المسلمون في كوسوفو يواجهون مسارات تُعطِّل بناء الدولة

أعلنت كوسوفو استقلالها حديثا عام 2008 وتواجه دعاية صربية ضدها لوصمها بالتطرف بسسب الأغلبية المسلمة التي تعيش فيها وتبلغ 95%، وذلك لمنع العالم من الاعتراف باستقلالها حتى أن بعض الدول العربية لا تزال لا تعترف بكوسوفو.
2013112192627516734_20.jpg

المصدر [الجزيرة]

 

ملخص

كوسوفو دولة حديثة الولادة (2008) تبلغ نسبة المسلمين فيها 95%، وهي دولة علمانية يضمن دستورها "حرية اختيار مواطنيها لمعتقداتهم" ولا ذكر فيه لأي دين. وتتقدم هوية أغلب الشعب الكوسوفوي الإثنية على هويته الدينية وبوجه خاص لدى الألبان منهم الذين هم غالب السكان (92،93%)، كما أن أغلبية الألبان مسلمون (97%). يتبع مسلمو كوسوفو المذهب الحنفي وتشيع فيهم طرق صوفية مختلفة، غير أنه سُجّل حضور متنامٍ لأتباع "الوهابية"، خاصة بعد تدخل قوات الناتو ضد صربيا عام 1999. ويستغل دعاة إقامة صربيا الكبرى حقيقة وجود أغلبية مسلمة في كوسوفو ليربطوا بينها وبين ما يدعونه من سهولة عمل تنظيم القاعدة -في "هذه المنطقة"- التي تجد بزعمهم "تسهيلات" من طرف المسلمين، في محاولة لإقناع العالم بعدم الاعتراف باستقلال كوسوفو. والمثير للاستغراب أن دبلوماسية سلطات صربيا نجحت في إقناع بعض الدول العربية بعدم الاعتراف باستقلال كوسوفو، ومنعها بالتالي -أي لهذه الأخيرة- من كسب معركة عضويتها في منظمة الأمم المتحدة. ورغم التهديد المستمر الذي تشكّله صربيا ضد كوسوفو وأهلها، فإن مستقبلهم لا يبدو في خطر إذا ما استمر وجود دولتهم "كوسوفو"، إلا أن هناك تحديات عليهم مواجهتها، منها تحقيق الاعتراف الدولي بدولتهم، ومواجهة الدعاية الصربية السيئة ضد هويتهم الإسلامية، وحل قضية شمال كوسوفو الذي لا يزال يخضع لسلطات بلغراد ويَتمَترَسُ فيه المتطرفون الصرب.

تشكّل الجماعة الإثنية الألبانية الأغلبية المطلقة للمسلمين في البلقان، ويبلغ عددها حوالي 5 ملايين نسمة. يمثل المسلمون الألبان أغلبية السكان في كل من ألبانيا وكوسوفو بالإضافة إلى الجزء الغربي من مقدونيا، وتحتل دولة كوسوفو حديثة الولادة (2008) المرتبة الأولى في البلقان من حيث نسبة المسلمين فيها (تبلغ 95%، تليها دولة ألبانيا بنسبة 70%، ثم البوسنة والهرسك بـ50%؛ فمقدونيا بحوالي 35%، والجبل الأسود بنسبة20%). ويُعلن دستور كوسوفو أن "جمهورية كوسوفو دولة علمانية، تضمن حرية اختيار مواطنيها لمعتقداتهم"، ولا نجد في هذا الدستور ذكرًا لأي دين كان.

وبحسب نتائج آخر إحصاء سكاني أُجري عام 2011، بلغ عدد سكان كوسوفو 1.739.825 نسمة، منهم 92،93% من الألبان، في حين بلغت نسبة البوشناق 1.58% والأتراك 1.08 ..إلخ. ووفقًا لنفس تلك النسب فإن عدد الألبان في كوسوفو بلغ 1.616.869، والبوشناق 27.533، والأتراك 18.738، والأشكاليا 15.436، والمصريين 11.524، والغوران 10.265، والغجر الروما 8.824، في حين تبلغ أعداد المواطنين غير المصنفين (الذين لم يعلنوا انتماءهم إلى أي من الإثنيات المشار إليها هنا) والآخرين 5.104 نسمة. (1) ووفقًا أيضًا لنتائج هذا الإحصاء، فقد أعلن 95% من السكان، أو ما يقرب من 1.700.000 أنهم مسلمون، ويجمع هذا العدد كل الجماعات الوطنية التي تعيش على أرض كوسوفو من ألبان وبوشناق وأتراك وأشكاليا ومصريين وغجر الروما والغوران.

