بمناسبة مرور عشرين عامًا على انطلاق قناة الجزيرة، أصدرت شبكة الجزيرة الإعلامية كتابًا جديدًا باللغتين العربية والإنجليزية، "الجزيرة في عشرين عامًا: أثرها في الإعلام والسياسة والأكاديميا"، يرصد التجربة المهنية للقناة التي دَشَّنَت -في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996- فصلًا جديدًا في تاريخ الإعلام العربي الذي كان يعيش تحت رقابة صارمة لأنظمة الحكم، واستطاعت أن تعيد صياغة قواعد المهنة وممارساتها، استنادًا إلى فهم جديد ومختلف لقيم الحياد والموضوعية والجرأة في نقل الأخبار. كما تمكَّنت من الوصول إلى جمهور عالمي والتأثير في توجُّهاته من خلال تزويده بمحتوى إخباري بديل نابع من المنطقة ومُتَفَهِّم لنسيجها الثقافي والاجتماعي. فما أصبح يُصطَلح عليه بـ"الدَّفق العكسي" للأخبار، إنما هو في الحقيقة أَثَر من الآثار الكثيرة لـ"ظاهرة" الجزيرة. وإذا كانت عشرية التسعينات من القرن الماضي، عشرية "سي إن إن"، فإن العشريتين الماضيتين هما بالتأكيد عشريتا الجزيرة. فمنذ انطلاقها وهي تحتل الصدارة في نسب المشاهدة وحجم التأثير ورضى الجمهور.
ويضمُّ الكتاب، الذي حرَّره الدكتور عز الدين عبد المولى، مدير إدارة البحوث بمركز الجزيرة للدراسات، والدكتور نور الدين الميلادي، أستاذ الإعلام بجامعة قطر، فصولًا من تأليف ثُلَّة من أبرز الباحثين وأساتذة الإعلام في عدَّة مؤسسات جامعية وبحثية، ويرصد أثر الجزيرة وما تركته من بصمة في مجالات الإعلام والسياسة والأكاديميا. ويتناول، إلى جانب ذلك، علاقتها بجمهورها العربي، سواء في المنطقة العربية أم في المهجر، دون أن يغفل مشاهديها خارج الفضاء العربي. ويُقدِّم قراءة موضوعية وثريَّة لتجربة هذه "الظاهرة" الإعلامية، وهي تُكمل عقدها الثاني.
ويتناول الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان: الجزيرة وتغيير المشهد الإعلامي العربي، أثر الجزيرة في الإعلام العربي وما أحدثته من نقلة أصبح يُؤَرَّخ لها بما قبل الجزيرة وما بعدها؛ فقد شهد الإعلام العربي منذ ظهور قناة الجزيرة تغييرًا عميقًا وإن لم يكن شاملًا، انعكس في تحريره نسبيًّا من رقابة السلطة، وتجديد قوالبه الإخبارية، وظهور عدد من البرامج الحوارية السياسية المباشرة. تغيَّر الكثير من المحتوى التليفزيوني الذي أصبح المشاهد يتلقاه في الأعوام العشرين الماضية، فتغيرت علاقة الجمهور بالإعلام العربي بشكل عام، وعاد الناس يتابعون قنواتهم الإخبارية بعد أن كانوا قد هجروها بحثًا عن ضالتهم في وسائل الإعلام الأجنبية. وطرحت تلك العودة إشكالات عدَّة من بينها إشكالية التلقي بوصفها المدخل الرئيس لتبلور رأي عام جماهيري تُعرَض عليه رسائل متعددة المضامين؛ فالتعددية في الأخبار والبرامج التي أتاحتها الجزيرة لمشاهديها، ثم لحقت بها قنوات عربية وإقليمية أخرى، أصبحت سمة بارزة في الخطاب الإعلامي الذي يتلقاه ويتداوله المواطن العربي ويشارك من خلاله في الفضاء العام الجديد.
هذه النقلة التي أحدثتها الجزيرة في المشهد الإعلامي العربي أثَّرت بدورها في بيئتها السياسية الأوسع، وهو ما يعالجه الفصل الثاني بعنوان: من تغيير الإعلام إلى التأثير في السياسة. وما فعله الإعلام العربي الجديد على هذا الصعيد هو تعزيز جهود الإصلاح وتسريع وتيرة التغيير من خلال تعرية السلطة وكشف الفساد وتمكين المواطن بكسر احتكار الدولة لوسائل الإعلام، لاسيما المسموع منها والمرئي. نتج عن ذلك إعادة ترتيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم الذي تفجَّر غضبه في شكل حركات احتجاجية واسعة عُرفت بثورات الربيع العربي.
إلى جانب الإعلام والسياسة، تركت الجزيرة أثرًا آخر بالغ الأهمية في مجال البحث العلمي، تناوله الكتاب في فصل بعنوان: الجزيرة في المجال الأكاديمي. رصد هذا الفصل نحو مئة من أهم الإصدارات الأكاديمية حول الجزيرة (كتبًا ومقالات منشورة في دوريات محكَّمة وفصولًا في كتب). وحلَّل اتجاهاتها البحثية وصنَّفها، رغم ما بينها من تداخل في التخصصات، ضمن خمسة مجالات متمايزة، هي: الدراسات الصحفية، ودراسات الجغرافيا السياسية، ودراسات التواصل الثقافي، ودراسات الفضاء العام، والمناهج المستخدمة. هذا الاهتمام الكبير بالجزيرة في الوسط الأكاديمي، يُعَدُّ بالتأكيد إضافة نوعية إلى الأدبيات الراهنة في مجال الدراسات الإعلامية، ولكنه أيضًا أفاد تخصصات علمية أخرى، مثل: العلاقات الدولية، والدراسات القانونية، وعلم الاجتماع، ودراسات العولمة، والتواصل بين الثقافات كما بيَّن التحليل في هذا الفصل.
بعد رصد أثر الجزيرة في مجالات الإعلام والسياسة والبحث الأكاديمي في الفصول الثلاثة الأولى، يحلِّل الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان: الجزيرة مقاربة جديدة للمهنية الصحفية، نماذج من محتوى القناتين الإخباريتين: العربية والإنجليزية، ويبحث في السياسة التحريرية التي تحكم ذلك المحتوى. يُلقي هذا الفصل كذلك الضوء على جمهور الجزيرة، فتابع تطوره الذي تَواكَبَ مع صعود القناة كلاعب مؤثِّر في الإعلام العالمي. بدأ جمهورًا عربيًّا اجتذبته نوعية المحتوى الذي تبثه الجزيرة، والذي اختلف منذ اليوم الأول عمَّا أَلِفَه في قنواته المحلية، وحتى في بعض وسائل الإعلام العالمية. ثم توسع بالتدريج مع توسع تغطية القناة للأحداث العالمية الكبرى؛ فجاءت "عاصفة الصحراء" (1998) لتجعل من الجزيرة الوسيلة الإعلامية العربية الأبرز التي تابع المشاهد العربي من خلالها تطورات تلك الحملة العسكرية على العراق، تلتها الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)؛ فحرب أفغانستان (2001)، ثم غزو العراق (2003) وأخيرًا ثورات الربيع العربي (2011). كما يرصد الفصل حضور الجزيرة بين الجاليات العربية كقناة رئيسية لاستقاء الأخبار والمعلومات، كما يبحث في الدوافع والمحفِّزات التي تجعل عرب المهجر ينجذبون إلى القناة ويفضِّلونها على غيرها، ويحلِّل أثر تلك العلاقة في إعادة تشكيل هويتهم وربطهم بزمان ومكان مغاير لموطن إقامتهم، وفي تغيير قناعاتهم السياسية والفكرية المرتبطة بالحياة السياسية داخل بلدان المهجر نفسها.
يُختتم الكتاب بفصل يُطلُّ من خلاله على مستقبل الجزيرة والإعلام العربي. وخلافًا لما يروج من تراجع دور الإعلام التليفزيوني لصالح تكنولوجيات الاتصال المتجددة، يؤكد هذا الفصل أن جمهور وسائل الإعلام العربية سيواصل نموَّه وفقًا للطرق والأساليب التي رسَّختها الجزيرة في التعامل مع الأخبار. وسيستمر الإعلام التليفزيوني في لعب دور محوري في تغطية الأحداث، خاصة مع تزايد التعقيدات الحاصلة في البيئة السياسية العربية وشرق الأوسطية بعد الربيع، والتي ستظل مصدرًا رئيسيًّا للأخبار في العالم. غير أن تلك التعقيدات تطرح على الجزيرة وعلى الإعلام العربي عمومًا جملة من التحديات، تتعلق بقدرة المؤسسات الإعلامية التقليدية على مواكبة التطورات الجارية في بيئتها الصحفية والتي قد تفرض عليها اتخاذ خيارات صعبة بشأن تقليل التركيز على البث والاستفادة أكثر بشبكات التواصل الاجتماعي للوصول إلى جمهور يشهد هو الآخر تحولًا ملحوظًا في عاداته وطرق تلقيه للمعلومة.
معلومات عن الكتاب
العنوان: الجزيرة في عشرين عامًا: أثرها في الإعلام والسياسة والأكاديميا
تأليف: مجموعة من الباحثين
الناشر: مركز الجزيرة للدراسات- الدار العربية للعلوم ناشرون
التاريخ: 2016
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات