المسلمون في صربيا ومقومات حفظ الوجود

تعرض المسلمون في صربيا تاريخيًا ولعقود طويلة لتطهير عرقي ممنهج، أعاق نموهم الديمغرافي والسياسي وجعلهم أسرى قبضة السلطات الصربية، ويحاولون اليوم مستفيدين من الوعي العالمي بحقوق الإنسان إعادة بناء مؤسساتهم الخاصة وتعزيز مساهمتهم في بناء مجتمعاتهم إلى جانب شركائهم في الوطن.
201310981521970734_20.jpg
المسلمون يطالبون بمحاكمة مجرمي الحرب في صربيا بينما السلطات الصربية تسمح بتسمية الشوارع بأسمائهم (أسوشييتد برس)

ملخص
تعرض مسلمو صربيا تاريخيًا لحملات قومية صربية ممنهجة من التطهير العرقي، واليوم بعد انفصال كوسوفو ومقدونيا، فإن عدد المسلمين هناك يمكن تقديره بحوالي 400 ألف مسلم، وهم في غالبهم يتوزعون على مجموعتين أساسيتين: البوشناق في إقليم السنجق ويشكّلون فيه أغلبية سكانية، والألبان في بريشيفسكو دولينا الواقعة في جنوب صربيا والمحاذية للحدود المقدونية. ورغم الانفصال الجغرافي بحكم وجودهما على إقليمين متباعدين وتنحدران عرقيًا من أصلين مختلفين وتتحدثان لغتين مختلفتين (الألبانية واللغة الصربية)، ولهما تقاليد ثقافية غير متجانسة، فإن المسافة الاجتماعية الفاصلة بينهما ضئيلة جدًا بحكم الروابط النفسية والاجتماعية بينهما والمستمدة من الإسلام.

يتعرض المسلمون في صربيا لضغوط هائلة؛ بسبب روح العداء ضد المسلمين حتى إنه يسود جو عام داخل المجتمع الصربي يمجّد "العدوان" الذي تعرض له المسلمون البوشناق في البوسنة والهرسك ما بين 1992-1995, وما صاحبه من إبادة جماعية. وتحرص السلطات الصربية على فصل المسلمين عن أشقائهم في الجوار، ولا تسمح لهم بأي تواصل على أساس ديني معهم.

تذبذبت المعطيات الديمغرافية المتعلقة بالمسلمين في دولة صربيا المعاصرة بشكل درامي خلال المائة والخمسين عامًا الماضية، وقد ساعدت بعض المعطيات والأحداث في تاريخ صربيا المعاصر السلطات الصربية على ملاحقة وطرد المسلمين من أراضيهم ومساكنهم التي عمروها لقرون طويلة؛ وتكثفت عمليات الملاحقة والطرد، والتي كانت الأوسع والأكثر ضراوة في هذا الجزء من البلقان وجنوب شرق أوروبا بشكل عام، مباشرة بعد انسحاب الإمبراطورية العثمانية من صربيا ومن ثم سقوطها.

المعطى الديمغرافي والتطهير العرقي

من أهم المحطات التاريخية التي ساعدت على ترحيل المسلمين قسريًا من أراضي صربيا، التي كانت تشكّل جزءًا من الإمبراطورية العثمانية لما يقرب من أربعة قرون متتالية، تمثلت في انتفاضتين صربيتين على سلطات الإمبراطورية العثمانية، غذّتهما وساعدتهما القوى العظمى في حينه -الإمبراطوريتان النمساوية-المجرية والإمبراطورية الروسية- عامي 1804 و1815، فحصلت صربيا تبعًا لذلك على وضع الولاية المتمتعة باستقلال نسبي، لكنها ظلت خاضعة لحكم العثمانيين المبسوط على أراضي شبه جزيرة البلقان. ومع حلول العام 1820، أصبحت سلطة الباب العالي في صربيا شكلية. ومن المفارقات التاريخية أن صربيا ظلت صوريًا ولستة عقود أخرى، ضمن الولايات البلقانية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية المتهاوية، ويعود الفضل في ذلك إلى نشوب صراع على النفوذ وبسط السيطرة المطلقة على دول البلقان بين القوتين الأعتى، وهما: الإمبراطوريتان النمساوية-المجرية والروسية. نفس تلك المفارقة التاريخية أعطت صربيا فرصة ذهبية لتحقيق مخططاتها الاستراتيجية المتمثلة في العمل داخليًا من أجل إرساء دولة قومية موحدة الديانة (الأرثوذكسية) والتي كان لها بعد ذلك أن لعبت دور الدولة المهيمنة على كامل منطقة شبه الجزيرة البلقانية.

ومن اللافت أن حملة التطهير العرقي التي نفذتها السلطات الصربية القومية ضد المسلمين في صربيا لم تلق إلى اليوم ما تستحقه من المعالجة في البحوث التاريخية الجادة والموضوعية، بالرغم من أنها أدت إلى مسح وجود المسلمين (معظمهم من البوشناق مع أقلية تركية) في صربيا بشكل كامل تقريبًا بعدما عاشوا هناك لأربعة عقود متتالية، وخلال فترة لم تأخذ عمليًا أكثر من 15 عامًا؛ فمن إجمالي 600 ألف مسلم كانوا يعيشون في صربيا إلى عام 1809 لم يبق منهم سوى 12 ألف نسمة،(1) وبعد ثلاثة عقود فقط، أي بحلول عام 1866 كان عدد المسلمين المقيمين في صربيا لا يتجاوز خمسة آلاف مسلم، جلّهم من الغجر الروما. وكان هذا النزيف الديمغرافي الحاد لمسلمي صربيا يتنزل في إطار المشروع الاستراتيجي الهادف إلى إقامة صربيا الكبرى. وقد بُنيت هذه الحملة التطهيرية العرقية على أساس تطبيق أفكار عنصرية وقومية شوفينية وردت في عدد من المؤلفات التي رسمت خارطة طريق لتنفيذ مخطط التصفية العرقية في صربيا؛(2) والداعية إلى الإخضاع القسري للفئات القومية غير الصربية الموجودة داخل صربيا وحملها على التخلي عن هوياتها القومية وطلب الجنسية الصربية، وتنفيذ خطة القضاء الشامل على "مظاهر الأسلمة" في أوساط جميع سكان صربيا.

وأدت الحملات المُمنهجة للقوميين الصرب إثر حروب البلقان عامي 1912-1913 إلى خلق أجواء عدائية ضد المسلمين، لاسيما في المناطق التي احتلتها صربيا؛ ما أثّر بشكل كبير وواضح على أعداد المسلمين فتناقصت بعد أن كانوا يشكّلون فيها نسبًا مئوية عالية، حتى في المناطق التي كانت لهم الأغلبية المطلقة فيها مثل ما كانت عليه الحال في جزء من السنجق وكوسوفو ومقدونيا؛ ووفقًا لإحصاءات تقريبية(3) أُجريت عام 1905، فإن عدد المسلمين الذين كانوا يقيمون في هذه المناطق تراوح ما بين 550 -600 ألف شخص، قبل أن تقع تحت الاحتلال الصربي عام 1913. واستمرت أعداد المسلمين في التراجع لتصل ذروتها في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وجاءت ممارسات السلطات الصربية العنصرية وما اقترفته بحق المسلمين من جرائم جماعية -مثل عمليات التمسيح القسري والقتل في جهة بلافا وغوسينا(4) ومذبحة شاهوفيتش(5) وسرقة ممتلكاتهم- لتدفع بمسلمي تلك المناطق إلى هجرة جماعية من أراضيهم التي عمروها لقرون طويلة، وبخاصة بعد أن ضُمَّت تلك المناطق إلى صربيا. لكن بفعل تغير بعض المعطيات والشروط في الداخل الصربي بالإضافة إلى تزايد الضغط الذي مارسته منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الدولية، فقد سُجل في عقد سبعينيات القرن الماضي تراجع نسبي في عمليات الترحيل القسري وإكراه المسلمين على تغيير معتقدهم؛ ولم يعد الترحيل القسري خيارًا شاملاً للدولة واقتصر على بعض الحالات الفردية.

إذا استثنينا كوسوفو ومقدونيا، وهما اليوم دولتان مستقلتان ومنفصلتان عن صربيا، فإنه يكون بإمكاننا القول: إن أعداد المسلمين الذين يعيشون اليوم في بعض أجزاء إقليم السنجق(6) التابع للأراضي الصربية، قد بلغت نفس أعدادهم المسجلة عام 1913. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن عدد المسلمين الذين يعيشون داخل صربيا لا يتعدى بكثير عددهم المسجل عام 1834 والذي كان يبلغ 12 ألف نسمة؛ حيث إن مجموع عدد المسلمين في المناطق الصربية الداخلية اليوم وبعد 170 عامًا لا يتجاوز 20 ألف نسمة يتمركز أغلبهم في العاصمة بلغراد. ووفقًا لإحصاء عام 2012، فإن إجمالي المسلمين الذين يعيشون في صربيا اليوم يبلغ حوالي 240 ألف نسمة أو 3,5% من عدد السكان الإجمالي لهذا البلد، يعيش حوالي 145 ألف منهم في إقليم السنجق التابع لصربيا ويشكّلون فيه أغلبية سكانية تبلغ ما يقرب من 65% من مجموع سكان الإقليم. أما المنطقة الثانية التي تسكنها أغلبية سكانية مسلمة فهي منطقة بريشيفسكو دولينا الواقعة في جنوب صربيا والمحاذية للحدود المقدونية. ووفقًا لنفس المصدر الإحصائي، فإن نسبة المسلمين في هذه المنطقة تقترب من 67% من عدد السكان المحليين الإجمالي؛(7) وإذا وزعنا المسلمين في صربيا وفقًا لانتمائهم الإثني فسنجد أن 70% منهم من البوشناق، وحوالي 25% من أصول ألبانية، في حين يمثل الغجر الروما وباقي الإثنيات حوالي 5%.

الإسلام في صربيا: تحد للقوميين وعامل وحدة للمسلمين

تمثل الأرقام الإحصائية الرسمية لعدد المسلمين الحد الأدنى من الدقة وتسعى إلى تقليلهم، في نفس الوقت الذي تغالي فيه بعض التقديرات الأخرى الصادرة عن زعماء مسلمين والتي تشير إلى أن السكان المسلمين في صربيا يبلغون 700 ألف نسمة، أما التقديرات الموضوعية فتقول: إن العدد الإجمالي للمسلمين هناك قد يكون في حدود 400 ألف نسمة.

وتبقى علاقة المسلمين النشطة بالإسلام في صربيا من أهم ميزاتهم التي يجب مراعاتها في المقام الأول لأن لها امتدادات عميقة وتأثيرًا مباشرًا على وضعهم الاجتماعي داخل صربيا، وهي أيضًا سبب معاملة الدولة الصربية القاسية لهم، كما أنها وراء نظرة المجتمع الدولي لهم على أنهم جماعة متشددة دينيًا. وبشكل عام فإن المسلمين في صربيا، سواء كانوا من بوشناق السنجق أو من ألبانيي سهول كريشيفو، محافظون على تأدية فروضهم الدينية، وهم أيضًا ناشطون إسلاميون. ورغم أن هاتين الجماعتين -البوشناق والألبان- المسلمتين منفصلتان بحكم وجودهما على إقليمين متباعدين وتنحدران عرقيًا من أصلين مختلفين وتتحدثان لغتين مختلفتين (الألبانية واللغة الصربية)، ولهما تقاليد ثقافية غير متجانسة، فإن المسافة الاجتماعية الفاصلة بينهما ضئيلة جدًا بحكم أن الروابط النفسية والاجتماعية بينهما تستمد قوتها من الإسلام الذي يمثل حبلهما الممدود الجامع لهما. وفي هذا السياق، وبقطع النظر عن التباينات التي تفرضها الاستراتيجيات المختلفة، فإن هاتين الجماعتين الإثنيتين المختلفتين من المسلمين في صربيا تعملان على الانخراط الفاعل في المجتمع الذي تعيشان فيه وتؤكدان على التزام المسلمين في صربيا بقيم وأخلاقيات دينهم التي تحض على نبذ العنف والعيش بسلام مع مخالفيهم في العقيدة والدين.

في المقابل، إن تقاليد الدولة الصربية السياسية الساعية دومًا إلى خلق جو من العداء المُمنهج تجاه المسلمين والإسلام لم تتغير وهي تستهدف كلا الجماعتين وهويتهما على حد سواء؛ إذ تبدو الأقليتان البوشناقية والألبانية المسلمتان في عيون أغلبية الصرب جزءًا مرفوضًا في مكونات الخارطة الديمغرافية لصربيا؛ ففي الفترة الأولى (1820-1834) من الحملة الصربية ضد الوجود الإسلامي في المناطق الصربية المركزية هدمت مئات المساجد(8) لإجبار المسلمين على تغيير معتقداتهم ومحو كل الآثار والمظاهر الإسلامية الموجودة، ولم يتبق منها في صربيا سوى جامعين سَلِما من الهدم، هما جامع في بلغراد وجامع في مدينة نيش أُحرقا بدورهما خلال الاحتجاجات المعادية للإسلام في الأعوام القليلة الماضية. نفس تلك الحملات المستهدفة للوجود الإسلامي ومظاهره طبعت سياسة السلطات الصربية الحاكمة في إقليم السنجق ومنطقة بريشيفسكو دولينا؛ حيث هُدم عدد كبير من المساجد خاصة في فترة أواخر التسعينيات وإلى غاية استقلال كوسوفو عام 2001. وفي فترة قصيرة نسبيًا شيدت الجماعة المسلمة 180 مسجدًا جامعًا في منطقتي السنجق (120 مسجدًا) وبريشيفسكو دولينا (60 مسجدًا) حيث تعيش أغلبية مسلمة، ولا يزال عدد المساجد المشيدة في ازدياد متواصل.

وعلى صعيد التحديات فإن المسلمين يواجهون نفس التحديات الاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية التي يواجهها الصرب أنفسهم ولكن بدرجة أكثر حدة؛ فتلك العقبات والتحديات التي تعترض مسلمي صربيا لا تزال تتخذ طابع التحديات المُمنهجة والمنتظمة التي تهدف إلى التمييز والتهميش للفئات المجتمعية المختلفة إثنيًا ودينيًا عن الغالبية داخل المجتمع. ومن ثوابت السياسة الصربية خلق أجواء مشحونة ضد الإسلام والحض على الكراهية وحتى التحريض السافر على الاعتداء على المسلمين؛ حتى إن سياسة التمييز التي تنتهجها السلطات الصربية تجاه المسلمين تبدو شديدة الوضوح في مختلف مناشط الحياة المجتمعية.

تؤكد المقاييس الاقتصادية إحصائيًا تباينًا وخللاً في الموازين في غير صالح المسلمين وذلك في كل القطاعات؛ مما يؤكد، ليس فقط وجود خطة منظمة لتهميش المسلمين، وإنما أيضًا يدل على وجود عمل مُمنهج  يقوم على التمييز العنصري في حق مسلمي صربيا؛ فنسبة العاطلين عن العمل وفقًا للخريطة الإثنية تُظهر تفاوتًا بينًا في نسبة مرتفعة جدًا لدى المسلمين مقارنة بنسبة العاطلين من الصرب، وهي أخفض بقليل من نظيرتها لدى الغجر الروما. أما نسبة من يحظون بالتعليم من المسلمين، وخاصة نسبة طلبة التعليم الجامعي والعالي، فهي أيضًا منخفضة جدًا بالمقارنة مع نسب الطلبة الجامعيين من الإثنيات الأخرى التي تعيش في صربيا، باستثناء الغجر الروما؛ كما أن نسبة تمثيل السكان المسلمين في مؤسسات الدولة سواء منها المركزية أو حتى المحلية هي أقل بكثير من نسبة ما يمثلونه في الخارطة الديمغرافية للمجتمع الصربي.(9) أما على مستوى المؤسسات الحكومية المحلية في إقليم السنجق وفي مقاطعة نوفي بازار، حيث يمثل المسلمون البوشناق أغلبية سكانية (80% من عدد السكان الإجمالي)، فإن أعلى الوظائف وأهمها من بين تلك المتعلقة بإدارة الشأن العام في مستوياته السياسية والاقتصادية والتعليمية نجدها تُدار من قبل الصرب.(10) وفي قطاع التعليم تبدو الصورة أكثر قتامة حيث يُجبِر مدراء المدارس الابتدائية في منطقتي السنجق ونوفي بازار مدرسي الصفوف الابتدائية على وضع صورة مؤسس الكنيسة الأرثوذكسية، القديس سافا، في كل الفصول الدراسية، ولا يُستثنى من هذا الإجراء حتى الفصول التي تضم تلاميذ مسلمين بنسبة 100%.

يمثل الضغط النفسي الذي يلقاه المسلمون في صربيا إشكالية خاصة؛ حيث يسود جو عام داخل المجتمع الصربي يمجّد "العدوان" الذي تعرض له المسلمون البوشناق في البوسنة والهرسك ما بين 1992-1995, وما صاحبه من إبادة جماعية كانت الأسوأ على أرض أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ويحيي الصرب ذكرى مذبحة "سربرينيتسا" تشفيًا بالمسلمين في صربيا ويصورون القائدين العسكريين المسؤولين عن تلك الفظائع، رادوفان كارادجيتش وراتكو ملاديتش، على أنهما فعلا ما يجعلهما قدوة ويجب أن يتبعهما كل الصرب في تعاملهم مع كل مسلمي صربيا البوشناق منهم والألبان. ولا تعاقب السلطات الصربية الأفراد والجمعيات التي تدعو وتحرض الصرب على كراهية ومعاداة المسلمين والإسلام، بل إنها ذهبت إلى حد السماح للبلديات المحلية بإطلاق اسميْ مجرمَي الحرب، كارادجيتش وملاديتش، على عدة شوارع في عدد من المدن الصربية.

وعلى مستوى تنظيم حياتهم الدينية وإنشاء مؤسسات تُعنى بذلك وتدافع عن حقوقهم، يجد المسلمون في صربيا أنفسهم أمام تحد ضخم وصعوبات كبرى. على سبيل المثال، فقد تعرض أئمة مساجد في إقليم السنجق إلى السجن بعد أن اعتقلوا من داخل المساجد على أيدي رجال الشرطة الصربية(11) على خلفية مذكرات اعتقال صادرة عن وزير الداخلية في خرق صارخ للمادتين 11 و44 من دستور جمهورية صربيا؛(12) ومرت تلك التجاوزات دون محاسبة أو عقاب بل وحتى دون اعتذار من المؤسسات الرسمية التي لا تُحجم عن وضع كل العراقيل التي تمنع مسلمي صربيا من تنظيم حياتهم الدينية الخاصة ولا تتوانى عن التدخل في عمل مؤسسة "الجماعة الإسلامية". ذلك أن مسلمي يوغسلافيا السابقة (التي كانت تضم صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا وكوسوفو وسلوفينيا) كانوا ينتظمون في مؤسسة إسلامية موحدة إلى حدود انهيار يوغسلافيا عام 1991، وكان مقر تلك المؤسسة المسماة "الجماعة الإسلامية" في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك. ومع أن دساتير كل الدول المنبثقة عن تفكك جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية، بما فيها صربيا، تنص صراحة على ضمان توزيع الكنائس والجمعيات الدينية بين الدول، كما تضمن عدم تدخل الدول المستقلة عن يوغسلافيا في عمل الجمعيات الدينية، إلا أن السلطات الصربية لا تسمح للجماعة الإسلامية في صربيا ومقرها الرئيسي في نوفي بازار، بالانضواء تحت لواء الجماعة الإسلامية الأم في البوسنة والهرسك، ولا تسمح لها بالاعتراف بمؤسسة رئيس العلماء الذي يرأس الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك.(13)

في الطرف المقابل، فإن الكنيسة الصربية الأرثوذكسية التي تتخذ من بلغراد، عاصمة صربيا، مقرًا رئيسيًا لها لا تزال تعتبر نفسها، بعد انهيار الاتحاد اليوغسلافي، الممثل الشرعي والوحيد لكل الأرثوذكسيين المتواجدين على أراضي يوغسلافيا السابقة. وفي هذا السياق فإن الكنيسة الصربية الأرثوذكسية لا تعترف باستقلالية الكنيستين الأرثوذكسيتين في كل من مقدونيا والجبل الأسود، وكلتاهما دولة مستقلة وسيدة، وتلقى الكنيسة الصربية الأرثوذكسية دعمًا فعليًا، لكنه غير معلن، لموقفها هذا من قبل السلطات الصربية.

وحتى تزيد من تعقيد تواصل مسلمي صربيا الطبيعي من خلال الانضمام إلى جماعة إسلامية موحدة مع مسلمي البوسنة والهرسك، فقد عملت السلطات الصربية على تيسير تأسيس ما سُمي بـ"الجماعة الإسلامية الصربية" ومقرها الرئيسي في العاصمة بلغراد، وألحقت بها بقرار أحادي الجانب مشيخة الجماعة الإسلامية في إقليم السنجق كوحدة دينية تابعة لها. وفي خطوة احتجاجية ورفضًا منها للتبعات السلبية لهذه السياسة غير المبدئية من قبل السلطات الصربية، ووفقًا لنصوص دستور جمهورية صربيا الذي يضمن عدم تدخل الدولة في عمل الجمعيات الدينية، فقد غيرت الجماعة الإسلامية الصربية اسمها لتصبح "الجماعة الإسلامية في صربيا" مؤكدة انضواءها تحت مظلة الجماعة الإسلامية الأم والمركزية في سراييفو. ومنذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، فإن هذا العمل المخالف للدستور الذي قامت به السلطات الصربية ما زال يهدد، ليس فقط تنظيم الحياة الدينية بل وأيضًا أسس الوحدة الإسلامية للمسلمين في صربيا، ويعرّض المسلمين المنتمين إلى إحدى الجمعيتين الإسلاميتين في السنجق ونوفي بازار إلى مخاطر الانقسام والتفكك.

التفاؤل بالمستقبل

يمكن النظر إلى مستقبل المسلمين في صربيا بكثير من التفاؤل وبعيدًا عما تقدمه لنا صورة الواقع الحالي من معطيات، ولا يجب أن ننسى أن الحقيقة في جوهرها لا تُدرَك فقط من خلال مجرد ما يُفيد به مجموع الوقائع.

فقد ساهمت الحيوية الاستثنائية للمسلمين في صربيا ومثابرتهم والقدرة على تنظيم أنفسهم وعلى الابتكار في حفظ وجودهم بل وأيضًا في ترسيخ تجذرهم في موطنهم بالرغم من كل المحاولات الفجة لاقتلاعهم من جذورهم أو إخضاعهم ومسخ هويتهم. واستطاع المسلمون باعتمادهم على أنفسهم تحقيق إنجازات متميزة ومن ذلك أن الجامعة العالمية التي أنشأوها في نوفي بازار احتفلت بمرور عقد على انطلاقها، كما أدى مبدأ اعتمادهم على النفس إلى تحقيق نتائج مذهلة على مستوى توفير بنية تحتية ملائمة وتحسن واضح على مستوى توفير شروط اقتصادية وتعليمية أفضل، وتنوع حيوي في النشاطات الفلاحية في مناطق المسلمين يفوق ما هو موجود في كامل مناطق صربيا الأخرى.

ومن المتوقع أن يثبت المسلمون في صربيا قدرتهم على تحقيق درجات عالية من حسن التسيير الذاتي وجودة في الإنجازات تسمح لهم بتقديم مثال يُحتذى به ومساهمة فعالة في تنمية دولة صربيا، وسيحفزون بما يقدمونه من مثال على المثابرة، شركاءهم في الوطن من الصرب وكذلك المؤسسات السياسية للدولة على ضرورة احترام المبادئ الكونية لحقوق الإنسان ويُقنعونهم عمليًا بأن الوقت قد حان لتغيير شامل في النظرة السلبية للمسلمين في صربيا، وتبعًا لذلك سيغيرون أيضًا في الثقافة العنصرية التي نشأ عليها أغلب المتطرفين القوميين والمعادين للإسلام من الصرب، وإذا لم يكن ذلك في المنظور القريب فإنهم على الأقل سينجحون في خلق جو من تسامح الصرب تجاههم.

ولكن مع استمرار الأجواء المشحونة ضد المسلمين وما يصاحبها من حملات شيطنة الإسلام في وسائل الإعلام ونشر مفهوم التخويف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، فإنه لن يكون من اليسير تحقيق هذا الأهداف؛ إذ لابد قبل ذلك من تحقق واجب احترام الحقوق الجماعية والفردية لكل المواطنين بمن فيهم المسلمون وهو ما سيمثل اختبارًا حقيقيًا أمام كل الحكومات الصربية القادمة في قدرتها على التخلص من الإرث الأيديولوجي المثقل بالحقد على الإسلام والمسلمين الذي ورثه الصرب، والقبول بإدماج المسلمين في واقع الحياة الاجتماعية والاعتراف بأنهم يمثلون جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، ساهم في تشكيل هويته الثقافية الجمعية ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار كونه معطى ديمغرافيًا واقعيًا لا يمكن تجاهله.
____________________________________
د. فريد موهيتش - متخصص بشؤون البلقان، ومحاضر لمادّة الفلسفة بجامعة القديسين سيريل وميثوديوس بالعاصمة المقدونية سكوبيا

