الدولة والكنيسة في مصر: أسباب التوتر وعوامل الانفراج

العلاقة بين الدولة والكنيسة بمصر عرفت تحولات تراوحت من التوافق إلى التخاصم، وهي تمر حاليا بفترة عصيبة بعد تزايد حدة التوترات ذات المضمون الطائفي، ولعل الدولة المدنية القائمة على المواطنة مخرجا حقيقيا من الأزمة.







 

كمال زاخر موسى


حتى نرصد ونحلل اللحظة المعيشة في علاقة الدولة والكنيسة بمصر، لابد من أن نتتبع - في إيجاز شديد- جذورها التاريخية، فهي قد وُلِدت من رحم تراكمات متتالية أسهمت بقدر وافر في تحديد ملامحها ومحاورها، فمسيحيو مصر (الأقباط) (1) هم الامتداد الطبيعي للمصريين الذين اعتنقوا المسيحية وبقوا عليها حتى اللحظة، ومن المتيقن أيضًا أن مسلمي مصر هم أيضًا امتداد طبيعي للمصريين القدماء الذين اعتنقوا الإسلام على مراحل وفي تدرج بلغ أَوْجَه فيما بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلاديين (2)، وحتى من تمتد جذوره إلى أعراق أخرى انصهر بحكم التزاوج والاختلاط المعيشي في النسيج المصري، إلى الدرجة التي يمكن أن نقول معها بوحدة العِرق المصري.





في عصر عبد الناصر لم يكن هناك مكان لنزاعات أو أطروحات يكون الجدل "الديني/السياسي" محورها، فالجهد كله كان مكرسًا لتحقيق زعامة عبد الناصر في الدوائر العربية والإفريقية والشرق أوسطية، وربما فيما هو أوسع
وقد شهدت العلاقات بين المسيحيين (الأقباط) والمسلمين أو بينهم وبين الحكام تباينات عديدة كانت تحكمها طبيعة المرحلة، خاصة مع توالي وتبدل القوى الحاكمة، على خلفية أن مصر شهدت على مدى تاريخها بعد حقبة المصريين القدماء (الفراعنة) طابورًا ممتدًا من المحتلين، ربما بحكم موقعها الجغرافي المتميز وثقلها الإقليمي والذي ظل مطمعًا لكل القوى الكبرى عبر التاريخ ولا يزال.

وبين سطور التاريخ نلمح تنامي توجه اختزال الأقباط في المؤسسة الكنسية، تبدَّى هذا بشكل ما بعد إعلان الإمبراطورية الرومانية المسيحية دينًا رسميًا لها (القرن الرابع الميلادي)، وتعمّق في حقبة الانشقاق العقدي والصراع من أجل السيطرة على الشارع المصري بين الحاكم الروماني الذي ناصر الجناح البيزنطي وأقام بطريركًا منه، بينما تمسك المصريون ببطريركهم الوطني وناصروه ودفعوا الثمن غاليًا حتى الموت (القرنين السادس والسابع) (3)، وهى الصورة التي كانت عليها مصر لحظة الفتح العربي (4) -المقوقس والأنبا بنيامين-، وقد استقر نمط اختزال الأقباط في الكنيسة بعد الفتح العربي باعتبار البابا البطريرك "عظيم القبط" (5)، واستمر هذا النسق من التعامل مع الأقباط حتى بعد تأسيس الدولة الحديثة مع قدوم محمد علي باشا (1805 ـ 1848) وعبر حكم الأسرة العلوية (6) إلى أن نقف على أعتاب حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز العسكري 1952.


مرحلة عبد الناصر: عهد الزعامة
مرحلة السادات: عزل البابا
مرحلة مبارك: المواطنة والفتنة
الأقباط والدولة: توجس وانقطاع في الاتصال
رهان الدولة المدنية


مرحلة عبد الناصر: عهد الزعامة 


في غير مرة تحدث المحللون عن تأثر ضباط يوليو– وبالأخص الرئيس جمال عبد الناصر- بما كتبه الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم، وبخاصة روايته "عودة الروح"(7) التي كانت ملهمته في الترتيب للثورة والقيام بها، وتكشف الرواية في تصديرها المنقول عن "نشيد الموتى" المصري الفرعوني القديم جانبًا من توجه ناصر، والذي تقول سطوره:


عندما يصير الزمن إلى خلود     سـوف نـراك مـن جـديد
لأنـك صـائر إلى هنـاك      حيـث الكـل فـي واحــد


فوجد هذا التوجه قبولاً لديه وهو يؤسس للمجتمع الأبوي الذي يختزل الوطن في شخصه، وهو ما انسحب على كافة مؤسسات مصر، وفيها صارت الكنيسة ممثلة للأقباط وبدورها صارت ممثلة في قداسة البابا البطريرك.


وفي عصر عبد الناصر لم يكن هناك مكان لنزاعات أو أطروحات يكون الجدل "الديني/السياسي" محورها، فالجهد كله كان مكرسًا لتحقيق زعامة عبد الناصر في الدوائر العربية والإفريقية والشرق أوسطية، وربما فيما هو أوسع، أي دائرة العالم الثالث وتحالفات عدم الانحياز وقتها، وكان أحد أهم تجليات هذه المرحلة الدعوة لتأسيس وتكريس "القومية العربية".


مرحلة السادات: عزل البابا 


وتحمل الأيام تحولاً دراميًا قدريًا سنلمس تداعياته في دائرة علاقة الأقباط بالدولة فيما بعد، عندما يرحل الرئيس عبد الناصر(8)، ويلحقه في الرحيل بعد بضعة شهور البطريرك المصري البابا كيرلس السادس(9)، ليأتي الرئيس محمد أنور السادات على قمة الهرم السياسي خلفًا للأول، وقداسة البابا شنودة الثالث على قمة الهرم الكنسي خلفًا للثاني.


كان أمام الرئيس السادات تحدٍ كبير، خاصة وأنه يأتي عقب رحيل زعيم له وهجه الشعبي محليًا وإقليميًا، ويملك حضورًا طاغيًا، فلم يتنازل عن حتمية المواجهة مع العدو الصهيوني وإن ترك البلاد وجزءًا عزيزا منها تحت الاحتلال الإسرائيلي، واقتصادها مثخن بتبعات حروب متتالية، وشعبها جرحت كبريائه مع هزيمة يونيو/حزيران 67 الثقيلة والمباغتة، وجيشها يعيد ترتيب صفوفه ويشتبك مع العدو ببسالة فيما عُرِف بحرب الاستنزاف، ثم إن هناك إرهاصات انعطاف شعبي نحو الدين كحائط صد أمام انهيار متوقع للهوية الوطنية، وتحفز قوى إقليمية لملء فراغ الانسحاب المصري عن موقع القيادة الإقليمية، وصراعات عند القمة وغليانا عند القاعدة يستعجل الثأر واستعادة الكرامة.


تفتق ذهن الرئيس السادات عن خيار ناجز وهو مواجهة الأيديولوجيات السائدة، الناصرية واليسارية، بالأيديولوجية الدينية فيحقق بها تعاطفًا شعبيًا في لحظة فارقة، في استثمار محسوب للاحتماء الشعبي بأهداب التدين، وكان له ما أراد عبر إحياء وبعث التيارات "الراديكالية" الإسلامية النائمة.(10)


في تواز كانت الكنيسة القبطية تشهد تحولاً في منهج عملها؛ فقد جاء على رأسها "محارب عتيد" (البابا شنوده الثالث) يحمل معه رؤية محددة لطالما طرحها على صفحات مجلة مدارس الأحد التي كان يرأس تحريرها في مقتبل شبابه (1947 ـ 1954)، وخرج منها قاصدًا الرهبنة باعتبارها المدخل الوحيد للدخول في دائرة القيادة الكنسية، وكان له ما أراد. وبمثابرة فذة أعاد هيكلة مجمع الأساقفة بتطعيمه بزمرة من الشباب الذين استقوا رؤاهم من تتلمذهم عليه منذ أن كان أسقفًا للتعليم ـ 30 سبتمبر/أيلول 1962 ـ وربما قبلها، وسرعان ما أصبحوا أغلبية مجمع الأساقفة، المنوط به رسم وتنفيذ رؤية الكنيسة وسياساتها؛ وبحكم العلاقة الأبوية والتلمذة صار البابا البطريرك هنا هو من يضع السياسات الكنسية ويتابع الالتزام بها.





رغم حالة التوتر القائمة بين النظام المصري والكنيسة وانعكاسات ذلك على العلاقة عموما بين المسلمين والأقباط فإن الأمل ما يزال معقودا على المجتمع المدني
مرت العلاقة بين الرئيس السادات والجماعات الإسلامية "الراديكالية" بمرحلتين، مرحلة الوفاق وفيها كان الطرفان يسعيان -وفق المعلن- لغاية واحدة: تأكيد إسلامية الدولة، وكان الملعب السياسي قد أفرغ لصالح تلك الجماعات، حتى في الجامعة التي كان يُحظَر فيها ممارسة العمل السياسي الطلابي، وكانت الخطوات متسارعة، إلى الدرجة التي استشعر فيها الأقباط الخطر والاستهداف، فهم عند أجنحة عديدة من هذه الجماعات "أهل ذمة" وعليهم التزامات تفرضها هذه الرؤية، وبدأ الحديث عن ضرورة فرض الجزية عليهم، وكثر الحديث بشأن الولاية والتبعية وجواز التحاقهم بالجيش وغيرها من الأطروحات السلفية، كل هذا بدأ يجد له مكانًا في الإعلام والتعليم والثقافة، بل وراحت أجنحة أخرى تطبقه في الشارع ودواوين الحكومة وتفرضه كأمر واقع، وعندما اختلف السادات وتلك الجماعات، وهي المرحلة الثانية في العلاقة، راحت تلك الجماعات تبحث عن دعم بديل لنشاطها، وقد اكتسبت أرضًا في استمالة قطاعات من الشارع وبعض من أجنحة السلطة، ووجدت ضالتها في أموال الأقباط فاستهدفتها بل واستهدفت الأقباط أنفسهم في رسائل ترسلها -عبر نهب ممتلكاتهم، والهجوم على دور عبادتهم- إلى النظام في محاولة لاستعراض القوة.(11)

لم يجد الأقباط أمامهم بديلاً عن الاحتماء بالكنيسة ربما حفاظًا على هويتهم وحياتهم، وكانت أبواب الكنيسة مفتوحة، وكان النظام راضيًا، فهذا أمر يسير في اتجاه اختزال الأقباط في الكنيسة واختزال الكنيسة في شخص، يملك في هذه اللحظة التاريخية مقومات الزعامة، ويرى في الأمر إضافة إلى ثقله ومكانته. لكن الأمر لم يكن بهذا التبسيط فقد برزت في الأفق بوادر صدام مرتقب؛ ففي الوقت الذي استقر فيه عبر الواقع أن البابا هو زعيم الأقباط وربما المتحدث باسمهم، كان رئيس الدولة يرى في هذا مزاحمة لصلاحياته، وبدا هذا في نبرة خطاباته العامة والرسائل التحذيرية من خلال السطور إلى البابا والكنيسة(12)، وتتصاعد الأمور ليقع الصدام المدوي في 5 سبتمبر/أيلول 1981 عندما أصدر الرئيس السادات عدة قرارات عنيفة كان من نتائجها اعتقال المئات من كل التيارات السياسية المناوئة، استوى في هذا اليساري واليميني والناصري والليبرالي والشيوخ والكهنة والأساقفة، واتخذ قرارا أيضًا بعزل البابا والتحفظ عليه في أحد الأديرة، وفي هذا المناخ الملتهب تقوم إحدى الجماعات الإسلامية باغتيال الرئيس السادات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، وفي هذه الأجواء يأتي الرئيس محمد حسنى مبارك كخلف للرئيس السادات، في مناخ غائم وملتبس، ربما أسوء من مناخ انتقال السلطة من الرئيس عبد الناصر إلى الرئيس السادات.


