نحو تيار أساسي للأمة

يستند التيار الأساسي لبلد ما إلى أكبر قاسم مشترك بين التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، ويعني الملامح العامة في أطروحات تيارات عديدة ومتنوعة.
21 نوفمبر 2008
(الجزيرة)
 
طارق البشري
يستند التيار الأساسي لبلد ما إلى أكبر قاسم مشترك بين التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا البلد، ويعني الملامح العامة المتضمنة في أطروحات تيارات عديدة ومتنوعة. وهذه الملامح تختزل ما تتفق عليه هذه التيارات في سياق تعاطيها مع متطلبات المرحلة التاريخية.
 
تمثل فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى من تاريخ مصر حالة قياسية تجلي صورة مفهوم التيار الأساسي. رغم كثرة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في هذه المرحلة الحساسة، كان مطلب جلاء المستعمر يمثل أولوية ملحة وشرطا ضروريا للشروع في عملية نهوض حقيقية. ويكاد هذا المطلب يكون مشتركا بين كل القوى السياسية والاجتماعية المصرية.
 
إن التيارات السياسية والفكرية، وإن اختلفت غاياتها وتنوعت، تلتقي عند غاية النهوض باعتبارها المدخل الرئيس لمستقبل أفضل لمصر.
 
لقد شمل هذا الفهم مكونات الحركة الوطنية سواءً أكانت شخصيات تاريخية فاعلة، أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش، أم أحزابا ناشطة في الحقل السياسي آنذاك.
نعم، كان هناك اتجاه آخر يقول: إن ضعفنا هو الذي أغرى المستعمر بنا وزين له القدوم إلى بلادنا واحتلالها ومصادرة قرارها وخيراتها، ومن هنا يكون الأجدر بنا تدارك نقاط الضعف وتقوية الجبهة الداخلية أولا، ثم صنع شروط القوة لأنفسنا قبل المطالبة بجلاء المستعمر.
من الممكن أن نقر بوجود رؤيتين، فأما الأولى فمن الممكن أن نصفها بالثورية نظرا لتركيزها على مطلب التخلص من الاستعمار، وأما الثانية فمن الممكن أن ننعتها بالإصلاحية لكونها تجعل مراجعة الذات واستصلاح أحوالها على رأس غاياتها.
 
ونظرا للهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين، فقد نشب صراع بين التيارين ليستمر الصراع بينهما إلى ما يزيد عن عقد من الزمن.
 
ومع ذلك، فقد قدر للهدفين أن يلتقيا سنة 1919، فيتصالح المطلب التحرري مع المطلب الإصلاحي ليكونا الإطار العريض المستوعب لمكونات الحركة الوطنية في كنف الاحترام لكلتا الرؤيتين اللتين أصبحتا وجهين لعملة واحدة هي الحركة الوطنية.
لقد كان جدير بكل طرف أن يعترف بالقيمة الموضوعية للطرف الآخر، حيث أن كليهما عبر بطريقته ومن الزاوية التي اعتقد فيها الصلاح عن الوضع في البلاد، وعن المطالب الوطنية التي كانت ترمي إلى تحريك عجلة النهضة وتوجيهها نحو الأهداف المنشودة.
 
فالمساحة المشتركة التي نضجت من خلال التدافع والتلاقي بين النظرتين هي ما يمكن أن نطلق عليه تسمية التيار الأساسي، لأن المصريين، على اختلاف مشاربهم، كانوا معنيين فعلا بمطلبي التحرر والإصلاح، نظرا إلى أن العلاقة بين هذين القطبين هي علاقة تلازم، يقتضي الواحد منهما وجود الآخر.
بلورت تلك المرحلة التاريخية، بما شهدته من جدل ثري وساخن بين الاتجاهين أحيانا، تجربة اتسعت لتعبيرات مختلفة وجدت نقطة الالتقاء فيما بينها، حيث جسم التقاؤها ذاك تنظيما حشد الجهود منذ عام 1919 وحتى 1950 خدمة للهدف الوطني المشترك الكبير.
في هذا السياق، يمكننا أن نعطي مثالا ثانيا متعلقا بفترة الخمسينيات، أي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. حيث كان المعترك السياسي خلال تلك الأيام يجمع في ساحته أحزابا من قبيل الوفد التقليدي المتمسك بالمفاوضات كسبيل أفضل من وجهة نظره لإخراج المستعمر مع الاحتفاظ بما يعتبره مكاسب ديمقراطية لمصر.
 
كما كان يجمع في الوقت نفسه أيضا الإخوان المسلمين، الذين كانوا يطرحون الإسلام كمرجعية للحركة الوطنية.
 
وفضلا عن الوفد والإخوان، كان هناك الحزب الوطني الذي كان يرفع مطالب أكثر تحديدا وتشددا، تتعلق بالمطلب الوطني المتمثل في إجلاء المستعمر والتخلص من نفوذه.
 
كما كانت هناك أيضا الحركة الاشتراكية التي تطالب بقدر أكبر من العدالة الاجتماعية.
إن التأمل في مختلف المكونات السياسية يدفعنا إلى القول بأن التيار الأساسي لم يتشكل في تلك الآونة، الشيء الذي فوت عليها فرصة ذهبية للجمع بين محاور الوطنية والاستقلال والديمقراطية والمرجعية الإسلامية والعدالة الاجتماعية في نضالها السياسي.
 
لقد مثلت تلك المطالب العناوين الكبرى التي كان الشعب المصري يتطلع إلى تحقيقها على أرض الواقع بغية تحقيق إطار أساسي ينظم العلاقة بين هذه المكونات المختلفة ويتسع لمختلف التعبيرات دون التنكر للأولويات الوطنية التي تقتضيها المرحلة التاريخية.
شهد عام 1951 بوادر تشكيل ذلك التيار الأساسي حيث كانت القوى المضادة تدرك الدلالة القوية لانبعاث مثل هذا التيار، كما وتعي جيدا حجم التداعيات التي كان من الممكن أن تنجم عن تجسده في الواقع.
 
فبقدر ما عبرت ثورة الثالث والعشرين من يوليو/تموز عن فكرة هذا التيار وجسدتها تجسيدا منحها الزخم والطاقة اللازمين للانطلاق والاستمرار-بالرغم من العوائق الذاتية والموضوعية الكبيرة التي اعترضت مسيرتها الصعبة- كذلك دفعت الثورة باتجاه التقوقع داخل منطق الدولة والاستسلام لإكراهاتها، حتى ابتعدت من أهدافها الأولى وتنكرت لشعاراتها الواعدة.
من المؤكد أن فكرة التيار الأساسي أكبر من أن يجليها سرد لبعض الأمثلة، ولكننا بهذا السرد إنما أردنا الاستدلال على تحققها الموضوعي في لحظات معينة من التجربة السياسية في مصر الحديثة.
 
ولعل الأهم في هذا المقام هو الوقوف عند الملامح العامة لفكرة التيار الأساسي، هذه الفكرة التي قد يعبر عنها بتعبيرات مختلفة من قبيل المشروع الوطني العام للأمة.
 
إن التيار الأساسي ليس فكرة عرضية مسقطة، وإنما هي نتاج لاستقراء تجربة سياسية واسعة، ذات مكونات وعوامل متنوعة.
 
إن فكرة التيار الأساسي فكرة يستعصي تحقيقها من خلال المبادرات الفردية لكونها تولد من رحم التفاعلات السياسية والفكرية المتنوعة، حيث لا معنى لها مع غياب اختلاف ينتهي إلى صناعتها وطرحها تتويجا لجدل يحيط بها. 

 

ويمكن قراءة الكتاب أو تحميله من خلال (الرابط التالي)

نبذة عن الكاتب