الحرب على قطاع غزة

ورقة تقدم تقييماً مختصراً للحرب على غزة، بتناول الأسباب التي أدت إليها، والظروف التي أحاطت باندلاعها، والأهداف التي توخت الدولة العبرية تحقيقها منها؛ والسياق السياسي والعسكري لها، وتقييم الكيفية التي أدارتها بها الأطراف الرئيسة؛ والنتائج التي نجمت عنها، سياسياً وعسكرياً.






بشير موسى نافع


طوال أكثر من ثلاثة أسابيع (27 ديسمبر/ كانون أول 2008 – 17 يناير/ كانون ثاني 2009)، شنت الدولة العبرية حرباً بالغة العنف والبشاعة على قطاع غزة. تعتبر الحرب على غزة واحدة من أبرز التطورات في الصراع العربي – الإسرائيلي، سياسياً وعسكرياً، خلال السنوات الأخيرة.








 بشير نافع
اندلعت الحرب في سياق فلسطيني وعربي منقسم؛ وما إن انتهت المعارك حتى كانت نتائجها قد تركت آثاراً ملموسة على الوضعين الفلسطيني والعربي، على الوضع السياسي الإقليمي، وعلى التحركات الدولية في الشرق الأوسط. وقد كشفت الحرب من جديد حدود الجيش الإسرائيلي في التعامل مع قوة عسكرية غير نظامية، تستند إلى حاضنة شعبية قوية وواسعة. كما أن الحرب أعادت التوكيد على الأثر الذي يمكن أن يتركه الرأي العام العربي والعالمي على مجريات الصراع على فلسطين.

تقدم هذه الورقة تقييماً مختصراً للحرب على غزة، بتناول الأسباب التي أدت إليها، والظروف التي أحاطت باندلاعها، والأهداف التي توخت الدولة العبرية تحقيقها منها؛ والسياق السياسي والعسكري لها، وتقييم الكيفية التي أدارتها بها الأطراف الرئيسة؛ والنتائج التي نجمت عنها، سياسياً وعسكرياً.


ظروف اندلاع الحرب وأهدافها
إدارة الحرب
نتائج وتوصيات


ظروف اندلاع الحرب وأهدافها 


ليس ثمة شك في أن الحكومة الإسرائيلية بدأت التحضير لاحتمال الحرب على غزة منذ سريان الهدنة الأخيرة في يونيو/ حزيران 2008، على الأقل، بما في ذلك وضع جهاز إعلامي وعلاقات عامة كبيرين لتحضير الرأي العام الغربي لحرب على حكومة حماس "الإرهابية" في قطاع غزة. ولكن مثل هذه التحضيرات لا تعني أن الحرب كانت قررت منذ ما قبل ستة شهور من وقوعها. هناك ظروف رئيسة مهدت لاندلاع الحرب:






  • بدأت الحكومة الإسرائيلية التحضير لاحتمال الحرب على غزة منذ سريان الهدنة الأخيرة في يونيو/ حزيران 2008، على الأقل
    الأول
    ، أن رفض حماس تجديد التهدئة في 19 ديسمبر/ كانون أول (بالشروط الإسرائيلية)، وانطلاق الصواريخ وقذائف الهاون من قطاع غزة، رداً على الاختراقات والاعتداءات الإسرائيلية، شكلت تحدياً حقيقياً للدولة العبرية، لسيادتها ودورها وموقعها في المنطقة. الدور الأول لأية دولة هو توفير الأمن لشعبها، وبالرغم من أن الصواريخ والقذائف الفلسطينية لم توقع خسائر ملموسة في الأرواح، إلا أنها كانت تحدياً حقيقياً لرؤية الدولة العبرية لذاتها ودورها.


  • الثاني، أن القيادة الإسرائيلية اعتقدت أن قطاع غزة لن يكون هدفاً صعباً، وأن الحرب على القطاع ستسهم في استعادة قدرة الردع الإسرائيلية التي تقوضت خلال السنوات بعد الانسحاب من جنوب لبنان في ربيع 2000، لا سيما بعد الإخفاق العسكري الإسرائيلي في صيف 2006.


  • أما الثالث فيتعلق بالظرف المواتي الذي وفره فشل مشروع الحوار الوطني الفلسطيني بالقاهرة. فقد رأت القيادة الإسرائيلية أن رفض حماس (والجهاد) الالتحاق بالحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة على أساس من الشروط التي طرحتها الوساطة المصرية في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، أدى إلى كشف الغطاء العربي (المصري – السعودي) عن قطاع غزة؛ وأن بعض الدول العربية كانت ترغب في معاقبة حماس وإخضاعها، وبالتالي تعزيز فرص التفاوض على تسوية نهائية برعاية إدارة أوباما.


  • الدافع الرابع خلف الحرب، يتعلق ربما بمخططات إسرائيلية أبعد لتوجيه ضربة لإيران. الإسرائيليون لم يتخذوا، بعد، قراراً بتوجيه ضربة عسكرية للمنشئات النووية الإيرانية، ولكنهم لا بد أن يضعوا في حساباتهم أن توجيه مثل هذه الضربة في المستقبل قد يطلق ردود فعل من حزب الله في لبنان وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. إيقاع ضربة قاسية بالقطاع قد يدفع قوى المقاومة الفلسطينية بالتفكير ملياً قبل أن تتورط في الرد على الهجمة الإسرائيلية على إيران، إن أخِذ قرار بالهجمة.


  • المسألة الخامسة، تتعلق بالهدف المباشر للحرب، أي ما يعرف بالتكليف العسكري. الحقيقة، أن لا الحكومة الإسرائيلية المصغرة، ولا وزارة الدفاع الإسرائيلية، قد حددتا في شكل واضح وقاطع الهدف العسكري الذي كلفت قيادة المنطقة الجنوبية للجيش بتحقيقه: هل كان الهدف، مثلاً، إسقاط حكومة حماس في غزة، وفتح المجال لعودة سلطة رام الله؛ أو إضعاف حماس وإيقاع أكبر خسائر بشرية ومادية بقوى المقاومة في قطاع غزة؛ أو العودة إلى فرض احتلال إسرائيلي مباشر على القطاع؛ أو أي هدف آخر؟ الحرب، كما يقول كلاوزفيتز هي السياسة بوسائل أخرى؛ وقد استبطن الغموض الذي أحاط بالهدف العسكري المباشر غموضاً في الهدف السياسي النهائي من الحرب.

    إن من المؤكد أن إعادة احتلال القطاع لم يكن هدفاً إسرائيلياً. وبالرغم من أنه من غير الواضح ما إن كانت القيادة الإسرائيلية استهدفت إسقاط حكومة حماس، وتسليم القطاع لإدارة رام الله، فإن من الممكن أن الإسرائيليين توقعوا أن تؤدي الضربات المؤلمة لقوى المقاومة والأهالي إلى انقلاب السكان على إدارة حماس وإلى تقويض معنويات قيادة حماس، مما يدفعها إلى أن تتقدم للقاهرة برغبتها في التخلي عن الحكم المنفرد والترحيب بعودة سلطة الحكم الذاتي للقطاع. وليس ثمة شك في أن القيادة الإسرائيلية استهدفت إيقاع أكبر خسائر ممكنة بقوى المقاومة، بشرياً وتسليحاً ومعدات، ومعاقبة أهالي قطاع غزة على دعمهم لحماس وحكومتها.

إدارة الحرب 


بالرغم من أن لا حرب تجري في النهاية كما خطط لها، وأن إدارة الحرب هي شأن متغير، فيمكن القول إن سلوك الأطراف الرئيسة التي لعبت دوراً مباشراً، أو دوراً ملموساً وإن غير مباشر، في هذه الحرب (إسرائيل، حماس والجهاد وقوى المقاومة الأخرى، السلطة الفلسطينية، مصر وعدة دول عربية أخرى، الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى) قد اتسم بملامح رئيسية خلال أسابيع الحرب الثلاثة.


الدولة العبرية
السياق العسكري



نظراً لغموض الأهداف المباشرة للحملة العسكرية، وضآلة الخسائر في صفوف القوات الإسرائيلية، فقد كان بإمكان القيادة الإسرائيلية أن تعلن وقف إطلاق النار من طرف واحد، بعد ثلاثة أسابيع من بدء الحملة، وأن تدعي تحقيق النصر
بدأت الهجمة الإسرائيلية على القطاع بغارات استهدفت مقارَّ ومعسكرات الأجهزة الأمنية، وبعض مقار حركتي حماس والجهاد المعروفة للإسرائيليين.

أوقعت غارات اليوم الأول خسائر ملموسة في الجانب الفلسطيني، سواء بين صفوف خريجين جدد لقوات الشرطة، كانوا يحتفلون بتخرجهم، أو في مواقع أخرى للشرطة والقوة التنفيذية. إن كان الإسرائيليون أرادوا في ضربة الحرب الأولى إصابة عناصر قيادية وكوادر بارزة من حماس وقوى المقاومة، فإنهم لم يحققوا ذلك الهدف.


ثم تصاعدت الهجمة لتطال كافة مقار الحكم، ومساجد ينشط فيها الإسلاميون أو يعتقد بأنها تستخدم كمخازن للسلاح أو أطلقت صواريخ من جوارها أو أسطحها. كما تعرضت منطقة الأنفاق بين قطاع غزة ومصر لقصف شديد.


قد أخذت الغارات في استهداف عدد من منازل قيادات المقاومة، ونجحت في اغتيال نزار ريان، أحد قادة حماس الرئيسيين، الذي رفض مغادرة منزله، وفي اغتيال قيادي حماس ووزير داخلية حكومتها، سعيد صيام، في غارة على منزل شقيق له، كان في زيارته، ويعتقد أنها شنت بمساعدة من عملاء على الأرض.


وتطور الهجوم الإسرائيلي خلال الأسبوع الأول من الحرب إلى اختراقات برية محدودة، بهدف تقطيع أوصال القطاع، من ناحية، والتمركز في المناطق الخالية من السكان، حول المدن الرئيسية، سيما مدينة غزة والمنطقة الشمالية من القطاع، من ناحية أخرى.


في المرحلة الثانية من الهجمة (3 يناير/ كانون ثاني)، بدأت القوات الإسرائيلية في تعهد اختراقات أكبر للمناطق السكانية الرئيسة من مواقع تمركزها السابقة، بهدف تدمير قواعد عسكرية ومراكز تحكم لقوى المقاومة، وجذب أكبر عدد ممكن من المقاومين إلى مواجهة غير متكافئة. وقد استخدم الإسرائيليون في هذه الاختراقات الطائرات النفاثة والمروحية بكثافة.


ولتجنب الطرق الرئيسية التي قامت المقاومة بتفخيخها، قامت القوات الإسرائيلية بشق طريقها وسط الأحياء والمنازل، مستخدمة معدات تدمير وشق طرق ثقيلة. فأدت الهجمات الإسرائيلية إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، سيما أن قطاع غزة من أكثر المناطق في العالم اكتظاظاً بالسكان، وإلى تهجير عشرات الآلاف من السكان الذين دمرت منازلهم.


نجح الإسرائيليون في شق قطاع غزة عند محور نتساريم إلى نصفين، كما نجحوا في محاصرة مدينة غزة في شكل جزئي. وفي الأسبوع الأخير من الحرب، كانوا قد حققوا اختراقات في جباليا وبيت لاهيا وفي شرقي مدينتي رفح وخانيونس (وهي المناطق التي اعتقد الإسرائيليون أنها مراكز إطلاق الصواريخ)، كما دخلت الوحدات الإسرائيلية المدرعة أحياء الزيتون وتل الهوى وأطراف الشيخ عجلين في مدينة غزة.


وبالرغم من أن تل الهوى لا يبعد كثيراً عن وسط المدينة ومراكزها الرسمية، إلا أن القوات الإسرائيلية لم تتقدم أبعد من ذلك. وربما كان السببُ خلف ذلك القرار الخوفَ من وقوع خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي، وفي صفوف المدنيين، تساهم في انقلاب الرأي العام الإسرائيلي، وفي تعميق واتساع ردة الفعل العالمية؛ أو أن السيطرة الكاملة على المدينة كان يعني إطالة مدة احتلال القطاع، وهو الأمر الذي لم ترغب القيادة الإسرائيلية السياسية في العودة إليه.


ونظراً لغموض الأهداف المباشرة للحملة العسكرية، وضآلة الخسائر في صفوف القوات الإسرائيلية، فقد كان بإمكان القيادة الإسرائيلية أن تعلن وقف إطلاق النار من طرف واحد، بعد ثلاثة أسابيع من بدء الحملة، وأن تدعي تحقيق النصر. الحقيقة، أن نتائج الحرب العسكرية الملموسة، لم تشر إلى متغيرات جوهرية في وضع القطاع العسكري أو السياسي.


السياق السياسي



الواضح أن القيادة الإسرائيلية قررت بدء الحملة قبل تولي أوباما الرئاسة في واشنطن، نظراً لأنها كانت تثق في دعم إدارة بوش ولم تكن تريد مفاجأة الرئيس الجديد بحرب في الشرق الأوسط.
قادت الحكومة الإسرائيلية المصغرة معظم مراحل الحرب، سياسياً وعسكرياً؛ ولكن القرار في النهاية كان محصوراً بالثلاثي أولمرت، ليفني، وباراك.

والواضح أن القيادة الإسرائيلية قررت بدء الحملة قبل تولي أوباما الرئاسة في واشنطن، نظراً لأنها كانت تثق في دعم إدارة بوش ولم تكن تريد مفاجأة الرئيس الجديد بحرب في الشرق الأوسط. ولذا، فالأرجح أن الحملة خطط لها أصلاً لأن تستمر لأسابيع قليلة فقط، وليس من الصحيح أن القيادة الإسرائيلية اضطرت إلى وقف إطلاق النار لتفسح المجال الإعلامي لتولية الرئيس الأميركي الجديد.


مهما كان الأمر، فقد ارتكب الإسرائيليون خطأً بارزاً خلال التحضير للحرب، تمثل في زيارة رئيس الوزراء أولمرت، قبل أيام قليلة من بدء الحرب، للعاصمة التركية أنقره، حيث تركزت المباحثات مع رئيس الوزراء التركي حول التقدم بمباحثات السلام الإسرائيلية – السورية، التي تلعب تركيا دور الوسيط والمضيف لها.


عندما بدأت الحرب، وأخذت وسائل الإعلام في بث مشاهد الضحايا والدمار، رأت القيادة التركية أن أولمرت استخدم زيارته لأنقره لتغطية مخطط الحرب، مما اعتبر إهانة بالغة للدولة التركية.


المفارقة، أن الزيارة المشابهة التي قامت بها وزيرة الخارجية ليفني للقاهرة، قبل يومين فقط من الحرب، وتمحورت كما أعلنت القاهرة حول الوضع في قطاع غزة، والجهود المصرية لتهدئة الأوضاع، لم تثر ردود فعل مشابهة من الحكومة المصرية.


كانت الحكومة الإسرائيلية قد شكلت عدداً كبيراً من طواقم العلاقات العامة، التي كلفت بالاتصال بكافة وسائل الإعلام الغربية، لتقديم وجهة النظر الإسرائيلية وتبرير الحرب، باعتبارها خياراً اضطرت إليه الدولة العبرية للدفاع عن مواطنيها ضد صواريخ المنظمات الإرهابية التي تتحكم بقطاع غزة.


ولم يكن الخطاب الذي وجهه الإسرائيليون لأهالي القطاع مختلفاً كثيراً؛ فقد قيل للفلسطينيين إن الحرب التي يتعرضون جاءت نتيجة لسياسات حماس، وأن الدولة العبرية تعمل على مساعدة السلطة الفلسطينية؛ ودعا المسؤولون الإسرائيليون أهالي القطاع للإطاحة بحكومة حماس. ولكن ما إن اتضح أن أهالي القطاع يقفون خلف قوى المقاومة وضد العدوان، وأن صوتاً لم يصدر لانتقاد حماس، حتى تغير الخطاب الإسرائيلي وأصبح أكثر سفوراً في توكيده على تركيع قطاع غزة.


رفض الإسرائيليون، خلال زيارة ليفني لباريس (1 يناير/ كانون ثاني)، الاستجابة لدعوة الرئيس الفرنسي ساركوزي إعلان هدنة مؤقتة، للسماح بمرور قوافل الإغاثة والمعونات الطبية للقطاع؛ ولكن الواضح أن الإسرائيليين كانوا مطمئنين لموقف الدول الأوروبية الرئيسة، على الأقل إن لم تستمر الحرب طويلاً.


ولكنَّ الإسرائيليين، الذين فوجئوا كما يبدو برد فعل الرأي العام العربي والعالمي، سرعان ما سمحوا بالفعل بمرور بعض العون الطبي من الجانب المصري. كما أعلنت وزيرة الخارجية الإسرائيلية معارضتها وجود قوات رقابة دولية في قطاع غزة، تماماً كما كانت قيادة حماس والجهاد وقوى المقاومة الأخرى أعلنت رفضها لوجود هكذا قوات.


الغموض الذي شاب الأهداف المباشرة للحملة على القطاع، شاب أيضاً الإدارة السياسية الإسرائيلية لمجريات الحرب. فما إن أعلن الرئيس المصري الخطوط العامة للمبادرة المصرية، حتى أظهر الإسرائيليون استعداداً للتعامل مع المبادرة، بدون أن يحددوا موقفاً صريحاً منها، وما إن كانوا ينتظرون تحقيق أهداف بعينها، أهدافا عسكريةً أو من خلال التفاوض.


وقد كلفت الحكومة الإسرائيلية عاموس جلعاد، مساعد وزير الدفاع للشؤون السياسية، بإدارة المفاوضات مع القاهرة. ولكن ما إن اتضحت ملامح التحرك المصري حتى بدأ الخلاف بين أعضاء القيادة الإسرائيلية الثلاثية حول ما إن كان من الأفضل للدولة العبرية الوصول إلى اتفاق تهدئة طويلة ومفتوحة زمنياً (باراك)، أو عدم السعي لاتفاق تهدئة وإبقاء القطاع تحت تهديد الرد الإسرائيلي المستمر على كل إطلاق للصورايخ (ليفني).





اهتزت صورة الدولة العبرية في العالم، وعلاقاتها بتركيا قد أصابها عطب عميق، وعلاقاتها بمصر شابها قدر من فقدان الثقة، وقد استعاد قطاع غزة التضامن العربي الشعبي مع فلسطين كما لم يكن منذ عقود.
بيد أن القيادة الإسرائيلية لم تعط أهمية خاصة للجهد المصري التفاوضي، ولم يكن ثمة ارتباط منطقي بين القرار الإسرائيلي بوقف إطلاق النار، الذي أعلن في شكل منفرد، وبين نتائج الوساطة المصرية بين حماس، من جهة، والمفاوض الإسرائيلي، من جهة أخرى.

وخلال شهر من نهاية الحرب، وبعد جهود مصرية كبيرة للتوصل مع حماس إلى اتفاق تهدئة مُرْض للجانب الإسرائيلي، أعلن أولمرت ربط المفاوضات حول التهدئة بالإفراج عن الأسير الإسرائيلي لدي حماس، موحياً باستعداده ترك الملف بكامله للحكومة الإسرائيلية القادمة. وقد لجأ الإسرائيليون إلى الولايات المتحدة وأوروبا لتوفير الإطار السياسي لوقف الحرب.


فبعد يومين من إعلان الدولة العبرية وقفَ إطلاق النار وبدء الانسحاب من قطاع غزة، وقعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية ووزيرة الخارجية الأميركية بروتوكول تفاهم في واشنطن (19 يناير/ كانون ثاني)، تعهدت فيه إدارة بوش بالعمل على منع تهريب السلاح إلى قطاع غزة. وبدا وكأن هذا الاتفاق كان الإنجاز السياسي الأهم للحرب.


وبعد ثلاثة أيام (22 يناير/ كانون ثاني)، وصل إلى الدولة العبرية وفد القادة الأوروبيين، في محطتهم الثانية بعد شرم الشيخ، حيث أكدوا من جانبهم على العمل على وقف تهريب السلاح للقطاع، مؤكدين بالتالي على توفير هذا الغطاء السياسي للقرار الإسرائيلي بوقف النار والانسحاب.


خلال أيام قليلة، كانت سفن أوروبية وأميركية قد بدأت في اعتراض سفن مشتبه بها في البحرين المتوسط والأحمر، وقد أوقفت بالفعل سفينة قبرصية تحمل سلاحاً خفيفاً إيرانياً. ولكن من المؤكد أن السفينة لم تكن في طريقها إلى قطاع غزة. كما أنه من المشكوك فيه أن سلاحاً قد هرب للقطاع عن طريق البحر في السابق.


والتساؤل عن قانونية قيام سفن أميركية أو أوروبية باعتراض سفن أخرى في المياه الدولية هي ليس بالتأكيد شأناً فلسطينياً على وجه الخصوص، إذ من المفترض أن تدافع دول المنطقة عن سيادتها وأمن خطوطها البحرية. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن إدخال السلاح للقطاع عبر الحدود مع مصر قد استمر بعد نهاية الحرب، كما كان قبلها.


إضافة إلى الشواهد على أن القيادة الإسرائيلية وضعت في حسابها احتمال توجيه ضربة عسكرية لقطاع غزة منذ صيف 2008، على الأقل، فقد كانت الحرب على القطاع شأناً بسيطاً نسبياً من الوجهة السياسية.


فالحرب موجهة ضد منطقة محدودة، وضد طرف سياسي واحد، يعيش تحت حصار دولي ولا يتمتع بعلاقات حسنة مع عدد ملموس من الدول العربية. وكان يفترض بالتالي أن تكون الإدارة السياسية الإسرائيلية للحرب بالغة الكفاءة والوضوح. ولكن تلك لم تكن الصورة الذي أظهرتها القيادة الإسرائيلية للحرب. فكما لم تعلن أهداف الحرب على وجه التحديد، لم يعرف لماذا، وعلى أية أسس، أخذت القيادة الإسرائيلية قرار نهاية الحرب.


وقد اتسمت علاقات الثلاثي الإسرائيلي طوال أسابيع الحرب (وبعدها) بالتنافس والاختلاف. في الطريق، كانت صورة الدولة العبرية في العالم قد اهتزت، وعلاقاتها بتركيا قد أصابها عطب عميق، وعلاقاتها بمصر شابها قدر من فقدان الثقة، وقد استعاد قطاع غزة التضامن العربي الشعبي مع فلسطين كما لم يكن منذ عقود.


حماس وقوى المقاومة
السياق العسكري



لم تكن كفاءة عناصر المقاومة، سيما أولئك الذين جندوا بأعداد كبيرة بعد سيطرة حماس على القطاع، بمستوى المواجهة
استدعت الحرب منذ البداية مقارنة مستبطنة بين مقاومة القطاع للحملة ومقاومة حزب الله في حرب 2006. ولكن من الخطأ إجراء مقارنات بين هذه الحرب وحرب 2006. الشبه الوحيد بين الحربين هو صمود قوة مقاومة صغيرة في مواجهة جيش مدجج وقوة عسكرية متفوقة.

ولكن إمكانات المقاومين وكفاءتهم القتالية في قطاع غزة أقل بكثير من إمكانات وكفاءة مقاتلي حزب الله؛ كما أن القطاع لا يتمتع بالعمق الاستراتيجي (اللبناني، السوري – الإيراني) المباشر، الذي تمتع به حزب الله؛ وبينما قاتل حزب الله في تضاريس جغرافية بالغة الصعوبة بالنسبة للجيش الإسرائيلي، قاتلت المقاومة في قطاع غزة في تضاريس سكانية مدنية ومكتظة.


أظهر مقاتلون من كافة الفصائل مقاومة باسلة في مواجهة القوات الإسرائيلية، خاصة في مناطق شمال قطاع غزة (بيت لاهيا وجباليا)، التي كانت هدف الاختراقات الإسرائيلية البرية المبكرة.


وقد استمرت هجمات وحدات المقاومة على القوات الإسرائيلية المتمركزة في هذه المناطق حتى نهاية الحرب. كما شهدت الأحياء شرق مدينة غزة، في الزيتون والتفاح، مقاومة لا تقل بسالة. في بعض المواقع، استمر مقاتلون أياماً طويلة في خنادق تحت الأرض، يعتاشون على قليل من الماء والطعام، بانتظار فرصة سانحة لمهاجمة المدرعات أو الوحدات الإسرائيلية.


وقد اتضح أبرز الأدلة على صمود المقاومة في الاحتفاظ بالقدرة على إطلاق الصواريخ، بما في ذلك صواريخ غراد، طوال أيام الحرب، وحتى بعد ساعات من وقف إطلاق النار. ولكن أداء المقاومة العسكري شهد قصوراً أيضاً.


كان إقامة حفل لتخرج وحدات جديدة من الشرطة يوم بدء الحرب، بالرغم من تزايد المؤشرات على دنو لحظة الهجمة الإسرائيلية، خطأً فادحاً، أتاح للإسرائيليين إيقاع خسائر كبيرة بقوات الشرطة. كما أن العديد من مواقع قوات الأمن لم تكن قد أخليت.


من جهة أخرى، بدت قوى المقاومة وكأنها فوجئت بحجم ومدى الحملة الإسرائيلية، وقد فقد الكثير من العناصر والوحدات الصلة بالقيادات؛ ولم يكن ثمة تنسيق بين أفرع قوى المقاومة المسلحة، لا محلياً ولا على مستوى مركزي.


كلا العاملين الأخيرين أفقدا المقاومة القدرة على التكيف مع التكتيك الذي اتبعه الإسرائيليون في الاختراقات البرية، عندما تجنبت القوات الإسرائيلية الشوارع المفخخة وشقت طريقها وسط الأحياء وعبر المنازل.


في عدة محاور، لم تكن كفاءة عناصر المقاومة، سيما أولئك الذين جندوا بأعداد كبيرة بعد سيطرة حماس على القطاع، بمستوى المواجهة؛ وقد دخلت القوات الإسرائيلية منطقة تل الهوى، مثلاً، بدون مقاومة ملموسة من المقاتلين.


السياق السياسي
أدارت حماس منفردة تقريباً الجانب السياسي من المعركة، وأظهرت قيادتها في الداخل والخارج حنكة وصلابة، مؤيدة باصطفاف قيادة الجهاد والتنظيمات الأخرى خلف الخط الذي تقرره حماس؛ كما ارتكبت أخطاء أيضاً.


بدأ العد العكسي للحرب بفشل المشروع المصري للحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة، بعد أن قررت حماس، مؤيدة من الجهاد، مقاطعة الحوار.





المدهش، أنه بالرغم من حاجة حماس لحلفائها في المفاوضات، للوقوف أمام الضغوط الإسرائيلية والعربية، فقد خاضت المفاوضات مع الجانب المصري منفردة
لكن قيادة حماس لم توضح مطلقاً الأسس السياسية التي دفعتها لإفشال الحوار، سيما أن تصريحات د. موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، في القاهرة، قبل أيام من بدء الحوار الوطني في 9 نوفمبر/ تشرين ثاني، أوحت بأن الحوار سيعقد في موعده، وأن ما تبقى من عقبات قد ذلل بالتفاهم مع الجانب المصري. كان فشل الحوار في القاهرة إهانة بالغة للقاهرة، وساهم مساهمة مباشرة في انكشاف الغطاء العربي عن قطاع غزة.

ما إن بدأت الهجمة الإسرائيلية، ونظراً لأجواء عدم الثقة والإشارات الصادرة حول الموقف المصري السلبي، أصبح الهم الرئيس لحماس أن لا تستفرد القاهرة بقيادة التحرك السياسي ومفاوضات وقف الحرب، وأن تكون تركيا شريكاً كاملاً في المفاوضات.


وقد أحجمت حماس عن إرسال وفد تفاوضي إلى القاهرة حتى 5 يناير/ كانون ثاني، بالرغم من رغبة القاهرة في وصول مثل هذا الوفد. ولكن ما إن بدأت الاتصالات بين حماس والقاهرة، حتى نجح المصريون، بدعم أوروبي وأميركي، في تهميش الدور التركي والاستفراد بالملف التفاوضي.


في الأسبوع الثالث من الحرب، وما إن اتضحت الدعوة القطرية لمؤتمر قمة عربي طارئ، واتضح التباطؤ المصري في العمل على إنهاء الهجمة الإسرائيلية، لاحت فرصة قصيرة أمام حماس لتحديد موقفها بوضوح، ومن ثم الانسحاب من المفاوضات وتكليف مصر وتركيا وقطر بالتفاوض نيابة عن الجانب الفلسطيني.


ولكن بطء عملية اتخاذ القرار، وربما عدم تقدير كاف للمردود الإيجابي لمثل هكذا موقف، أضاع الفرصة.


بيد أن قيادة حماس أظهرت صلابة لا تخفى خلال أسابيع الحرب الثلاثة، سواء قبل أو بعد انطلاق المفاوضات في القاهرة. أخذت قيادتا حماس في الداخل والخارج موقفاً واضحاً وعلنياً بالتصميم على مواجهة الهجمة الإسرائيلية، وعززتا ثقة الفلسطينيين والشارع العربي بأحقية الموقف الفلسطيني وتصميم المقاومة على الصمود.


وما إن بدأت المفاوضات حتى رفضت حماس الخضوع لضغوط الهجمة والخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين، وقدمت اعتراضات تفصيلية على المقترحات المصرية، بغض النظر عن الزمن الذي أخذته المفاوضات.


رفضت حماس وقوى المقاومة الأخرى مقترح القوات الدولية، رفضت الموافقة على هدنة طويلة وغير محددة الأجل، رفضت الموافقة على وجود شريط عازل في الجانب الفلسطيني من الحدود مع مصر، ورفضت التعهد بعدم تهريب السلاح للقطاع، وأكدت على الارتباط بين الهدنة ونهاية الحصار، وعلى أن الحوار الوطني لابد أن ينتظر إلى ما بعد انتهاء الحرب وتوفير أجواء مواتية.


بالرغم من اصطفاف الجهاد وكافة تنظيمات المقاومة في القطاع ودمشق خلف قيادة حماس للتحرك السياسي، لم يكن هناك تنسيق دائم وتفصيلي بين حماس وحلفائها، ولا استطاعت حماس ترسيخ شعور بالشراكة لدى التنظيمات الأخرى.


ولأن متغيراً ملموساً طرأ على موقف الجبهة الشعبية خلال الحرب، قرب بينها وبين معسكر قوى المقاومة الفلسطينية، فقد كان بالإمكان تعزيز هذا المتغير وإقامة شراكة بين حماس والجهاد والجبهة الشعبية والتنظيمات الحليفة الأخرى. ولكن حركة حماس لم تبذل جهداً ملموساً في هذا الاتجاه.


والمدهش، أنه بالرغم من حاجة حماس لحلفائها في المفاوضات، للوقوف أمام الضغوط الإسرائيلية والعربية، فقد خاضت المفاوضات مع الجانب المصري منفردة.


السلطة الفلسطينية



وجه الموقف القطري، بدعوة حماس والجهاد ومجموعة تنظيمات دمشق لحضور المؤتمر، صفعة كبيرة للسلطة لم تكن في حسبانها.
كانت الحرب كارثة سياسية على سلطة الحكم الذاتي. إذ من غير الواضح ما إن كان هناك تواطؤ بين بعض أطراف السلطة والإسرائيليين في التحضير للحرب، أو أثناء أسابيعها الثلاثة.

ولكن الواضح أن الأصوات الأولى التي صدرت من بعض رموز السلطة خلال الساعات الأولى للحرب سعت إلى تحميل حماس (وليس الدولة العبرية) مسؤولية الحرب.


ولكن حجم الخسائر في صفوف الأهالي، وصمود القطاع والمقاومة، ورد الفعل الشعبي العربي والعالمي، دفع السلطة إلى إجراء تعديل على خطابها. أصبحت تصريحات الرئيس عباس والمقربين منه أكثر صراحة في إدانتها للدولة العبرية، وبدأ إطلاق الدعوات إلى حوار وطني فلسطيني وتوحيد الصف الفلسطيني.


خلف تلك الدعوات، لم تخف السلطة عزمها على منع توسيع نطاق التحرك الشعبي في الضفة الغربية؛ وفي حالات، لم تتردد حكومة رام الله في إصدار أوامر للشرطة بمواجهة المتظاهرين بقنابل الغاز.


وقد أظهر ضعف التحرك الشعبي وغياب التضامن المقاوم في الضفة الغربية حجم الدمار الذي أوقعته سلطة الحكم الذاتي في المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، سيما على مستوى تجريد الضفة من السلاح، إغلاق العشرات من المؤسسات الاجتماعية المدنية، واعتقال المئات من كوادر تنظيمات المقاومة السياسية والمسلحة.


كما أظهر بروز ياسر عبد ربه كمعبر عن موقف عباس والسلطة خلال الحرب، وغياب قيادات فتح شبه الكلي عن الساحة السياسية، حجم التهميش الذي قام به الرئيس عباس لدور حركة فتح؛ وهو الوضع الذي رسب مرارة عميقة في صفوف قيادات وكوادر فتح، وعزز التوجهات في الحركة للوصول إلى مصالحة جدية مع حماس.


ارتكزت السلطة الفلسطينية إلى الدعم المصري والأوروبي في المحافظة على دور ما لها أثناء الحرب؛ ولكن السلطة ارتكبت خطئاً كبيراً عندما خضعت للضغوط المصرية – السعودية وامتنعت عن الذهاب لقمة الدوحة. وقد وجه الموقف القطري، بدعوة حماس والجهاد ومجموعة تنظيمات دمشق لحضور المؤتمر، صفعة كبيرة للسلطة لم تكن في حسبانها.


من جهة أخرى، كانت السلطة مطمئنة إلى الموقف المصري القائم على عدم فتح معبر رفح رسمياً بدون العودة إلى اتفاقية المعبر، التي تنص على وجود مراقبين أوروبيين وإدارة وقوات أمن من السلطة الفلسطينية.


كما أن توكيد الأوروبيين والأميركيين على، وإشارات بعض دول معسكر الاعتدال العربية إلى أن إعادة إعمار قطاع غزة لن يتم بدون عودة السلطة إلى قطاع غزة، أعاد التوكيد على موقع السلطة ودورها. وكان هذا أحد أبرز أسباب انطلاق الحوار الوطني الفلسطيني بالقاهرة من جديد في نهاية فبراير/ شباط، وإن لم يكن السبب الوحيد.


مصر وانقسام الموقف العربي



شكلت الحرب تحدياً لكافة الأطراف العربية، ما يعرف بالمعتدل منها والممانع، وأن كافة الأطراف التقت في الأسبوع الأخير من الحرب على هدف وضع نهاية للحملة الإسرائيلية.
خسر معسكر الاعتدال العربي بعضاً من تماسكه حتى قبل اندلاع الحرب؛ فقد بدأ الأردن في إظهار توجسه من المفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية منذ شهور، وهو ما أدى إلى تدهور علاقة الأردن بالرئيس عباس.

فتح الأردن قناة اتصال مع حركة حماس، وأظهر ابتهاجاً مكتوماً بفشل الحوار الوطني الفلسطيني في نوفمبر/ تشرين ثاني. وقد حرص الأردن خلال الحرب على الحفاظ على مسافة بينه وبين مصر والسعودية؛ فلم توجه عمان اللوم لحماس، وأفسحت المجال للحركة الشعبية الاحتجاجية، وأرسلت مساعدات سريعة للقطاع.


ولأن ابتعاد الأردن عن الموقفين المصري والسعودي كان محدوداً، فإن دوره في الحراك الدبلوماسي كان محدوداً أيضاً؛ وسرعان ما تعرض الأردن لضغوط أعادته إلى معسكر الاعتدال العربي في أبو ظبي.


ثمة عدد من العوامل التي حددت الموقف المصري من حركة حماس وسيطرتها على قطاع غزة. بالرغم من أن القاهرة فتحت قنوات اتصال مبكرة مع حركتي حماس والجهاد، إلا أن التوجهات الإسلامية لهاتين الحركتين لا تروق للحكم في مصر؛ فضلاً عن أن حركة حماس تعتبر جزءاً من حركة الإخوان المسلمين.


وبالرغم من العلاقات الوثيقة بين حماس والجهاد، من جهة، والقاهرة، من جهة أخرى، فإن القاهرة لم تستطع تحويل الإسلاميين الفلسطينيين إلى تابع.