مرحلة مبارك: المواطنة والفتنة 


استهل الرئيس مبارك ولايته بالإفراج عن (جل) المعتقلين الذين شملتهم قرارات سبتمبر/أيلول، واستقبل بعض الرموز السياسية منهم في قصر الرئاسة، في بادرة سلامية تبشر ببدء عهد جديد، إلا أن البابا بقي قيد التحفظ حتى صدر قرار بإعادة تعيينه من رئيس الدولة في يناير/كانون الثاني 1985، فعاد إلى مقر كرسيه بالكاتدرائية المرقصية بالقاهرة، وكانت أولويات الرئيس في هذه المرحلة إعادة بناء البنية التحتية المنهارة جرَّاء استنزاف الحروب للاقتصاد المصري، والنجاح في استعادة بقية الأرض المحتلة من سيناء في 25 أبريل/نيسان 1985.


ويمكن إجمال أبرز مآخذ الأقباط على النظام المصري خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها مبارك مصر حتى الآن، في النقاط التالية:



  • أعمال عنف ضد الأقباط، لأسباب مختلفة، لم تنل العقاب الرادع بما يكفي من قبل القضاء.
  • التضييق على بناء وترميم الكنائس.
  • غياب الأقباط عن بعض الوظائف العليا في الدولة.

ورغم حالة التوتر القائمة بين النظام المصري والكنيسة وانعكاسات ذلك على العلاقة عموما بين المسلمين والأقباط فإن الأمل ما يزال معقودا على المجتمع المدني سواء المنظمات الأهلية أو النقابات المهنية، وبالأخص ما يمكن أن تُسمَّى نقابات صناعة وتوجيه الرأي العام وعلى رأسها نقابة الصحفيين والتكوينات الشعبية المتمحورة حول الشباب. والحق أن جهدا بذل في هذا المجال وأثمر عن إدخال مفهوم المواطنة في التعديلات الدستورية التي شهدتها مصر عام 2007.


وفيما يبدو أنه استجابة حكومية لدعاوى احترام حقوق الإنسان، وفي القلب منها حقوق الأقباط، أنشأ نظام الحكم في مصر "المجلس القومي لحقوق الإنسان"، لكن هذا المجلس للأسف ولد مبتسرًا رغم فخامة الاسم وتشكيلته النخبوية، فغلب عليه الطابع التكنوقراطي، لأن قرار تشكيله جاء خلوًا من آليات لتنفيذ رؤيته وتوصياته. ولعل هذا يفسر ازدياد ما بات يعرف إعلاميًا بالفتنة الطائفية والتي تشهد تحولاً نوعيًا بعد أن أصبح الفاعلون فيها من عامة الناس بعد أن كانت قاصرة على الجماعات المتطرفة.


الأقباط والدولة: توجس وانقطاع في الاتصال 


بغير قفز على الأحداث، أو انحياز يحصر الأزمة في جانب دون آخر، ومن ثَمَّ إلقاء الكرة في ملعب الدولة أو الأمن، نرى أن العلاقة بين الأقباط والدولة تتراوح بين التوجس القلق وبين انقطاع خطوط الاتصال الفاعلة والموضوعية، ولم يقترب أحد بصورة جدية من حلها حتى الآن، الأمر الذي يجعلها تتفاقم خاصة مع دخول لاعبين جدد في ملعب الأحداث لتحقيق أجندات خاصة بهم إن محليًا أو إقليميًا أو دوليًا، وبفعل ثورة الاتصالات والانفتاح الإعلامي بين الداخل والخارج، والإصرار على التناول السطحي للأزمات المزمنة والمستحدثة، وغياب الرؤية الإستراتيجية عن الساحة، والافتقار لفكر موضوعي لإدارة الأزمات؛ وفي هذا الإطار نلمس بعض جوانب الأزمة في النقاط التالية:






  • العلاقة بين الأقباط والدولة تتراوح بين التوجس القلق وبين انقطاع خطوط الاتصال الفاعلة والموضوعية، ولم يقترب أحد بصورة جدية من حلها حتى الآن، الأمر الذي يجعلها تتفاقم
    اختزال الحلول والمواجهة الحقيقية للأزمة في الحل الأمني؛ رغم أن الأمن هو جهاز احترافي مكلَّف بمنع الجريمة قبل وقوعها كلما كان ذلك ممكنًا، وتعقب الجناة حال وقوعها وتقديمهم للعدالة، وليس من مهامه تقديم حلول لما يعانيه المجتمع من أزمات ومشاكل، وتحميله بهذا يأتي خصمًا من مهمته الاحترافية وينعكس سلبًا على الواقع ويزيده تأزمًا؛ إذ يرحِّل الأزمة الحقيقية إلى المجهول فتعود مرة ومرات أكثر سخونة وأشد ضررًا.


  • اللجوء تحت ضغط التفجر الأمني إلى الحلول العرفية وهو ما يعني إقصاء للقانون، وردة إلى نسق القبيلة والتجمعات البدائية، وهو نسق لا تعرفه مصر عبر تاريخها الطويل إلا في أطرافها وبشكل استثنائي، ويترتب على ذلك تقويض أركان الدولة المدنية، وإثابة المجرم بدلا من معاقبته، فتختفي ثقافة الردع الرامية لحماية المجتمع، وتكون دعوة واضحة لتكرار الأعمال الإجرامية التي تتم على خلفيات دينية مشوشة.


  • التهاون في معالجة الأسباب الحقيقية للاحتقان الطائفي بالاكتفاء بسياسة إطفاء الحرائق بينما النار تشتعل تحت الرماد.


  • غياب العمل التشريعى في ترجمة نص المواطنة الدستوري إلى حزمة من القوانين المشتبكة مع المجتمع، والمنظمة لعلاقاته البينية على أرضية المواطنة، والتي ترمي إلى تجريم كل ما ينتقص منها ومن محاورها الأساسية التي يأتي على رأسها مبدأ المساواة، والتي تقر بأن الحقوق والواجبات تترتب على الانتماء للوطن وليس إلى أية انتماءات أخرى مهما علا شأنها.


  • ضعف الحياة الحزبية، وانسداد قنوات التواصل مع الشارع الأمر الذي فتح الأبواب للمؤسسات الدينية، الرسمية والموازية، لاستلاب العقل الجمعي، وبث الخطابات الصانعة للفتنة والمعمقة للشرخ الوطني.

رهان الدولة المدنية 


الأقباط جزء أصيل في التركيبة السكانية المصرية فلا يُخال أن يتم تهجيرهم طوعًا أو قسرًا منها، ولا يُتخيل أن يُنظر إليهم كأقلية عرقية خلافا لحقيقة ثابتة وهي أن مصر -وفق كل الدراسات الانثروبولوجية المحترمة- تتميز بوحدة العرق، الأمر الذي يستوجب تصحيح المفاهيم الخاطئة في هذا المضمار.


وأتصور أننا بحاجة ماسة لخطوات على الأرض تتمثل في:






  • أنشأ نظام الحكم في مصر "المجلس القومي لحقوق الإنسان"، لكن هذا المجلس للأسف ولد مبتسرًا رغم فخامة الاسم وتشكيلته النخبوية، فغلب عليه الطابع التكنوقراطي.
    إعادة هيبة الدولة في الشارع المصري عبر تفعيل وفتح قنوات الحوار، وتفعيل الحياة الحزبية بدءًا من رفع القيود عن تكوينها مع الالتزام بالدستور وعلى أرضية المواطنة، وفك الحصار عن حرية تحركها في الشارع، والتلاحم مع الجماهير، عبر آليات الإعلام القومية بشكل عادل وحقيقي.


  • إعادة تفعيل وتكريس ونشر ثقافة سيادة القانون وفقًا للقواعد الدستورية والتي تقول: إن القاعدة القانونية عامة ومجرَّدة وملزِمة؛ سعيًا لتحقيق العدالة وهي إحدى التزامات الدولة وفقًا لنظرية العقد الاجتماعي.


  • تشكيل مجلس قومي للمواطنة يتجنب سلبيات وعيوب المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو في تقديري أكثر اتساقًا مع ما نصت عليه المادة الأولى من الدستور من أن مصر دولة تقوم على المواطنة، وتكون له صلاحيات مراجعة القوانين وتنقيتها مما قد يشوبها من نصوص تعوق تطبيق المواطنة الكاملة، وتقديم مشاريع قوانين للبرلمان تهدف لتفعيل المواطنة في الشارع، وتضبط العلاقات المجتمعية على ضوئها.


  • تشكيل مجموعات عمل تتبع مؤسسة الرئاسة لمراجعة الآليات التي تشكِّل الوجدان والفكر الجمعي، وهي الإعلام والتعليم والثقافة بحزم وحسم لتنقيتها من كل ما يُشتَبَه في أنه يبث الكراهية وروح الاستعلاء، ودعمه بكل ما من شأنه أن يكوِّن عقل النشء والشباب باتجاه التنوير، وثقافة المواطنة، وقبول الآخر، وتكريس ثقافة العيش المشترك.


  • تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية بإلغاء نظام الانتخاب الفردي والالتجاء إلى الانتخاب بالقائمة النسبية، الأكثر تحقيقًا لتمثيل الأقليات العددية والمهمشين والمرأة، وتجنب سلبيات سيطرة رأس المال والبلطجة وتقليص الاختيار بحسب العاطفة الذاتية، وتحفيز الأحزاب على الدخول في معترك الانتخابات ببرامج عمل واضحة تكون محل مفاضلة عند جموع الناخبين، حتى يضمن لنا مجلسًا نيابيًا قادرا على التعبير عن مصالح وحقوق المواطن وأكثر قدرة على ممارسة واجبه التشريعي والرقابي.

________________
باحث متخصص في الشؤون القبطية.






ملاحظة
ستنشر هذه الدراسة قريبا في كتاب "مصر.. تبديد أرصدة القوة" عن مركز الجزيرة للدراسات.


الهوامش
(1) عرفت مصر في اللغة اليونانية باسم "إيجبتوس" Eiguptos وهي الترجمة اليونانية للكلمة المصرية القديمة "ها كا بتاح" وتعني "بيت روح بتاح"، وهو الإله بتاح معبود العاصمة المصرية القديمة "منف" والذي أُطلق على كل القطر، ومنها جاء اسم "جبت" الذي تحول في النطق العربي إلى "قبط"، ودعا العرب مصر "دار القبط"، وعليه تكون كلمتا "قبطي" و "مصري" بمعنى واحد. وإن كان السائد الآن قصر لفظة "الأقباط" على المسيحيين المصريين وهو خطأ شائع استقر في الأدبيات الحديثة. (راجع في ذلك كتاب: خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ـ تأليف لجنة التاريخ القبطي ـ الطبعة الثالثة (1996). (الطبعة الأولى 1922).


(2) المرجع السابق.


(3) للتوسع في وقائع ما حدث من تداعيات الخلاف بشأن طبيعة المسيح وأمه وموقف الإمبراطورية البيزنطية والكنيسة المصرية من ذلك، انظر: يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، القاهرة، دار الشروق، 2010، ص 39 - 44. (المحرر).


(4) تاريخ الأمة القبطية: يعقوب نخلة روفيلة ـ الطبعة الثانية سنة 2000( الطبعة الأولى 1898).


(5) ماذا جرى لمصر ـ مسلمين وأقباط، د. رفعت السعيد 1991.


(6) المجتمع القبطي في مصر في القرن 19 - رسالة ماجستير من جامعة القاهرة في تاريخ مصر الحديث مايو/أيار 1970 -رياض سوريال-  صدرت في كتاب 1984.


(7) رواية تحكي عن أسرة مصرية من الطبقة البرجوازية، تسرد من خلالها ما يعتمل في المصريين من روح وطنية وثابة وقدرتهم على النهوض من جديد رغم ظاهر حياتهم البسيط، والذي يُخفى عظمة متوارثة وقدرة على الانتفاض.


(8) توفي في 28 سبتمبر/أيلول.


(9) توفي في 9 مارس/آذار 1971.


(10) هناك قراءة أخرى لتنامي التيار الإسلامي بدءا من النصف الثاني من السبعينيات حتى الآن غير تلك القراءة التي أوردها الكاتب والتي عادة ما يرددها اليساريون وبعض الليبراليين المصريين؛ تلك القراءة مفادها أن بواعث النهوض والإحياء الحضاري المؤسس على مرجعية دينية عميقة الجذور في التربة المصرية لعل آخر تجلياتها دعاوى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وأن كل ما حدث لها إبان عهد عبد الناصر -حينما اصطدم مع الإخوان المسلمين- هو نوع من الكمون والخفوت ريثما تتحسن الظروف بعدما اشتدت الوطأة الأمنية، وهو ما حدث بالفعل بعد موت عبد الناصر وإفراج السادات عن الإخوان المعتقلين (بعضهم قضى في السجن أكثر من عشرين عاما)، فعاودت دعاوى الإحياء الديني نشاطها مرة أخرى. لمزيد من التفاصيل بشأن هذه المسألة انظر على سبيل المثال: مذكرات/شهادة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح على الحركة الطلابية الإسلامية في الفترة من 1970 حتى 1984، تحرير حسام تمام وتقديم طارق البشري، دار الشروق، 2010، القاهرة. (المحرر).


(11) في قراءة أخرى لموضوع سعي السادات لتأكيد "إسلامية الدولة" أن الرئيس المصري آنذاك كان يبحث عن "شعبية" لرفع أسهمه بعد موجات الرفض الشعبي لاتفاقية كامب ديفيد فحاول مغازلة الأغلبية بموضوع "تقنين الشريعة الإسلامية"، وترديد عبارات من قبيل "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"، وإطلاقه صفة "دولة العلم والإيمان" على مصر، وهذا كله كما سبق القول –وفق هذه القراءة- تكتيكات سياسية لكسب الشعبية وليس إستراتيجية جديدة تبناها النظام لتحويل مصر إلى "دولة إسلامية". أما "استحلال" أموال الأقباط التي أشار إليها الكاتب وعممها على "الجماعات الإسلامية"، فإن المعروف تاريخيا أن من "استحل" أموال الأقباط ومارس بحقهم العنف ليس "كل" الجماعات الإسلامية، وإنما شريحة صغيرة من فصيل داخل هذه الجماعات تبنى العنف والعمل المسلح ضد الدولة والنظام. بعض هؤلاء الأفراد كانوا ينتمون للجماعة الإسلامية وبعضهم لجماعة الجهاد والبعض الآخر لجماعة المسلمين التي اشتهرت إعلاميا باسم جماعة التكفير والهجرة بقيادة شكري مصطفى. (المحرر)


(12) توترت الأجواء بين البابا شنوده والسادات بعد أن رفض البابا مصاحبة السادات أثناء زيارته المفاجأة للقدس عام 1977؛ وبعد أن اندلعت مظاهرات غاضبة من الفلسطينيين وبعض أقباط المهجر أثناء زيارة للسادات إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك، وزاد الأمر توترا إعلان البابا إلغاء الاحتفال بعيد القيامة وذهابه للاعتكاف بالدير وعدم استقبال المهنئين الرسميين من الدولة بهذه المناسبة رغم الوساطات.

نبذة عن الكاتب