أوروبا والعالم العربي: رؤية نقدية للسياسات الأوروبية

يتتبَّع الدكتور بشارة خضر في كتابه "أوروبا والعالم العربي: رؤية نقدية للسياسات الأوروبية من 1957 إلى 2014"، الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات في إبريل/نيسان 2016، تاريخ العلاقات الأورومتوسطية والأوروعربية خلال العقود الخمسة الأخيرة؛ منذ إبرام معاهدة روما عام 1957 وحتى اليوم.
17cef01392e84e968038f7eac4f39555_18.jpg
(الجزيرة)

يتتبَّع الدكتور بشارة خضر في كتابه "أوروبا والعالم العربي: رؤية نقدية للسياسات الأوروبية من 1957 إلى 2014"، الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات في إبريل/نيسان 2016، تاريخ العلاقات الأورومتوسطية والأوروعربية خلال العقود الخمسة الأخيرة؛ مُتأمِّلًا في مراحلها وناظرًا في تحوُّلاتها المختلفة التي مرَّت بها العلاقة بين الجماعة الأوروبية والاتحاد الأوروبي، الذي خلَفَها، من جهة، والعالم العربي من جهة أخرى، منذ إبرام معاهدة روما عام 1957 وحتى اليوم. ويُمثِّل الكتاب بفصوله الأربعة إضافة علمية للمكتبة العربية في دراسته لتاريخ هذه العلاقة؛ إذ يضم بين دفتيه عصارة المجهود الفكري للمُؤَلِّف الذي اشتغل على هذا الموضوع في كتبه العشرة الأخيرة، لكنه يتفادى الإعادة والتكرار ويتحرَّى الدقة والصواب، بل يسعى إلى تقديم معالجة معقولة تستهدف الطلاب والدبلوماسيين والسياسيين والمسؤولين الرسميين من الاتحاد الأوروبي والعرب، والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، وهو ما يُعمِّق الوعي بسياسة الاتحاد الأوروبي ونموذجها الأمني المعتمد على الديمقراطية واقتصاد السوق، وسياقاته وأبعاده وتأثيراته ومستقبله في ظل حركة التغيير التي عاشها العالم العربي -ولا يزال- منذ أوائل العام 2011.

ويستعرض المؤَلِّف في الفصل الأول من الكتاب السياسات الأورومتوسطية والأوروعربية منذ 1957، ويرى أن جميع السياسات الأورومتوسطية من عام 1974 إلى 1980، اتسمت بالتشرذم والازدواجية وعدم الاتساق، باستثناء الحوار الأوروعربي الذي كان تطبيقًا ناجعًا للدبلوماسية متعددة الأطراف. فالسياسات الأوروبية لم تُفوِّت هدفها، المتمثل في تقليل الفجوة في الثراء بين الشمال والجنوب، فحسب، بل عجزت كذلك عن النهوض بالتكامل الإقليمي، لتبقى العلاقات متمحورة حول المركز، تمتد منه إلى سائر الفروع.

ولم يكن سِجلُّ الجماعة الأوروبية في مجال تعزيز الديمقراطية بأفضل من هذا، فعندما بغتَها الربيع العربي، جاء ردُّ فعلها سريعًا ومُشجِّعًا، بادِيَ الرأي، لكنه جاء خِلوًّا من أي عمق استراتيجي أو رؤية بعيدة المدى. ونظرًا إلى ما وقع في المنطقة العربية من أحداث جلائل منذ نهاية العام 2010، فقد خصَّصنا المبحث الثالث من الفصل الأول لردِّ فعل أوروبا حيال تلك الأحداث.

أمَّا الفصول الثلاثة الأخرى من الكتاب فهي أكثر تحديدًا، سواء في التركيز أم في التغطية الجغرافية؛ فقد خصَّص المؤلف فصلًا مستقلًّا (الفصل الثاني) عن "أوروبا والقضية الفلسطينية منذ 1957 إلى يومنا هذا"، لما تلعبه أوروبا من دور مهمٍّ في القضية الفلسطينية. وقد آثر ألا يتطرق في هذا البحث إلى الإرث التاريخي في العلاقات الأوروبية-الفلسطينية؛ إذ تناوله بتفصيل في كتابه "أوروبا وفلسطين: من الحملات الصليبية حتى اليوم".

ويلاحِظ الكاتب أن الموقف الأوروبي انتقل، وإن ببطء، من التجاهل التام للبُعد السياسي للقضية الفلسطينية في السنوات ما بين 1957-1967، إلى الاعتراف بـ"الحقوق الشرعية" للفلسطينيين عام 1973، وحاجة الشعب الفلسطيني إلى "وطن" (1977) وحقه في "تقرير المصير" الذي ينبغي التوصل إليه عبر مفاوضات تشارك فيها منظمة التحرير الفلسطينية (إعلان فينيسيا 1980)، وهو ما يتضمن قيام "دولة فلسطينية" (إعلان برلين 1999)، تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، وتكون القدس عاصمة لها، كما جاء في بيان الاتحاد الأوروبي عام 2009. وقد أدان الاتحاد الأوروبي، في الكثير من البيانات الأخرى، "الاحتلال" الإسرائيلي لأراضٍ فلسطينية وسورية، وندَّد بـ"سياسة الاستيطان"، وشدَّد على أهمية "حلِّ الدولتين"، وأصرَّ على ضرورة إقامة "دولة فلسطينية" قادرة على الحياة والعيش إلى جانب "إسرائيل".

وقد تسبَّب ذلك التحوُّل في الموقف الأوروبي في توجيه انتقادات لاذعة لسياسات الاتحاد الأوروبي من جهات شتى؛ ففيما لم ينفك الإسرائيليون وكثير من اليهود ذوي الأصول الأوروبية عن الإلقاء بالملامة على أوروبا بسبب ما تنتهجه من "دبلوماسية التهديد"، والانحياز المزعوم تجاه الفلسطينيين أو "تحوُّلها لموالاة العرب"؛ فقد رأى كثير من الباحثين الفلسطينيين والأوروبيين أن الاتحاد الأوروبي لم يزل "مغلولَ اليد"؛ فضلًا عن التباين بين التوقُّع والإنجاز في السياسة الأوروبية المعلنة، مستنكرين بذلك "إخفاق الاتحاد الأوروبي" أو "خيانة الأوروبيين" لفلسطين.

وعلى الرغم من أن سياسات الاتحاد الأوروبي لم تكن مُتَّسِقَةً ولا مترابطة، كما هي الحال على سبيل المثال في التصويت الأوروبي المميَّز في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن تحسين الوضع الفلسطيني في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، فإن بيانات، حسب الدكتور خضر، أسهمت في دعم المطالب الشرعية للفلسطينيين، كان لها دور كبير في الاعتراف العالمي بالحقوق الفلسطينية.

لكن، من جهة أخرى، يرى المؤَلِّف أن الاتحاد الأوروبي ببقائه تابعًا وفيًّا للولايات المتحدة، وشريكًا ثانويًّا في عملية السلام، وإخفاقه في إجبار إسرائيل على وقف العنف، رغم تكرار مخالفاتها للقانون الدولي، واقتصاره على تقديم المساعدة المالية للفلسطينيين دون إيجاد حلٍّ دائم لقضيتهم؛ أخفق في إظهار روح الإصرار والريادة في الشرق الأوسط، وهو ما أدى في النهاية إلى تسليم دفَّة القيادة للولايات المتحدة، وكان سببًا فيما شهدته القضية الفلسطينية من مآلات مأساوية، كاستمرار الاحتلال الإسرائيلي وتوسُّعه، وانهيار جميع مساعي السلام. 

ويركز الفصل الثالث على أقرب البلدان خارج أوروبا، وهو المغرب العربي؛ ذلك أن منطقة المغرب العربي، بسبب قربها الجغرافي، وإرثها التاريخي، وأهمية الهجرة من بلدان المغرب العربي إلى أوروبا، فهي تتصدَّر قائمة أولويات البرامج الاقتصادية والأمنية والسياسية الأوروبية، منذ عام 1957. وقد نُظِّمت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب العربي في أُطر سياسات مختلفة: سياسة المتوسط العالمية (1972)، وسياسة المتوسط المجدَّدة (1990)، وسياسة الجوار الأوروبي (2004)، والاتحاد من أجل المتوسط (2008)، وجميع هذه السياسات تضم شركاء من غير بلدان المغرب العربي ومن غير العرب. أمَّا السياسة الوحيدة التي كانت مُوجَّهة لبلدان المغرب العربي الخمسة فهي سياسة "مجموعة 5+5"، وهي صيغة دون إقليمية تُسمَّى غرب البحر المتوسط (دول المغرب العربي الخمس+فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال ومالطة).

وتقوم أطروحة الكاتب على المأزق الذي وقعت فيه السياسات الأوروبية، بوصفها مُوجَّهة بالأساس صوب التجارة والأمن، غير مكترثة اكتراثًا كافيًا بمسألة التنمية المشتركة، ولا التكامل الإقليمي، ولا دعم ديمقراطية حقيقية في المنطقة. وعلى الرغم من وجود اتفاقيات تجارية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب العربي لما يربو على خمسين عامًا، فإن عدم وجود رؤية طويلة المدى، وعدم كفاية الموارد وقصور الوثائق الرسمية، كل ذلك يُفسِّر إلى حدٍّ كبير عدم استطاعة الاتحاد الأوروبي دفع عجلة النمو في المغرب العربي.

على أن بلدان المغرب العربي تتحمَّل، في نظر الدكتور خضر، كِفلًا من المسؤولية ثقيلًا لإخفاقها في تناول التحديات الاقتصادية، ومعالجة اختلال التوازن الإقليمي والاجتماعي، وتسوية ما بينها من خلافات، وانصرافها عن تحقيق التكامل الإقليمي، وعدم استجابتها لتطلعات مجتمعاتها. وعليه، فالإخفاق في انتشال بلدان المغرب العربي مما تعانيه من ركود اقتصادي وضعف سياسي مسؤولية يتحملها كلٌّ من الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب العربي جميعًا.

وقد أفضت هذه الإخفاقات، من كلا الجانبين، إلى ظهور حالة من التشكك والإحباط، فمن العجز عن سدِّ فجوة الثراء بين الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب العربي؛ إذ قُدِّر نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي بنحو 1 إلى 10 أو قُدِّر تعادل القوة الشرائية بنحو 1 إلى 7، إلى مُضيِّ معدلات الفقر والجهل في ارتفاعها في جُلِّ بلدان المغرب العربي، فضلًا عن بطالة العنصر الشبابي التي ما فتئت تمثِّل الوقود لحالة الغضب والإحباط والثورات والرغبة في الرحيل وهجر الأوطان.

والسياسة التي يقترحها الكاتب في هذا الفصل: على الاتحاد الأوروبي أن يُصلح سياساته في منطقة المغرب العربي، من أجل مصلحته هو أولًا (إذ إن مستقبله في الجنوب)، ثم من أجل مصلحة المغرب العربي. كما أن على بلدان المغرب العربي نفسها أن تتجاوز عاداتها القديمة، فتُسوِّي خلافاتها وتنفتح في أنظمتها السياسية، ليُشارك فيها الجميع، وتُنوِّع اقتصاداتها وأسواقها الخارجية، وتدعم التكامل الإقليمي فيما بينها. فعلى الرغم من ظهور بشائر تحوُّل حذر في الأنظمة السياسية، ولاسيما بعد هبوب رياح التغيير على المنطقة في نهاية عام 2010 وأوائل العام 2011، وإتاحة الفرصة لبدء التنوُّع الاقتصادي من جديد، فإن إجماعًا على ضرورة التكامل الإقليمي لا يزال عزيز المنال، باستثناء اتفاقية أغادير عام 2004، التي جمعت مجددًا كلًّا من المغرب وتونس ومصر والأردن، وإن كانت لم تُؤْتِ أُكُلَها حتى الساعة.

أمَّا الفصل الرابع من الكتاب فيرُكِّز على مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، فدول الخليج وإن كانت بعيدة جغرافيًّا، فإنها تربطها شراكة وثيقة بالاتحاد الأوروبي، ويأتي اهتمام الاتحاد الأوروبي ببلدان الخليج لأسباب عديدة، منها:

  • ما تتمتع به تلك البلدان من أهمية اقتصادية، فهي التي تمدُّ أوروبا والعالم بأسره بالطاقة؛ فضلًا عن أنها شريك تجاري مهم للاتحاد الأوروبي، إذ قُدِّر إجمالي التجارة بينهما بـ149 مليار يورو عام 2012.
  • مجلس التعاون الخليجي هو المنظمة الإقليمية الوحيدة الفاعلة في الشرق الأوسط العربي، والحليف الذي يمكن التعويل عليه، والشريك الاقتصادي الثابت.
  • ما تقوم به هذه البلدان من استثمارات هائلة في البلدان الأوروبية، في السندات الحكومية والأسهم والعقارات.
  • ما يوجد من توافق في الآراء بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي بشأن مسائل عديدة، كاستقرار العراق، وتطوير اليمن، وتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، ومسألة عدم انتشار الأسلحة.
  • من مصلحة بلدان مجلس التعاون الخليجي أن تنوِّع حلفاءها في الخارج، لضمان الأمن طويل الأمد، وتفادي الاعتماد المفرط على ممثِّل عالمي واحد قد تصبح سياساته خادعة يومًا ما.
  • الناتج المحلي لدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة الذي قدِّر بـ1.6 تريليون دولار عام 2013. وإذ يبلغ إجمالي عدد سكان دول مجلس التعاون الخليجي 47 مليون نسمة، 50% منهم أجانب، فقد جمعت 1.5 تريليون دولار في أصول أجنبية. ولذا، فإن دول مجلس التعاون الخليجي، لما تمتلكه من ثروة، سيكون لها ثِقل في العلاقات الاقتصادية الدولية.

ويرى الدكتور خضر أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي ظلَّت دون مكانة مجلس التعاون الخليجي الاستراتيجية، وأهمية مصالح الاتحاد الأوروبي واستثماراته المالية. فعلى الرغم من توقيع اتفاقية التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي سنة 1988، فإن المفاوضات حول اتفاقية تجارة حرة لم تُحسم بعد، كما يصعب فهم انعدام التوافق الاستراتيجي الذي بات يمثِّل خطورة على كلا الجانبين. ويتوقع المؤلِّف أن أوروبا إذا لم تتمكن من أن تعتمد، في طريقة تعاملها مع الخليج، موقفًا أبرز، توضح فيه رؤيتها للمنطقة، وتُظهر بعض المرونة والقيام بدور فاعل، فإنها ستُخلي الساحة للاعبين الآسيويين الجدد في القريب العاجل. وعلى الجانب الآخر، يجب أن تُدرك دول الخليج أن اتفاقية التجارة الحرة لن تُؤتي ثمارها دون قبول ما يحيط بها من مصاعبَ وعقبات. 

معلومات عن الكتاب

العنوان: أوروبا والعالم العربي: رؤية نقدية للسياسات الأوروبية من 1957 إلى 2014

تأليف: بشارة خضر

الناشر: مركز الجزيرة للدراسات-الدار العربية للعلوم ناشرون

التاريخ: 2016

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات