كان ذلك في أبريل /نيسان عام 2006 في صحراء تمبوكتو شمال مالي عندما تحول القذافي إلى إمام. فقد صرف الملايين كي يأتي إلى هذا الجزء من الصحراء بعدة رؤساء دول أفارقة ومسؤولي جمعيات إسلامية وعلماء لتخليد ذكرى المولد النبوي. وبعد أن أم المصلين استقبل العقيد الليبي الغريب الأطوار في خيمته المنصوبة في عمق الصحراء عددا من الصحفيين تم اختيارهم بدقة. وكنت من بين أولئك الصحفيين.
بدأ العقيد خطبته قائلا: "أريد أن أقول لكم إنني مستعد لبذل دمي كله للدفاع عن الصحراء الكبرى. وأريد أن تتوحد جميع القبائل: العرب والتوبو والصنغاي والبمباره وخاصة الطوارق". وألقى بنظره وهو ينطق الجزء الأخير من جملته صوب "مبروكة" إحدى حارساته الشخصيات ذات الأصل الطارقي. وغير بعيد من الخيمة كان ممثلو عشرات المنظمات الطوارقية ينتظرون استقبال القائد ليعرضوا عليه مشاكلهم. كان الأمر أقوى من القائد لم يكن يستطيع إخفاء شغفه بالطوارق. وربما كان يسري في عروقه دم طارقي.
الطوارق والعلاقة مع القذافي
يتوزع الطوارق أساسا بين الجزائر ومالي والنيجر وليبيا وبوركينافاسو ويقدر عددهم بنحو مليون ونصف نسمة وهم بربر بدو.
وفي شمال مالي وفي النيجر عانى الطوارق بشدة من آثار جفاف قاحل اجتاح المنطقة عام 1973 فأهلك الماشية وتسبب في مجاعة غير مسبوقة.
وقد اضطر الكثير من أسر الطوارق إلى النزوح إلى ليبيا التي وفرت في مرحلة أولى المأمن والملجأ للجميع.
وفي ثمانينيات القرن الماضي تلقى بعض الطوارق تكوينا عسكريا في ليبيا لإعدادهم لخوض حروب في تشاد ولبنان وفلسطين بشكل خاص، وعاد بعضهم إلى بلدانهم الأصلية كمالي والنيجر للإسهام في حركات الطوارق المتمردة هناك.
وبعد هذه التمردات لجأت إلى ليبيا موجة جديدة من الطوارق الفارين من الصراعات المحتدمة في مواطنهم الأصلية. وأصبح بعضهم ضباطا في الجيش الليبي مثل سيدي الأمين وهو طوارقي مالي حارب في التسعينيات في صفوف حركة التمرد الطارقية المالية المعروفة باسم: "الجيش الثوري لتحرير أزواد". وتتكون الفرقة الثانية والثلاثون من الجيش الليبي وهي الوحدة الخاصة التي كان يقودها خميس نجل القذافي من عدة مئات من الطوارق.
كان القذافي شديد الارتياب من الليبيين ولم يكن يثق في أي منهم ولذلك اختار لتقوية أركان حكمه الاعتماد على الجنود الطوارق في حراسته الشخصية. وقد عين جنرالا ليبيا كلفه برعاية الجنود الطوارق الذين تم تجنيدهم في الجيش الليبي. وهكذا لعب الجنرال علي كانا دور "الوصي على الطوارق".
في عام 2006 فتح القذافي قنصلية في مدينة كيدال بالشمال رغم أن عدد الليبيين في المدينة لم يكن يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وأثار الأمر حفيظة الجزائرين الذين لديهم حدود مشتركة مع تلك المنطقة. وبعد ذلك بقليل انفجر تمرد طارقي جديد فسارعت القنصلية الليبية إلى إغلاق أبوابها.
ومع أن القذافي اشتهر بإثارة الاضطرابات فقد كان يلبس أحيانا (عندما يجد في الأمر مصلحة) عباءة "صانع السلام". وهكذا احتضنت بلاده جولات من المفاوضات بين حركات التمرد الطارقية والجيشين النظاميين المالي والنيجري.
في منتصف فبراير/ شباط الماضي عندما بدأت الانتفاضة ضد نظامه استغاث القذافي بطوارقه. ولتحقيق مآربه استخدم أغلى دفترين بحوزته: دفتر العناوين ودفتر الصكوك.
واستغل الفرصة وسطاء نهمون فمهدوا الطريق إلى ليبيا لمحاربين مأجورين باتوا يعرفون بـ"المرتزقة".
كان الطوارق والشباب الماليون الآخرون الذين يجندون للقتال في ليبيا ينطلقون من منطقة (تامسنة) في شمال مالي ليمروا بـ"أيير" و"تينيري" في النيجر المجاور لبلادهم حيث ينتظرهم "الفيلق" النيجري. ثم ينطلق الجميع إلى مدينة "الغات" جنوب ليبيا ثم يمرون بمدينة "سبها" في المنطقة ذاتها قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى جبهات القتال حسبما يؤكده مصدر نيجري أنجز تحقيقا حول الموضوع لصالح بلاده.
مصير الطوارق بعد القذافي
الآن وقد سقط القذافي فإن مستقبل "رجال الصحراء الزرق" بات بمثابة شوكة في حلق السلطات الليبية الجديدة. فماذا يفعلون بمن بقي منهم في ليبيا وخاصة العسكريين؟ فهناك أعداد كثيرة منهم تعيش في الجنوب الليبي وبعضهم يحمل الجنسية الليبية. بل منهم من كانوا مجندين في الجيش الجزائري. وما زالوا يحملون السلاح. وهناك مساعي ممثلي هؤلاء الطوارق تهدف للاتصال بأعضاء المجلس الوطني الانتقالي لتنظيم دمجهم في الجيش الليبي الجديد.
لن يكون الأمر سهلا. فقد جاء في مذكرة سرية حلل فيها دبلوماسي غربي في طرابلس الوضع الليبي وأتيح لنا الاطلاع عليها أن "الجنود ذوي الأصول الطارقية الذين ما يزالون يعيشون في ليبيا هم قنبلة مؤقتة. فقد تزوجوا بليبيات وباتوا بمثابة ليبيين. فأطفالهم ليبيون وبعضهم على نقيض ما يشاع مصرون على البقاء في ليبيا وعلى استعداد لحمل السلاح في وجه من يسعى لطردهم منها. وهم يدينون للقذافي بكل شيء ويشكل بعضهم حراسه الأوفياء اليوم وهو في حالة الفرار".
وتذهب بعض المصادر الأمنية في المنطقة إلى أن هناك الآن نحو ستمائة جندي طارقي يساعدون القذافي على التخفي والتحرك في الصحراء الليبية. وتتمثل إستراتيجيتهم في التحرك ضمن مجموعات صغيرة حتى لا يتم رصدهم. وبحوزة هذه الدائرة الأخيرة من الأوفياء للقذافي أسلحة وذخائر وكميات من الذهب والمال وهذا ما يفسر خطورة القائد السابق للثورة الليبية وحراسه الفارين معه.
ومن بين الطوارق من سارعوا إلى التخلي عن الزعيم الليبي لدى نشوب النزاع وأعلنوا الولاء للمجلس الوطني الانتقالي. ومن بين هؤلاء القنصل الليبي السابق في مالي موسى كوني. ويحاول هذا الرجل فارع القامة خفيف شعر الرأس أن يكون أحد الناطقين باسم المجموعة الطوارقية لدى المجلس الوطني الانتقالي. لكنه لم يفلح في مسعاه لحد الساعة. فالسلطات الليبية الجديدة تتعامل بحذر شديد مع الطوارق الذين اشتهروا في وقت من الأوقات بالولاء التام للقذافي.
وإذا كان ولاء الطوارق في الداخل موزعا، فإن منهم من اختاروا العودة إلى مواطنهم الأصلية في النيجر ومالي. وينحدر هؤلاء من عدة قبائل بينها على سبيل الخصوص: الشماناماس، إيمغاد، تاكامليت، إيفوغاس، إيدنان ذوو إسحاق. وعاد بعضهم بأسلحته فأقلق الأمر السلطات المالية التي سارعت إلى إيفاد بعثات للاستماع إلى مشاكل العائدين وتهدئتهم ليلا ينجرفوا إلى تفجير نزاع جديد. وفي الوقت الذي نسطر فيه هذا المقال تجري مباحثات بين بعثات رسمية مالية وبين الجنرال ناجم العائد من ليبيا وهو طوارقي من قبيلة إيدنان.
وفي يوم الثالث من أكتوبر /تشرين الأول الجاري استقبل أهالي كيدال مجموعة قوامها مئات الجنود الطوارق عادوا من ليبيا بقضهم وقضيضهم. وترى حكومة مدينة كدال أن استقبالهم أفضل من تركهم يسرحون في الطبيعة.
تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي والطوارق
إذا قرر الطوارق حمل السلاح من جديد فسيكونون بحاجة إلى قاعدة خلفية وهو ما لا يتوفرون عليه اليوم. لكن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يمكن أن يشكل ذلك السند.
فإلى جانب الكتائب (الوحدات القتالية) تتبع لتنظيم القادة في المغرب الإسلامي سرايا (وحدات قتالية صغيرة) بينها سرية يقودها عبد الكريم الملقب الطارقي. وهو طارقي من قبيلة إيفوغاس ينحدر من ولاية آدرار الموجودة شرق شمال مالي والممتدة إلى الجزائر. ومهمة عبد الكريم الملقب الطوارقي هي تجنيد أكبر عدد ممكن من الطوارق في وحدته ولذلك يمثل الطوارق العائدون من ليبيا بالنسبة له فرصة لا تعوض. وبما أن هؤلاء العائدين لا مال لهم ولا مستقبل فقد يلجئون من أجل البقاء إلى الانخراط في صفوف المجاهدين. ويشجع قادة تنظيم القاعدة عبد الكريم على النجاح في مهمته لكنهم في الوقت ذاته يراقبونه عن كثب. وإذا نجح التنظيم في استقطاب عدد معتبر من الطوارق العائدين من ليبيا فسيتحول في وقت وجيز إلى واحد من أقوى الجيوش في منطقة الساحل. وفي 12 سبتمبر/ أيلول الماضي احتضنت "تيمترين" اجتماعا لموفدين من عبد الكريم الملقب الطارقي ومجموعة من العسكريين العائدين من ليبيا. "وكان العرض مغريا. فأصحاب عبد الكريم الطارقي لا يدخرون جهدا لتجنيد الطوارق العائدين وهم يقدمون لهم وعودا مجزية. و"إذا لم نحرك ساكنا فيوشك أن يتداعى المقاتلون العائدون من ليبيا إلى صفوف القاعدة" حسب تحليل الجامعي المالي عمر ولد إيدي.
وحسب المحللين فهناك رابط قائم بين مسلحي القاعدة والطوارق الذين قاتلوا في ليبيا إلى جنب القذافي. فهناك وجهان طارقيان معروفان في الساحل ساعدا تنظيم القاعدة في نقل أسلحة اقتناها التنظيم في ليبيا أو توليا نقل أسلحة من ليبيا وبيعها للقاعدة. وبين هذه الأسلحة الفتاكة صواريخ بإمكانها تدمير الطائرات.
"وحتى إذا لم ينخرط الطوارق العائدون من ليبيا في صفوف تنظيم القاعدة فسيكون بإمكانهم إقامة تحالف مع التنظيم لتقاسم السيطرة على الصحراء. وعندها سيتحول الجنود الطوارق إلى "جمركيين" لمراقبة مرور كل البضائع المهربة: المخدرات، الأسلحة، الوقود، السجائر، الخ." وفق ما يراه أحد الخبراء.
أما التهديد الآخر فيترصد حكومتي مالي والنيجر. فقد يلجأ الطوارق العائدون إلى حمل السلاح من جديد وتقديم بعض المطالب ومهاجمة جزء من التراب الوطني. وعندها سيفر السكان سريعا وتختفي الإدارة وتتبخر معها الدولة. وتحصل من ذلك فوضى ستكون خير مرتع للعصابات المسلحة التي تعيث فسادا في المنطقة.
______________
سرج دانييل - كاتب وصحفي بينيني/فرنسي
المصدر: مجموعة الأزمات الدولية