شهدت العلاقات العربية-الإفريقية على مدى العقود الأربعة الأخيرة تراجعًا كبيرًا بات مؤثرًا على مجمل المصالح الإستراتيجية للأطراف أصحاب العلاقة (الجزيرة) |
تُعد إفريقيا مركز ثقل للعرب والمسلمين؛ ففيها أكثر من ثلثي العرب في العالم، كما كانت ممرًا سلكه الإسلام والعرب إلى أوروبا عن طريق شبه جزيرة إيبريا (وجزيرة صقلية وجزر البحر المتوسط الأخرى)، ونقلوا إليها أسس الحضارة والمعرفة مباشرة أو بطريق غير مباشر.
ولكن على مدى العقود الأربعة الأخيرة شهدت العلاقات العربية-الإفريقية تراجعًا كبيرًا بات مؤثرًا على مجمل المصالح الإستراتيجية للأطراف أصحاب العلاقة. من هذه الزاوية ظهرت محاولات عربية متعثرة لاستعادة قوة الدفع العربي-الإفريقي خلال فترة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومن هذه المحاولات آلية القمة العربية-الإفريقية التي عُقدت في سرت عام 2010 وبفارق أكثر من ثلاثة عقود عن قمة القاهرة 1977.
سوف نهتم برصد ملامح المشهد الراهن للعلاقات العربية-الإفريقية, وذلك في محاولة للكشف عن دوافع التعاون الضرورية التي تآكلت بفعل الإستراتيجيات المضادة من جانب إسرائيل والتنافس الدولي على إفريقيا؛ وذلك وصولاً إلى محاولة تأسيس خارطة طريق تضع العرب والأفارقة على مسار تفاعل إيجابي يحافظ على مصالحهما الإستراتيجية المشتركة المؤسسة على المعطيات الجيوسياسية, وربما يؤسس لشراكة من نوع جديد تحقق مصالح الشعوب –المعطَى الأساسي للثورات العربية الراهنة– نحو الرفاه والتقدم.
تراجع عربي وصعود إسرائيلي
لعبت الدول الاستعمارية أدوارًا متنوعة في تفكيك أحد عناصر الهوية الجامعة للأفارقة وهو الدين الإسلامي، ووضعت في هذا السياق إستراتيجيات محددة في نهاية القرن التاسع عشر لفصل إفريقيا شمال الصحراء عن جنوب الصحراء على أسس عرقية بين العربية والإفريقانية، كما انتشرت الأدبيات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية لوضع أسس الفصل في الأدبيات السياسية, غير أن مشروع التحرر الوطني من الاستعمار بقيادة جمال عبد الناصر استطاع تجاوز هذه الإستراتيجيات الغربية بل وتطويقها بإعلان منظمة الوحدة الإفريقية وتدشينها عام 1963 بمدينة الإسكندرية, وقد انتبه الآباء المؤسسون للمنظمة إلى خطورة إعادة رسم خريطة القارة الإفريقية بما تتضمنه من مخاطر الحروب الأهلية فدشنوا قاعدة الحفاظ على الحدود الإفريقية كما وضعتها الدول الاستعمارية.
وبالفعل شكَّلت هذه الكتلة الإفريقية ظهيرًا سياسيًا أساسيًا للحقوق العربية ككتلة تصويتية في المحافل الدولية تزيد قوتها عن خمسين دولة؛ حيث ساندت مجمل المواقف العربية من السياسات العنصرية والاستعمارية والاستيطانية لإسرائيل, كما كانت هذه الكتلة مساندًا أساسيًا لحروب مصر ضد إسرائيل خصوصًا حرب 1973 التي التزمت فيها الدول الإفريقية بمقاطعة إسرائيل دبلوماسيًا؛ وفي المقابل كانت الكتلة العربية فاعلة في المساهمة في تضييق الخناق على النظام العنصري بجنوب إفريقيا.
