اهتمت الدراسة بتحليل الخطاب الإعلامي الفرنسي الذي تلا هجمات باريس في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015؛ اعتمادًا على التحليل النقدي للخطاب مرجعيةً تحليلةً، فتناولت هذا الخطاب من منطلقات اجتماعية ثقافية أو عرفانية أو لسانية تداولية لتفكيك تمثُّلات ما قيل وصوره بالنظر في كيفيَّات القول وسياقاته. وقد حاولت الإجابة من خلال ذلك على مجموعة من الأسئلة؛ التي وردت في متن الدراسة، لتسليط الضوء على تداعيات هذه الهجمات في الخطاب الإعلامي الفرنسي عبر عيِّنة قصدية من الصحف والمواقع الإخبارية.
وخلصت الدراسة إلى أن صفة القائل وكيفية القول لهما تأثير كبير في تلقي المقول وتأويله وفهمه، خاصة أن الخطاب المدروس اتفق في أشياء واختلف في أشياء أخرى حسب المنطلقات الفكرية والسياسية، فكان خطاب الوصف للحدث، وخطاب التمجيد لفرنسا وللفرنسيين المولودين من فرنسا، والخطاب الذي يدعو إلى إعادة النظر في إمكانيات جهاز الأمن الفرنسي والأوروبي. ووراء هذه الخطابات يختفي خطاب آخر ينشر الخوف من الإسلام والمسلمين ويدعو إلى الاستعداد لمواجهة تحدٍّ ثقافيٍّ قادمٍ في ثوب حرب مسلحة ولكن هدفه تدمير فكر وثقافة الشعب الفرنسي.
مقدمة
اختلفت وسائل الإعلام الفرنسية في تغطية هجمات باريس؛ التي وقعت يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وركَّز جلُّها على إظهار بشاعة هذا العمل وربطه بالإسلام، ولكن اختلفت في طريقة طرح هذه القضية؛ فأنتجت خطابات متفقة حينًا ومختلفة حينًا آخر، ولكنها جميعًا تعكس آراء أصحابها ومِن ورائهم آراء السلطة والمجتمع والمؤسسات الإعلامية التي ينتمي إليها الكاتب، واللغة كما يرى نورمان فيركلوف مُحدَّدة بالعناصر الاجتماعية ومُتَأَثِّرة بها؛ إذ "يصل تحديد العناصر الاجتماعية للغة إلى أعلى مستوى: لا تُنْتَجُ النصوص فقط من البِنَى اللسانية والنُطُق الخطابية؛ إنها تُنتج أيضًا من البِنَى الاجتماعية الأخرى ومن الممارسات الاجتماعية في جميع جوانبها؛ لذلك يصعب الفصل بين العوامل التي تبلور النصوص(1). وسنحاول في هذه الدراسة أن لا نكتفي بتحليل الخطابات تحليلًا لغويًّا لسانيًّا وإنما سنسلِّط الضوء على المعاني الصريحة والضمنية باتباع منهج التحليل النقدي للخطاب الذي يعطي أهمية إلى الجوانب التداولية والاجتماعية والنفسية والثقافية، وهذا لا يعني الكشف عن كل مضمرات الخطاب، وإنما هي طريقة من بين طرق التحليل أثبتت إلى حدِّ الآن كفاءتها في ربط اللغة بالسياق الذي أنتجت فيه.
1- الإطار المنهجي للدراسة
أ. مشكلة الدراسة
- كيف صَوَّرت الصحافة الفرنسية هجمات باريس؟
- ما الذي تغيَّر في الخطاب الإعلامي بعد هذه الهجمات؟
- هل تمَّ توظيف الهجمات لغايات سياسية ودينية وثقافية أخرى؟
- هل يتفق الإعلام الفرنسي على نظرة مُوحَّدة للهجمات؟
ج. أهمية الدراسة
د. أهداف الدراسة
- تسليط الضوء على ما قيل في الصحافة الفرنسية بعد هجمات باريس.
- محاولة ربط ما قيل في الصحافة بالجهة السياسية التي تتحكم في وسيلة الإعلام.
- الوقوف على تداعيات ما يقال في الصحافة عن السياسة الفرنسية تجاه المسلمين.
- الكشف عن الأيديولوجي المضمَّن في هذه الخطابات.
ه. مجتمع الدراسة وعينته
ومن بين الصحف والمجلات التي سنعتمدها في هذه الدراسة نذكر: لوموند (Le Monde) خاصة الأعداد الصادرة بتاريخ 25 و26 و28 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ولكسبريس (L'express) في عددها الصادر يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 والعددين 9 و10 يناير/كانون الثاني 2016، ولوبوان (Le Point) في عدديها الصادرين بتاريخ 19 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وليبراسيون (Libération) في عددها الصادر بتاريخ 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وباري ماتش (Paris Mach) في عددها 3477، وماريان (Marianne) في عددها 989.
و. المقاربة النظرية والمنهجية
نستنتج مما سبق أهمية النقد في مجال التحليل النقدي للخطاب، فهو وسيلة التحليل وبذلك فإنه يُمثِّل المنظور الأساسي الرابط بين المحلِّل والخطاب. وبذلك فإن هذا الحقل يرتكز على نقطتين أساسيتين هما: الاهتمام بالخطاب اهتمامًا مخصوصًا من جهة، وهذا يعكس فهمًا خاصًا للغة، ووضعُ فرضية نقدية للتحليل قيد الإنجاز، من جهة ثانية، لذلك ترى ووداك أن التحليل النقدي للخطاب يهتم بالطرق التي تُستخدم بها الأشكال اللغوية في مختلف تعابير السلطة وإدارتها(3)، وتُولي هذه النظرية التطبيقَ أهمية كبيرة، لذلك تنادي بتطبيق نظرياتها على الخطاب في الواقع الاجتماعي في كل أبعاده.
ز. مفاهيم إجرائية
• تحليل الخطاب
في رأي باتريك شارودو ودومينيك منغنو أن هذا المجالَ؛ أي: تحليل الخطاب، "فنٌّ حديث العهد نسبيًّا". وهما يعترفان بصعوبة وضع تعريف يحيط بمفهومه الشامل؛ فهو "تسند إليه أشد التعريفات اختلافًا: هي تحديدات شديدة الاتساع عندما يعتبر "تحليل الخطاب" مكافئًا لــــــ"دراسة الخطاب" أو تتسم بالحصر عندما نخصص هذه التسمية في نطاق التمييز بين فنون مختلفة تتخذ من الخطاب موضوعًا لها، لأحد هذه الفنون"(6) . ليس تحليل الخطاب حقلًا معرفيًّا مستقلًّا ومتميزًا، وإنما هو خط يَعْبُر اللسانيات وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب والتاريخ. ومن ثمة ليس بالمستغرب أن ينمو وأن يتجدَّد وأن تتفرَّع اتجاهاته وتتنوَّع مقارباته.
• التحليل النقدي للخطاب
التحليل النقدي للخطاب، في رأي نورمان فيركلوف، يهتم بالخطاب ولكن يهتم أكثر بنطاق الخطاب، وفي هذا المستوى يكون التحليل أوسع مما يقع داخل النص من تفاعلات لسانية يتناولها تحليل الخطاب، وعلى الجملة، فإن فيركلوف يرى أن التحليل النقدي للخطاب يجمع بين التحليل اللساني؛ أي: "ما يحصل في النصوص بعينها"، وبين نطاق الخطاب الذي يضمن "التحليل التفاعلي للخطاب" على حدِّ تعبيره، ويقصد بذلك معالجة النصوص انطلاقًا من الاتجاهات المختلفة واستعمال الأساليب المتنوعة للنقد. ويشير إلى أنه يستعمل مفهوم النص بمعناه الواسع، ويعتبر أن كل تمظهر للغة في الاستعمال نصٌّ. ويرتبط التحليل النقدي للخطاب ارتباطًا مباشرًا بالتفاعلات الاجتماعية بكل أنواعها، وبذلك يعِد بالكشف عن المضمرات الأيديولوجية والثقافية في الخطاب.
• الخطاب الإعلامي
الخطاب الإعلامي هو في الحقيقة مجموعة خطابات تصدر عن جهات مختلفة في وسائل اتصال مكتوبة أو سمعية بصرية، هدفها مواكبة الواقع والتأثير فيه ومحاولة تغييره وفق أهداف مسبقة.
• المعنى الضمني
المعنى الضمني هو معنى خطاب ما، لا يكون متصلًا مباشرة بالدلالات اللغوية لهذا الخطاب؛ أي: إنه ليس المعنى الحرفي للمَقُول، وإنما هو معنى وضعه المتكلم قصدًا ويُفهم من خلال معرفة السياق وربط الخطاب بالواقع الحضاري والاجتماعي والثقافي وبالوقائع المصاحبة له. ولا يصرح عادة بالمعنى وذلك بهدف عدم تحمل مسؤولية ما يقال.
2- أنماط المعاني في ضروب الخطاب وتَمْثُّلاته
أ. كيف صوَّرت الصحافة الفرنسية هجمات باريس؟
تصدَّر الحدث غلاف بعض المجلات والصفحات الرئيسية للصحف تصاحبه صور من مواقع الهجمات أو رسومات حمَّلها أصحابها انطباعاتهم ومواقفهم مما وقع، وركَّز جلُّ هذه المقالات والصور والرسوم على وحدة الشعب الفرنسي بقطع النظر عن الانتماءات الحزبية والتوجهات السياسية، كما ركَّز على بشاعة ما حدث، بينما اعتبر بعض وسائل الإعلام أن ما حدث أبعد من كونه حربًا عسكرية تنتهي بالربح أو الخسارة، وإنما هو "تحدٍّ ثقافي"(7) بامتياز وعلى فرنسا أن تبرهن على أنها قادرة على الصمود أمام هذا التحدي وذلك بالرجوع إلى أسس حضارتها ومنابع ثقافتها لجعلها تعلو كل ثقافة دخيلة تحاول النيل من مكتسباتها الإنسانية والحضارية الثقافية. ودعت وسائل إعلام أخرى إلى عدم الاكتفاء بإحياء ذكرى هذه الهجمات وإشعال الشموع ونثر الورود، وإنما يجب أن يصاحب ذلك فعل وحراك اجتماعي وسياسي وثقافي، ويجب أن يتحمل كل فرد وكل هيئة مسؤولية المحافظة على مكتسبات فرنسا.
أما بعد هجمات بروكسل في 22 مارس/آذار 2016 فقد تغيَّر الخطاب الإعلامي الفرنسي وبدأت تظهر عليه علامات الهلع والخوف من المستقبل وبدأ يسوده التشكيك في قدرات الدولة وفي استعداد المنظومة الأمنية لمواجهة الإرهاب؛ فقد وضعت مجلة "ماريان" على غلافها تساؤلًا بالبنط العريض مُستَوْعبًا كامل الصفحة "هل سنخسر الحرب؟"(8). وبدأ الحديث عن مواطن الضعف والثغرات التي يعاني منها الجهاز الأمني الفرنسي. وجعلت هجمات بروكسل الخطاب الإعلامي الفرنسي ينظر إلى العمليات الإرهابية في إطار أوسع وخصَّص نفس العدد من المجلة عمودًا في الصفحة 13 لوضع قائمة بالبلدان التي مسَّها الإرهاب منذ يناير/كانون الثاني 2015 مع تحديد تواريخ العمليات وعدد الضحايا.
عمومًا يمكن القول: إن الخطاب الإعلامي الفرنسي مرَّ بثلاث مراحل مهمَّة منذ يناير/كانون الثاني 2015؛ أي: تاريخ أول عملية إرهابية في فرنسا، ويمكن أن نُسمِّي المرحلة الأولى بمرحلة الصدمة؛ التي تعمَّقت في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، وتتمثَّل المرحلة الثانية في مرحلة الاستفاقة من الصدمة والدعوة إلى توحيد جهود مختلف التوجُّهات السياسية في مواجهة الإرهاب مع التركيز على إبراز روح المواطنة لدى الفرنسيين وتجذُّر فرنسا في معاني الديمقراطية، والتشديد على الجانب الثقافي الفرنسي ووجوب المحافظة عليه، ومثَّلت المرحلة الثالثة مرحلة الشَّكِّ في قدرات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وقد تعمَّقت هذه المرحلة خاصة بعد هجمات بروكسل آنفة الذِّكر. مع الإشارة إلى أن هذه المراحل ليست مسترسلة زمنيًّا وإنما تتداخل في كثير من الأحيان في الخطاب الإعلامي الفرنسي.
ب. ما الذي تغيَّر في الخطاب الإعلامي بعد الهجمات؟
الجزء الأول من العنوان باللون الأحمر، والجزء الثاني باللون الأسود ولكنه مكتوب بخط أكبر وعريض، تحت هذا العنوان رسم يحتل نصف صفحة الغلاف يمثِّل حمامة بألوان علم فرنسا (جناح أزرق وجناح أحمر وجسم أبيض).
يُقدِّم كريستوف باربيي مقاله بفقرة قصيرة ولكنها مهمة تحمل نظرته إلى هذه الأحداث وتربط بينها وبين أحداث 7 يناير/كانون الثاني 2015، يقول: "من 7 يناير/كانون الثاني إلى 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، قَلَبَ الإرهاب كيان أمتنا. ووراء الانفعال وصدمة المواطنة، لابد من التفطُّن بكل وضوح إلى تحوُّلات مقلقة، على السياسات أن تتولاها"(10).
هذا التغير الذي حدث في فرنسا على الصعيد الاجتماعي والسياسي والذي أشار إليه أغلب الصحف وما ذكرناه أعلاه يمثل اعترًافا صريحًا بوجود هذا التغيير بعد الهجمات الإرهابية، وفرض هذا التغير تغييرًا في مستوى الخطاب وذلك للصلة الوثيقة بين الخطاب وبين مختلف جوانب المجتمع من جهة والتمثُّلات الذهنية للأفراد من جهة أخرى. والبحث الذي يستند إلى منطلقات اجتماعية أو عِرفانية أو نفسية لا يمكنه إهمال الجانب اللساني اللغوي وإنما هو تكامل بين عدة اختصاصات لجأ إليها التحليل النقدي للخطاب لكشف معنى المقول.
سنحاول أن نقسِّم المعجم الذي طغى على الخطاب الإعلامي الفرنسي في العيِّنة التي تم اعتمادها إلى ثلاثة أقسام كبرى، هي: القسم الذي يتعلَّق بالإرهاب والإرهابيين، والقسم الذي يتعلق بفرنسا والفرنسيين، إلى جانب المعجم الذي يصف الحدث في حدِّ ذاته.
معجم الخطاب الإعلامي الفرنسي والفاعلون في الأحداث
الحَدَث |
من قاموا به/مُنفِّذو العملية |
فرنسا/الفرنسيون |
هجمات تحدٍّ ثقافي جهادية مشكل ديني حرب إرهاب من الجيل الثالث أحداث دامية مذبحة ليلة دامية مجزرة هجوم قاتل
|
إرهابيون وجوه جديدة في البلاد مطرودون عدو داخلي عناصر متطرفة خوارج داعش جهاديون دمى متحركة مغفَّلون غباء لا نهائي عرب مسلمون جانحون الجالية الإسلامية إسلام فرنسا |
ضحايا كل مواطن الفرنسيون : - الوجع - عدم الراحة - الخوف - الهلع - حالة ذعر كل المواطنين فرنسا: - مستضعفة - منارة للعالم مدينة فساد مقاومة الإرهاب الجمهورية الأمة صوت فولتير صوت هيجو |
هذه فقط عيِّنة من المعجم المستعمل في وسائل الإعلام الفرنسية حاولنا أن تكون من مصادر متنوعة ولكن يصعب حصر كل ألفاظ هذا المعجم؛ لأن طبيعة الدراسة لا تُمكِّن من ذلك.
الجدير بالملاحظة كذلك أن ألفاظ هذا المعجم تشترك في كثير من السمات الدلالية حين تكون مُوجَّهة لتعيين نفس الشيء، ولكنها تختلف أحيانًا حدَّ التناقض حين يختلف المتكلم؛ فتشترك الألفاظ التي تُعيِّن الفرنسيين في سمة أساسية وهي سمة الضحية، وتشترك الألفاظ التي تُعيِّن منفذي الهجمات في سمة عامة كذلك وهي الإرهاب، وتغطي سمة الفاجعة كل الألفاظ التي تعيِّن الحدث.
رغم هذا الاشتراك الدلالي في المداخل المعجمية المستعملة فإن صفة المتكلم ومركزه الاجتماعي يجعلانها تتعارض في بعض الأحيان؛ تتحدث السُّلطة عن "حرب" على لسان الرئيس فرنسوا هولاند ويتحدث بعض المثقفين عن "تحدٍّ ثقافي"(11)، وتبنَّت الصحافة هذه العبارة لتعيين ما وقع(12)، ولا يخفى على أحد الفرق بين الحرب التي تقوم على العتاد والعُدَّة من جيش وأسلحة واستراتيجيات حربية، وخطط عسكرية وربح وخسارة، وبين التحدي الثقافي الذي يضع ثقافة شعب ما موضع ضعف أمام ثقافة أخرى دخيلة تحاول الهيمنة بكل الوسائل عن طريق نشر أفكار مغايرة لما هو سائد، وتغيير عقلية متوارثة اكتسبت سماتها من تطور حضاري وإقليمي معين، ومحاولة طمس معالم الثقافة الموجودة. ولكن هذا التحدي الثقافي له كذلك استراتيجيته ليفرض هيمنته وذلك عن طريق إدخال نوع معين من اللباس والعادات والتقاليد وطريقة التواصل...
تبنَّى الإعلام عبارة "تحدٍّ ثقافي" وأبرَزَها، بل وجعلها كريستيان ماكريان عنوانًا لمقاله في صحيفة "لكسبريس" وذلك لما يكتسبه الإعلام من قوة تأثير تفوق قوة تأثير آراء المثقفين في كتبهم، ويعود ذلك إلى عدَّة أسباب، منها أن الإعلام أقرب إلى كل شرائح المجتمع خاصة في الفترات التي تسودها تغيرات اجتماعية، يقول روجي فولر "تتمتع وسائل الإعلام بمكانة امتيازية تتجلى في أن مهمتها المعلنة هي نشر الخطاب العمومي المتصل بالمجتمع والعالم. فالخطاب نتاجها وأداتها في الوقت نفسه، ومن خلاله تحتفظ بمكانتها في النظام الاقتصادي، ومن ثم تحافظ على النظام، كيف ذلك؟ تجعل الصحفُ الجمهورَ يسبح في اللغة وعلى هذا النحو تتخذ الأيديولوجيا وسيلة لاختراقنا. وتكمن إحدى وظائف هذه العملية في إنشاء أو تكوين أو إعادة إنشاء أو إنتاج مقولات مجردة من قبيل السلطة والنفوذ والميز والقهر. وبناء عليه ليس التمثيل ترجمة موضوعية للوقائع الاجتماعية وإنما هي عملية تكوين واهتمام ذاتي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي"(13).
أمَّا المدخل المعجمي الذي تستعمله السلطة وبُثَّ في وسائل الإعلام للتعبير عن هذه الهجمات فهو "حرب"، وذلك بالنظر إلى طبيعة العملية فهي عملية عسكرية وقع خلالها اقتحام عدَّة أماكن عمومية وإطلاق الرصاص على الموجودين بصفة عشوائية، بهدف قتل أكبر عدد ممكن من الضحايا وبالتالي إرباك الدولة ووضعها وجهًا لوجه أمام هجوم مسلح مباغت لم تستطع تفاديه رغم قوة جيشها وقوة جهازها الأمني والاستخباراتي.
تسود المعجمَ الذي استُعمل لتعيين منفذي العملية سمتان أساسيتان، هما: الإرهاب والإسلام، إلى جانب عدة سمات أخرى فرعية ولكنها مرتبطة بهما وناتجة عنهما في نظر الصحافة الفرنسية. فإذا كانت السلطة قد أعلنت الحرب فإنه من المنطقي أن يكون العدو هو من بدأ بالهجوم، ولكن من خلال المعجم المستعمَل لوصف منفِّذي العملية فالحرب ستكون على الإرهاب وبالتحديد على الإسلام، وهذا التعميم لا يعني وجود تخصيص لهؤلاء، حتى إنهم وُصفوا بكونهم"عناصر متطرِّفة". وهذا اعتراف بعدم انتمائهم إلى الإسلام المعتدل ولكن ربط الإرهاب بالإسلام يبقى هو السائد في وسائل الإعلام خاصة في الفترة التي تلت مباشرة الهجمات على عدَّة أماكن في باريس؛ مما جعل هذا الخطاب يتزعزع ويميل إلى التعميم.
بعد مرور عدَّة أسابيع بدأ الخطاب الإعلامي ينظر إلى المسألة ببعض الموضوعية فأصبحنا نقرأ "جانحون، مغفَّلون، دُمى متحركة، خوارج"، بل اعترف خطاب السلطة بعد أخذ وردٍّ بين اليمين واليسار بأنهم أبناء فرنسا وهم فرنسيون. وهذا ما جعل المسألة تنضوى من جديد تحت مجموعة من التغيرات التي مسَّت أغلب بلدان العالم لم تنج منها فرنسا.
التجأ بعض الصحافيين إلى فلاسفة ومفكِّرين فرنسيين لتعريف "الفرنسي"؛ فنجد في الصفحة 26 من صحيفة "لكسبريس" (العدد 3366) هذا التعريف المأخوذ عن الفيلسوف فردينان دوبواسون (1900)، والذي استشهد به كذلك فانسون دوكلارك في كتابه رسائل إلى فرنسا، "الفرنسي ليس فقط رجلًا وُلِد بفرنسا إنه رجل وُلِد من فرنسا، تفكيره مُشكَّل من تفكيرها، تعلَّم منها أن ينظر دائمًا إلى الأعلى، وأن يسعى دومًا إلى ضياء أكثر، تعلَّم منها أن يكون دائمًا أكثر أخوَّة وأكثر تعقُّلًا". ويواصل تعريف فرنسا بقوله: "فرنسا هي عبارة عن فكرة أصبحت أمة، هي أمة نحتت نفسها. ولن نكون أوفياء لها بالقدر الكافي إذا لم نعتقد اعتقادًا راسخًا أنها دفعت ثمن نفسها قرونًا من المعاناة". وبذلك فإن على كل فرد لا يؤمن بما سبق أن يخرج من دائرة الشعب الفرنسي مهما كان نوع صلته بفرنسا؛ سواء أكانت صلة دم أم صلة مواطنة أم صلة جنس! ويخص كاتب المقال من هؤلاء فقط من يدافعون عن الإسلام؛ أي: يمكن أن لا تكون فرنسيًّا من زاوية ثقافية وحضارية وتاريخية ومع ذلك تبقى مواطنًا فرنسيًّا شرط أن لا تدافع عن الإسلام. وهكذا فإن حق المواطنة يقع تعويضه بحق "إذا"؛ أي: "إذا حافظت على الهدوء يمكن أن تكون فرنسيًّا".
بعد مضي مدة على هذه الهجمات تمكَّن الإعلام الفرنسي من تعديل موقفه من منفذي العملية بعد التأكد من جنسيتهم الفرنسية، فاعترف بأن الإرهاب نابع من فرنسا وهم (الإرهابيون) فرنسيون، بل إن البعض يتحدث عن إرهابيين فرنسيين ينتمون إلى الجيل الثالث من المهاجرين المسلمين، هم ينتمون إلى فرنسا وُلِدوا وتعلَّموا فيها وتشبَّعوا بثقافتها، بل إن آباءهم فرنسيُّو الجنسية ومولودون كذلك في فرنسا، وهذا ما دعا بعض الصحفيين إلى التعبير عنهم باستعمال الضمير نحن أو عبارة إرهابيين فرنسيين، ولكن بحذر شديد وفي مواقع قليلة.
نلاحظ كذلك أن الذات تتأرجح في هذا الخطاب بين الافتخار وبين الوقوف على مواطن الضعف والإشارة إليها؛ فقد تحدث كثير من وسائل الإعلام عن تقصير الجهاز الأمني والجهاز الاستخباراتي الفرنسي؛ ونذكر منها لكسبريس، لوفيغارو (Le Figaro)، لينيون (L'Union)، لوباريزيان (Le Parisien)، ليبيراسيون (Libération)، ليمانيتي، (L'humanité)، ليزيكو (Les Echos)...
- أشارت لكسبريس إلى ضعف الاتحاد الأوروبي، خاصة في المجال الأمني، وطالبت باتخاذ إجراءات سريعة لتدارك الأمر.
- لوفيغارو أوردت ما يلي "وجود عبد الحميد أباعود في باريس يُعرِّي ضعف مكافحة الإرهاب في أوروبا ويدعو من جديد إلى إعادة النقاش في تأشيرة دول الاتحاد الأوروبي (شنغن)".
- ليزيكو ذكرت أن وجود هذا الشخص (عبد الحميد أباعود) يؤكد عيوب فضاء تأشيرة دول الاتحاد الأوروبي ويضع كفاءة جهاز الاستخبارات موضع تساؤل.
- لوباريزيان تقول: إن بلدان الاتحاد الأوروبي عبارة عن إناء مثقوب يمر منه من يشاء.
كتبت صحيفة لوموند في هذا الشأن مقالًا نكتفي بذكر عنوانه؛ لأنه يلخِّص ما جاء في المتن: "اعتُبر النظام المضاد للإرهاب في فرنسا لوقت طويل ممتازًا، وهو الآن في حالة موت إكلينيكي. ولكن لا أحد من الحكومة أو من المعارضة يريد أن يُوقِّع وثيقة وفاته، وذلك لعدم معرفة بديل له"(15).
المسؤولية يتقاسمها السياق الأوروبي العام متمثلًا في ضعف الاتحاد الأوروبي والسياق الفرنسي الخاص متمثِّلًا في موت الجهاز الأمني الفرنسي أمام مشكلة عدم وجود بديل له، وهي دعوة إلى البحث عن حلٍّ لهذين المشكلين، فالإعلام يعي مدى قدرته على تحريك الحكومة الفرنسية وبقية حكومات الاتحاد الأوروبي لإيجاد حل سريع يضمن أمن الدول الأوروبية وأمن فرنسا.
ج. هل تمَّ توظيف الهجمات لغايات سياسية ودينية وثقافية أخرى؟
تشير المجلة السابقة إلى أن طرح هذا القرار للنقاش كان بمثابة "وضع النار على البارود"(17) بالنسبة إلى اليسار الفرنسي، وخاصة الحزب الاشتراكي، واعتبرت أن فرانسوا هولاند قد وضع الحطب في مدفأة يسار اليسار. وهذا يعني أن الموضوع يكتسي أهمية بالغة في الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفرنسي؛ باعتبار أن فرنسا تضمُّ جالية كبيرة من المسلمين وصولًا إلى الجيل الثالث منها، وهم يشغلون وظائف عديدة ويُسهمون في الاقتصاد الفرنسي إسهامًا فعَّالًا، ويتمتعون بكل ما يتمتع به الفرنسي الأصيل من تغطية اجتماعية وصحية ومنحة بطالة وإعانات فردية وعائلية وتوفير السكن.
موضوع الحرمان من الجنسية يبدو مثل جبل الجليد لا يظهر منه إلا القليل، أمَّا أكثره فهو مدفون تحت المياه. وسنحاول أن نستنطق السياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمعرفة خفايا هذا الموضوع؛ وذلك لأهمية السياق في الكشف عن مضمرات الخطاب، ترى روث ووداك، الباحثة النمساوية في التحليل النقدي للخطاب، أن النظر إلى السياق لابد أن يتم من أوجُهٍ أربعة، وهي: السياق المقالي لكل ملفوظ، والسياق في النص الكلي، والسياق الاجتماعي والثقافي، والسياق الذي يهم مستوى العلاقات بين الخطابات.
بما أن الإرهاب ظاهرة عالمية لا توجد في فرنسا فقط؛ وذلك باعتراف الفرنسيين أنفسهم وإنما مسَّت أغلب بلدان العالم، فإن الاحتجاج به لحرمان عدد من الفرنسيين ذوي الأصول العربية والإفريقية من الجنسية الفرنسية يدعو إلى التساؤل، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية من جهة، وانتشار فكرة الحرب الثقافية أو "التحدي الثقافي" من جهة أخرى.
هل أحسَّت فرنسا بأنها مهدَّدة اقتصاديًّا والحال أن الجيل الأول ونسبة كبيرة من الجيل الثاني من المهاجرين أصبحوا يتمتعون بمنحة التقاعد، كما أن الكثير منهم يكتفي بمنحة البطالة ولا يشتغل، وهذا من شأنه أن يرهق الميزانية في ظل اقتصاد عالمي هشٍّ؟ هل شعر الفرنسيون أنهم مهدَّدون ثقافيًّا؟ وربما كان أوضح تعبير عن ذلك تغير ملامح الشارع الفرنسي عمَّا كانت في النصف الأول من القرن الماضي، بانتشار لباس دخيل على الثقافة الفرنسية وعادات أكْل، وعبارات جديدة وبِنى لغوية تأخذ شرعيتها من بنية اللغة العربية، وتغيرت ملامح المجتمع الفرنسي في حدِّ ذاته باندماج الجيل الثالث في صلب المجتمع وبحقه في الحصول على الجنسية الفرنسية كأي مواطن فرنسي.
التجأ بعض الخطابات إلى الموروث الثقافي والفلسفي الفرنسي لإثبات الهوية الفرنسية، ولا يمكن أن يكون هذا الالتجاء عبثًا أو عن غير قصد؛ إنه إعادة إحياء للسياق الاجتماعي الثقافي الذي ترعرعت فرنسا في حضنه، وهي دعوة إلى التشبث بالهوية الفرنسية المهددة؛ إنها كذلك دعوة إلى ملاحظة ما يطرأ على المجتمع الفرنسي من تغيرات، والسعي إلى مواجهتها، وكانت الهجمات على باريس بابًا دخل منه أصحاب هذا الفكر من سياسيين ومثقفين وإعلاميين، وهذا ما دعت إليه صحيفة لكسبريس نقلًا عن الفيلسوف الفرنسي فردينان بويسان: "الفرنسي ليس فقط رجلًا وُلِد في فرنسا؛ إنه رجل وُلِد من فرنسا"(18).
- هل تهدِّد حالة الطوارئ الحريات؟
- هل يجب أن تراجع فرنسا سياستها الخارجية مع الخليج العربي؟
- من هم الشُّبَّان الفرنسيون الذين أصبحوا جهاديين؟
- كيف يمكن لفرنسا أن تقاوم إغراء الانطواء على الذات؟
د. هل يتفق الإعلام الفرنسي على نظرة مُوحَّدة للهجمات؟
لكن يمكن أن نلاحظ أن هذه الوسائل لم تقدِّم الحدث بنفس الكيفية، فضلًا عن إبداء الرأي والبحث في الأسباب والحلول.
تميزت الخطابات الأولى بالانفعالية وتحكيم المشاعر؛ إذ كانت ترزح تحت هول الصدمة، وهي ردُّ فعل طبيعي وعفوي أمام مثل هذه المواقف، ولكن ردَّ الفعل هذا يخضع لبنية ذهنية اكتسبها الفرنسي على امتداد تاريخه الحضاري والثقافي، وهذا ما أوضحه فان دايك، أحد مؤسسي التحليل النقدي للخطاب، حين بيَّن أن عمليات العرفان لدى الفرد والجماعة ترتكز على كيفية صوغ النماذج والخطاطات العرفانية لإنتاج الخطاب الإعلامي وفهمه(19)؛ إذ لابد من السعي إلى إبراز العلاقات بين النصوص وعمليات الإنتاج والفهم من جهة، وإبراز الممارسات الاجتماعية الواسعة التي تندرج فيها من جهة أخرى وذلك في إطار ما يُسمَّى "بنيات الأخبار".
- من أين جاء الإرهاب؟
- من هم الإرهابيون؟
- لماذا يهاجموننا؟
- كيف سندافع عن أنفسنا؟
توضح هذه الأسئلة كيف يشتغل الإدراك الذهني ذاتيًّا أمام الخطر ويحاول أن يمسح الضباب عن معطيات ضرورية ليستطيع بعد ذلك اتخاذ قرارات أو إبداء آراء بخصوص هذا الموضوع. البنية الذهنية التي تظهر من خلال الخطاب الإعلامي الفرنسي في مراحله الأولى بعد الهجمات هي بنية تقوم على طرح الأسئلة في محاولة لفهم ما يجري قبل كل شيء.
انطلاقًا من خطابات مليئة بالتساؤلات مرَّ الإعلام الفرنسي إلى نوع آخر من الخطابات التي يغلب عليها التحليل واستعادة الأحداث عن طريق إعادة نشر بعض الصور أو إدراج رسوم كاريكاتورية مع النصوص. واختلفت هذه الخطابات في نوعية التحليل وحتى في نوعية اختيار صور الحادثة. ركَّز بعض الصحف على صور فردية للضحايا لبناء ذاكرة جماعية عنهم؛ فقد كتبت صحيفة "لوموند" الصادرة يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ملخصًا قصيرًا لهجمات باريس، وعنونته بـــ"في الذاكرة"(20) وهو عبارة عن مقال مفتوح للصحفيين ليضيفوا إليه كل معلومة جديدة عن ضحايا الهجمات. وَرَدَ فيه "130 شخصًا لقوا حتفهم في هجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني بباريس، وقع انتزاعهم من ذويهم بطريقة همجية، أصبحوا الآن جزءًا من عالمنا، لن يغادرونا أبدًا. نحن نرفض أن نختزلهم في مجرد رقم، 130، أو تحت لافتة "ضحايا"، أردنا أن نعرِّف بهم ونُظهر وجوههم، ونعيد إليهم الحياة عبر من يعرفونهم ومن يحبونهم. ونجعل لهم كذلك مكانًا في ذاكرتنا. اجتمع صحافيو العالم ليكتبوا عن سيرتهم الذاتية، ما عدا البعض منهم الذين اختارت عائلاتهم عدم المشاركة في الوقت الراهن في هذه اللوحة التذكارية، أو ذِكر أسماء أقاربهم المفقودين. و"لوموند" تبقى مستعدة لنشر معلومات عنهم، إذا غيَّر الأهل رأيهم". هيئة تحرير "لوموند".
صاحبت هذا المقال الصغير صور للضحايا ومعلومات عنهم، ما عدا 18 ضحية الذين أشار المقال إلى رفض عائلاتهم المساهمة في تأسيس هذه اللوحة التذكارية.
اتجهت وسائل إعلام أخرى إلى تحليل الحدث وتسليط الضوء على جوانب مهمة من المسألة، مثل: الاعتراف بأن الإرهاب قضية عالمية وأن منفذي العملية فرنسيون، وفرنسا كغيرها من البلدان معرضة لمثل هذه الهجمات. وربط الإعلام بين هجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني وهجمات 11 سبتمبر/أيلول في أميركا وأحداث شارلي إيبدو في يناير/كانون الثاني 2015، ومن خلال الإحصائيات قدَّم بعض الصحف مسحًا شاملًا لخارطة الإرهاب في العالم وأخرجه من سياقه الضيق إلى سياق أوسع(21). وَرَدَ في صحيفة لكسبريس (العدد 3366) "هجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني توجد في نفس الدائرة المنطقية لهجمات يناير/كانون الثاني، في كلتا الحالتين هو إرهاب من الجيل الثالث يستهدف أوروبا؛ باعتبارها الحلقة الأضعف في الغرب، وله هدف مضاعف هو قهر أوروبا والحصول على مساندة أكبر نسبة من المواطنين المسلمين بهدف لَمِّ شملهم وراء أكثر عناصرهم تشددًا".
اتجهت وسائل أخرى إلى مناقشة قضية فرعية ناتجة عن القضية الأساسية وهي مسألة الحرمان من الجنسية حتى إن صحيفة لكسبريس(22) تقول: "فرنسا أضاعت أربعة أشهر"، وتعني بذلك أربعة أشهر قضاها الفرنسيون في نقاش مقترح فرانسوا هولاند بخصوص حرمان الشخص المتهم بالإرهاب من الجنسية الفرنسية، وتقول: إن رئيس الدولة لم يتمكن من تدقيق فكرته حول تغيير الدستور الذي يتم بموجبه تفعيل هذا المقترح، "هل يتكلم عن حاملي الجنسية الواحدة أو عن حاملي الجنسية المزدوجة؟ هل يتكلم عن حرمان من الجنسية قبل المحاكمة أم بعدها؟ هل يُترك الأمر لحرية تصرف القاضي؟" وهذا ما جعل اليمين واليسار على حدٍّ سواء يجدان خطابه غير واضح.
اعتبرت وسائل إعلام أخرى أن النقاش حول الحرمان من الجنسية هو بالأساس نقاش مغلوط ويجب عدم الخوض فيه؛ لأنه لن يفيد فرنسا في وضعها الحالي، والأهم من ذلك هو العمل على تقوية جهاز الأمن وجهاز الاستعلامات الفرنسي.
ما يخنلف جذريًّا عمَّا هو سائد في خطاب الإعلام بصفة عامة هو ما قدَّمه ميشال كولون(23) مسجَّلًا في فيديو على يوتيوب ضمن برنامج يُسمَّى تحقيقات(24)، وجَّه كولون الاتهام إلى مجموعة من الأشخاص والمؤسسات والدول واعتبرها مسؤولة عن الإرهاب وهي سبب مباشر في حدوثه، وقسَّمها إلى اتهامات داخلية واتهامات خارجية، ويبدأ كل مقطع من كلامه بــــــ"أَتَّهِم" بما يحمله الفعل من اتهام مباشر وتوجيه إصبع المتكلم توجيهًا مباشرًا إلى المخاطب دون ستار أو حاجز، مع ما يحمِّل المتكلم نفسه من مسؤولية القول وتبعاته. ويمكن تلخيص ما قاله في النقاط التالية:
- أَتَّهِم لوران فابيوس(25)؛ لأنه قال: جبهة النصرة في ليبيا قامت بعمل جيد.
- أتَّهم التحالف مع بعض دول الخليج؛ لأنها موَّلت نظامًا لا يَمُتُّ إلى الإسلام بصلة.
- أتهم التعاون مع تركيا ودول الاتحاد الأوروبي التي تساعد على تسويق النفط الداعشي والذي من شأنه أن يمكِّن الدولة الإسلامية من التسلح.
- أتهم التحالف مع أميركا؛ لأنها شجَّعت الإرهاب واستعملته سلاحًا في الأماكن التي ترغب عن خوض حرب فيها.
- أتهم التحالف مع إسرائيل فهي التي نشرت ثقافة الحرب وعدم القبول بالحوار.
ويتهم كولون داخليًّا أربع ظواهر يمكن تلخيصها كالآتي:
- التصرفات العنصرية مع المهاجرين واحتقار أعوان الأمن لهم.
- المدرسة التي لا تلعب دورها الطبيعي وذلك بتشجيع من وزيرة التربية التي استنكرت إبداء الرأي في الإرهاب بالفضاء المدرسي.
- الخلط: يخلطون بين المهاجرين واللاجئين والمسلمين والإرهابيين.
- نشر الخوف من الإسلام والمسلمين سواء أكانوا أفرادًا أم مؤسسات إعلامية مكتوبة أو مسموعة، وخاصة بعض القنوات التليفزيونية التي تسعى إلى نشر الإسلاموفوبيا.
خاتمة
مسَّ الإرهاب بلدانًا عديدة من العالم إلى حدود إنجاز هذه الدراسة؛ لذلك أصبح ظاهرة عالمية حرَّكت الأقلام وانعقدت من أجلها المؤتمرات والقمم والمناقشات التليفزيونية والإذاعية وتحركت كذلك مواقع التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها. وعندما ضرب الإرهاب في فرنسا أسال كثيرًا من الحبر ولا يزال صداه إلى الآن في خطاب وسائل الإعلام الفرنسية، التي حاولت كل واحدة من موقعها أن تجد لنفسها موضع قدم في طرح المسألة من عدة أوجه، فكان الاتفاق وكان الاختلاف، ولعبت المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية دورًا مهمًّا في توجيه النقاش بطريقة صريحة معلنة أو ضمنية مُبَطَّنَة. فكانت الخطابات مُحَمَّلَةً بشحنة أيديولوجية لا يمكن تجاهلها. فقد اعتبرت لكسبرس أن الحرب التي بدأت مع الإرهاب هي حرب ثقافية وليست حربًا عادية، ونجد صدى هذا الرأي في بعض وسائل الإعلام الأخرى، وإن بصيغ مختلفة. كما ربطت مجلة ماريان ولوبوان ولكسبريس بين ما وقع وبين الحرية التي تعوَّد عليها الشعب الفرنسي والتي تعتبر مُقوِّمًا من مقومات المجتمع. واعتبرت مجلة باري ماتش أن ما حدث لم يؤثِّر في المجتمع الفرنسي فحسب، بل أثَّر في القيادات السياسية وأولها رئيس الجمهورية فرانسوا هولاند حينما اعتبرت 2015 عام الحزن الذي غيَّر رئيس الجمهورية.