ترجمة: كريم الماجري

الهوامش والمراجع
1- أورد هذا الرقم العالم والناشط الألماني ليوبولد رانكي في تقريره الذي كان قد أعده لحكومة بروسيا حول ما قام به الصرب من عمليات طرد وملاحقة للمدنيين المسلمين في بلغراد عام 1809.
2- ضمن البرامج السرية وشبه السرية الداعية إلى تنفيذ سياسات توسعية وقومية، نجد أن نص "وثيقة" وزير الداخلية في حينه، إيليا غراشانين المعنون "Na?ertanije" أو ما يمكن ترجمته إلى "المخطط" والذي قدمه عام 1844، قد لعب دورًا محوريًا في هذا التوجه. ما يدعو إلى تأكيد هذا هو أن وثيقة "Na?ertanije" أو "المخطط" مثّلت البرنامج الرسمي لحكومتي الأميرين الصربيين، ألكسندر كارادجوردجيفيتش، وميخائيل أبرينوفيتش؛ حيث تم في عهدي حكمهما تنفيذ عمليات إلغاء كامل للمسلمين ديمغرافيًا من صربيا.
3- تختلف هذه المعطيات جذريًا بحسب المصادر الصربية والبلغارية والعثمانية، ونجد نفس ذلك الاختلاف في التقديرات الدبلوماسية الروسية والنمساوية-المجرية والفرنسية. وقد اعتمدنا فيما أوردناه على معدل الأرقام بمزج أعلاها بأدناها.
4- العدوان على المسلمين نفذه جيش الجبل الأسود عام 1913، مباشرة بعد وضع حروب البلقان أوزارها. ورغم أن قريتي بلاف وغوسينا كانتا تقعان داخل دولة الجبل الأسود؛ فإن صربيا سمحت بتنفيذ نفس العمليات الإجرامية من سلب وقتل للمسلمين على المناطق الحدودية مع الجبل الأسود، وخاصة في منطقة بيتشي.
5- المذابح المُرتكبة ضد السكان المدنيين من المسلمين في قرية شاهوفيتشي الواقعة في إقليم السنجق بالقرب من بيالو بوليا عام 1924، نفذها وحدات الحرس التابعة للجبل الأسود وصربيا. قُتل حينها عدة مئات من المسلمين أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، وكانت نسبة المسلمين في تلك المناطق تبلغ 73%. إثر تلك المذابح هجر كل من بقي على قيد الحياة من المسلمين مناطقهم نحو تركيا، وأقلية منهم هاجرت إلى البوسنة والهرسك ومقدونيا.
6- الجزء الآخر من السنجق احتلته دولة الجبل الأسود.
7- لمزيد من التفاصيل، راجع: “Confession, Mother Tongue and National Identity or Ethnicity  According to Age and Gender – Data by Municipalities” (2003) Belgrade, Statistical Office of the Republic of Serbia.
8- بحسب ما يتوفر من معطيات في تلك الفترة، فإن عدد المساجد في بلغراد وحدها بلغ 112 جامعًا نشطًا.
9- هذه الإحصاءات غير رسمية؛ وقد قدمتها دراسة صادرة عن الأكاديمية البوشناقية للعلوم والآداب والفنون عام 2011، سراييفو.
10- وفقًا لإحصاء عام 2002، بلغت تلك النسبة 78,3%، لكنها ارتفعت خلال العقد الأخير إلى ما يقرب من 83%؛ وذلك وفقًا لبعض المصادر غير الرسمية.
11- أفظع تلك الحقائق ما سُجل في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2008 في سيانيتسا عندما هُوجم إمامان، وحادث آخر سُجل في مارس/آذار من نفس العام في توتينا. نلاحظ أن نسبة المسلمين في سيانيتسا بلغت آنذاك حوالي 80% من مجموع السكان، في حين كانت نسبتهم في توتينا تبلغ 96%.
12- المادة 11 تقول: إن الكنيسة والمؤسسات الدينية لا يمكن أن تكون تابعة لدولة صربيا، وليس للدولة دين بعينه تفرضه على مواطنيها، أما المادة 44 فتضمن حرية واستقلالية المؤسسات الدينية وتمنع التدخل في تسيير شؤونها الداخلية.
13- وفق دستور الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك لعام 1997، فإن الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك ورئيس العلماء بصفته السلطة الأعلى فيها، قد اعترفت بالجماعة الإسلامية في كرواتيا ونظيرتها في سلوفينيا ومشيخة الجماعة الإسلامية في السنجق (والتي غيرت اسمها عام 2007 إلى الجماعة الإسلامية في صربيا).

عودة للصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب