لأن الجزيرة لم تعد شأنا خاصا محليا أو إقليميا كان لزاما الحصول على معطيات ميدانية ومؤشرات موضوعية تقيم أداءها المهني.
لا أحد يجادل في أن قناة الجزيرة طبعت المشهديْن السياسي والثقافي في العالم العربي خلال عشر السنوات الأخيرة. فقد استطاعت بفعل أدائها الإعلامي والمهني المميزين أن تحرك راكد الأجواء الإعلامية الرتيبة وتحدث في هذين المشهدين حيوية غير مسبوقة، لفتت أنظار النخب المثقفة والقواعد الجماهيرية الواسعة على السواء، لا في العالم العربي فحسب، بل في العالم كله.
وتجمع الدراسات -التي أُنجِزت عن قناة الجزيرة، بالإضافة إلى ملاحظات كثير من المراقبين "بغض النظر عن الموقف القيمي منها"- على اعتبار إنشاء هذه القناة نقطة تحول فاصلة في تاريخ البلاد العربية.
وليس من المبالغة في هذا السياق الحديث عن ما قبل الجزيرة وما بعدها، ذلك أن هذه القناة أوجدت حالة من الوعي اتجاه واقع الناس وقضاياهم، ووسعت من آفاق إدراكهم لما يحدث من حولهم، عربيا وعالميا.
لقد كسرت احتكار الإعلام الرسمي للمعلومة والخبر، فأسست بذلك نمطا إعلاميا خاصا في التعاطي مع الأحداث، وابتكرت خطا تحريريا في تناول الخبر وصياغته. باختصار، لقد فرضت الجزيرة نموذجا إعلاميا جديدا فطرحت بذلك على القنوات التي أتت من بعدها أكثر من تحدٍ.
لقد صار لزاما على كل من أراد الإبداع في مجال الإعلام في زمن الجزيرة أن يجتهد من أجل إيجاد صيغ التمايز مع هذا النموذج ثم كيفية تجاوزه. والواقع أن هذه الاجتهادات كلها وإن أفضت إلى خط تحريري مغاير أو توجه إعلامي خاص، لم تسعف القنوات العربية في الخروج من أسر نموذج الجزيرة.
إن هذا الإجماع حول ريادة الجزيرة لا يترتب عنه بالضرورة مواقف إيجابية من هذه القناة أو مؤيدة لخطها وتوجهها. ولا عجب أن تتضارب الآراء ويكثر الاختلاف بشأن قناة الجزيرة في عالمنا العربي حيث يبلغ التعدد والتنوع الثقافيين ذروتيهما، إن على المستوى الثقافي أو السياسي أو الأيديولوجي، بل إن هذا التضارب وهذا الاختلاف هما اللذان يكسبان القناة تفوقها وتميزها، كما يسهمان في إثراء النقاش السياسي وإغناء الحوار الفكري.
يمكننا القول إن قناة الجزيرة من زاوية النظر هذه، أصبحت المرآة التي تعكس ضعف العرب وقوتهم، إخفاقاتهم ونجاحاتهم، إحباطاتهم وطموحاتهم.
لم تعد قناة الجزيرة شأنا خاصا محليا أو إقليميا، بل أصبحت شأنا عربيا يهم الرأي العام بمختلف شرائحه وتوجهاته، وبالتالي أصبح من حق هذا الأخير أن يسائلها وأن يتحاور بشأنها.
ومن منطلق الحرص على الحصول على معطيات ميدانية ومؤشرات موضوعية تخص حالة الجزيرة ومكانتها في المشهد الإعلامي العربي الذي أصبح يتسم أكثر فأكثر بتنوع ملحوظ وتنافسية عالية، قدَّرْنا في مركز الجزيرة للدراسات أهمية تقييم تجربة قناة الجزيرة الإعلامية ومسيرتها وقياس أدائها ومهنيتها، فلم نتردد في مباركة المشروع الذي تقدم به مركز عالم المعرفة لاستطلاعات الرأي بالأردن، والمتعلق بإجراء استطلاع "آراء أساتذة العلوم السياسية والإعلام في العالم العربي حول مدى مهنية قناة الجزيرة الإخبارية".
إن مباركة هذا المشروع تنبع من اعتبارين اثنين: يتمثل الاعتبار الأول في كون مركز عالم المعرفة الذي أنجز مشروع الاستطلاع، هو مركز أكاديمي مستقل يشرف عليه فريق مشهود له بالنزاهة الأكاديمية والحرفية المطلوبة.
أما الاعتبار الثاني فيتمثل في كون هذا المشروع، بالإضافة إلى أنه الأول من نوعه في العالم العربي، فإنه يستطلع شريحة مميزة يسمح لها موقعها الأكاديمي والمهني بتقييم مسيرة قناة الجزيرة الإعلامية تقييماً موضوعيا.
أنجز مركز عالم المعرفة هذا الاستطلاع بمبادرة منه، دون تدخل أي جهة مهما كانت، للتأثير على سير عملية الاستطلاع، سواء في صياغة الأسئلة أو توجيهها، أو في اختيار العينة وتوزيعها، ومحاضر الاستطلاع شاهدة على هذا الأمر.
فقد تم إنجاز هذا الاستطلاع من طرف مركز عالم المعرفة في حرية تامة واحترام كامل للأعراف الأكاديمية.
ونحن إذ نضع بين أيدي القراء الكرام نتائج هذا الاستطلاع، نتمنى أن نكون بذلك قد وضعنا لبنة في صرح الإعلام العربي وخطونا خطوة في طريق ترسيخ مكانته وتنمية دوره، كما نتمنى أن يكون الاستطلاع مساهمة جادة في إثراء النقاش وتفعيل التفكير حول دور الإعلام في البلاد العربية.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا