه يتعين علينا تركيز الاهتمام على وضع المسلمين التعليمي والاقتصادي والسياسي داخل المجتمع المقدوني.

كلّ البحوث والدراسات والإحصاءات الموثوقة تُثبت إلى حدّ الآن أنّ المسلمين يتواجدون، من حيث أعدادهم ونسبهم المئوية في مؤخّرة التّرتيب من حيث تحصيلهم العلمي، كما أنّهم الأكثر فقرا ضمن الشرائح المجتمعية المقدونية، في حين لا ترقى مشاركتهم السياسية وعددهم من بين موظفي القطاع الحكومي إلى نسبة أقل بكثير من نسبة تمثيليتهم في المجتمع المقدوني. وباعتماد هذا المقياس فإنّ المسلمين من أصل ألباني في وضع أفضل بكثير من المسلمين المنحدرين من أصل تركي، في حين يبدو وضع المسلمين البوشناق والتورباشيين /الغورانيين والرّوما في الحضيض. ويُظهر هذا التصنيف الواقعي حقيقة أنّ المجتمع المقدوني تحوّل تدريجيا من مجتمع متعدّد الأعراق إلى مجتمع تتجاذبه سياسيا جماعتين قوميتين: المقدونيين المسيحيين الأرثوذوكس والمقدونيين المسلمين من أصل ألباني.

ودائما في نفس هذا السياق، فإنّ أحد أهمّ أبرز المحن التي يعيشها مسلمو مقدونيا اليوم تتمثّل في التجاذب السياسي الدّائر بين الأحزاب السياسية المقدونية المبنية على قاعدة إثنية أحادية (المسيحيين الأرثوذكس من ناحية، والأحزاب المؤلفة من المنتمين إلى الإثنية الألبانية الخالصة)، وهكذا فإنّ التنافس السياسي ومعركة السعي إلى فرض السيطرة في هذا الجوّ المشحون والمنقسم إلى ثنائية مقدونية - ألبانية يساهم بشكل كبير في إضفاء صفة الصراع الإثني على هذا التنافس السياسي، وما يلبث ذلك أن يُصبح، في نظر الرأي العام المقدوني، صراعا يختزل قدرا هامّا من التنافس الدّيني حيث لا فاصل واضح بين الإثني والديني.

يبدو هذا الصراع المحتدم بين الألبانيين والمقدونيين حديث عهد في مقدونيا، حيث لم يشهد التاريخ قيام أي حرب بينهما على الإطلاق، ولا حتىّ عرفت علاقاتهما صراعا ذي بال، إلا أنّ الظروف المستجدّة ساعدت في تشدّد مواقف هذين الطرفين تجاه أحدهما الآخر من خلال حشد كل فريق لأنصار منحدرين من إثنيته وديانته (المسيحيون الأرثدوكس مدعومين بمواقف دولية غربية بالأساس من جهة، والمسلمون الألبان من جهة أخرى) وهو ما أدّى إلى نشوب صراع خطير بينهما عام 2011 انتهى في شهر أغسطس من نفس السنة إلى عقد اتفاق أوهريد، الذي وإن هدّأ الأطراف المتشدّدة داخل الجناحين المتصارعين إلاّ أنّه لم ينه حالة الاحتقان ولم ينجح في القضاء على مسبّبات الصراع العميقة، ومثال ذلك إقدام متطرفين مقدونيين أرثوذكس على حرق مسجد في مدينة "بريليب" (أين يعيش 100% من المقدونيين المسيحيين الأرثوذكس) عام 2011 يعود تاريخ تشييده إلى القرن 16، دافعهم في ذلك كرههم للألبان، مع أنّ المسجد المهاجم بناه العثمانيين وليس الألبان، كما أنّ مدينة "بريليب" لا يسكنها ولو ألباني واحد. أما موقف السلطات المقدونية الحالية المؤلفة في أغلبها من مقدونيين أرثوذوكس، وبعد 12 عاما عن حادثة حرق المسجد لم تسع إلى إعادة بنائه، ولم تمنح المواطنين المسلمين ، ممثلين في جمعية مسلمي مقدونيا، ترخيصا لإعادة بنائه. كما أنّ تشييد صليب فوق معلمين إسلاميين عثمانيين في مدينتي بريليب وبيوليو هدفه استفزاز مشاعر المسلمين ورغبة جامحة في تهميشهم وإذلالهم.

في مثل هذه الأوضاع، فإن مستقبل المسلمين في مقدونيا ما يزال غير واضح المعالم ولا هو متين ومؤسّس على أرضية صلبة. مستقبل المسلمين في مقدونيا يتأرجح بين جوّ صحو حينا، وأجواء عاصفة تحمل سحبا داكنة كثيفة أحيانا أخرى. ولا شكّ في أنّ لعب ورقة المعاداة للإسلام تبدو أكثر الاستفزازات الدّاعية إلى إثارة الصّدام، كما أنّ العمل على دعم أسباب العيش المشترك بين الإسلام والمسيحية الأرثذوكسية يساهم في تهدئة الأوضاع واستقرارها وعودتها كما كانت عليه لقرون مديدة بين أتباع الديانتين في مقدونيا، ويمثّل صمّام أمان لسكان مقدونيا على اختلاف أعراقهم ودياناتهم.
_______________________________
فريد موهيتش - أستاذ للفلسفة بجامعة القديسين سيريل وميثوديوس بالعاصمة المقدونية سكوبيا، كما يعمل أستاذا زائرا في عدد من الجامعات العالمية،وله مؤلفات في الفلسفة المعاصرة والأنتروبولوجيا.

ترجم النص إلى العربية كريم الماجري - باحث متخصص في شؤون البلقان

الهوامش والمصادر
(1) The State Statistical Office of the Republic of Macedonia, Census of Population, Housholds and Dwelling in the Republic of Macedonia, 2002 (Skopje: State Statistical, Office, May 2005) .

(2) تمّ تقدير نسبة التورباشيين والغورانيين والبوشناق على سبيل التقريب لغياب الإحصاء الدقيق لهذه الجماعات الإثنية. فأعداد من التورباشيين كانوا يعرّفون أنفسهم على أنهم ألبانيون أوأتراك أو حتى كمقدونيين مسلمين، في حين كان جزء من البوشناق، الذين يعرفون أنفسهم اليوم من خلال انتمائهم الديني، يفضلون تعريف أنفسهم ب"مسلمين" ويعتبرون الإسلام لهم وطنا.

(3) بالإمكان العودة إلى تفاصيل أكثر في دراسة معمّقة للباحث هافيريتش جاويد :
History of the Muslim Discovery of the World: Islamic Civilization within the plurality of Civilizations, pp.171-210 (Deakin University 2012)

(4) هذه الحملة الضاغطة والموجهة تبدو أكثر وضوحا من خلال المادّة التي تقدّمها عدد من الصحف والمجلات ومؤسسات إعلامية يمينية تهدف إلى إعادة إنتاج حملات الفوضى الإيديولوجية التي رعتها دوائر صربية نافذة في مقدونيا بداية تسعينيات القرن الماضي وأهمها حكومة الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش وعدد من الجنرالات العسكريين في عهده وما ارتبط بهم من مراكز بحوث استراتيجية أهمها الأكاديمية الصربية للآداب والفنون ) والتي حاولت، بشكل تآمري وبعيد عن أيّ دلائل واقعية، تصوير الاعتداء الذي نفّذه الصرب ضدّ البوسنة والهرسك على أنّه خُطّط له من أجل طرد المسلمين  الألبان ) وملاحقتهم إلى أن ينتهي بهم الأمر غرقا في البحر الأدرياتيكي" كما صُوّر الاعتداء الصّربي الذي كان مخطّطا له على مقدونيا ، وقد قضت الخطة التي كان من المفروض تنفيذها أن يتم الهجوم على مقدونيا في حال قصّرت حكومتها آنذاك في الاستجابة الفورية لتبني مواقف الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش بالحفاظ على وحدة يوغسلافيا وعدم إعلان مقدونيا استقلالها عن يوغسلافيا، إلا أنّ سلطات مقدونيا في حينها أكّدت ولاءها لبلغراد واتفقت لاحقا على إعلان استقلالها بمباركة صربية.

كلّ هذا قُدّم وسُوّق له غربيا على أنّه "محاولة من الشعب الصّربي لحماية مسيحية أوروبا من همجية المسلمين والدفاع عن القيم الأوروبية من بربرية الإسلام"  لتبرير شن حملة التطهير العرقي التي استهدفت طرد المسلمين من مقدونيا.

عودة للصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب