أثر الانسحاب الأميركي من العراق على دول الخليج

سوف يكون مستقبل العراق بعد الانسحاب الأميركي واحدًا من ثلاثة سيناريوهات: استمرار الوضع الراهن، احتواء الفوضى في العراق، عراق غارق في الفوضى ومنقسم على نفسه.







 

ظافر محمد العجمي


عند تتبع الخط البياني للتدخل الأميركي في العراق منذ ربيع 2003، نجد أن عملية الاحتلال الأميركي بذرائعها قد شكلت الذروة الدامية في حركة تفاعلات المشهد العراقي. وسيكون كذلك الانسحاب الأميركي من العراق منعطفا حاسما في هذا البلد المحتل، فخروج الأميركيين لن يكون بسهولة خروج الفُرس من البصرة بدون قتال عام 1779، ولا كفرار الفيلق السادس العثماني من أمام القوات البريطانية في أغسطس/آب 1918، ولا كخروج القوات البريطانية وتشكيل نوري السعيد لوزارة قادت العراق الموحد حتى نهاية العقد الخامس من القرن الماضي.

لقد بدأت عملية انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية في 30 يونيو/حزيران 2009 تمهيدا لانسحاب القوات القتالية من العراق بحلول أغسطس/آب 2010 حسب خطط الجنرال غوس بيرنا Gus Perna  المسؤول عن الانسحاب  بمقتضى الاتفاقية الأمنية التي وقعها العراق مع الولايات المتحدة الأميركية في 13 ديسمبر/كانون الأول 2008.

أما الانسحاب الكامل فسوف يكون في 31 ديسمبر/كانون الأول من عام 2011. كل ذلك يجعل الانسحاب الأميركي وتأثيره على الوضع العراقي - وبالتالي على وضع بلدان الخليج العربي، وكلفته الأمنية والسياسية- من الأمور التي تتطلب البحث من خلال الدراسات الاستشرافية، لمعرفة إن كان انسحاب قوات الاحتلال الأميركي يعني في مضمونه انسحابا للفتنة التي مزقت العراق، وانسحابا لعدم الاستقرار في شمال الخليج العربي أم هو انسحاب للأمن في المنطقة، ونهاية للعزلة المريحة التي عاشتها دول الخليج لسبع سنوات مع وصول الدبابات الأميركية لساحة الفردوس في بغداد؟

العراق أمام ثلاثة خيارات
انسحاب تتلوه الفوضى


العراق أمام ثلاثة خيارات





سيكون الانسحاب الأميركي من العراق منعطفا حاسما، فخروج الأميركيين لن يكون بسهولة خروج الفرس من البصرة بدون قتال عام 1779، ولا كفرار الفيلق السادس العثماني من أمام القوات البريطانية في أغسطس/آب 1918، ولا كخروج القوات البريطانية وتشكيل نوري السعيد لوزارة قادت العراق الموحد حتى نهاية العقد الخامس من القرن الماضي

وبفعل تضاريس البيئة الأمنية الإقليمية سوف تصب السيناريوهات المحتملة لمستقبل العراق بعد الانسحاب الأميركي في حوض مستقبل دول مجلس التعاون، كما يصب شط العرب مجبرا في الخليج.

و يدرك صانع القرار السياسي الخليجي أن العراق يتمتع بثقل سياسي واقتصادي أهَّله أن يكون حتى وقت قريب عضوا في العديد من المؤسسات الخليجية المشتركة، وكانت هذه هي الحال منذ القدم، فمنذ احتلال جيوش كريم خان زند للبصرة 1776-1779 وأحداث العراق تلقي بظلالها على ما جاورها من دول الخليج حديثة النشأة، فقد كان من تبعات الاحتلال تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية تمثلت في معادلة أن خراب البصرة عَمَار لميناء الكويت، نتيجة لهجرة الأسر التجارية، وانتقال الوكالات الأجنبية إليه فرارا من الاحتلال الفارسي.

وعند وصول عبد الكريم قاسم للسلطة عام 1958 دقت نواقيس الخطر في أرجاء إمارات الخليج العربي، المستكنة في عزلة مريحة في ظل اتفاقيات الحماية البريطانية، نتيجة ميول قاسم اليسارية ومغامراته التي طالت حتى المد العروبي الناصري، وانتهت بالزحف على الكويت 1961.

وفي زمن البعث، طالت نتائج مغامرات صدام حسين دول الخليج وأحالتها إلى جبهات مستنزَفة في حرب السنوات الثماني مع إيران 1980-1988 واحتلال الكويت 1990، ثم في زمن مناكفات النظام العراقي للمجتمع الدولي إبان الحظر الجوي وبرنامج النفط مقابل الغذاء، ليكون ختام تلك الحقبة حرب تحرير العراق وإسقاط البعث عام 2003.

سوف يكون مستقبل العراق بعد الانسحاب الأميركي واحدًا من ثلاثة سيناريوهات: في السيناريو المحتمل الأول من المتوقع استمرار الوضع الراهن كما هو بما يحمله من سمات عدم استقرار رغم الإجراءات المتبعة الدالة على أمل كبير بمستقبل زاهر. وفي السيناريو المحتمل الثاني، سوف يتم  احتواء الفوضى في العراق. أما السيناريو المحتمل الثالث، فيتمثل في عراق غارق في الفوضى ومنقسم على نفسه.

السيناريو الأول
استمرار الوضع الراهن كما هو مع مظاهر عدم الاستقرار، رغم الجهود الحثيثة لتجاوز هذه المرحلة. ومن سماته الرئيسية استمرار الإخفاق في تشكيل حكومة عراقية مستقرة، وضياع معاني نتائج الانتخابات النيابية بين الكتل السياسية، وزيادة تعقيد المشهد العراقي لتشرذم القوى السياسية وانعدام الثقة بين كافة الفرقاء، وتضارب المصالح الوطنية أو الخاصة فيما بينها، ومع دول الجوار، بالإضافة إلى المصالح الأميركية والصراعات الطائفية، واستمرار غياب الدور العربي هناك.

السيناريو الثاني
سيتم فيه احتواء الفوضى، ويستعيد العراق  قدرته على ممارسة دوره الطبيعي كدولة عربية إسلامية رئيسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، بظهور قائد وطني، أو بتوحده تحت قيادة مركزية قوية ذات مشروع ديمقراطي محايد ونزيه مستقل عن التدخلات الإقليمية أو الدولية، أو يلقى الدعم منها ببصيرة وسيادة من خلال الدور العربي، أو الدعم الأميركي السياسي والأمني والاقتصادي من خلال تواجد  الدبلوماسية الأميركية، والمدربين والخبراء المدنيين والعسكريين.





إن احتمال تحقق السيناريو الثاني المتمثل في احتواء الفوضى واستعادة العراق لممارسة دوره الطبيعي كدولة عربية إسلامية رئيسية على الصعيدين الإقليمي والدولي يعني لدول الخليج زوال زمن التهديدات

السيناريو الثالث


عراق غارق في الفوضى، تمشيا مع حال دول العالم الثالث التي خرجت من الاحتلال، فمن المتوقع في هذه الحالة ظهور أكثر من ديكتاتور في شكل "مخلِّص"، فيتعرض العراق للانقلابات التي سوف تقود إلى انهيار الدولة وانقسامها إلى دويلات وهياكل  طائفية وعرقية ومناطقية وعشائرية وقيام نظام "لبننة" -شبيه بالنظام اللبناني- بصياغة إيرانية في أغلبها، وتصبح ملعبا للتجاذبات الإقليمية والدولية، وبيئة حاضنة لبذور عدم الاستقرار في المنطقة.

إن احتمال تحقق السيناريو الثاني المتمثل في احتواء الفوضى، واستعادة العراق لممارسة دوره الطبيعي كدولة عربية إسلامية رئيسية على الصعيدين الإقليمي والدولي يعني لدول الخليج زوال زمن التهديدات، وعودة جريان شط العرب ليصب قراحا في الخليج العربي. كما يعني لدول الخليج الاستئناس بجار عربي شقيق موازن للتحدي الإيراني بطموحه المتنامي.






انسحاب تتلوه الفوضى


أما تبعات الانسحاب الأميركي من العراق حين يتحقق واحد من بقية السيناريوهات فيعني كارثة للخليجيين على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، حيث إن سقوط العراق من معادلة أمن الخليج يعني تغير الميزان العسكري، وإطلاق يد إيران التي ما برحت تكرر رفضها لبناء القوات العسكرية العراقية التي ترى فيها تهديدا لأمنها الوطني، ويشاركها في هذا الشعور كل من الأكراد وإسرائيل التي تأمل في تأخير بناء الجيش العراقي حتى تحقق أجندتها.

ومع عجز الحكومة العراقية عن بناء قوات أمنية متزنة، حيث لا زال عدد السنة والشيعة في تركيبها يمثل هاجسا ونقطة خلاف متكررة، ومع الفشل في بناء تلك القوة في وقت قياسي، سوف يشكل الانسحاب الأميركي فراغا أمنيا واضحا على صعيد الأمن الداخلي والخارجي.

ويعني تحقق أشد مخاوف بلدان الخليج قتامة، وهو قيام الجسر البري الذي طالما تمنته إيران لوصول قواتها البرية إلى الجزيرة العربية، حيث إن صراعها المرتقب مع الغرب حيال طموحها النووي قد أجبر مخططي إستراتيجيتها العسكرية على البحث عن تكتيك يسمح لهم بنقل المواجهة إلى أرض معركة لا يفضله العدو، وليس هناك أفضل من نقلها إلى منطقة شيعية في جنوب العراق، واقعة على حافة حياض النفط الخليجية الغالية على قلوب الأميركيين.

ومن البوادر البسيطة لقابلية نجاح هذا المخطط قبول أصحاب المحلات العامة في البصرة والسماوة حاليا وفي منحى تعبوي، التعامل بالتومان الإيراني. عندها سوف يصبح جيش المهدي قطاعا من قطاعات حرس المقدمة والاستطلاع  لذلك الجيش الإيراني. كما أن الاصطفاف الطائفي بالعراق قد يشعل مواجهات دامية بين الشيعة والسنة بالجنوب في حال انفصاله، وقد تقوم الأغلبية الشيعية بطرد السنة من المناطق المختلطة ودفعهم غربا باتجاه محافظة الأنبار، فتتدفق موجات هجرة كبيرة باتجاه الدول الخليجية، خاصة الكويت والمملكة العربية السعودية.




وقد يؤدي ذلك إلى جذب شيعة دول الخليج  ليكونوا جزءا من الصراع. وقد يصبح الجنوب نسخة أخرى من الجنوب اللبناني، وملعبا آخر للصراع الإسرائيلي الإيراني، وتدلل على إمكانية تحقق هذا السيناريو الجاذبية الكبيرة، التي انتشرت وسط الرأي العام العربي و الإسلامي، نحو حزب الله بفضل مكاسبه في حرب لبنان 2006، فقد يتحول العراق نقطة انطلاق لمجموعات المقاومة ضد إسرائيل، وضد كل من يناوئ الخطاب الجهادي الإيراني.

كما سيحاول الأكراد إعادة النفخ في جذوة نزعتهم الاستقلالية مما يشرع الأبواب أمام التدخلات التركية والإيرانية وحتى السورية والإسرائيلية، فيتطاير الشرر إلى طرف الثوب الخليجي.

إن احتمال استمرار حالة عدم الاستقرار أو الأزمة الممتدة في السيناريو الأول، أو تحقق سيناريو الفوضى الثالث كنتيجة للانسحاب الأميركي من العراق يعني حكومة عراقية عاجزة، قد تبحث عن مخرج لكبواتها بخلق خلافات حدودية لا نهاية لها مع الحلقة الأضعف في المحيطين بالعراق، وليست إلا دول الجوار الخليجية.

ويكون الانسحاب الأميركي من العراق مسمى مهذبا لواقع أكثر تعاسة، رغم أن إستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية في 2010 قد قامت فيما يخص العراق، على ثلاثة مكونات، هي: إنجاز المرحلة الانتقالية ونقل الأمن ليكون من مسؤولية العراقيين، ووقف العمليات القتالية في شهر أغسطس/آب 2010، مع الاستمرار في تدريب وتجهيز قوات الأمن العراقية، وتقديم المشورة لها.

والمكون الثاني، الحفاظ على الجهود السياسية والدبلوماسية والمدنية المبذولة لمساعدة الشعب العراقي وحل الخلافات المعلقة، ودمج اللاجئين والمشردين ومواصلة تطوير المؤسسات الديمقراطية ومعايير المساءلة.

أما المكون الثالث فهو اعتماد الدبلوماسية الإقليمية لضمان تحقيق انسحاب مسؤول من شأنه أن يوفر للعراق فرصة لتعزيز الأمن الدائم والتنمية المستدامة، إلا أن حقيقة ما يجري ليست إلا ترك العراق يواجه قدره للتفرغ للحرب في أفغانستان، ولتقليل التكلفة المالية والبشرية والعسكرية في العراق، وفي الوقت نفسه ترك دول الخليج العربي تحت رحمة إفرازات عدم الاستقرار في العراق من جهة، وتحت ضغط الطموح النووي الإيراني من جهة أخرى، مما يدفعها -في غياب منظومة أمن جماعي عربية أو خليجية فاعلة- للقفز داخل السياج الآمن للقواعد الغربية.
_______________
المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج





نبذة عن الكاتب