مركز الجزيرة للدراسات
يمر السودان الآن بمرحلة تكاد تكون الأدق في تاريخه المعاصر، يتخللها استحقاقات تمتد حتى العام 2011، سيكون لها دور كبير في تحديد مستقبله، وقد تتعدى تداعياتها المستوى المحلي إلى المستوى الإقليمي، في الوقت الذي قد تمتد فيه انعكاساتها لتطول مصالح العديد من اللاعبين الدوليين في السودان وفي طليعتهم أمريكا وأوروبا والصين.
ثلاث محطات مفصلية سيكون على السودان التوقف عندها خلال عام ونيف تقريبا:
- الأولى: في أبريل/نيسان المقبل، وهو موعد أول انتخابات رئاسية وتشريعية عامة في البلاد منذ أكثر من عقدين من الزمان.
- الثانية: في يناير/كانون ثاني من العام 2011، وهو موعد إجراء الاستفتاء المقرر بموجب اتفاق السلام الشامل 2005 في جنوب السودان.
- أمّا الثالثة: فهي في يوليو/تموز 2011، موعد انتهاء الفترة الانتقالية ومفعول اتفاق السلام.
وبانتظار هذه الاستحقاقات الكبرى، ليس هناك مِن تصوّر واضح حول ما يمكن أن يكون عليه الوضع في السودان خلال المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذي تعكسه الغالبية العظمى من التقارير الغربية الصادرة مؤخرا بصورة جليّة؛ حيث التركيز على مرحلة ما بعد الاستفتاء من خلال اللجوء إلى أسلوب السيناريوهات متعددة النتائج، والتي بموجبها ستقوم القوى الغربية بالتصرف في الفترة القادمة.
ومن بين هذه التقارير الصادرة مؤخرا، نتناول ثلاثة تقارير قيّمة نقدم من خلالها قراءة تضيء لنا المقاربات الدولية لمستقبل السودان، وهي:
التقرير الأول: يحمل عنوان "السودان 2012: سيناريوهات للمستقبل" (1) صادر عن معهد "كلينجيندائل" الهولندي في 19 أكتوبر/تشرين أول 2009. وتكمن أهميته في أنه يرصد السيناريوهات المستقبلية للسودان بعد الاستفتاء بشكل أكثر تفصيلا من تقرير معهد الولايات المتحدة للسلام الذي يحمل عنوان "سيناريوهات للسودان"، والذي سبق له وأن نشر تقارير في غاية الأهمية في مواضيع تتعلق بالنزاعات والسلام.إمكانية بقاء النزاع في السودان باقية في معظم السيناريوهات سواء الخاصة بالانفصال أو الاتحاد، وهو ما يعني بالنسبة لنا كعرب وبالنسبة للأفريقيين ضرورة التحضير من الآن لخطة وآلية لإنهاء الأزمات السودانية. - التقرير الثاني: يحمل عنوان "قرارات ومواعيد نهائية: عام حاسم للسودان" (2)، صادر عن المعهد الملكي البريطاني "تشاتام هاوس" في يناير/ كانون ثاني 2010. وهو يتناول الموضوع السوداني بشكل شمولي إرشادي خاصة في ما يتعلق بموضوع الاستفتاء والانتخابات والسياسة الداخلية والإقليمية المرتبطة بالسودان.
- التقرير الثالث: يحمل عنوان "سيناريوهات ما بعد عام 2011 في السودان: أي دور للاتحاد الأوروبي؟" (3)، صادر عن "معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنيّة" في نوفمبر/تشرين ثاني 2009، وعلى درجة عالية من الأهمية سواءً بالنسبة للجهة الصادر عنها، أو بالنسبة إلى الكم الكبير من الخبراء الذين شاركوا في صياغته.
أمّا الملاحظات الرئيسة المشتركة التي يمكن الخروج بها بعد الاطلاع الدقيق على فحوى هذه التقارير فيمكن إيجازها فيما يلي:
- أولا: أن مسألة السودان لن تنتهي في كانون ثاني 2011 وهو موعد الاستفتاء المنتظر، وإنما سيكون ذلك التاريخ بداية لمرحلة غير واضحة المعالم بعدُ.
- ثانيا: بِغضِّ النظر عن النتيجة التي سيسفر عنها الاستفتاء؛ فإن التدخل الدولي سيظل موجودا، بل وقد يتعزز سواءً لدعم الدولة الوليدة التي ستنشأ حال قرر الجنوبيون الانفصال، أو لتحصين الوحدة السودانية حال قرروا البقاء ضمن سودان واحد.
- ثالثا: إمكانية بقاء النزاع في السودان باقية في معظم السيناريوهات سواء الخاصة بالانفصال أو الاتحاد، وهو ما يعني بالنسبة لنا كعرب وبالنسبة للأفريقيين ضرورة التحضير من الآن لخطة وآلية لإنهاء الأزمات السودانية لما لها من تأثير سلبي على الوضع الداخلي، وعلى الإطار العربي، وعلى المحيط الأفريقي.
- رابعا: فشل الأخذ بنتائج الاستفتاء في السودان، أو عدم تطبيق اتفاق السلام الشامل بشكل فعال لاسيما خلال المرحلة الانتقالية من شأنه أن ينقل الصراع بين الشمال والجنوب إلى كل المناطق ومنها دارفور وأبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وسننتقل بالتالي من الحديث عن تقسيم السودان إلى الحديث عن تفتيته.
- خامسا: مرحلة الانتخابات الحالية مرحلة مفصلية يمكن أن تحدد بشكل كبير مستقبل السودان في الفترة القادمة من ناحية كونها "ترمومتر" قياس الاستقرار السياسي والأمن المحلي من عدمه.
- سادسا: على الرغم من أنه قد يكون هناك بعض الأطراف الدولية والإقليمية التي تدفع باتجاه فصل جنوب السودان عن شماله من خلال الاستفتاء، إلا أن الكثير من هذه الأطراف قد بدأ يعيد حساباته تجاه مخاطر حصول ذلك، وانعكاساته السلبية الإقليمية والدولية لاسيما إذا وُلدت دولة ضعيفة ومفككة ومتناحرة في الجنوب من شأنها التحول إلى نموذج صومالي آخر، أو إذا وُلد سودان مفكك ومضطرب بشكل يؤدي إلى نفس النتيجة.
وفيما يلي تقسيم للقراءة على عدد من المحاور تقدّم صورة عن المقاربات الغربية المتوقعة للسودان خلال المرحلة المقبلة دون التطرق إلى القضايا الداخلية التفصيلية إلا بقدر ما يخدم القراءة؛ وذلك وفق ما يلي:
التقرير الأول
سيناريوهات ما بعد الاستفتاء
التقرير الثاني
مشاكل ترتيبات ما بعد الاستفتاء
حسابات الدول الإقليمية المجاورة للسودان
التقرير الثالث
الإستراتيجية الموحدة للتعامل مع السودان
حسابات القوى الدولية في السودان، والموقف المرتقب
أولا: سيناريو الوحدة مع الحرب
في هذا السيناريو تندلع حرب بين الشمال والجنوب وهي متشابهة ومختلفة في آنٍ معًا عن الحروب السابقة؛ فالقوات المسلحة السودانية لا تملك معاقل قوية داخل الجنوب؛ لذلك -وكما في السابق- فإن الشمال سيخوض حروبا مع الجنوب عبر الميليشيات المحلية وبالوكالة. وسيعمل حزب المؤتمر الوطني على استغلال الانشقاقات والانقسامات في الجنوب بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي، وقد يدعم أو يوظف مجموعات أخرى لتسيطر على مساحات معينة من الجنوب.
أمّا الحركة الشعبية، فإنها ستلجأ إلى إستراتيجية مماثلة في محاولة منها لدعم المتمردين في دارفور والحركات الأخرى في أقصى الشمال والشرق، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تصعيد الحرب في دارفور.
ونتيجة لهذا السيناريو، فإن وضع الحريات المدنية وحقوق الإنسان سيتدهور، كذلك الأمر بالنسبة للوضع الاقتصادي الذي سينعكس على الخدمات فيما الجزء الأكبر منه وهو الإيرادات يُخصص للحرب، كما سيعاني الجانبان من الضعف والصراع على السلطة بالتزامن مع النزاعات القبلية.
ثانيا: سيناريو الانفصال مع الحرب
على الرغم أن الشماليين قد يكونون أكثر كفاءة وتدريبا وأفصل تسليحا، إلاّ أنّ الجنوبيين قد يكونون أكثر تحفزا نظرا لإرادتهم الحازمة في الدفاع عن بلدهم الوليد. كما سيشمل القتال مناطق أخرى أو في محيطها كأبيي وجبال النوبة والنيل الأزرق. |
وقد تتوسع هذه الحرب وتزداد سخونة مع اشتراك عناصر قبلية وأخرى إسلامية، وعندها قد يكون الشمال في موقع عسكري أفضل، لكنّ الجنوب سيكون مدعوما من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي، وقد تشترك دول أخرى في دعم الانفصال بما أنه أتى بناءً على "اتفاق السلام الشامل" كأوغندا وكينا وأثيوبيا، وقد تذهب مصر إلى الأخذ بعين الاعتبار الاعتراف بذلك أيضا.
وقد يتدهور الأمر في دارفور، وتتكثف الحرب إثر استغلال المجموعات الدارفورية للوضع الراهن.
ونتيجة لهذا السيناريو، سيتضرر وضع الدولة الجديدة؛ لأن تركيزها سيكون على الحرب وذلك سيكون على حساب الأمن والاستقرار في البلاد؛ حيث سيعاني المواطنون في الجنوب من الفساد ومن تردي الوضع الاجتماعي مع تضاؤل عائدات الدولتين من النفط في الشمال والجنوب حيث مناطق النزاع والحرب.
ثالثا: سيناريو الوحدة ولا حرب
في هذا السيناريو، يتحول السودان بفضل الدستور الجديد إلى فيدرالية ديمقراطية؛ حيث يتقاسم الجميع -في الشمال والجنوب وفي دارفور وكردفان والخرطوم- الثروة والسلطة. وبالمقابل تلتزم معظم حركات التمرّد الرئيسية الكبرى في دارفور -وعلى رأسها حركة العدل والمساواة إضافة إلى معظم فصائل الجيش الشعبي لتحرير السودان والحركة الشعبية- بمناقشة اتفاق سلام مماثل أيضا مع بقاء بعض الجماعات الهامشية خارج هذا الإطار لتفضيلها العنف والنهب. وعلى الرغم من أنّ الشريعة ستبقى مطبقة على شمال السودان، إلاّ أنّ السودان بشكل عام سيكون فيدرالية علمانية، وستعتزم الحكومة فرض لوائح صارمة لمكافحة التمييز للتأكد من أن جميع السودانيين بمختلف فئاتهم على قدم المساواة أمام القانون وفي الحياة اليومية، كما أن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان ستكون مكفولة في الدستور الجديد، وفي نفس الوقت يتم توحيد القوات المسلحة السودانية.
وعلى الرغم من أن بعض النخب ستعتبر هذا السودان الجديد خسارة، بما فيها بعض نخب حزب المؤتمر الوطني، إلاّ أنّ الغالبية سترى فيه انطلاقة جديدة لآفاق جديدة مع توقعات بازدهار اقتصادي سيما وأنّ الشمال في وضع ممتاز لتلقّف هذه الانطلاقة الاقتصادية، وكذلك فإن التلاقي الاقتصادي بين الشمال والجنوب سيكون أهم بكثير من الاختلاف السياسي على أي من القضايا.
في هذا السيناريو، ينشئ السودان علاقات ودية مع جيرانه ومع الشركاء الدوليين، ويحرص على مكافحة الفساد، ورفع مستوى التعليم والتنمية في مجمل البلاد، ويتعاون مع المنظمات الدولية المعنية كالـ (UNDP)، الأمر الذي سيجذب المستثمرين الخارجيين، ويحسن وضع البلاد الاقتصادي؛ بحيث سيجعل ذلك من الوحدة أكثر إغراء بالنسبة للجنوبيين الذين سيختارونها فيما لو تقرر تأجيل الاستفتاء الشعبي حول الانفصال إلى العام 2013 بعد الانتخابات في العام 2011.
رابعا: سيناريو الانفصال ولا حرب
استنادا إلى هذا السيناريو، فإن جمهورية جنوب السودان وعلى الرغم من أنّها باتت تسيطر على مواردها، وأنّها لم تعد بحاجة إلى مشاركة الشمال فيها، إلاّ أنّ الفوضى ستعم جمهورية جنوب السودان العام 2010؛ وذلك لأنّ الصراع على السلطة والنفوذ والموارد سيندلع بين الفرقاء داخلها؛ فالحكومة التي تتمثل في الحركة الشعبية لتحرير السودان لن تزيد مساحة سيطرتها على منطقة جوبا، أما باقي البلاد فستقع تحت سيطرة الميليشيات القبلية وأمراء الحرب بمن فيهم المنشقون عن الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان.
وعلى الرغم من أنّ حكومة الخرطوم ستعزز من سيطرتها على مناطق الشمال، لكن سلطتها في الأطراف ستتآكل، وستعجز القوات المسلحة السودانية عن السيطرة على دارفور التي تدخل في فوضى عارمة، فيما النزاعات تزداد في الشرق وفي أقصى الشمال.
وكنتيجة لهذا السيناريو، يعاني السودان في الشمال والجنوب من انعدام الأمن والاستقرار؛ مما يدفع المستثمرين بعيدا، ويخفّض من إنتاج النفط في البلاد، ويجعل الزراعة أمرا مستحيلا، وتشهد التجمعات السودانية في الأطراف عمليات تدفق وهجرة على الدول المجاورة مثل: مصر، وأثيوبيا، وكينيا، وأوغندا؛ مما يدفع بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة للإعلان عن أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
مشاكل ترتيبات ما بعد الاستفتاء
على افتراض أنّ الانفصال قد تم بشكل سلمي ومن دون السيناريو الأخيرة الوارد أعلاه، أو أنّ الجنوب قرر الاتحاد؛ فإن ذلك لا يعني نهاية المشكلة؛ إذ سيكون على جنوب السودان وشماله أن ينهيا ترتيبات الفترة الانتقالية التي ستتخللها العديد من المشاكل والصعاب خاصة في المجالات التالية:
- الترتيبات الأمنية: للسودان ثلاثة جيوش مؤلفة تحديدا من مجندين من الطرفين الأول والثاني، وتقتضي اتفاقية السلام الشامل أن تتحول القوات المشتركة المندمجة إلى جيش وطني في غضون ثلاثة أشهر إذا أدّى الاستفتاء في الجنوب إلى تجديد الوحدة، وهو أمر في غاية الصعوبة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الطرفين خاضا حروبا لمدة عامين.
- تقاسم عائدات النفط: فهناك حاجة إلى اتفاق لمشاركة وتوزيع العائدات المتعلقة بإنتاج النفط الحالي والمستقبلي، كما أن هناك حاجة إلى اتفاق فيما يتعلق بعائدات النفط الشمالي لصالح الجنوب، وحصة النفط الجنوبي لصالح الشمال.
- المياه: لطالما كان النيل مصدرا للنزاعات غالبا، لكن باستطاعة حوض النيل أيضا أن يكون وسيلة لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول التسعة الممتدة من منطقة البحيرات الكبرى إلى البحر المتوسط؛ فاتفاقية مياه النيل للعام 1959 أعطت دولة المصب (مصر) حصّة أكبر بكثير من مثيلتها لدول المنبع. وعلى الرغم من ذلك، فإن السودان يعطي جزءًا من حصته الصغيرة إلى مصر، كما يقوم بتأجير أراضٍ زراعية لمزارعين صغار، وكذلك إلى شركات مصرية لزيادة الإنتاج الزراعي، علما أنّ العديد من روافد النيل تمر من خلال جنوب السودان.
- أصول الدولة: إذ يجب أن يتم تقسيم أصول الدولة السودانية بين الطرفين سواءً الأصول والبنية التحتية الداخلية أو الأصول الخارجية.
- المستحقات المالية: تبلغ ديون السودان الحالية حوالي 34 مليار دولار، وقد تمّ استخدام جزء منها في تمويل استثمارات للجنوب، وجزء منها لتمويل الحرب هناك. وعليه، فإن الجنوب قد يحمّل الحكومة المركزية هذه الديون في مقابل تنازلات أخرى تقدّم في قضايا أخرى، على اعتبار أنّ موقفه الدبلوماسي سيشجع على إعفائه من الديون.
- المعاهدات: التصديقات والتحفظات.
- العلاقات الخارجية: العلاقات مع الدول المجاورة، العلاقات مع الهيئات الحكومية الدولية (الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية وغيرها)، العلاقات مع دول ذات استثمارات كبيرة في السودان (الصين، والهند، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتّحدة).
- العملة والنظام المصرفي: يوجد حاليا في السودان عملة واحدة، لكن النظام المصرفي في الشمال نظام إسلامي بينما يعتمد الجنوب على النظام المصرفي العادي، كما أن العائدات التي يتم تحويلها الآن من الشمال إلى الجنوب تتم بالعملة السودانية بينما كانت في المرحلة الانتقالية بالدولار.
- الجنسية: وفقا لحزب المؤتمر الوطني؛ فإن الجنوبيين المقيمين في شمال السودان سيخسرون المواطنة إذا تمّ الانفصال. وعليه، فإن حقوق العمل والملكية والإقامة والدخول قد تتعرض لخطر إذا لم يتم الاتفاق على ذلك.
- العاصمة الوطنية: إذ سمح اتفاق السلام الشامل بإعفاء غير المسلمين في العاصمة الوطنية من العقوبات ذات الطابع الإسلامي أو من عقوبات الحد الشرعي.
- المصالحة الوطنية: ويتطلب اتفاق السلام الشامل من الأطراف الشروع في تحقيق مصالحة وطنية وتضميد للجراح في جميع أنحاء البلاد. ولم يحصل حتى الآن أي تقدم على هذا الصعيد، وفي حال تحقق الانفصال سيكون على الطرفين تحقيق مصالحة داخلية في الشمال، وفي الجنوب أيضا.
حسابات الدول الإقليمية المجاورة للسودان
من شأن سوء إدارة الفترة الانتقالية أن يؤدي إلى عدم استقرار في السودان بما قد ينقل الصراع إلى الدول المجاورة التي ستواجه عددا من التحديات والفرص من خلال تنافسها على المصالح الخاصة بها في السودان. لكن باستطاعة هذه الدول المجاورة أيضا أن توفّر فرصة للسلام والاستقرار في السودان.
فعلى سبيل المثال، من الممكن لاتفاقية العام 2004 والمطبقة جزئيا بين السودان ومصر أن تصبح نموذجا إيجابيا لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين مواطني شمال السودان وجنوبه حال توصل الاستفتاء الشعبي إلى الانفصال؛ إذ تتيح هذه الاتفاقية لمواطني كلا البلدين التنقل والإقامة والتملك والعمل في الدولة الأخرى؛ ولذلك فإن الاهتمام بالأطر والمواقف الإقليمية من الممكن أن يساعد السودان على تجاوز المراحل الخطرة، خاصة إذا فهمنا حسابات كل طرف فيه.
مصر: يرتبط التزام مصر بوحدة السودان بحسابات متعلقة بأمن مياه النيل، وبالنظرة العربية-الإسلامية إليه. كما من الملاحظ أن سوق العمل مترابطة بين البلدين، لكن من الملاحظ أيضا أن مصر تخلت في الآونة الأخيرة عن معارضتها العلنية لانفصال الجنوب، وقامت بالاستثمار في تطوير مشاريع في الجنوب، مثلما تدفقت استثمارات من دول الخليج العربي والتي فاقت بحجمها الأهمية الاقتصادية لمصر في هذا الموضوع.من شأن سوء إدارة الفترة الانتقالية أن يؤدي إلى عدم استقرار في السودان بما قد ينقل الصراع إلى الدول المجاورة التي ستواجه عددا من التحديات والفرص من خلال تنافسها على المصالح الخاصة بها في السودان. - أثيوبيا: على الرغم من دعم أثيوبيا لحركة التحرير الشعبية في جنوب السودان، إلا أنها تفضل على الأرجح سودانا موحدا؛ لأن حدودها مع الشمال أو الجنوب استفادت وستستفيد بطريقة أو بأخرى من الفورة النفطية السودانية، كما أنها تعتقد أن الوحدة ستساعد على الحد من توسع الإسلاميين السودانيين إلى حد ما.
- أريتريا: لأريتريا سياسة خارجية نشطة وهي تسعى إلى ممارسة تأثير ونفوذ في السودان، وقد تحالفت مع الحركة الشعبية في الجنوب خلال فترة توتر العلاقة مع الخرطوم. وعلى الرغم من أنّ كل من أريتريا وأثيوبيا ظلتا تشتركان في معارضتهما لحكومة الخرطوم إلى أن اندلعت الحرب بينهم في العام 1998، إلا أنه من الملاحظ أن كلا منهما بدأ يسعى إلى علاقات حسنة مع السودان منذ ذلك التاريخ.
- ليبيا: وهي تبحث أيضا عن نفوذ لها في السودان ولاسيما في دارفور؛ حيث يتواجد مراقبون عسكريون ليبيون وأريتريون على الحدود. ولليبيا علاقات طويلة الأمد مع جنوب السودان الذي حظي بدعم منها للانفصال وفق العديد من التقارير السابقة، على الرغم من أن الزعيم الليبي صرّح مؤخرا بأن جنوب سودان مستقل سيكون دولة ضعيفة جدا وهو ما ينفي ما سبقه.
- كينيا وأوغندا: وتُعتبران الوجهة الرئيسية الأولى لشبكة الطرق الفقيرة جدا والمتخلفة في جنوب السودان، وكلاهما يستفيد اقتصاديا من تموضع جنوب السودان بعيدا عن الخرطوم. وقد سعت السياسة البريطانية سابقا في العشرينيات من القرن السابق لدمج جنوب السودان في إمبراطورية شرق أفريقيا لكن دون جدوى، ولا شك أن بعض دبلوماسيي شرق أفريقيا يريدون أن يروا السودان أو جنوب السودان في المستقبل في مجموعة دول شرق أفريقيا بغضِّ النظر عن النتيجة.
- أمّا بالنسبة لجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى على الحدود مع جنوب السودان فهما مشغولتان في نزاعات داخلية.
- تشاد: وتدعم حركة العدل والمساواة الفاعلة عسكريا في منطقة دارفور والتي تتمتع بصلات مع جهات إسلامية، وبقاعدة إثنية ضيقة. وعلى الرغم من أن نشاطها الأساسي في دارفور إلا أن ممثليها السياسيين يسعون إلى تغيرات شاملة في شمال السودان بأكمله. في المقابل، فإن المعارضة التشادية المسلحة التي تتمركز في دارفور تهدد النظام في أنجامينا؛ ولذلك فإن حدث انفصال في جنوب السودان فمن الممكن أن ينعكس ذلك سلبا على الأوضاع في دارفور، وبالتالي على العلاقة مع تشاد.
- الصين والهند: على الرغم من أنهما ليستا دولتين مجاورتين للسودان، لكنّ مصالحهما التجارية حاضرة بقوة، وهما من الدول التي تتمتع بمصالح استثمارية كبيرة في السودان؛ فالصين ساعدت الحكومة السودانية على تطوير صناعة النفط لديها خلال مرحلة معينة من الحرب الداخلية، وهي الآن تعتمد بشكل كبير على النفط السوداني وبالتالي ليس لديها أي مصلحة في تدهور الأوضاع في السودان، بل تحاول المحافظة على الاستقرار، كما أنها تتمتع بعلاقات مباشرة مع حكومة جنوب السودان، وقامت بدعم خزينتها المالية بقروض خلال فترة انخفاض سعر النفط في الفترة الأخيرة. وموقع السودان كبلد يخضع لعدد من العقوبات سواء التجارية المفروضة من الولايات المتّحدة، أو الدولية من قبل الأمم المتحدة، أو العسكرية (حظر صادرات الأسلحة) من قبل الاتحاد الأوروبي، يغري عددا من المستثمرين الدوليين للاستفادة من ظرف العقوبات لتحقيق أرباح.
الإستراتيجية الموحدة للتعامل مع السودان
لا شك أن انفصال الجنوب عن الشمال بعد الاستفتاء هو أمر محتمل جدا في العام 2011، أما المرحلة الانتقالية المتعلقة بهذا الإطار فقد لا تمر من دون عنف كما سبق توضيحه، وهو الأمر الذي يجب استباقه بمبادرة سلام إقليمية ودولية طموحة يلعب الاتحاد الأوروبي من خلالها دورا استباقيا؛ لأنه إذا لم تتم معالجة التحديات العاجلة في السودان؛ فإن العواقب قد تكون وخيمة فيما يتعلق بالأمن والاستقرار على مستوى المناطق الإستراتيجية المتاخمة لأوروبا أي في أفريقيا والشرق الأوسط.
وعليه، فإن تبني إستراتيجية موحدة تجاه السودان من قبل اللاعبين الدوليين خلال هذه المرحلة أمر في غاية الأهمية والإلحاح، وهو ما يجب الدفع باتجاهه، على أن تتضمن الإستراتيجية:
- أولا: الحرص على إنهاء المهمة المتعلقة بتطبيق اتفاق السلام الشامل بشكل سليم، وتسهيل عملية خروج جميع الفرقاء من اتفاق السلام بنجاح بعد انتهائه من خلال العمل على حصول انتخابات ذات مصداقية عالية، وضمان ممارسة الجنوبيين لأهم حق مكتسب في اتفاق السلام بالنسبة لهم وهو الحق في تقرير مصيرهم من خلال الاستفتاء.
- ثانيا: المطالبة بالحد الأدنى المقبول لتنظيم انتخابات نزيهة تشمل دارفور، وهي الطريقة الوحيدة لتحقيق الأمن والاستقرار في شمال السودان أيضا.
- ثالثا: على اللاعبين الخارجيين تحضير ومناقشة بروتوكول إضافي يتم ضمه إلى اتفاق السلام الشامل، أو تجهيز إطار تنفيذي للاستفتاء الشعبي يتم بموجبه ضمان الانتقال السلمي والتدريجي للسيادة بين الخرطوم وجوبا، ومن الأفضل مناقشة هذا الطرح في أسرع وقت ممكن.
- رابعا: على أعضاء مجلس الأمن أن يعيدوا النظر في إعادة تركيبة بعثة الأمم المتحدة في السودان؛ وذلك لدعم عملية الانتقال من شبه الحكم الذاتي إلى الحكم المستقل والكامل تماما، وربما تعلم الدروس الايجابية والسلبية من التجارب في كوسوفا وتيمور الشرقية.
حسابات القوى الدولية في السودان والموقف المرتقب
أولا: الدور الأمريكي
لا شك أن الولايات المتحدة حظيت وتحظى بدور أساسي وقيادي في العملية الجارية في السودان منذ إقرار اتفاق السلام الشامل؛ ففي المرحلة السابقة كانت تسعى إلى سد الثغرة بين أطراف النزاع لتطبيق اتفاق السلام الشامل بشكل كامل، كما كانت تنظم النقاشات الجادة بشأن ترتيب أمور ما بعد الاستفتاء المقرر، وكان الهدف من هذه التحركات بالنسبة للحكومة السودانية المساعدة على رفع العقوبات الأمريكية، وتحسين العلاقات السودانية-الأمريكية خاصّة بعدما كانت الأخيرة قد وعدت بالفعل برفع العقوبات بعد توقيع اتفاق السودان، لكنّ المرحلة اللاحقة شهدت تعليق الحكومة الأمريكية لوعدها لاسيما بعد تطورات دارفور السلبية.
ويعاني الوضع الاقتصادي السوداني من التدهور حاليا، ويبدو أن حزب المؤتمر الوطني يريد رفع العقوبات الأمريكية الآن أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يوفر للولايات المتّحدة فرصة مثالية للعب دور إيجابي بنّاء في تحقيق الإستراتيجية الموحدة أعلاه؛ إذ إن المبادئ والأهداف الحالية للسياسة الأمريكية الراهنة تجاه السودان عامة وشاملة بشكل يسمح لها بأن تأخذ زمام المبادرة، وتنفّّذ الإستراتيجية المقترحة.
لكن ومن أجل أن تكتسب الزخم المطلوب، فإن الحكومة الأمريكية بحاجة إلى العمل مع شركاء لإعادة إنتاج رؤية مشتركة لمستقبل السودان. كما يجب تأمين الإجماع حول هذه الإستراتيجية من أجل تحقيق الأهداف المنشودة، وتأمين الضمانات اللازمة أيضا للصين والمستثمرين الآخرين الكبار كالهند وماليزيا كما لكل دول المنطقة (أعضاء إيغاد) وجامعة الدول العربية، لإقناعهم بأن هذه الإستراتيجية هي أفضل خارطة طريق لتحقيق الاستقرار في السودان وحماية مصالحهم فيه.
ولا شك أن على الولايات المتحدة أن تظهر لهؤلاء اللاعبين أن إستراتيجيتها لا تهدف بالتحديد إلى تغيير النظام في الخرطوم (وهو الأمر الذي لن يدعمه العديد من اللاعبين في هذه المرحلة)، وإنما تهدف إلى الحصول على أعلى ثمن ممكن مقابل تطبيع العلاقات الدبلوماسية.
ثانيا: الدور الصيني
من الملاحظ أن الصين شرعت في الآونة الأخيرة في بناء علاقات منفصلة مع جنوب السودان بشكل تدريجي، لارتباط مصالحها مع حكومة الجنوب بالإنتاج النفطي للإقليم. |
لكن من الملاحظ أن الصين شرعت في الآونة الأخيرة في بناء علاقات منفصلة مع جنوب السودان بشكل تدريجي، لارتباط مصالحها مع حكومة الجنوب بالإنتاج النفطي للإقليم. كما أسهمت الصين في بعثة الأمم المتحدة في منطقة "واو"، وتتجهز لفتح قنصلية لها في "جوبا"، وهو ما يعني التمهيد لتوطيد العلاقة بناء على المصالح المشتركة في حال تقرر انفصال جنوب السودان في الاستفتاء المزمع إجراؤه في 2011، خاصة بعد الزيارة التي قام بها رئيس الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان والنائب الأول لرئيس الجمهورية السودانية سيلفا كير إلى بكين في يوليو/تموز 2007 وهي الزيارة الثانية له خلال ثلاث سنوات.
وكما الولايات المتّحدة والصين، يجب الأخذ بعين الاعتبار الدور الروسي العائد إلى أفريقيا وضرورة انخراطه بالوضع السوداني.
ثالثا: الدور الأوروبي
أمّا الاتحاد الأوروبي، فإن دوره المتوقع في هذا الإطار يعتبر حاسما، ذلك أن العديد من دول الاتحاد الأوروبي منخرط فعلا على عدة مستويات في السودان؛ ولذلك يتوجب عليها أن تستخدم نفوذها وأوراقها بالكامل؛ فالدور الأوروبي -سواء بالنسبة إلى عمليات الوساطة والضغط السياسي الممارَس من أجل التحضير لإستراتيجية خروج ناجحة لاتفاق السلام الشامل، أو بالنسبة لعملية دارفور والتحضير للتعايش السلمي بين الشمال والجنوب ما بعد العام 2011- موزع بين بريطانيا التي هي جزء من "الترويكا الدولية" مع الولايات المتّحدة والنرويج، وبعض الدول الأخرى كفرنسا وأيضا بريطانيا(أعضاء في مجلس الأمن) والنمسا، وبين المبعوثين الخاصين الستة (E6) الذين يتوزعون على الولايات المتّحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي. فيما الدول والأجهزة الأوروبية الأخرى منخرطة بشكل فعال مع الجوار السوداني لاسيما التشاد؛ حيث البعثة الأوروبية للحوار السياسي الداخلي التشادي، وكذلك فرنسا وإيرلندا وفنلندا والنرويج وبولندا والنمسا والبرتغال وكرواتيا الذين يشاركون في بعثة الأمم المتحدة بجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد (MINURCAT).
وعلى العموم، فإن الدور الأوروبي المطلوب يجب أن يتوزع خلال الفترة القادمة كما يلي:
خلال الأشهر القليلة القادمة
- ترتيب الأولويات في دعم الشركاء الأفارقة كالاتحاد الأفريقي كشركاء رئيسيين لفترة ما بعد الاستفتاء الشعبي، والمشاركة في مبادرات صنع السلام كالتي يتم متابعتها حاليا من قبل ثابو مبيكي.
- توحيد جهود مبعوثي الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي عبر جمعهم في فريق واحد يمثل الاتحاد الأوروبي، ويضم دبلوماسيين وأعضاء من المفوضية الأوروبية وفريق المبعوثين الأوروبيين الحاليين.
- عقد مؤتمر لجميع الفاعلين الدوليين على أعلى مستوى ممكن للاتفاق على إستراتيجية موحدة للتعامل مع السودان، وللتحضير لخارطة طريق تتضمن:
- تحديد المعايير الكفيلة بإجراء انتخابات نزيهة في 2010، وإجراء مشاورات أخرى في 2011 حول الاعتراف بأهمية تحقيق المشاركة العادلة والاستقرار في دارفور، وإنجاز الاستفتاء الشعبي لحق تقرير المصير في الجنوب في 2011.
- التخطيط للإدارة الدولية المنسقة للفترة الانتقالية بين الوحدة والانفصال الكامل لنزع فتيل التوترات ولإعادة تشكيل الوجود الدولي في السودان.
- إنشاء إطار تفاوضي واضح لقضايا ما بعد الاستفتاء، مع خطة عملية وجدول زمني لمعالجة مسائل نقل السيادة والثروة وما يتعلق بهما.
في الأشهر الـ24 القادمة
- الانخراط مع القوى والمنظمات الأخرى التي ليست ممثَّلة كدولة بلجنة المبعوثين الخاصين؛ كالاتحاد الأفريقي والإيغاد وجامعة الدول العربية إضافة إلى الهند وماليزيا وكوريا الجنوبية، ليكونوا شركاء أكثر فعالية في دعم المشهد الكلي بأكمله في السودان وترتيبات ما بعد 2011.
- قيادة الدول المانحة لدعم قدرات مؤسسات جنوب السودان والحكم هناك في كل القطاعات الحيوية، كذلك الأمر بالنسبة إلى جبال النوبة وأبيي والنيل الأزرق.
في السنتين إلى السنوات العشر القادمة
- النظر في الإسهام في "صندوق التأمين ضد الصدمات" لمساعدة السودان على تجنب الحرب الأهلية والصراعات والنزاعات الداخلية.
- النظر في تقديم المساعدات التقنية على مستوى التخطيط واسع النطاق في المناطق الحضرية إذا لزم الأمر.
- مواصلة العمل مع حكومة السودان وحكومة جنوب السودان لتطوير خبراتها التقنية المتعلقة بالنفط، ودعم المبادرات التي تهدف إلى تعزيز الشفافية والمحاسبة عبر إشراك شركات النفط المعنية من الصين وماليزيا والهند على سبيل المثال، بالإضافة إلى إشراك المستهلكين الكبار للنفط السوداني كاليابان.
_______________
هوامش
(1) للاطلاع على نص تقرير السودان 2012: سيناريوهات للمستقبل، إضغط هنا.
(2) للاطلاع على نص تقرير قرارات ومواعيد نهائية: عام حاسم للسودان، إضغط هنا.
(3) للاطلاع على نص تقرير سيناريوهات ما بعد عام 2011 في السودان: أي دور للاتحاد الأوروبي؟، إضغط هنا.