ينقسم الشعب الألباني في كوسوفو إلى أتباع ديانتين: أغلبية مطلقة تبلغ 97% مسلمة، و3% من أتباع الديانة المسيحية الكاثوليكية. وتجدر الإشارة إلى أن إحصاء عام 2011 لم يكتمل لأنه لم يشمل كل الألبان ولا البوشناق، وخاصة منهم أولئك الذين يعملون ويعيشون خارج كوسوفو، ولا يشمل الإحصاء أيضًا صرب كوسوفو الذين قاطعوا إحصاء عام 2011. وبذلك فإن العدد الإجمالي للمسلمين، وفقًا لإحصاءات غير رسمية صادرة عن الجمعية الإسلامية (منظمة غير حكومية تقوم على رعاية شؤون الإسلام والمسلمين) ومنظمات غير حكومية أخرى، يقترب من مليوني نسمة.  
لم تؤثر عملية ملاحقة المسلمين وطردهم وتقتيلهم، التي تكثفت عقب انتهاء حروب البلقان ولا الاحتلال الصربي لكوسوفو، في تراجع أعداد المسلمين في هذه المناطق، ويعود الفضل في ذلك لنسب الولادات المرتفعة المسجلة في صفوف الكوسوفيين المسلمين، بل وجعل ذلك كوسوفو تحتل المرتبة الأولى في المنطقة من حيث معدل الأعمار الذي تغلب عليه الفئة الشبابية. (2)

إن الأجواء والمشاعر السلبية تجاه المسلمين، والإصرار الصربي على إلحاق كل المناطق التي يعيش على أراضيها سكان صرب بمشروع ما يُسمى "دولة صربيا الكبرى" -مع إطلاق مشروع ما يُعرف بـ"خطة غراشانين"- الذي بدأ منذ 170 عامًا، كل هذه لا تزال قائمة إلى اليوم، وكانت قد تبدت واضحة  خلال خمسينات وستينات القرن الماضي من خلال ممارسة ضغوط أيديولوجية واقتصادية مُمنهجة على المسلمين في المنطقة بمن فيهم مسلمو كوسوفو، الذين أُجبروا على الهجرة الجماعية نحو تركيا قبل أن ينتقل بعضهم فيما بعد إلى بلدان غرب أوروبا بحثًا عن الأمن وحياة أفضل. لكن ذلك النقص الكبير الحاصل في أعداد المسلمين في كوسوفو لم يلبث أن تم تعويضه بسرعة نسبيًا بفضل المعدلات المرتفعة للولادات.

بالإضافة إلى ذلك، فإن عمليات التوطين لسكان مناطق الهرسك من الصرب التي مارستها سلطات الاستعمار في صربيا/الجبل الأسود في الفترة ما بين 1924-1938، وما صاحبها من توزيع أخصب الأراضي التي اغتصبوها من مسلمي كوسوفو عليهم، لم تُؤت تلك العمليات أكلها؛ إذ مع تغير الأوضاع في كوسوفو وما صاحبها من هزات اجتماعية واقتصادية هُرع الصرب إلى بيع أراضيهم المغتصبة إلى الألبان وعادوا إلى بلدهم الأم صربيا. وهكذا باءت مشاريع التوطين تلك بالفشل رغم كل ما بذلته السلطات الصربية من جهود وما منحته من امتيازات للمستوطنين الصرب داخل كوسوفو. (3)

 

وحدة النسيج الاجتماعي والتمثيل السياسي 

تتميز العلاقات بين المسلمين الألبان والبوشناق والأتراك بالحميمية، ويظهر ذلك جليًا في موقف الجمعية الإسلامية في كوسوفو من البوشناق والأتراك المسلمين؛ فهي لا تمانع من استعمالهم للغتين البوسنية والتركية في المساجد والكتاتيب والمؤسسات التابعة للجمعية الإسلامية، ويتحدث سكان مدن "بريزرن" و"دراغاش" و"بيتس" اللغتين التركية والبوسنية. كما أن كل الأحزاب الناشطة في المشهد السياسي الكوسوفي "مسلمة"، أي أن أعضاءها والمنتسبين إليها هم من المسلمين، بما فيها الحزبان الأكبر في كوسوفو،(4) وتنسحب صفة "الأحزاب المسلمة" أيضًا على كل الأحزاب البوشناقية والتركية وأحزاب الأقليات الأخرى مثل الغجر الروما والمصريين والأشكاليا, وتمثل كل هذه الأحزاب أغلبية مطلقة في البرلمان.

ويعمل حزب العدالة، المحسوب على تيار الإسلام السياسي المعتدل، ويرأسه وزير الصحة الحالي فريد أغاني، مع عدد من الأحزاب البوشناقية والتركية على إدخال مادة تعليم الدين الإسلامي في المنهج التعليمي المدرسي والسماح للبنات بلباس الحجاب الإسلامي في مختلف المؤسسات التعليمية. لكن هذا المطلب لم يجد إلى حد الآن من يدعمه من بين نواب أحزاب الأغلبية البرلمانية في البرلمان الكوسوفي.

تأسست أول جامعة إسلامية عام 1992 في بريشتينا العاصمة، كما توجد مدرسة علاء الدين الإسلامية التي لها فرعان في مدينتي "بريزرن" و"غنيلان"، وفُتح فرع مختلط للبنين والبنات لمدرسة علاء الدين الإسلامية في مدينة "بريزرن"، إلى جانب مدرستين إسلاميتين للبنات في "بريشتينا" و"بريزرن". ويوجد في كوسوفو، إلى جانب مئات المساجد، عدد كبير من التكايا خاصة في مدن بريزرن و"دجاكوفيتش" و"أوراهوفو" و"هاس"... وتنتشر في كوسوفو جماعات طرق صوفية مختلفة، وتُسمى طرق الدراويش وتنشط أساسًا في مدينتي "دجاكوفيتش" و"بريزرن". في الوقت الذي تراجعت فيه شعبية بعض الطرق الصوفية، بل وغابت تمامًا عن المشهد الصوفي الكوسوفي مع بدء الحرب العالمية الثانية مثل الطريقة المولوية، نجد أن طرقًا صوفية أخرى زادت انتشارًا وقوة. وقد برزت الطريقة الرفاعية كحاملة لواء الصوفية في كوسوفو منذ عهد يوغسلافيا الاتحادية، وكان زعيمها الروحي الشيخ جمالي شيهو، شيخ تكية مدينة بريزرن. ومن بين الطرق الأخرى الحاضرة في كوسوفو نذكر الطريقة السعدية والطريقة القادرية والطريقة الحلواتية-الكراباشية. أما الطريقة البقداشية، فلها تكية صغيرة نسبيًا في مينة دجاكوفيتش.

يتبع المسلمون في كوسوفو المذهب الحنفي منذ ما يزيد عن 500 عام، غير أن السنوات العشرين الأخيرة، وتحديدًا منذ عام 1989 (أي بعد إلغاء سلطات بلغراد للحكم الذاتي في كوسوفو) سُجل حضور لافت لأتباع ما يُعرف بـ"المذهب الوهابي"، وازداد حضور "ظاهرة الوهابيين" الطارئة على كوسوفو كثافة منذ أواخر القرن الماضي، وتحديدًا بعد تدخل قوات الناتو ضد صربيا عام 1999.

يوجد أيضًا في كوسوفو عدد غير ذي بال من المسيحيين البروتستانت وشهود يهوه وأتباع بعض المذاهب المسيحية الأخرى، وجدير بالذكر القول هنا: إن أعداد هؤلاء لم يزد وفشلوا في استقطاب أتباع جدد لدعواتهم.
وقد أعلنت الجمعية الإسلامية في كوسوفو منذ 11 ديسمبر/كانون الأول 1993 انفصالها عن مؤسسة رئاسة العلماء في يوغسلافيا. (5) وجاء إعلان الانفصال واستقلال القرار ذلك في عهد احتلال كوسوفو خلال فترة حكم الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش. (6)

تعمل الجمعية الإسلامية، بصفتها المؤسسة الرئيسية لكل المسلمين في كوسوفو، على توحيد مواقف المسلمين وتقوية صفهم بمختلف انتماءاتهم الإثنية، وهي كذلك تؤمّن حمايتهم من كل عمليات الشيطنة والتصنيف غير البريء للمسلمين التي يقودها دعاة إقامة صربيا الكبرى بمساعدة بعض الجهات في دول الجوار. ويستغل دعاة إقامة صربيا الكبرى هؤلاء حقيقة وجود 95% من المسلمين في كوسوفو ليربطوا بينهم وبين ما يدّعونه من سهولة عمل تنظيم القاعدة في هذه المنطقة التي يقولون: إنها تجد غطاء وتسهيلات من طرف المسلمين، وذلك في سياق محاولات مستمرة لإقناع الدول الأخرى بعدم الاعتراف باستقلال كوسوفو. وما يثير الدهشة في هذا الإطار، هو نجاح تحركات سلطات صربيا الدبلوماسية في إقناع بعض الدول العربية بعدم الاعتراف باستقلال كوسوفو ومنعها بالتالي -أي هذه الأخيرة- من كسب معركة عضويتها في منظمة الأمم المتحدة.

نُحصي اليوم في كوسوفو ما يفوق 800 مسجد جامع، بينما يجري بناء حوالي 100 أخرى في مناطق كوسوفو المختلفة بينها مشروع تشييد أكبر مسجد في منطقة البلقان بأسرها في العاصمة بريشتينا. وتُلقى خطب الجمعة والدروس الدينية ويُتلى الدعاء باللغات الألبانية والبوسنية والتركية، ويتم التعليم داخل الكتاتيب القرآنية والمدارس الإسلامية أيضًا باللغات الثلاث.

ومن الضروري في هذا السياق التذكير بأنه قُتل في كوسوفو خلال الحرب الأخيرة على يد الصرب ما يزيد عن 1200 مسلم، في حين بلغ عدد المفقودين 1800، وتم هدم وإحراق حوالي 250 ألف بيت للمسلمين. وفي تقرير محكمة هاغ نجد أنه في فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، من مارس/آذار إلى يونيو/حزيران 1999، تم تدمير ما بين 255 إلى 607 مساجد، وقد استخدمت السلطات الصربية في عمليات التدمير تلك المتفجرات أو القنابل الحارقة، كما استخدمت الأسلحة الثقيلة والقذائف المدفعية لإلحاق الأذى بمساجد المسلمين. وبالإضافة إلى تدمير المساجد وهدم المساكن وارتكاب الجرائم في حق المدنيين، فإن القوات الصربية قتلت 37 إمام مسجد، كما كان شيوخ الطرق الصوفية هدفًا لتلك القوات الغازية؛ حيث قُتل شيخ الطريقة الكاراباشية في مدينة "أوراهوفاتس"، الشيخ محيي الدين شيهو، وكان يبلغ 76 عامًا، بسبب إيوائه مئات من المدنيين الفارين من بطش الآلة العسكرية الصربية الغازية. كما قتلت القوات شبه النظامية الصربية شيخ طريقة "الدرويشدانا" في مدينة "دجاكوفيتش"، الشيخ سعدي.

بعد فترة "الاحتلال الصربي" لكوسوفو ما بين أعوام 1989-1999، وفترة الحرب الممتدة ما بين 1998-1999؛ فإن الأوضاع في دولة كوسوفو المستقلة تغيرت بشكل واضح لمصلحة المسلمين غير أن حلول هذا العهد الجديد جلب معه عددًا من المصاعب والتحديات الجديدة.

التحديات السياسية والدينية

إن أغلبية الألبان هم مسلمون، إلا أن من بينهم أيضًا كاثوليك وأرثوذكس، وهم جميعًا يعتبرون أن هويتهم الإثنية تتقدم من حيث الأهمية على هويتهم الدينية، بل ويرى عدد منهم أنهم كانوا كاثوليك في الأصل قبل قدوم الأتراك إلى البلقان. وقد سُجلت حالات فردية لتحول بعض المسلمين إلى الكاثوليكية. (7) وفي ضوء هذا يُفسر بناء كاتدرائية ضخمة في بريشتينا التي يسكنها أقل من 1% من الكاثوليك، حتى إن الكنيسة الموجودة من قبل تكاد تكون خالية أصلاً من المصلين، هذا في الوقت الذي ترتفع فيه طلبات متكررة من المسلمين بضرورة بناء مساجد جديدة لهم وتوسيع المساجد القائمة لاستيعاب أعداد المصلين المتزايدة.

وتتمثل التحديات الأخرى التي يواجهها المسلمون في كوسوفو اليوم أساسًا في الأوضاع الخاصة جدًا التي يعيشون على وقعها؛ فكوسوفو لا تزال دولة غير مستقرة ولم تحصل بعد على اعتراف الأمم المتحدة بعضويتها على الرغم من اعتراف 105 دول باستقلالها وسيادتها على أراضيها، وهي معركة لا تتوقف على الجوانب القانونية بل تتعداها إلى بذل جهود دبلوماسية، وتطوير شبكة من العلاقات العامة لإقناع أكبر عدد ممكن من الدول بالاعتراف باستقلال كوسوفو، ورفع هذا التحدي يُعتبر الأكثر إلحاحًا في هذه الفترة الحساسة من تاريخ كوسوفو. ولاشك في أن هذا الوضع الحرج وغير المستقر يؤثر سلبًا على النمو والتطور الاقتصادي في دولة لم يكتمل بناؤها بعد وتشكو من بطالة نصف مواطنيها القادرين على العمل.

في ظل تلك الأوضاع القانونية غير المحسومة، وعدم اكتمال الاعتراف الدولي بدولة كوسوفو المستقلة ذات السيادة، فإن الأهداف الصربية لم تتغير بما فيها إعادة بسط نفوذها على كوسوفو، والتي تستخدم فيها بلغراد حاليًا كل الوسائل السياسية والدبلوماسية وغيرها من الأساليب لتعطيل مسيرة استكمال الاستقلال وإنجاز السيادة الكاملة لكوسوفو على أراضيها. فصربيا، التي لم تُعاقَب على جرائمها المرتكبة في حق المسلمين في كوسوفو، لم تُغير سياستها تجاه كوسوفو وما زالت تهدد استقرارها وأمنها بمختلف الوسائل. والسلاح الأقوى الذي يُساعدها على الاستمرار في ذلك هو قوة اقتصادها الذي يجد دعمًا هائلاً من بعض الدول العربية خاصة، وفي ذلك مفارقة غير مفهومة لدى النخبة السياسية والدينية، فضلاً عن عموم الشعب الكوسوفي المسلم.

وعلى الرغم من أن الألبان أوربيون أصليون (إليريون)، فإن صربيا لم تتوانَ عن طرق أبواب اللوبيات المعادية للإسلام في أوروبا والتحريض ضد كوسوفو وضد الألبان. يروج المعادون للإسلام من الصرب الراديكاليين صورة الإسلام والمسلمين كخطر داهم (القاعدة البيضاء) يهدد السلم والاستقرار في هذا الجزء من أوروبا. 

تتواصل إذن معركة كوسوفو لرفع تحد آخر يتصل بما تقدم، ويتمثل في مواجهة -أو التخفيف على الأقل من- الحملة الشرسة التي تشنها السلطات الصربية ضدها في المحافل الدولية والدوائر العالمية المعادية للإسلام والمسلمين؛ فصربيا لا تزال قادرة على تحريك آلتها متعددة الأذرع، التي ورثتها منذ حكم نظام ميلوشيفيتش، للضغط دوليًا من أجل عرقلة مسيرة اكتمال بناء دولة كوسوفو. وأخطر تلك الوسائل التي تتبعها جماعات الضغط الصربية هي إشاعة ما يُعرف بالإسلاموفوبيا، وإشاعة روح العداء للإسلام وللمسلمين مستغلة بشكل خاص أحداث سبتمبر/أيلول 2001 في أميركا؛ وذلك بتصوير ما قامت وتقوم به على أنه جهد ضروري من أجل حماية أوروبا وقيم الأوروبيين من المسلمين "الإرهابيين".

يمكننا القول اليوم: إن العالم  الغربي في عمومه لا يصد هذه الكراهية الصادرة عن خلفية إثنية أو دينية، وهو ما تستمر صربيا في استغلاله وتوظيفه لتبرير احتلالها لجزء من أرض كوسوفو وارتكاب أعمال العنف التي تستهدف الألبان؛ فمهمة صربيا ورسالة الشعب الصربي التي يُروجُ لها -المتطرفون الصرب- هي تصديه لحماية أوروبا المسيحية من "الإرهاب الإسلامي" الذي يستهدف قيمها.

وهناك قضية شمال كوسوفو وهي من التحديات الأخرى التي تُرفع في وجه كوسوفو أيضًا، فهذه المنطقة بقيت بفضل جهود القوات الأممية للسلام العاملة في كوسوفو جزءًا خاضعًا لسلطات بلغراد وقلعة يَتمَترَسُ فيها المتطرفون الصرب؛ فقد طُرد المسلمون من تلك المناطق ولم يتبق منهم سوى عدد قليل في قرية "بوشنياتشكو محلة" وبعض المسلمين البوشناق في قرية "رفاتسكا" التي قُتل زعيمها السياسي، شيفكو صالكوفيتش، بشكل وحشي على أيدي متطرفين محترفين صرب، عقابًا له على اعترافه باستقلال كوسوفو وقبوله مهمة داخل الهيئة المركزية لإعداد الانتخابات البرلمانية. إن مثل هذه الأحداث تؤكد على المخاطر المستمرة التي يمكن أن يتسبب فيها هؤلاء الصرب المتطرفون بتسللهم داخل المناطق التابعة لكوسوفو وافتعال المشاكل.

هناك أيضًا تحد آخر يتمثل في قضية التعليم الديني وجعله مادة ضمن المنهج الدراسي الرسمي. ويعتبر رئيس الجمعية الإسلامية المفتي نعيم ترنافا، أن إدخال مادة التعليم الإسلامي في المناهج التعليمية سيُساهم بفعالية في القضاء على عديد من المظاهر السلبية السلوكية. وكذلك، وعلى الأخص، سيحمي التقاليد الدينية التي توارثها المجتمع الكوسوفي من دَخَنِ التيارات والدعوات المتطرفة المتخفية بستار الإسلام. إلا أن هذه الجهود وتلك الدعوات إلى إدخال مادة التربية الإسلامية في المناهج التعليمية للمدارس الابتدائية والثانوية لم تجد من يتبناها أو يصغي إليها من نواب البرلمان الكوسوفي الذين ما زالوا يرفضون هذا المقترح. ومع هذا فإن الجدل حول هذه القضية ما زال متواصلاً ولا أحد يعلم يقينًا ما إذا كانت مسألة التعليم الديني ستجد طريقها قريبًا إلى الحل أم لا!

القضية الأخرى التي يختلف حولها أفراد المجتمع الكوسوفي وفئاته المختلفة تتمثل في التعامل مع ما بات يُعرف محليًا بانتشار ظاهرة "الجماعات الوهابية"، وقد صدر في العام 2007 تقرير عن وزارة الداخلية يُعرب عن قلق الوزارة من ظاهرة "التطرف الديني" وربطها بشكل مباشر بظهور "المذهب الوهابي" الذي كان في بداياته حينها، ونقرأ في ذلك التقرير تحذيرات من وزارة الداخلية من "بدء الوهابيين وضع أسس بنية تحتية لتنظيمهم في كوسوفو"، ويخلص التقرير إلى أن أهم وسيلة يتبعها "أنصار الوهابية" هي العمل من خلال منظمات خيرية والنشاط الإغاثي الإنساني... غير أن هذه الجماعة تجد رفضًا من شرائح شعبية ورسمية بسبب بعض الممارسات التي يعمد إليها أنصارها من قبيل "التكفير" والتمايز في الشكل والهندام... ويبدو واضحًا للملاحظ العادي في كوسوفو أن هناك "رفضًا من شرائح شعبية واسعة" لكل ما يصدر عن "الوهابيين"، حتى وإن كان ما يدعون إليه هو من المعلوم من الدين بالضرورة، وما رفضه سوى جزء من رفض كل ما هو غير تقليدي ووافد على المجتمع الكوسوفي.

ملامح مستقبل المسلمين في كوسوفو

لا يبدو مستقبل المسلمين في كوسوفو في خطر إذا ما استمر وجود دولة كوسوفو، لكن صربيا لا يبدو أنها مستعدة للقبول بذلك والتخلي عن أعمالها العدائية ضد كوسوفو ما دام هناك مشاعر معادية للإسلام والمسلمين في أوروبا تُغذيها أحزاب يمينية وقومية متطرفة، فسلطات بلغراد ستظل تعمل كل ما بوسعها لتعطيل مسار استكمال بناء الدولة في كوسوفو وافتعال المشاكل التي تمنع ذلك بمساعدة صرب كوسوفو وغيرهم من المأجورين.

لا تزال أعمال صربيا العدوانية متواصلة، ليس فقط في أشكالها السياسية والدبلوماسية، بل وأيضًا مع إمكانية قائمة وفعلية لإعادة سيناريو الهجوم المسلح على كوسوفو. ولإبقاء هذا التهديد قائمًا وضاغطًا على الكوسوفيين، فإن بلغراد تعوّل على الدور الذي يمكن أن يلعبه صرب كوسوفو الخاضعون لتأثيرها. (8)

وتعمل صربيا، من أجل تحقيق مخططاتها العدائية، على منع اندماج الصرب الكوسوفيين في مؤسسات دولة كوسوفو الرسمية، وتُجبر من سبق لهم المشاركة من الصرب في تلك المؤسسات على الانسحاب والالتزام بالتصويت لقائمة انتخابية موحدة تضعها بلغراد وتستثني منها من تراه قد اندمج مع الكوسوفيين الألبان وتصفهم بـ"صرب هاشم تاتشي" أو الخونة.
ورغم اعتراف 105 دول عبر العالم باستقلال كوسوفو إلا أن صربيا لا تتراجع عن ممارسة شتى الضغوطات وتُخصص الكثير من الجهد والمال لدعم اللوبيات الصربية الناشطة في الدول التي لم تعترف بعد بدولة كوسوفو لإقناعها بالامتناع عن ذلك؛ وبالتالي الوقوف في طريق انضمام كوسوفو إلى عضوية الأمم المتحدة. وبفضل شبكة علاقات معقدة، تلقى صربيا اليوم دعمًا كبيرًا في مسعاها هذا من طرف روسيا والصين وأغلب الدول الإسلامية بدءًا من إندونيسيا ووصولاً إلى الدول العربية، التي لم تعترف بعد باستقلال كوسوفو.

ومن المفارقات الأخرى أيضًا امتناع "ريبوبليكا صربسكا" (وهي المكون الثاني في دولة البوسنة والهرسك إلى جانب فيدرالية المسلمين والكروات)، وبإيعاز من بلغراد، عن التصويت لصالح اعتراف دولة البوسنة والهرسك باستقلال كوسوفو. ولم ينته الأمر عند ذلك، بل تم أيضًا استصدار قرار بعدم اعتراف البوسنة والهرسك بوثائق السفر الصادرة عن السلطات الكوسوفية، وذلك من أجل الحد من حرية تنقل الكوسوفيين داخل المنطقة، ومنع التواصل بين المسلمين في كوسوفو وإخوانهم في البوسنة الذين تربطهم بهم علاقات مصاهرة وصداقة عريقة.

كل ما ذكر أعلاه ليس مصادفة، وبقراءة مفردات السياسة الصربية المتبعة تجاه كوسوفو، فإنه ليس من المستبعد إطلاقًا أن تستغل صربيا الأجواء المشحونة ضد المسلمين، والتي تدعمها أحزاب يمينية متطرفة في عدد من الدول الأوروبية، وفي حال توافر الظروف الملائمة لذلك، فإن "صربيا ستحاول مواصلة حرب التصفية العرقية التي تتبعها"، ولن يمنع ذلك سوى تثبيت الاستقرار ودعمه في جمهورية كوسوفو وتعميق التعاون بين دول المنطقة وغيرها ذات الأغلبية المسلمة.
______________________________________________________________
*النص بالأصل أُعِد لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص بشؤون البلقان كريم الماجري.
*نديرة أفديتش فلاسي رئيسة المنتدى البوشناقي في كوسوفو، وأستاذة محاضرة في جامعة بريشتينا (كوسوفو)، وأستاذة زائرة لعدد من الجامعات الأميركية.

الهوامش والمصادر

1- معهد التوثيق، جمهورية كوسوفو 2011   www.kryeministri-ks.net
2- نفس المرجع السابق.
3- انظر الكتاب الصادر في جزئين عن المعهد التاريخي في بريشتينا تحت عنوان: إجلاء الألبان واحتلال كوسوفو. 
وأيضًا في نفس السياق كتاب نويل مالكوم "هل كوسوفو صربية؟" ترجمة دار النشر والتوزيع في كوسوفو، طبعة 2011.
4- الحزبان الأكبر في كوسوفو، هما: الحزب الديموقراطي الكوسوفي الحاكم برئاسة هاشم تاتشي، والائتلاف من أجل مستقبل كوسوفو المعارض بزعامة راموش هاريديناي.
5- رئاسة العلماء هي المؤسسة التي كانت تمثل كل الجمعيات الإسلامية القائمة في دول يوغسلافيا الاتحادية السابقة.
6- يُرجع بعض المراقبين إعلان الانفصال هذا إلى تأكيد استقلال قرار الجمعية الإسلامية ودفعًا لاتهامات صربية بتبعية وانقياد الجمعية الإسلامية في كوسوفو إلى أوامر رئاسة العلماء في سراييفو، فيما يرى المسؤولون الكوسوفيون في الجمعية الإسلامية أن قرار الانفصال كان ضرورة دعت لها الأوضاع في حينه. 
7- هناك رواية غير مؤكدة عن تحول، إبراهيم روغوفا، أول رئيس لكوسوفو إلى الكاثوليكية وتعميده، ويعزز هذه الرواية أن روغوفا منح مساحة من الأرض تحتل موقعًا استراتيجيًا مهمًا من قلب العاصمة بريشتينا لبناء كنيسة كاثوليكية كبيرة على أنقاض معهد ثانوي تم هدمه لهذا الغرض.
8-  يسكن شمال كوسوفو أغلبية سكانية صربية، وتعتبرها بلغراد أراضي صربية وتتصرف فيها بمقتضى ذلك.

 

أهم المراجع:
 
• Kosta Novakovi?, Kolonizacija i srbizacija Kosova. Dimitrije Bogdanovi?, Knjiga o Kosovu
كوستا نوفاكوفيتش، استعمار و"صَربنة"كوسوفو.
ديميري بوغدانوفيتش، كتاب حول كوسوفو.

• A. Hadri, Kosovo i Metohija u Kraljevini Jugoslaviji,1967.
ع. حضري، كوسوفو وميتوهيا في عهد المملكة اليوغسلافية، 1967.

• Ivo Banac, The national question in Yugoslavia: origins, history, politics. Historia e Popullit Shqiptar (Istorija albanskog naroda), Tirana, 1994.
إيفو باناتس: المسألة القومية في يوغسلافيا: الأصول  الإثنية والتاريخ والسياسية. تاريخ الشعب الألباني، تيرانا 1994.

•Ferit Shehu, Sevdije Shehu, Pastrimet etnike të trojeve shqiptare 1953-1957 (Etni?ko ?iš?enje albanskih oblasti 1953-1957), Priština, 1994.
فريد وسافديا شاهو، التطهير العرقي للمناطق الألبانية 1953- 1957، بريشتينا 1994

 

عودة للصفحة الرئيسية للملف

 

نبذة عن الكاتب