وقد أصبح التوجس المصري الرسمي من حماس أكثر عمقاً في العامين الأخيرين، نظراً للعلاقات الوثيقة التي تربط حركة حماس بطهران وحزب الله، والدعم الكبير الذي قدمته طهران لحكومة حماس في غزة منذ سيطرة الحركة على القطاع. وينظر في القاهرة، إضافة إلى ذلك، إلى أن حركة حماس تقف في الجانب السوري من معسكر الانقسامات العربية.


ولأن الولايات المتحدة والكتلة الأوروبية اعتبرت حركة حماس عقبة في طريق عملية السلام، فإن السياسة المصرية تقوم على محاولة إضعاف حماس ما أمكن، أو إزاحتها من سياق العملية السلمية، أو تطويعها للقبول بهذه العملية. لكل هذا، شابت العلاقة دائماً بين القاهرة وحماس الشكوك، وقد أصبحت هذه الشكوك أكثر عمقاً بعد سيطرة حماس على القطاع في صيف 2006، وتحولت إلى خصومة لا تخفى بعد إفشال الحوار الوطني في نوفمبر/ تشرين ثاني 2008.


كما موقف السلطة الفلسطينية، حملت التصريحات الأولى لوزيري الخارجية المصري والسعودي حركة حماس مسؤولية الحرب. وربما كانت كل من القاهرة والرياض تنتظران انهياراً معنوياً لدى قيادة حماس في قطاع غزة، وبالتالي انهيار حكومة حماس في القطاع.


ولكن الدولتين سرعان ما أعادتا ضبط موقفيهما بعد انطلاق حركة التضامن الشعبية، واتضاح تصميم القطاع على الصمود. وبالرغم من الزيارة المبكرة التي قام بها وزير الخارجية المصري لأنقره، وما بدا أنه تشجيع من القاهرة على أن تساهم تركيا في الجهد التفاوضي، فإن هدف القاهرة ظل الحفاظ على الملف الفلسطيني في اليد المصرية الرسمية.


ولذا، فإن المسؤولين المصريين لم يسمحوا للمفاوض التركي بدور فعال في تحديد مسائل التفاوض مع حماس أو في أن يكون شريكاً كاملاً في المفاوضات.


ولكن الأهم في الدور المصري أنه لم يخرج عن دور الوسيط بين الدولة العبرية وحماس، اللهم إلا في خطاب الرئيس مبارك الذي وجه إدانة مباشرة للدولة العبرية، وفي موقف الرفض الغاضب لبروتوكول التفاهم الإسرائيلي – الأميركي، الذي لم يخف على القاهرة أنها كانت المقصودة به.


تعرض الموقف المصري من معبر رفح لإدانات شعبية واسعة النطاق. وبالرغم من أن الموقف المصري من المعبر (القائم على أن قطاع غزة منطقة محتلة) ظل على ما هو، فقد فتح المعبر للمساعدات الإنسانية وخروج الجرحى طوال معظم أيام الحرب.


وليس ثمة شك في أن القاهرة استشعرت عبء الحرب الكبير على السياسة المصرية وصورة هذه السياسة أمام الرأي العام في مصر وفي العالم العربي، وهو ما دفع القيادة المصرية إلى محاولة بلورة مبادرة لإنهاء الهجمة الإسرائيلية ومعالجة الانقسام الفلسطيني منذ الأيام الأولى للحرب.


ولكن المبادرة المصرية لم تعلن في خطوطها العامة إلا في المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين مبارك وساركوزي في 7 يناير/ كانون ثاني.


خلال الأسابيع التالية، وبدعم أوروبي صريح، ودعم أميركي أقل صراحة، ظلت المبادرة المصرية الإطار الذي حافظ على دور القاهرة كمرجع لمفاوضات الخروج من الحرب، ومن ثم العودة إلى محاولة إنهاء الانقسام الفلسطيني، بما يوفر للرئيس عباس تفويضاً وطنياً لمواصلة مفاوضات السلام.


وقد تضمنت المبادرة ثلاثة عناصر أساسية: وقف إطلاق نار؛ اتفاق على هدنة طويلة؛ مصالحة وطنية فلسطينية. وبالرغم من عدم توفر صيغة مكتوبة للمبادرة، إلا أن الذي فهم عند إطلاقها أن العناصر الثلاثة تعبر عن تحرك تفاوضي متتال زمنياً، وأن رفع الحصار عن القطاع، بما في ذلك فتح معبر رفح، مشروط بالتقدم في التحرك السياسي التفاوضي إلى نهايته.





كان ثمة تطور لا يخفى تتركه الحرب وراءها: أن سعي القاهرة والرياض إلى تركيع سورية، وإعادة حماس إلى بيت الطاعة، لم يعد ممكناً، لا في الموازين السياسية الواقعية ولا في الزمن السياسي القريب.
الهدف الثاني للقاهرة خلال الحرب كان التحكم الكامل في التحرك العربي؛ ونظراً لأن الموقف المصري – السعودي كان يعمل على عدم تصعيد الموقف العربي السياسي، وأن الأمانة العامة للجامعة العربية أدركت حدود الموقف المصري – السعودي، فقد أثر هذا الموقف تأثيراً سلبياً وفادحاً على صورة الجامعة ومصداقيتها لدى الرأي العام العربي.

قاومت مصر والسعودية كل الدعوات المبكرة (قطر، سورية، اليمن) لعقد قمة عربية عاجلة؛ ولم يجتمع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية إلا في نهاية الأسبوع الأول من الحرب (1 يناير/ كانون ثاني). وقد اتسم لقاء الوزراء بخلافات حادة، ولم ينجم عنه سوى بيان ضعيف، تمحور حول عزم النظام العربي اللجوء إلى مجلس الأمن.


بيد أن التحدي الأبرز لما يسمى بمعسكر الاعتدال العربي جاء من إصرار قطر في الأسبوع الثالث من الحرب على عقد قمة عاجلة، مؤيدة برأي عام عربي كاسح.


ارضت مصر والسعودية عقد القمة الطارئة، بحجة انعقاد قمة عربية اقتصادية مجدولة أصلاً في الكويت خلال أيام؛ ولكن قطر ومؤيديها جادلوا بأن من غير اللائق ولا الجدي أن تناقش مسألة الحرب على غزة على هامش القمة الاقتصادية.


خلال اليومين السابقين على عقد القمة في 16 يناير/ كانون ثاني، عملت السعودية، ومصر على وجه الخصوص، على منع تحقق النصاب في الدوحة؛ كما أجبر الأمين العام للجامعة العربية والرئيس الفلسطيني عباس على عدم الالتحاق بقمة الدوحة. وقد أخذ القطريون قراراً كبيراً وغير مسبوق عندما أصروا على عقد القمة بمن حضر، وعندما دعوا تنظيمات المعارضة الفلسطينية لتمثيل فلسطين في القمة، وأعطوا خالد مشعل الكلمة الرئيسية في الجلسة الافتتاحية.


من ناحية النتائج، ربما لم تسهم قمة الدوحة في إنهاء الحرب، وكان أبرز قراراتها إغلاق السفارة الإسرائيلية في موريتانيا والمكتب الاقتصادي في الدوحة.


ولكن القمة قدمت دليلاً قاطعاً على أن الموقف المصري – السعودي لا يتحكم في القرار العربي الرسمي، ولا حتى في قرار كل الدول المعتدلة، وأن هناك بقية في النظام العربي يمكن أن ترتفع إلى مستوى الرأي العام. كما قدمت الدوحة لقوى المقاومة الفلسطينية نافذة شرعية لم تفتح لها من قبل.


الانقسام العربي الذي اتضح في مؤتمر الدوحة، عاد للبروز في قمة الكويت الاقتصادية، حيث دافع الرئيس مبارك بحدة وغضب عن الموقف المصري، وحاول الرئيس عباس أن يجاري الموقف المصري، الذي وفر له المظلة والملجأ طوال أسابيع الحرب؛ في حين فاجأ الملك عبد الله المؤتمر بخطاب تصالحي، دعا فيه إلى وضع نهاية للخلافات العربية.


ولكن بيان مؤتمر الكويت فيما يتعلق بالحرب، لم يخرج كثيراً عن الموقف المصري – السعودي، مما أثار شكوكاً عميقة في حقيقة النوايا خلف الخطاب السعودي التصالحي.


ليس ثمة شك في أن الحرب شكلت تحدياً لكافة الأطراف العربية، ما يعرف بالمعتدل منها والممانع، وأن كافة الأطراف التقت في الأسبوع الأخير من الحرب على هدف وضع نهاية للحملة الإسرائيلية.


المشكلة أن مصر والسعودية لم تدركا أن سياساتهما في تجنب المواجهة مع السياسة الأميركية، وتجنب التصعيد مع الدولة العبرية، هي التي أدت إلى استباحة المصالح العربية، وإلى حالة التشظي في النظام العربي الرسمي واستهانة أغلب دوله بدور القاهرة والرياض، وحتى إلى تعثر مسار السلام الذي تريد القاهرة والرياض التقدم به.


ولكن خلف هذا كله، كان ثمة تطور لا يخفى تتركه الحرب وراءها: أن سعي القاهرة والرياض إلى تركيع سورية، وإعادة حماس إلى بيت الطاعة، لم يعد ممكناً، لا في الموازين السياسية الواقعية ولا في الزمن السياسي القريب.


حلفاء سورية في المنطقة يثبتون في الحروب، والنوافذ الإقليمية والدولية تفتح الواحدة تلو الأخرى على دمشق، والإشارات الأميركية والأوروبية تلوح بسياسة أكثر واقعية في التعامل مع الخارطة الفلسطينية السياسية.


تركيا وإيران



اعتبرت إيران حليف حماس الإقليمي الرئيس، وهي مصدر دعم مالي كبير لحكومة حماس في غزة، كما تشكل مباشرة أو عن طريق حزب الله مصدر دعم عسكري لحماس والجهاد
بين القوى الإقليمية غير العربية، كانت الحرب تعني تركيا وإيران كما تعني أياً من الدول العربية الرئيسية. اعتبرت إيران حليف حماس الإقليمي الرئيس، وهي مصدر دعم مالي كبير لحكومة حماس في غزة، كما تشكل مباشرة أو عن طريق حزب الله مصدر دعم عسكري لحماس والجهاد. ولكن الإيرانيين رأوا منذ بداية الحرب أن ثمة حدوداً لتدخلهم في مجرياتها العسكرية والسياسية.

وبالرغم من أن الموقف المصري من معبر رفح تعرض لهجوم صارخ من زعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، فإن الخطاب الإيراني من الحرب تجنب الدخول في الجدل والخلافات العربية، معلناً ثقته في قدرة الفلسطينيين على الدفاع عن أنفسهم.


ولكن القيادة الإيرانية كانت تدرك، على أية حال، أن حركة التضامن والاحتجاج الشعبي، عربياً وإسلامياً، وأن إحراج دول الاعتدال العربية، وفشل الإسرائيليين في قطاع غزة، سيصب أيضاً في صالحها.


لم تكن تركيا حليفة لحماس، وإن حافظت على علاقات هادئة معها منذ نجاحها في الانتخابات الفلسطينية؛ وقد دعت حكومة العدالة والتنمية واشنطن والعواصم الغربية دائماً إلى الانفتاح على حماس والحوار معها، مما أسس لثقة راسخة بين الحكومة التركية وقيادة حماس. ونظراً لعلاقات تركيا الغربية والإسرائيلية، وعلاقاتها بمختلف الدول العربية، فقد كانت في وضع أفضل للعب دور بارز في التحركات السياسية التي أطلقتها الحرب.


أثارت مشاهد الحرب منذ يومها الأول غضب وحزن رئيس الوزراء التركي، الذي سارع إلى شجب الموقف الإسرائيلي بعبارات لا مساومة ولا لبس فيها.


خلال الأسابيع القليلة التالية، سيؤدي الموقف التركي من الحرب إلى تأزم في العلاقات التركية – الإسرائيلية. ولكن الحقيقة أن موقف إردوغان لم يخرج كثيراً عن سلسلة من مواقف سابقيه من القضية الفلسطينية، منذ 1967، سيما وصف رئيس الوزراء الأسبق، بولنت إيجيفيت للاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربي في 2002 بالمذبحة.


الموقف التركي من الحرب لم ينبع من موقف شخصي لرئيس الوزراء وحسب؛ فقد اتبعت حكومة العدالة والتنمية منذ توليها في 2002 سياسة خارجية تقوم على توثيق العلاقة بالجوار العربي والإسلامي لتركيا، بدلاً من الاقتصار على البعد الأورو – أميركي للسياسة الخارجية التركية.


كما حرص القادة الأتراك الجدد على بناء علاقات اقتصادية خارجية موازية؛ مما جعل تجارة تركيا الخارجية مع دول الاتحاد الأوروبي تنخفض في 2008 إلى أقل من 50 بالمائة من حجم تجارتها الخارجية للمرة الأولى منذ عقود.


وليس ثمة شك في أن حكومة إردوغان تدرك الموقع المركزي للقضية الفلسطينية، عربياً وإسلامياً؛ وقد راقبت الشعب التركي بكل أطيافه يتحرك في كافة أنحاء البلاد، تضامناً مع الفلسطينيين.


إضافة إلى ذلك، فإن رئيس الوزراء التركي، الذي تلعب حكومته دور الوسيط والمضيف للمفاوضات الإسرائيلية – السورية، استشعر الخديعة والإهانة، بعد أن استقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي في أنقره، بهدف تطوير المفاوضات مع سورية، قبل أربعة أيام من بدء الحرب.


خلال أيام قليلة من اندلاع الحرب، سارع رئيس الوزراء التركي إلى جولة أوصلته إلى عدة عواصم عربية. تلخص الموقف التركي بالعمل على وقف سريع للحملة الإسرائيلية، مبادلة الهدنة بانتهاء الحصار على قطاع غزة، وإدراج حماس في العملية السياسية.


كما استقبلت أنقره وزير الخارجية المصري، في زيارة وصفت بأنها استبطنت طلباً مصرياً من تركيا للمساعدة في جهود وقف الحرب.


وقد أعربت قيادة حماس في دمشق عن ترحيبها بوساطة تركية إلى جانب الوساطة المصرية؛ وهو ما انعكس في وصول مستشار رئيس الوزراء التركي للشؤون الخارجية، أحمد داوود أوغلو، إلى القاهرة للمشاركة في المباحثات المصرية مع وفد حماس.


وعندما بدا أن الجولة الأولى للمفاوضات بين المسؤولين المصريين ووفد حماس (5-7 يناير/ كانون ثاني) لم تؤد إلى نتيجة ملموسة، غادر أوغلو القاهرة إلى دمشق للقاء قيادة حماس، وعاد مرة أخرى للقاهرة بمقترحات جديدة.





أثار موقف حكومة إردوغان ردود فعل إيجابية واسعة النطاق في الشارع العربي وبين الأوساط العربية السياسية غير الرسمية
ولكن هناك ما يكفي من المؤشرات إلى أن الجانب المصري حرص طوال أسابيع الحرب على استبعاد أي دور فعال لتركيا، وعلى التخلص من المقترحات التركية، بهذه الصورة أو تلك. تسبب الموقف المصري في تراجع مستوى ثقة المسؤولين الأتراك بالقاهرة؛ وهو ما استدعى زيارة الرئيس مبارك لتركيا بعد نهاية الحرب، في محاولة لإعادة العلاقات إلى طبيعتها.

شهدت المدن التركية حركة تضامن واسعة النطاق مع الفلسطينيين في غزة. كما استقبلت تركيا أعداداً من الجرحى الفلسطينيين، وأرسلت مساعدات طبية وعينية أخرى إلى قطاع غزة. وحتى زوجة رئيس الوزراء ساهمت في النشاط التضامني مع قطاع غزة بدعوتها لعدد من زوجات الزعماء العرب والمسلمين للقاء تضامني في اسطنبول.


ولم تتردد حكومة إردوغان في إرسال مندوب تركي رسمي إلى قمة الدوحة، بالرغم من إدراكها للانقسام العربي حول القمة.


أثار موقف حكومة إردوغان ردود فعل إيجابية واسعة النطاق في الشارع العربي وبين الأوساط العربية السياسية غير الرسمية. أما في الأوساط العربية الرسمية، فربما استدعى إعادة نظر في تصور أنظمة الاعتدال العربية إلى أن تركيا ستكون مجرد شريك في مواجهة النفوذ الإيراني، سيما أن موقف أنقره من الحرب أظهر قدراً كبيراً من الاستقلالية عن المحاور الإقليمية.


وبالرغم من ردود الفعل السلبية التي ولدها موقف حكومة إردوغان في الأوساط العلمانية التركية والدوائر المؤيدة للدولة العبرية، فإن من الواضح أن إردوغان تلقى دعماً من الجيش، عكسه بيان مجلس الأمن القومي التركي الذي أعرب عن القلق تجاه حجم الحملة على غزة وحجم الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين.


والواضح أن شعور إردوغان بالمسؤولية والواجب تجاه الفلسطينيين في غزة تحول تلقائياً إلى فرصة سياسية، وأن شجبه القاطع للدولة العبرية سيدعم حظوظ العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية المقررة في نهاية مارس/ آذار.


وحتى في واشنطن، فإن الموقف التركي لم ينعكس سلباً على موقف إدارة أوباما من حكومة إردوغان، التي تضع في الحسبان أهمية الدور والموقع التركي في المنطقة. أما في الدولة العبرية، فبعد تعبيرات المرارة والتهديدات المبطنة، سارعت أركان الدولة العبرية إلى محاولة استيعاب الغضب التركي وتجاوز الأزمة.


الموقف التركي من الحرب، باختصار، عكس شعوراً تركياً بالثقة بالذات، وإدراكاً لما تملكه تركيا من أوراق، وما هو الأجدى للمصالح التركية القومية وإستراتيجية الانفتاح السياسي والاقتصادي على الجوار العربي والإسلامي.






القوى الدولية
تلقت الدولة العبرية دعماً واضحاً، ومنذ بدء الحرب، من إدارة الرئيس بوش، التي كانت على الأرجح على علم مسبق بالعملية الإسرائيلية ومداها.


وقد ظلت إدارة بوش على دعمها للموقف الإسرائيلي حتى النهاية. امتنعت وزيرة الخارجية الأميركية عن التصويت على مشروع قرار مجلس الأمن، الذي كان قد عدل بطلب منها، الداعي إلى وقف إطلاق النار؛ كما وقعت رايس مع ليفني بروتوكول تفاهم يلزم الولايات المتحدة بالعمل على منع تهريب السلاح إلى قطاع غزة، وهو الاتفاق الذي قدم للرأي العام الإسرائيلي باعتباره أهم إنجازات الحرب السياسية.


ولكن إدارة الرئيس أوباما، التي تولت مقاليد البيت الأبيض بعد إعلان وقف إطلاق النار مباشرة، حرصت على أن تبقي مسافة بينها وبين الموقف الإسرائيلي، بالرغم من عدم إدانتها للحرب؛ وهو ما يشير إلى أن أوباما أراد أن يبقي خياراته مفتوحة لما بعد الحرب.


بخلاف ألمانيا، التي ألتزمت موقفاً واضحاً في تأييدها للدولة العبرية، فقد كان الموقف الأوروبي أقل صراحة في دعمه للحرب؛ بل إن مسؤولين رسميين من الحزب الاشتراكي الحاكم في إسبانيا شاركوا في المظاهرات الاحتجاجية على الحرب.





الواضح أن الأوروبيين رغبوا أن تنتهي الحرب باتفاق تهدئة، ولم يكونوا سعداء بإعلان الدولة العبرية وقف إطلاق النار من طرف واحد
وفي محاولة لاستيعاب الرأي العام البريطاني، وعدم تكرار تبعية بلير العمياء لواشنطن في 2006، صرح وزير الخارجية البريطاني في مجلس العموم داعياً إلى التحقيق في الاتهامات الموجهة للدولة العبرية حول استخدام أسلحة محرمة. ولأن إدارة بوش في ساعاتها الأخيرة لم تكن في وضع يسمح لها بتحرك دبلوماسي نشط، فقد حاول الرئيس الفرنسي ساركوزي استغلال الفرصة بتوكيد موقعه كأحد القيادات الأوروبية والعالمية.

ولكن مقترحه المبكر حول وقف إطلاق نار إنساني مؤقت، لم يجد صدى لدى الإسرائيليين؛ كما أن مساعيه الكبيرة لإدخال قوة أوروبية - دولية إلى قطاع غزة (فهم أنها ستكون بقيادة فرنسية)، لم تجد ترحيباً من القاهرة (التي لا تريد شركاء في القطاع)، وقوبلت برفض قاطع من قوى المقاومة.


في النهاية، وكما بقية الدول الأوروبية، استقر التحرك الفرنسي على التسليم لمصر بقيادة الجهود التفاوضية، وتوفير غطاء غربي لهذه الجهود، بدون توجيه انتقادات ذات معنى للدولة العبرية.


خلال الأسبوع الأخير من الحرب، كانت الحكومات الأوروبية جميعها تقريباً قد استشعرت حجم التحرك الشعبي العربي والإسلامي، كما فوجئت بحجم إدانة الرأي العام الأوروبي للحرب، وحرصت بالتالي على إظهار حرصها على وضع نهاية للحرب.


والواضح أن الأوروبيين رغبوا أن تنتهي الحرب باتفاق تهدئة، ولم يكونوا سعداء بإعلان الدولة العبرية وقف إطلاق النار من طرف واحد؛ وهو ما استدعى قدوم القادة الأوروبيين للمنطقة، حيث أكدوا في شرم الشيخ على دعمهم لاستمرار الجهود المصرية، وأكدوا في اللقاء مع القادة الإسرائيليين على دعمهم للاتفاق الإسرائيلي – الأميركي لمنع تهريب السلاح إلى قطاع غزة.


التطور الهام في الوضع الأوروبي كان الدور الواسع والنشط الذي لعبته الجاليات العربية والإسلامية، إلى جانب القوى المناهضة للحرب، وهو الأمر الذي لاحظته الحكومات الأوروبية، كما الدولة العبرية. خلال الفترة القادمة سيكون هذا التطور محل بحث وتداول في الدوائر الأوروبية الرسمية، كما في الدوائر الموالية للدولة العبرية.


لم تلعب كل من الصين وروسيا أي دور مميز خلال الحرب، لعدد من الأسباب. الصين، من جهتها، لم تزل تلتزم موقف عدم التدخل النشط في الأزمات الدولية خارج نطاق منطقة نفوذها المباشر، أو تلك التي لا تمس مصالحها الحيوية حول العالم؛ أما روسيا، فقد أخذت في الحسبان التغاضي الأورو – أميركي السريع عن نتائج الأزمة الجورجية، والإشارات التي صدرت عن إدارة أوباما، الموحية بإعادة النظر في سياسة الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا الشرقية، واستبعاد انضمام جورجيا وأوكرانيا لحلف الناتو.


المتوقع، على أية حال، أن تكون الفترة الأولى من إدارة أوباما فترة تهدئة ومساومات مع الصين وروسيا، سيما أن الصين توشك أن تصبح المستثمر الأكبر في السندات الأميركية؛ وهو ما يعني في حال تحققه انخفاض الصوت الروسي – الصيني المعارض لسياسات أميركا وحلفائها.


نتائج وتوصيات 





أدت الحرب حتى قبل أن تنتهي باعتبارها فصلاً رئيساً في صراع طويل إلى نتائج من نوع آخر، تتعلق بمستقبل النظام العربي والانقسامات العربية، وبما إن كانت الحرب على قطاع غزة مقدمة لحرب أخرى
الطريقة التي وقفها الفلسطينيون في الدفاع عن أنفسهم، والكيفية التي تفاعلت بها القوى السياسية الرئيسية، ذات الدور المباشر وغير المباشر، والتي تفاعل بها الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، حددت إلى حد كبير النتيجة التي توقفت عندها المعركة العسكرية، وأفضت بالتالي إلى المعركة السياسية وما يتعلق بهذه الأخيرة من اتفاق على التهدئة، نهاية الحصار، الإعمار، مستقبل الوضع الفلسطيني الداخلي، استئناف مفاوضات التسوية، ...الخ.

ولكن الحرب، حتى قبل أن تنتهي باعتبارها فصلاً رئيساً في صراع طويل، أدت إلى نتائج من نوع آخر، تتعلق بمستقبل النظام العربي والانقسامات العربية، وبما إن كانت الحرب على قطاع غزة مقدمة لحرب أخرى. فيما يلي بعض من التوصيات والنتائج المنظورة والمتوقعة لهذه الحرب:



  1. خرجت حماس والجهاد وقوى المقاومة الأخرى منتصرة من الحرب، على أساس أن الطرف الإسرائيلي لم يحقق هدف إسقاط حكومة حماس، ولا إيقاع خسائر ملموسة بقوى المقاومة، ولا فرض الاستسلام السياسي بالقوة. وقد منحت الحرب حركة حماس مساحة أوسع من الشرعية على الصعيد العربي، ولا يستبعد أن تدفع بالقوى الدولية إلى مد جسور خفية أو ظاهرة مع حماس. ولكن بعضاً من تجاوزات عناصر حماس المسلحة خلال أسابيع الحرب، وخلال الأسابيع القليلة التالية لوقف إطلاق النار، تركت أثراً سلبياً على علاقة حماس بعموم الناس في قطاع غزة؛ هذا، في الوقت الذي تعززت فيه شعبية حماس في الضفة نتيجة لموقف السلطة المرتبك من الحرب، ونتيجة لتجاوزات أجهزة السلطة الأمنية.

    من جهة أخرى، لم تساعد حماس نفسها كثيراً عندما تصرفت بتفرد تنظيمي واضح، ولم توفر مساحة شراكة كافية ومقنعة لحلفائها، سيما الجهاد والجبهة الشعبية. في حال عقدت انتخابات فلسطينية تشريعية هذا العام، فقد تستطيع حماس تعويض خسائرها الشعبية في القطاع بدعم من حركة الجهاد، وربما ستحافظ على وضعها السابق في الضفة، أو حتى تزيد عليه قليلاً. ولكن أمام حماس مسيرة طويلة قبل أن تستطيع قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، أي أن تكون القوة القائدة في تحالف سياسي واسع، يضم قطاعات وشرائح الشعب المختلفة.


  2. تحتاج حماس، بالتالي، إلى مراجعة جوهرية لعلاقاتها بالقوى الفلسطينية الأخرى التي تلتقي معها في أغلب التوجهات، بما في ذلك الجهاد والجبهة الشعبية، بل والكتل المعارضة لسياسات السلطة في حركة فتح.

    كما تحتاج مراجعة لخطابها، الذي نحا منحاً دينياً أكثر منه سياسياً خلال الحرب، في الوقت الذي لا تحتاج حماس توكيد هويتها الإسلامية. والأهم أن علاقة حماس بعموم الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تتطلب مراجعة وإعادة صياغة، وقدراً أعلى من الانضباط.


  3. ثمة حاجة ملحة لإعادة بناء الحركة الوطنية في الضفة الغربية، وبذل جهود أكبر وأكثر تصميماً في هذا المجال. بسبب عمل السلطة الحثيث على تجريد الضفة الغربية من السلاح، واعتقال مئات الكوادر من حماس والجهاد، وتقويض المؤسسات المدنية، كان رد فعل الضفة الشعبي والمقاوم على الحرب ضعيفاً، وهو ما أظهر حجم الدور الذي قامت، وتقوم، به السلطة من أجل تفريغ الضفة من مقومات مقاومة الاحتلال. ولكن السكوت على هذا الوضع قد يخرج الضفة في النهاية من موازين العمل الوطني، وهي التي تعتبر الساحة الأهم للصراع في هذه المرحلة.





  4. أثبتت الحرب مرة أخرى أن الدولة العبرية لم تعد تمتلك قوة ردع كافية في الصراع العربي – الإسرائيلي
    أوقعت الحرب إصابات بالغة بالسلطة الفلسطينية، ولكنها لم تخرجها من ساحة الفعل السياسي. كان لارتباك موقف السلطة الفلسطينية من الحرب أثراً سلبياً على علاقتها بالشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، والمهجر؛ كما على علاقتها بقطاع من كوادر فتح. ولكن السلطة الفلسطينية ما تزال تمثل حاجة عربية رسمية، حاجة دولية، وحاجة إسرائيلية؛ ولذا، فإن السلطة ستبقى الطرف المقبول دولياً لتمثيل الفلسطينيين في المدى المنظور.

    على أن المتوقع أن لا تقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي موقف الرفض والمقاطعة القاطعة لحكومة وحدة وطنية فلسطينية قادمة، تشارك فيها حماس أو من يؤيدها، بعد أن أصبح من المستحيل تجاهل حقيقة أن سلطة رام الله لا تمثل كل الكتلة الوطنية الفلسطينية، وأن التقدم في مسار التسوية يتطلب إضفاء شرعية أكبر على السلطة عن طريق إدراج حماس ضمن جسم السلطة.


  5. أثبتت الحرب مرة أخرى أن الدولة العبرية لم تعد تمتلك قوة ردع كافية في الصراع العربي – الإسرائيلي. مشكلة الدولة العبرية في حرب صيف 2006 على حزب الله، وفي الحرب على قطاع غزة، أنها لم تواجه دولاً تمتلك آلات عسكرية وبنى تحتية باهظة التكاليف؛ وهي لهذا غير قادرة على استخدام التفوق العسكري الإسرائيلي في إيقاع خسائر تردع الطرف العربي عن المواجهة.

    الخسائر التي أصابت كلاً من لبنان وقطاع غزة طالت المدنيين في شكل أساسي، ونظر إليها من قبل الرأي العام العربي والعالمي بأنها مؤشرات على حرب غير عادلة، حرب تنتقم من المدنيين للعجز عن الوصول إلى المسلحين. خلال الأسابيع القليلة التالية لوقف إطلاق النار، استمر إطلاق الصواريخ الفلسطينية على المدن والمستعمرات الإسرائيلية، رداً على غارات إسرائيلية متفرقة؛ وبالرغم من الاتفاقات التي عقدتها الدولة العبرية مع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي للمشاركة في منع وصول السلاح إلى غزة، فقد عادت الأنفاق بين القطاع وغزة إلى العمل، بما في ذلك تهريب السلاح والصواريخ؛ واستمرت حكومة حماس في إدارة القطاع.

    عودة حماس والجهاد إلى الحوار الوطني الفلسطيني لم تأت استجابة لضغوط الحرب، على وجه الخصوص، بل هي على الأرجح استجابة للرأي العام الفلسطيني، ونتيجة لتقدير موازين القوى الإقليمية واستمرار مصر في التفرد بالملف الفلسطيني.


  6. تسببت الحرب في انكشاف المعسكر العربي الحليف للولايات المتحدة أمام الرأي العام العربي، وعجزه عن إدارة سياسته تجاه الدولة العبرية. سعي معسكر الاعتدال العربي إلى تركيع سورية، وتقليم أظافر حزب الله، وإعادة حماس إلى بيت الطاعة، أصبح أكثر صعوبة، سيما أن إدارة أوباما تبدو جادة في فتح أبواب الحوار مع دمشق.

    ولكن ذلك لا يعني أن بوادر المصالحة بين دمشق والرياض يمكن أن تستمر؛ وربما ينبغي الانتظار إلى ما بعد القمة العربية ومراقبة ما إن كان العمل من أجل مصالحة جادة وصلبة سيتقدم أو يراوح في مكانه، وما إن كانت مصر ستنضم إلى دائرة المصالحة. وتبدو جهود المصالحة أقرب إلى محاولة لإبعاد دمشق عن طهران، منها إلى الرغبة في رص الصفوف العربية لمواجهة الدولة العبرية.

    ولذا، فقد كان التطور الأكثر تعبيراً عن موقف معسكر الاعتدال هو لقاء وزراء خارجية تسع دول عربية في أبو ظبي بعد نهاية الحرب، بقيادة مصرية وسعودية، الذي جعل مواجهة النفوذ الإيراني الهدف الرئيس لدول معسكر الاعتدال؛ وهو ما يعني أن النظر إلى إيران باعتبارها خصماً ومصدر تهديد سيستمر، حتى إن حدثت المصالحة بين القاهرة والرياض، من ناحية، ودمشق، من ناحية أخرى. 





  7. تسببت الحرب في انكشاف المعسكر العربي الحليف للولايات المتحدة أمام الرأي العام العربي، وعجزه عن إدارة سياسته تجاه الدولة العبرية
    تحتاج مصر إلى مراجعة جدية وجذرية لأهدافها وللسياسات التي تتبعها لتحقيق هذه الأهداف. يتحرك النظام المصري منذ عقود من منطلق تجنب العودة إلى الحرب مع الدولة العبرية، وتعزيز مسار التسوية السلمية.

    ولكن ثمة مساحة واسعة تفصل ما بين خيار الحرب ومجرد دور الوسيط بين الدولة العبرية والعرب والفلسطينيين. لا تستطيع الدولة المصرية الحفاظ على دورها وموقعها وولاء أغلبية شعبها وهي لا تلعب أكثر من دور الوسيط، وليس الوسيط النزيه دائماً.


  8. على القوى العربية الرسمية وغير الرسمية إعطاء أهمية أكبر لملاحظة ومتابعة متغيرات الوضع الدولي خلال الفترة القادمة، سيما على صعيد العلاقات بين الدول الكبرى، وعلاقات الكبار بالقوى الإقليمية.


  9. إن من الممكن الانطلاق من الخارطة الإقليمية لفترة الحرب لبناء كتلة ثالثة، كتلة لا ترى نفسها أداة عمياء لتنفيذ السياسة الأميركية، ولا تضع نفسها في المعسكر الراديكالي، كتلة واعية بدورها وموقعها، وتمارس تأثيراً أكبر وأكثر فعالية على الوضع الإقليمي وعلى مستقبل المنطقة.

    وتعتبر الظروف الموضوعية، إقليمياً ودولياً، الآن مواتية نسبياً لبناء هذه الكتلة من أجل الوقوف في مواجهة الاستقطاب الإقليمي الذي أدى وسيؤدي بالمنطقة إلى الكوارث، والتوكيد على حق دول وشعوب المنطقة في حل مشاكلها الإقليمية والتعامل مع قضاياها ذات الطابع الإقليمي والدولي بنفسها.


  10. أظهر القرار الإسرائيلي بالحرب، والعنف الإسرائيلي الهائل الذي استخدم فيها، من جديد الموقع المركزي الذي يحتله الشرط الأمني للدولة العبرية بكل أطيافها السياسية. ما يعنيه هذا أن تصور الدولة العبرية لحل الدولتين، مهما كانت حكومتها، لن يخرج عن السقف الأمني بأي حال من الأحوال. إضافة إلى التوسع الاستيطاني المستمر، فإن التصور الأمني يعني نهاية حل الدولتين.


  11. أثارت الحرب حركة تضامن عربي وإسلامي وعالمي غير مسبوقة مع فلسطين منذ عقود، وكذبت الاستنتاجات السابقة بأن موقع فلسطين في الوعي العربي الجمعي قد تراجع. وعلى الصعيد العالمي، على وجه الخصوص، تزايدت شكوك الرأي العام الغربي في عدالة الخطاب الإسرائيلي، وتصاعدت الاتهامات الموجهة للسياسات والقادة الإسرائيليين.

    ثمة حاجة ملحة للتفكير في تأطير أكثر فعالية من المؤتمرات القومي والقومي – الإسلامي والأحزاب العربية للقوى والحركة الشعبية العربية، التي أثبتت خلال أسابيع الحرب أنها تتمتع بفعالية لا تقل عن فعالية الآباء في الخمسينات والستينات؛ وحاجة لا تقل للبناء على تصاعد تأييد الرأي العام الغربي للشعب الفلسطيني وقضيته.

_______________
باحث فلسطيني

تنويه
استعانت هذه الورقة بقراءات أولية للحرب أعدها د. حسن نافعة؛ د. وحيد عبد المجيد؛ أ. منير شفيق؛ وبورقة حول الموقف التركي أعدها كل من بولنت آراس وسلين بولمي. ولكن أياً من هؤلاء لا يعتبر مسؤولاً عن الصيغة الحالية.