يستند التيار الأساسي لبلد ما إلى أكبر قاسم مشترك بين التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا البلد، ويعني الملامح العامة المتضمنة في أطروحات تيارات عديدة ومتنوعة. وهذه الملامح تختزل ما تتفق عليه هذه التيارات في سياق تعاطيها مع متطلبات المرحلة التاريخية.
تمثل فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى من تاريخ مصر حالة قياسية تجلي صورة مفهوم التيار الأساسي. رغم كثرة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في هذه المرحلة الحساسة، كان مطلب جلاء المستعمر يمثل أولوية ملحة وشرطا ضروريا للشروع في عملية نهوض حقيقية. ويكاد هذا المطلب يكون مشتركا بين كل القوى السياسية والاجتماعية المصرية.
إن التيارات السياسية والفكرية، وإن اختلفت غاياتها وتنوعت، تلتقي عند غاية النهوض باعتبارها المدخل الرئيس لمستقبل أفضل لمصر. لقد شمل هذا الفهم مكونات الحركة الوطنية سواءً أكانت شخصيات تاريخية فاعلة، أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش، أم أحزابا ناشطة في الحقل السياسي آنذاك. نعم، كان هناك اتجاه آخر يقول: إن ضعفنا هو الذي أغرى المستعمر بنا وزين له القدوم إلى بلادنا واحتلالها ومصادرة قرارها وخيراتها، ومن هنا يكون الأجدر بنا تدارك نقاط الضعف وتقوية الجبهة الداخلية أولا، ثم صنع شروط القوة لأنفسنا قبل المطالبة بجلاء المستعمر.
من الممكن أن نقر بوجود رؤيتين، فأما الأولى فمن الممكن أن نصفها بالثورية نظرا لتركيزها على مطلب التخلص من الاستعمار، وأما الثانية فمن الممكن أن ننعتها بالإصلاحية لكونها تجعل مراجعة الذات واستصلاح أحوالها على رأس غاياتها.
ونظرا للهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين، فقد نشب صراع بين التيارين ليستمر الصراع بينهما إلى ما يزيد عن عقد من الزمن. ومع ذلك، فقد قدر للهدفين أن يلتقيا سنة 1919، فيتصالح المطلب التحرري مع المطلب الإصلاحي ليكونا الإطار العريض المستوعب لمكونات الحركة الوطنية في كنف الاحترام لكلتا الرؤيتين اللتين أصبحتا وجهين لعملة واحدة هي الحركة الوطنية.
لقد كان جدير بكل طرف أن يعترف بالقيمة الموضوعية للطرف الآخر، حيث أن كليهما عبر بطريقته ومن الزاوية التي اعتقد فيها الصلاح عن الوضع في البلاد، وعن المطالب الوطنية التي كانت ترمي إلى تحريك عجلة النهضة وتوجيهها نحو الأهداف المنشودة.
المؤلف: طارق البشري
الناشر: مركز الجزيرة للدراسات
ويمكن قراءة الكتاب أو تحميله من خلال (الرابط التالي)