النخب الإفريقية ودروس الثورات العربية المتلاحقة

رغم أن إثيوبيا لا تمتلك أدوات محاكاة التغيير الداخلي الذي شهدته مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن إلا أن نخبها السياسية تطرح منذ بعض الوقت سؤالا ملحا: هل التغيير بإثيوبيا يجب أن يأتي من الشتات الإثيوبي في المهجر أم من داخل الوطن نفسه؟
20117218315876580_2.jpg

في ورقتنا الأولى ناقشنا التشابه والاختلاف بين ما شهدته مصر وتونس من ثورات شعبية من ناحية والظروف المشابهة لاندلاع انتفاضات شعبية في إثيوبيا من ناحية أخرى. وإذا تركنا عناصر التباين جانبا، فإن إعجاب الشعب الإثيوبي واهتمامه بربيع الثورات العربية بلغ مقدارا لافتا. وقد وجد ربيع الثورات العربية ارتياحا وترحيبا لدى النخبة الإثيوبية المؤمنة بالديمقراطية وذات الميول القومية، والتي يعيش غالبيتها في شتات المهجر حول العالم، ويتصدرون طليعة المهاجرين البالغ عددهم 2 مليون نسمة، وأغلبهم من العمالة الماهرة نسبيا. وتنفق هذه النخبة المهتمة بمستقبل بلادها وقتا كبيرا في نقاشات تقارن بين ما يجري في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من أحداث ثورية وما تعيشه بلادهم.تشتمل القضايا المتكررة التي يتردد صداها في حديث الإثيوبيين موضوعات على شاكلة القمع السياسي، وانتهاك حقوق الإنسان، وقمع الحريات المدنية، ونسبة بطالة بين الشباب تبلغ 60 %، وقفزات في أسعار السلع الأساسية وعلى رأسها الغذاء، واتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، والفساد، ومحاباة الأقارب، والتمييز على أساس عرقي.

أوراق استبداد متشابهة

هناك إدراك بين الإثيوبيين منبعه معلومات وبيانات مفادها أن "جبهة تيجراي للتحرير الشعبي" TPLF وما يرتبط بها من "الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي" EPRDF القائمة على أساس عرقي، والتي تحكم الدولة، تستخدم الاستئثار السياسي لتثري أعضاءها الكبار وداعميها الرئيسيين، غير آبهة بمطالب القاعدة العريضة من الشعب. يتفق الإثيوبيون على أن الأنظمة الليبية واليمنية هي من بين الأكثر قمعا في العالم. ونظرا لدوره المميز في السياسات الإفريقية والاتحاد الإفريقي، يحتفظ العقيد معمر القذافي بالشهرة الأكبر لدى الإثيوبيين مقارنة بالرئيسين بشار الأسد وعلي عبد الله صالح. ويقارن الإثيوبيون بين حكم العقيد القذافي الذي يحكم ليبيا منذ 41 سنة وحكم رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي الذي أمضى في منصبه 20 سنة. وتعاني إثيوبيا نفس ما تعانيه ليبيا واليمن من نزاعات عرقية وطائفية وأيديولوجية. فعلى سبيل المثال يتهم نظام الرئيس الأسد بأنه يمثل أقلية دينية (الطائفة العلوية) لا تزيد نسبتها في سوريا عن 12 % من إجمالي سكان الدولة التي يمثل السنة فيها أكثر من 70 %.

وبالمثل نجد أن المجموعة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي والمعروفة بـ"جبهة تيجراي للتحرير الشعبي" لا تمثل أكثر من 6 % من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 90 مليون نسمة. وينتمي أكثر من أن 90 % من القيادات العليا للجيش الإثيوبي وقواته الأمنية لهذه الأقلية العرقية التي تمثلها مجموعة "تيجراي". ويؤكد النشطاء السياسيون في سوريا أن حكومة الرئيس الأسد تدعم صفوة رجال الأعمال المنتفعين من هذا النظام، وبالمثل يُتهم رئيس الوزراء مليس زيناوي بمحاباة الصفوة الجديدة المنتمية للعرق التيجراوي من سكان الحضر الأثرياء. وفي كلتا الحالتين يقتصر الوصول إلى أصول الثروات والنجاح في المشروعات الاقتصادية على معايير الولاء للحكومة.

وفي ليبيا وسوريا، حاولت جماعات المعارضة فضح زيف السياسات التي تتبعها الأنظمة الحاكمة لبلادهم والقائمة في الأساس على السياسات العرقية والطائفية. صحيح أن نجاح المعارضة هنا أقل في خطاه مما تحقق في مصر وتونس، إلا أن حجم وقوة مجموعات المعارضة يبدو أنه يؤشر على أن الأغلبية العظمى من سكان ليبيا وسوريا ليسوا أقل شوقا للحرية والديمقراطية.

ففي ليبيا، تقف القلة المنتفعة من نظام القذافي ومجموعته العرقية إلى جواره. ولعل هذا التنظيم العسكري والأمني والدفاعي المتحلق حول القذافي الآن والذي تم حشده عبر العقود الماضية هو سنده الوحيد في شن الحرب ضد شعبه. ويشير بعض المعلقين إلى أن القذافي ومؤيديه المقربين وقاعدته السياسية "يبسطون سيطرتهم على طرابلس" التي تعيش فيها أكثر العائلات الليبية ثراء ونفوذا.

وسواء كان الدافع هو الخوف أو الطمع في المنفعة من نظام القذافي فإن هذه القاعدة الاجتماعية "تقف إلى جواره"، ونظرا لارتباطها الوثيق بالنظام، يبدو أنها تغمض أعينها عما تعيشه البلاد من حصار وأن الليبيين يقتلون إخوانهم الليبيين. ويشعر القذافي في وسط هذه الأجواء أن إطالة أمد الحرب يعطي مؤشرا على شرعية نظامه. ويبدو أن العقيد يتجاهل وسط تلك الأجواء أن نصف البلاد على الأقل سقطت بأيدي معارضيه، وأنه متهم "بارتكاب جرائم ضد الإنسانية" وأن معظم المجتمع الدولي يترقب سقوطه.

وبوسع المرء أن يجد عديدا من أشكال التشابه بين ليبيا تحت حكم القذافي وإثيوبيا تحت حكم زيناوي. فالقادة الكبار في جبهة تيجراي نجحوا في تجنيد وتحفيز كوادر الجبهة بضم أعضاء من مختلف المجموعات العرقية باستخدام ورقة الولاء الحزبي. وتتم عملية تطهير منتظمة تعرف باسم "التقييم السياسي" ("غيميغيما gimigema " في اللغة الأمهرية) للتخلص من الأعضاء المشكوك في انتمائهم وتجنيد أعضاء جدد للقطيع. وفي الوقت الذي لا يبسط رئيس الوزراء الإثيوبي قبضته على العاصمة أديس أبابا إفإن هناك ما يثبت أن منطقة "مكلة" وبقية إقليم "تيجراي"ـ والتي تمثل الموطن العرقي لجبهة تيجراي للتحرير الشعبي ـ تخضع لسيطرة الحزب بشكل مباشر. وتبدو ليبيا أقرب لإثيوبيا منها إلى حالتي مصر وتونس. فقد ترعرع النظام السياسي في كل منهما على مبادئ الولاء الإثني والطائفي، وهي المبادئ التي تُجنى على أساسها الثروات ويستجدى منها النفوذ.

وقد تركت التصنيفات الطائفية والعرقية والطبقية آثارها على كافة أطياف المجتمع الليبي وعلى الانتفاضة الشعبية بالمثل. وفي بداية الثورة الليبية، لم يكن المجتمع الدولي عند مستوى طموحات القوى الديمقراطية في هذه الدولة. وربما شعر المجتمع الدولي من أن انقساما في البناء السياسي الليبي قد يخلق نموذجا لـ "دولة فاشلة" في شمال إفريقيا. وهناك عوامل لعبت جزئيا على الإسراع بتطور الأحداث في تلك الدول. ففي ليبيا كان للعامل النفطي دوره، بمثل ما كان لعامل القاعدة أهميته في اليمن. وما يتعلمه الإثيوبيون من هذه التجارب أن المسار الديمقراطي يختلف باختلاف كل دولة، وإن كانت إثيوبيا لديها حالة متميزة، وهي أن التقسيمات العرقية والطائفية لديها القدرة الكامنة على الانفجار حال اشتعال انتفاضة شعبية على غرار ربيع الثورات العربية.

طبيعة التغير الديمقراطي

يعتمد نجاح أية انتفاضة شعبية في دولة بحجم وتعقيدات إثيوبيا بشكل كلي على انخراط ومشاركة فعالة من قبل ملايين البسطاء الإثيوبيين من كافة الأعراق والطوائف. ويجب أن ينخرط في التغيير الديمقراطي كافة المجموعات الديموغرافية، باختلاف مشاربها العرقية والدينية والاجتماعية، على أن تستمر هذه المشاركة لفترة من الزمن. ففي ليبيا شعر أولئك الملتصقون بالنظام الحالي بـ"التهديد" من قبل الانتفاضات الديمقراطية. واستمر أولئك غير الراضين عن النظام في التضحية بحياتهم وأمنهم. واتخذ المجتمع الدولي موقفا مغزاه أنه لن يسمح لديكتاتور عديم الرحمة بأن "يذبح شعبه". ولم يكن ممكنا لضربات حلف الناتو ضد قوات القذافي أن تحقق نجاحا سياسيا أو إستراتيجيا لولا المواقف الشجاعة التي اتخذتها جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي والمعارضة الليبية. وكانت الديمقراطيات الغربية سترسل رسالة خطأ لو لم تستجب لهذه المطالب الإقليمية المنظمة من قبل العالم العربي. وكان من الممكن أن تؤثر المواقف الغربية سلبا على الزخم الديمقراطي الذي اجتاح الإقليم لو تقاعست عن تلبية تلك المطالب.

وهنا أود أن أعرب عن وجهة نظري في التقييم السياسي للمبدأ الجديد لحقوق الإنسان الذي بدأ العالم يتبناه كأساس للتدخل الدولي ولم يكن أحد يتصور تحقيقه في القرن العشرين أو في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فنظام الأمم المتحدة لم يشهد من قبل أحداثا بهذا الحجم في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ويبدو لي هنا أن العلاقات الدولية لن تعود إلى ما كانت عليه مرة أخرى. ونحن الآن شهود عيان على تشكيل نظام عالمي جديد يتشكل بفعل قوى مدنية جديدة يلعب فيها الدور الأكبر الشباب والطبقة الوسطى ممن يطالبون بأن تسمع أصواتهم، وتتحقق تطلعاتهم، ويرغبون في الحصول على الفرص الاجتماعية والاقتصادية التي كانت حكرا على أولئك الذين استولوا على السلطة السياسية وفرضوا هيمنتهم الاقتصادية.

من يحمي الأبرياء؟

تعلم العالم من حوادث الإبادة الجماعية المرعبة التي وقعت في رواندا درسا قاسيا عن كيف يسفك الإنسان بوحشية مفزعة دم أخيه الإنسان. ولقد بقيت الأمم المتحدة والقوى العظمى مغمضة العين عما جرى، مكتفية بمتابعة التضمينات والتداعيات المترتبة على تلك الإبادة. وبأثر رجعي أدركت الأمم المتحدة أن مصداقيتها أصبحت على المحك وأن عليها العمل على تفادي كافة أشكال الإبادة الجماعية بما فيها تلك التي تقترفها أنظمة وحشية وقمعية ضد شعوبها. ويفسر هذا كيف بزغ مبدأ جديد هو "الاستجابة للحماية". وهو المبدأ الذي طبقه مجلس الأمن في ليبيا. كان من الصعب على الأمم المتحدة والقوى العظمى إغماض أعينها من جديد أمام ما يرتكبه الحكام المستبدون الذين يجب الإطاحة بهم. وكان السؤال الذي يطرحه أولئك الداعمون للانتفاضات الساعية للديمقراطية هو المدى الذي يمكن أن يتحرك فيه هذا المبدأ الجديد غير المسبوق نيابة عن المعارضة الليبية -التي اعترف بها مجلس الأمن- لتصبح سابقة من نوعها.

يتابع الإثيوبيون بشغف التطورات المستقبلية لإمكانية تكرار نفس الظروف إذا ما ظهر وضع مشابه في إثيوبيا. وتوقعاتي الشخصية أنه سيصبح من الصعب في المستقبل أن تتقاعس الأمم المتحدة عن تطبيق نفس المبدأ الذي مارسته بالفعل في الأزمة الليبية. ومن المتوقع أن التدخل الدولي في إفريقيا جنوب الصحراء سيستدعي مقاومة شعبية. فساحل العاج ودارفور في السودان تذكران المجتمع الدولي بأنه لا الاتحاد الإفريقي ولا الأمم المتحدة بادرا باتخاذ أية موقف ذات مغزى. وفي إثيوبيا، يبدو أن الظروف تشير إلى استعداد وإرادة لدى جماعات المعارضة والمجتمع المدني لتشكيل إطار انتقالي قادر على تحمل المسؤولية. ولعل هذا هو أهم الدروس المستفادة من "معركة ليبيا". ولا يرى القذافي في انشطار دولته تهديدا لحكمه الذي عمر طويلا. وبهذا المفهوم أيضا فإن نظام القذافي يحاكي نظيره الإثيوبي. فكلا النظامين يريان في المنشقين والمعارضين أعداء لهما. ولا يحتفظ أي من النظامين بقدر من الشفقة أو الاحترام للجنس البشري، وهذا هو ما يفسر إصرار القذافي على البقاء في السلطة بغض النظر عن الكلفة البشرية التي تتحملها بلاده من قتلى وجرحى، والشيء ذاته ليس بغريب على النظام الإثيوبي.

وفي ظهور إعلامي وقح ومتبجح في منتصف مارس /آذار 2011 خرج القذافي ليعلن أن قواته المسلحة مدعومة بسلاح الجو جاهزة لسحق "الأعداء" في بنغازي. وقد دعا القذافي سكان بنغازي البالغ عددهم مليون نسمة إلى العودة إلى رشدهم و ألا يطالبوا بمطالب غير عقلانية. وفي ذلك توعد المقاومين قائلا "لن نرحمكم". ولعل هذه التهديدات تجاه المعارضين هي التي أثارت العالم ضده، وأرعبت المدنيين العزل. وما حدث في إثيوبيا في أعقاب انتخابات 2005 لا يختلف كثيرا عن ذلك، حين استخدم نظام زيناوي الأوراق العرقية والطائفية لسحق المعارضين بلا رحمة. وبصفة عامة يلاحظ أن الصفوة من حكام البلاد الإفريقية لا يشعرون بأي قدر من الاحترام للاتحاد الإفريقي، ذلك لأن هذا الاتحاد "لا أسنان له".

شجاعة الجامعة العربية

في اعتقادي أن المؤسسات الإقليمية على درجة كبيرة من الأهمية لكل من الشعوب العربية والإفريقية خلال سعيها لإسماع صوتها في أجواء عالم متغير. وبنفس الدرجة من الأهمية يتوق المثقفون العرب والأفارقة لأن يسمع صوتهم ويلعبوا دورا حيويا في التعبير عن وجهات نظرهم بشأن القضايا التي تؤثر على أوطانهم وما يحيط بها من أقاليم.

ولعل النظرة العتيقة ذات النزعة الأوربية والمؤيدة للباحثين الغربيين ممن يحتكرون تشكيل الرؤى والأفكار لم يعد لها مكان الآن في ظل الطموحات الديمقراطية لملايين الشعوب التي يتقدمها الشباب والطبقات الوسطى. فلقد حققت الثورة المعلوماتية مكاسب ديمقراطية في الوصول إلى المعلومات وتمكين ملايين السكان من لعب دور مباشر في القضايا التي تمس حياتهم. ونفس الشيء نجده في المنظمات الإقليمية التي بوسعها أن تلعب أدوارا محورية في تسوية النزاعات ودعم النهج الديمقراطي وتحقيق مزيد من التكامل الاقتصادي.

ولأول مرة منذ نشأتها، تتخذ الجامعة العربية خطوة غير مسبوقة بالتوجه إلى الأمم المتحدة بطلب فرض "منطقة حظر طيران" فوق ليبيا، الدولة العضو في مجلس تلك الجامعة. وحين حدث هذا الموقف غير المسبوق تساءل كثير من الإثيوبيين عما إذا كان لدى الاتحاد الإفريقي تلك الشجاعة لاتخاذ موقف معاد لعضو من أعضائه متهم بانتهاك شامل في حقوق الإنسان. وقدم موقف الجامعة العربية الشجاعة الأدبية للمعارضة الليبية التي كانت تقاتل في ظل فرص نجاح بالغة الصعوبة. وكان هذا الموقف بمثابة إقرار ميلاد المجلس الانتقالي وإعطائه شرعية شعبية مكنته من القيام بمهام بديلة عن الدولة وأكسبته القدرة على إجراء اتصالات دبلوماسية فاعلة.

وكان تطور الأحداث والحسم المطلق الذي اتسمت به المعارضة قد شجع المجتمع الدولي ليولي عناية أكبر بما يجري في ليبيا. بينما كانت وحشية القذافي ضد شعبه والتصميم الذي بدت عليه المعارضة رغم عدم جاهزيتها عسكريا، دافعا لعدد من الدول لمساندة المعارضة الليبية، وفي مقدمة هذه الدول قطر وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، الأمر الذي قدم للمعارضة القاعدة الدبلوماسية اللازمة لإسقاط شرعية القذافي. وفي 17 مارس /آذار 2011 أقر مجلس الأمن القرار رقم 1973 الذي يقضي بفرض "منطقة حظر طيران" فوق الأجواء الليبية. وأعاد القرار الأمل والثقة بين جماعات المعارضة سواء في ليبيا أو بقية أقاليم أفريقيا والشرق الأوسط.

واستمرت فصول القصة، ففي 19 مارس /آذار 2011 قام تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة باستهداف القواعد العسكرية الإستراتيجية للقذافي. وفي إعلانه عن بدء تنفيذ حظر الطيران فوق ليبيا، صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن هذه الخطوة لم تكن الأولى ولم تكن "خياره" المفضل. وشاركت في الحملة عند مستويات مختلفة دول مثل المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا والمغرب والسعودية وقطر وبعض دول الجامعة العربية. ومن وجهة نظري فإن هذا حدث فريد وأحد أكثر المبادرات العالمية أهمية لإيقاف المجازر وتمكين الشعوب الساعية للحرية في كل مكان. وترسي الحالة الليبية سابقة لا يمكن أن ينكرها المجتمع الدولي في حال نشوب أزمات مشابهة. فالانتفاضة الشعبية في ليبيا أعطت أفضل فرصة للنجاح عبر الخطوات غير المسبوقة التي اتخذها مجلس الأمن والجامعة العربية، فضلا عن الخطوات الجسورة التي اتخذها الليبيون أنفسهم.

ويبدو أن الدرس الذي يمكن أن يستقيه الإثيوبيون من هذه الحالة أنه ليس هناك بديل عن مبدأ العمل الداخلي ووحدة المسعى والتضحية. فمثل هذه المبادئ هي القادرة على استقطاب التعاطف والدعم الدوليين. ولأن النظام الإثيوبي وحشي بطبيعته ويحكم البلاد عبر التخويف والتفرقة العرقية، فإنه من المنتظر في أي انتفاضة شعبية في البلاد أن يسقط آلاف القتلى. لقد رأينا ما يكفي من أعمال وحشية في حالة القذافي في ليبيا وبشار الأسد في سوريا وعلى عبد الله صالح في اليمن. وتشير دلائل الأحداث التي شهدتها إثيوبيا في أعقاب التظاهرات الشعبية اعتراضا على نتائج انتخابات عام 2005 والتي راح ضحيتها مئات القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين، أن النظام الحاكم في إثيوبيا سيبقى مصرا على نفس المراوغات السياسية على نحو ما يفعل الحكام الطغاة في ليبيا وسوريا واليمن من استخدام وحشي للقوة. وتعطى ليبيا تحت حكم القذافي توقعات مفادها أن محكمة العدل الدولية في جنيف ستدينه وحاشيته بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ويشعر الإثيوبيون بأن نفس الشيء سيحدث مع مليس زيناوي، مع التسليم بأن ثمة اختلافات بين الحالتين لا يمكن تجاهلها.

ففي إثيوبيا تعاني جماعات المعارضة دوما من الانقسام، كما يفتقر الشباب الإثيوبي الوسائل التقنية الحديثة مثل الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، خاصة أن أكثر من 80 % من سكان البلاد يعيشون في مناطق ريفية. صحيح أن الناس يريدون الحرية لكنهم يخشون التغيير. وقد بدأت فكرة التغيير في خدمة قضية أعظم حين شرع الشباب الإثيوبي منذ أكثر من نصف قرن مضى -تتزعمه الصفوة المثقفة- بحركة كفاح أسقطت حكومة الإمبراطور هيلا سيلاسي. ولكن اليوم بات الشباب الإثيوبي لا يمتلك أدوات محاكاة التغيير الداخلي الذي شهدته مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن. ويشعر نشطاء الديمقراطية الإثيوبية أن التغيير يجب أن يأتي من الشتات الإثيوبي في المهجر. ولكني لا أتفق مع هذا الرأي. فالتغيير الديمقراطي يجب أن ينبع من داخل الوطن نفسه، ويمكن للمهاجرين الإثيوبيين حول العالم أن يخلقوا رابطا عضويا مع أولئك الراغبين في التغيير، فيقدمون الوسائل المساعدة، والدعم المالي، والتوجيه السياسي.

نصائح للطغاة

في مقال رائع بصحيفة واشنطن بوست بتاريخ 6 يناير 2011 قدم ويليام دوبسون كشفا للممارسات التي يحترفها الطغاة بغض النظر عن اسم الدولة التي يهيمنون عليها. ففي المقالة التي تحمل عنوان "ديكتاتورية للأغبياء.. النسخة التونسية" يحدد دوبسون -ساخرا- سبع نصائح للطغاة حول العالم كي يستفيدوا من خلالها من درس هروب زين العابدين بن علي من تونس. وهذه النصائح السبع هي:

1. "كن حاكما قمعيا، لكن لا تتجاوز الحدود" وتذّكر أن التجاوز في القمع يفقدك الثروة والسلطة.

2. "لا تحاول أن تجعل بلدك مثل سنغافورة". فلم يشفع لزين العابدين بن علي أنه كان يطور من تونس محاولا أن يجعل منها سنغافورة، فشعبه لم يقبل التنمية بديلا عن الحرية. وإذا راجعنا مدى وجود هذه النصيحة في إثيوبيا فسنجد أنهم يعرفونها جيدا. فالداعمون للحكومة الإثيوبية يعتقدون أن التطور السريع لا يتحقق إلا في ظل سيادة حزب واحد يحاكي سنغافورة والصين وغيرها، وهم على قناعة بأن مثل هذه الممارسات تعزز من القبضة الحاكمة(1).

3. "امنح الشباب جوازات سفر" ولا تشغل بالك بتوفير فرص عمل لهم في الوطن، شجعهم على الهجرة ليبحثوا عن وظائف خارج البلاد ثم يرسلون تحويلات مالية تحتاجها حكومتك. هذه هي أفضل طريقة للتخلص من أولئك الشباب المتعلم الذي لن يفلح في شيء سوى أن يسبب لك صداعا لأنه سيدرك سريعا أنه ليست هناك فرص عمل وأن عليه البقاء عالة على ذويه. على هذا النحو تخلصت إثيوبيا من أفضل شبابها الموهوبين والذين يحولون سنويا مبالغ مالية طائلة يبلغ مقدارها 3.3 بليون دولار. ومع هجرة الموهوبين والمتعلمين تصبح الساحة خاوية وتصبح الفرص مواتية لنهب الثروات والفساد والمحسوبية ومحاباة الأقارب. هكذا تشبه ملامح الفساد في إثيوبيا نظيرتها في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن(2).

4. "اترك فرصة حياة للمعارضة، لكن لا تدعها تنتصر". وبمراجعة هذه النصيحة نجد أن مليس زيناوي يقول إن إثيوبيا تتمتع بمعارضة قوية، ولكنه مع ذلك يفوز في الانتخابات بنسبة 99.6%. وأتفق هنا مع ما ذهب إليه دوبسن من أن النظام المستبد حين يواجه تحديا من قبل المعارضة فإنه يفاضل بين "التراجع إلى الخلف أو سحق معارضيه". وفي إثيوبيا اختارت الحكومة الحل الثاني. ورغم أن الرئيس المخلوع حسني مبارك اختار نفس الحل إلا أن العار كان مصيره(3).

5. "أعطهم صحفا". وبخصوص هذه النصيحة، تعد إثيوبيا في ذيل قائمة الدول التي لديها إعلام حر. فالإعلام حكومي مملوك للدولة وينشر دعاية موجهة، مع إقصاء لأي إعلام أجنبي ينتقد الدولة. ونتذكر هنا أن الرئيس باراك أوباما في أعقاب أحداث ميدان التحرير في مصر قد أعلن أن الشعوب التي تتوق للحقوق الأساسية والوصول إلى المعلومات تقدم تشجيعا فريدا لأولئك الساعين إلى الحرية وفي مقدمتهم الشعوب الأفريقية(4).

6. "لا تتفاوض مع جماهير غاضبة"، وهي النصيحة التي تذكرني بما حدث في إثيوبيا في أعقاب التظاهرات الرافضة لنتائج انتخابات عام 2005 والتي تم خلالها ذبح مئات القتلى، معظمهم من الشباب. وهنا لم يكترث نظام زيناوي بالتفاوض مع عائلات الضحايا أو طلب العفو منهم(5).

7. " الشعب يستحق منك قدرا من الاهتمام"، وتذكر أيها الحاكم الطاغية أن التنمية التي تقوم بها حكومتك يجب أن تستهدف الشعب على أن تستتبعها مشاركة فعالة تضمن بقاءك في الحكم. وهنا نجد أن إثيوبيا رغم أنها تلقت إعانات مقدارها 3.2 بليون دولار في عام 2010 فقط، وأكثر من 30 بليون دولار على مدار العشرين سنة الماضية إلا أنها مع ذلك فشلت في توفير الاكتفاء الذاتي من الغذاء وتوفير فرص العمل لملايين الشباب. ولم يتحقق أي تحسن في مستوى معيشة الأغلبية الساحقة من المواطنين.

وأجدني هنا راغبا في إضافة نصيحة ثامنة وهي:

8- "اعثر على تبرير لعدم عدالة توزيع الدخل، كثمن لمواصلة النمو". ولعل ما تشهده إثيوبيا اليوم من تفاوت مروّع في الدخل لم يكن له نظير في تاريخ البلاد. والنمو الاقتصادي في إثيوبيا لا يفيد سوى النخبة الحاكمة دون أي اهتمام بمطالب الفقراء والشباب. وتعاني البلاد من فساد مزمن وتهريب مستمر للأموال، وتشير تقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى أنه خلال 18 سنة هربت من إثيوبيا مبالغ قدرت بنحو 8.345 بليون دولار. وهذا التدفق الضخم للأموال خارج واحدة من أفقر دول العالم يذكرني بما توصل إليه البنك الوطني الصيني من أن 18 ألف مسؤول صيني سرقوا وهربوا خارج بلادهم ومعهم 123.8 بليون دولار خلال 15 سنة. وفي ظل غياب المحاسبة والافتقار للضوابط والموازنات يصبح من السهل ظهور فاسدين جدد ومهربين محترفين يأخذون ثروات البلاد إلى الخارج.

_______________
باحث إثيوبي أستاذ مساعد، بجامعة ترينتي، بواشنطن ومستشار سابق في البنك الدولي.

الهوامش:

1- Dobson , W. “Dictatorship for dummies .” The Washington Post. January 6, 2011

2. المرجع ذاته

3. المرجع ذاته

4. المرجع ذاته

5. المرجع ذاته