ملامح المشهد التعاوني للعلاقات العربية-الإفريقية
شهدت متغيرات مهمة في أعقاب مؤتمر مدريد 1991 لمفاوضات السلام بين العرب والإسرائيليين؛ إذ تمت ممارسة نوع من أنواع التخلي العربي عن الأفارقة بتأثير عاملين: الأول: تقدير عربي خاطئ بأن الصراع العربي-الإسرائيلي في طريقه للحل، وبالتالي فإن الحاجة إلى الأفارقة كورقة ضد إسرائيل وككتلة تصويتية في المحافل الدولية قد انتفت. أما العامل الثاني فهو تحولات النظام السياسي المصري وتخليه عن ثوابته الإستراتيجية التي حددها ميثاق ثورة يوليو في دوائر عربية وإسلامية وإفريقية, بل وإعادة النظر في مجمل الأدوار الإقليمية المصرية طبقًا لقاعدة التكلفة والعائد؛ حيث اتسم هذا التحول بالقصور المعرفي بالضرورات الإستراتيجية المرتبطة بالتعاون العربي-الإفريقي.
هذا السياق كان يحظى باستثناء هو التوجهات الليبية الإيجابية خلال العقد الأخير إزاء إفريقيا والتي كان لها دور مؤثر في عقد القمة العربية-الإفريقية الثانية في سرت عام 2010؛ وذلك تتويجًا لدعم ليبي مباشر للعديد من الدول الإفريقية والتي كانت تصل إلى تمويل الميزانيات والانتخابات المحلية في العديد من الأقطار، من هنا نستطيع أن نتفهم الموقف الإفريقي الأخير الذي رفض التخلي عن القذافي، وشعور الأفارقة بالتوجس إزاء ثورات الربيع العربي من جهة ومجمل السياسات العربية إزاءهم في الفترة المقبلة من جهة أخرى، خصوصًا بعد الإعلان عن إجراء مراجعات للسياسات والاستثمارات الليبية في إفريقيا.
الاستثناء الليبي لا ينفي الخسارة العربية الناتجة عن الإستراتيجيات الإسرائيلية المؤسسة في خمسينيات القرن الماضي على يد بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي، والتي تبلورت في السعي لإضعاف وتفكيك عناصر القوة الشاملة للعرب وخاصة مصر، وفي هذا السياق تم تفعيل آليتين، هما: تكوين طوق محيط بالعرب تستطيع أن تنطلق منه لإنجاح أهدافها, وعنصر هذا الطوق الإفريقي كان إثيوبيا, أما الآلية الثانية فهي التفاعل مع الأقليات في الدول العربية حتى يتم شد أطراف هذه الدول.
ويمكن القول: إن المدخل الثقافي الإسرائيلي لإفريقيا كان –وما يزال- أخطر المداخل على الإطلاق لأنه مؤسَّس على أن اليهود والأفارقة قد عانوا اضطهادًا وتمييزًا عنصريًا, وأن المعاناة الإفريقية كانت على يد العرب وقت تجارة الرقيق في إفريقيا.
وقد بلور الإسرائيليون هذه الأطروحة فيما يُعرف بمشروع الأخدود الإفريقي العظيم في يونيو/حزيران 2002 والذي تم طرحه أمام لجنة التراث العالمي باليونسكو، وهو مشروع يهدف إلى التعاون الثقافي بين الدول التي تشكِّل الأخدود الممتد من وادي الأردن حتى جنوب إفريقيا. ويبدو الغرض الرئيسي لهذا المشروع هو الدفع نحو الاعتقاد بأن سياسة إسرائيل في إفريقيا تنشد مساعدة الأفارقة (الزنوج) على قاعدة الاضطهاد المشترك التي يعود أصلها إلى تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الذي قال في كتابه (وطن قومي): إن لليهود والأفارقة تاريخًا مشتركًا من الاضطهاد؛ وذلك في سياق طرح أوغندا ضمن خياراته التي تفاوض عليها لإنشاء الوطن القومي اليهودي.
وقد طورت إسرائيل إستراتيجية بن جوريون اعتبارًا من التسعينيات -كما يقول موشى فيرجي، العميد السابق في جهاز الموساد الإسرائيلي- على يد فريق من الخبراء العاملين في مناطق المحيط العربي، منهم أوري لوبراني سفير إسرائيل في كلٍّ من تركيا وإيران وإثيوبيا، ويهوديت رؤتين المتخصصة في السودان وشرق إفريقيا؛ فطورت هذه الإستراتيجية خطة بن جوريون، من خلق الأزمات داخل الدول العربية إلى دفع الجماعات الإثنية الموجودة على التخوم العربية إلى الانسلاخ والانفصال وإقامة كياناتهم الإثنية المستقلة.
وقد حقَّق تطبيق هذا التجديد الإسرائيلي نجاحًا كاملاً في الحالة السودانية بفصل جنوب السودان وميلاد دولته الجديدة في يوليو/تموز 2011. فضلاً عن وجود إمكانات جدية لمزيد من الشرذمة للدولة السودانية بوجود معضلتي دارفور وشرق السودان, على أنه من الضروري الإشارة هنا إلى أن المخططات الإسرائيلية لم تكن لتنجح إلا نتيجة فشل نخب الاستقلال الوطني في السودان في مواجهة التحديات الداخلية, من خلال أمرين: عدم بلورة متطلبات المصالح الإستراتيجية السودانية في إطار مؤسسة الدولة على مدى نصف القرن الماضي, والفشل في إدارة التنوع العرقي والديني والثقافي السوداني والذي كان منطويًا على إمكانات تدعيم مصادر القوة الشاملة للدولة في حال الوعي بتوظيفه.
وتبدو الخسائر العربية الإستراتيجية في هذا السياق مرتبطة بتصاعد الوزن النسبي للمكون الإسرائيلي في صناعة القرار بمنطقة القرن الإفريقي وحوض النيل والبحر الأحمر بما يجعل المصالح الخليجية المرتبطة بالنفط والاستثمار الزراعي في إفريقيا تواجه انعكاسات سلبية متفاوتة القوة والتأثير، كما يحرم مصر من تعظيم مواردها المائية عبر ما يُعرف بمشروع دعم الاستفادة من الفواقد المائية الموجودة على الحدود الإثيوبية وفي جنوب السودان وهي المقدَّرة بـ 56 مليار متر مكعب من المياه.
إفريقيا وتعدد اللاعبين
تتميز البيئة السياسية والاقتصادية في إفريقيا في العقد الأخير بكونها بيئة تنافسية بين عدة أقطاب ولاعبين دوليين، مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين والبرازيل والهند، وهؤلاء جميعًا يتسم أداؤهم بالحيوية والإنجاز مقارنة بالأداء العربي. ولعل الحضور الإفريقي الضعيف في أعمال اللجان التحضيرية للقمة العربية-الإفريقية بسرت 2010 يعكس طبيعة هذه البيئة التنافسية، من حيث تراجع الاهتمام الإفريقي بالعرب، كما يعكس أزمة المصداقية التي يجابهها العمل العربي المشترك إزاء إفريقيا.
وتبدو خرائط اللاعبين في إفريقيا منقسمة بين فريقين، الأول: هو الفريق التقليدي القائد للنظام العالمي منذ منتصف القرن الماضي ممثلاً في الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الاتحاد الأوروبي، والثاني: هم اللاعبون الجدد الصاعدون نحو أدوار جديدة في النظام العالمي الراهن وأبرزهم الصين، وعلى مسافة منها تقع كل من تركيا وإيران.
فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية؛ فقد أعلنت القارة الإفريقية كمنطقة إستراتيجية للولايات المتحدة اعتبارًا من عام 2002، وطبقًا لذلك تم تكوين القيادة العسكرية الأميركية لإفريقيا (أفريكوم) عام 2006 التي ربما تجد لها موطئ قدم في جنوب السودان. وفي هذا السياق قدمت الولايات المتحدة دعمًا عسكريًا لأوغندا بإيفاد مائة عنصر أميركي عسكري للدعم في محاربة جيش الرب المتمرد على حكومة موسيفيني, وكذا الدعم التسليحي لجنوب السودان الذي أعلنه الرئيس الأميركي في يناير/كانون الثاني 2012.
وذكر أوباما -في توجيه لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون- أنه سيسمح للولايات المتحدة بتقديم مواد وخدمات دفاعية إلى جنوب السودان لأن القيام بذلك "سيعزز أمن الولايات المتحدة ويدعم السلام العالمي". وقد كان هذا المدخل العسكري من جانب الولايات المتحدة مكملاً لمدخل الشراكة التجارية الذي أُعلن عام 1998.
وفيما يتعلق بالصين فقد حقق التعاون التجاري بين الصين ودول إفريقيا نموًا متسارعًا، ومنجزات ملحوظة، فقد وصل حجم التجارة بين الصين ودول إفريقيا إلى 110.8 مليار دولار، وشملت المشروعات الاستثمارية الصينية 49 دولة إفريقية، وبلغ الاستثمار الصيني المباشر لإفريقيا 550 مليار دولار أميركي في 2009.
وفيما يخص إيران، فإنها تحاول كسر الحصار الغربي المفروض عليها من خلال اكتساب مناطق نفوذ جديدة في إفريقيا؛ وذلك عبر مدخلين: اقتصادي وعسكري, وذلك في مناطق متفرقة؛ ففي العاصمة السنغالية داكار يوجد مصنع "خضرو" للسيارات الإيرانية. كما وعدت إيران الحكومة السنغالية ببناء مصفاة للنفط ومصنع للكيماويات وآخر للجرارات الزراعية. وتحتفظ إيران بعلاقات وثيقة مع كل من موريتانيا وغامبيا ونيجيريا.
كما تتمتع إيران بعلاقات قوية مع السودان، حيث تُعد طهران أكبر مصدري السلاح للسودان. كما قامت في عام 2008 بتوقيع اتفاقية للتعاون العسكري بين البلدين، وأثناء زيارة الرئيس الإيراني لكينيا العام الماضي وافق على أن تصدر بلاده نحو أربعة ملايين طن من النفط الخام سنويًا لنيروبي, إضافة إلى تسيير خط طيران مباشر بين عاصمتي البلدين. وقدمت طهران كذلك منحًا دراسية للكينيين للسفر والتعلم في إيران.
ولا يخفى أن البعد النووي لم يكن بعيدًا في توجه إيران الإفريقي؛ حيث تسعى إيران إلى الحصول على اليورانيوم من الدول الإفريقية، وهو ما استهدفته زيارة أحمدي نجاد خلال 2009 لكل من أوغندا وزيمبابوي. وإن كان المعلن عنه دائمًا يتمثل في الترويج لمشروع إيران وحقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
دوافع التعاون العربي-الإفريقي
على الرغم من تصاعد الخسائر العربية في إفريقيا إلا أن طبيعة التحديات المشتركة التي يواجهونها في المرحلة الحالية تتطلب نوعًا من التقارب والتعاون حتى يتم صيانة مصالح الطرفين خصوصًا وأن تماسك مؤسسة الدولة في إفريقيا يواجه تحديات أساسية للأسباب التالية:
-
بروز ظاهرة الانقسام مع انفصال جنوب السودان عن شماله، والتوجه الدولي نحو تجزئة الصومال, بالاعتراف بالأجزاء المستقرة فيه وابتلاع جنوب الصومال من جانب جيرانه فيما أُطلق عليه الاستعمار الحميد، والتوترات بين العرب والزنوج في موريتانيا، وكلها مؤشرات تدل على أن واقع حالة الفسيفساء الإثنية والثقافية الموجودة في إفريقيا يمكن أن يفتح المجال واسعًا أمام انقسامات مماثلة قد يسبقها صراعات مسلحة تهدد حالة السلم والاستقرار الإقليمي في القارة.
-
تصاعد التحديات الأمنية: فقد تزايد خلال العقدين الماضيين حجم ومستوى واتساع المهددات الأمنية المشتركة للعرب والأفارقة في آن، ويمكن أن نُجمِل هذه المهددات في نمو ظاهرة الإرهاب المؤسسة على استلهام نموذج القاعدة، ولعل بوكو حرام في نيجيريا وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي نماذج ممثلة لهذه الظاهرة فضلاً عن ظاهرة القرصنة في شرق القارة وتهديد منظومة الأمن بالبحر الأحمر.
-
ضرورات التعاون الاقتصادي: يكتسب هذا العنصر أهميته منطلقًا من الاحتياجات المتبادلة والملحة حاليًا للطرفين العربي والإفريقي؛ ففي الوقت الذي يحتاج فيه الأفارقة إلى استثمارات خارجية تدفع مستويات التنمية الوطنية, تركز الفوائض المالية الخليجية على الاستثمارات الزراعية فقط في دول حوض النيل لسد الفجوة الغذائية في محاصيل أساسية مثل القمح والذرة. وفي هذا السياق يتم تجاهل الحقائق الإفريقية الجديدة والممثلة في أن التقديرات الجديدة لإفريقيا تقول إنها أضحت واحدة من أكثر وأسرع مناطق العالم نموًا؛ فقد زاد الناتج المحلي الإجمالي للقارة في ما بين 2000 و2008 بمعدل 4.9% سنويًا وهو ضعف نسبة نموها في العقدين السابقين. وبحلول عام 2008 كان ناتج إفريقيا يساوي 1.6 تريليون دولار أي ما يعادل تقريبًا كلاً من روسيا والبرازيل. وكان ذلك أحد نتائج التحسن النسبي للأوضاع الأمنية الناتجة عن الانقسامات العِرقية والقبلية.
وقد كانت إفريقيا وآسيا المنطقتين اللتين ارتفع فيهما الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2009 الذي شهد الكساد العالمي. كما زادت العائدات من المصادر الطبيعية، الدعامة القديمة لاقتصاد إفريقيا, بحيث مثَّلت 24% من النمو الاقتصادي خلال العقد الأخير، وجاءت النسبة الباقية من القطاعات الواعدة المزدهرة الأخرى مثل القطاع المالي, وتجارة التجزئة والزراعة وكذلك الاتصالات.
وقد هبط معدل التضخم إلى 8% في السنوات الأولى من القرن الحالي بعد أن حلَّق إلى مستوى 22% قبل عقد واحد. كما أن الدول الإفريقية خففت من العوائق التجارية، وخفَّضت الضرائب، وقامت بخصخصة الشركات، وحررت العديد من القطاعات بما فيها القطاع المصرفي.
ويوجد في إفريقيا اليوم أكثر من 100 شركة محلية تزيد عائداتها على مليار دولار. كما ارتفع تدفق رأس المال إلى القارة من 15 مليار دولار فقط عام 2000 إلى 87 مليار دولار عام 2007. ويعود ذلك لسبب وجيه هو أن إفريقيا تحقق أعلى عائد على الاستثمار مقارنة بأية منطقة أخرى في العالم.
هذه الحقائق الجديدة عن إفريقيا تبدو غائبة عن الإدراك العربي؛ فإفريقيا مكان أيضًا لتحقيق الأرباح فضلاً عن كونها الفضاء الإستراتيجي للعرب.
إن الاحتياجات المتبادلة تمتد لمستويات أوسع وأشمل خصوصًا في مجالات الاستثمارات الشاملة والتبادل التجاري مع تدشين آليات التأمين المناسبة ضد مخاطر الاستثمار، وهو الأمر الذي يساعد الاقتصاديات الإفريقية على تحقيق مستوى أسرع من النمو بات مطلوبًا على الصعيد الإفريقي، كما يحقق للجانب العربي مصداقيته في مسألة التفاعل الإستراتيجي مع إفريقيا.
تحديات التعاون العربي-الإفريقي
الطريق إلى تأسيس شراكات إستراتيجية بين العرب والأفارقة يواجه تحديات أساسية من المطلوب إدراكها أولاً؛ ومن ثَمَّ العمل على تخطيها، ويمكن أن نجمل هذه التحديات في ثلاث نقاط:
1- الخبرات السلبية
يشكِّل الإدراك الإفريقي التاريخي للعرب كتجار للرقيق معوقًا مهمًا للتفاعل الإيجابي بين الطرفين خصوصًا وأن الإستراتيجيات الإسرائيلية تحافظ على وجوده حيًا في الذاكرة الإفريقية, وتسعى إلى تجسيد نماذج معاصرة له مثل أزمة دارفور التي طُرحت عالميًا باعتبارها صراعًا بين العرب والأفارقة، وتم تدعيم هذه الصورة بتدشين جناح لدارفور بمتحف الهولوكست بواشنطن. وربما تكون توجهات قمة سرت العربية-الإفريقية 2010 بالاعتذار عن هذه الفترة خطوة مهمة، لابد من استكمالها بدراسة هذه الفترة وتحديد الدور العربي في هذه التجارة مقارنةً بالدور الغربي مثلاً، واتخاذ الإجراءات المناسبة لقبر الإدراك الإفريقي السلبي إزاء العرب.
ويقع في إطار الخبرات السلبية الإفريقية أيضًا ارتباط العلاقات العربية-الإفريقية بمتطلبات وظيفية دون ارتفاعها لمستوى الإستراتيجيات الشاملة، ومن ذلك متطلبات الصراع العربي-الإسرائيلي، أو متطلبات النظام الليبي خلال فترة القذافي من مكايدة العرب، وبناء مكانة بديلة للقذافي عن مكانته في ليبيا كمدخل لتوريث الحكم إلى نجله سيف الإسلام.
2- التنافس العربي-العربي في إفريقيا
عانت العلاقات الإفريقية-العربية من ظاهرة المنافسة المضرة في أحيان كثيرة، علاوة على أنه لم يكن لهذه العلاقات إطار فعال شامل, وقد استطاع الأفارقة الاستفادة من هذه الظاهرة, ولكن بشكل جزئي محدود؛ فبينما كان التنافس العربي مضرًا للأطراف العربية فإنه حقق منافع إفريقية جزئية، وربما تكون المعالجات العربية لأزمة دارفور نموذجًا ممثلاً لهذه الحالة؛ حيث حرصت ليبيا أثناء حكم القذافي على أن تقلِّص مساحة القاهرة في التعاطي مع هذه الأزمة بمقايضات حول استبدال سرت بالقاهرة أحيانًا في الفترة 2005- 2006, كما مارس القذافي شخصيًا نوعًا من الوشاية بمبارك لدى السودان لا نعلم على وجه الدقة مدى مصداقيتها ولكن يبدو أنها مؤثرة في الموقف السوداني من مبارك بعد رحيله عن الحكم. وفي هذا السياق أيضًا يمكن أن نشير إلى التفاعل العربي مع الاحتياجات الإنمائية لإقليم دارفور؛ حيث جرى تنافس بين القاهرة والدوحة فبينما سعت الأولى إلى الدعوة لمؤتمر للمانحين تحت مظلة جامعة الدول العربية, حرصت الثانية على تقديم تمويل منفرد لإقليم دارفور، ويبدو أن كلا المجهودين غير مقنع للحكومة السودانية, ولم يحرز نتائج على الأرض بدليل أن الخرطوم تطلب حاليًا دعمًا من الأمم المتحدة في عملية بناء آبار المياه في الإقليم والدعم في عودة النازحين من المعسكرات إلى قراهم.
وفي أوغندا أيضًا جرى تنافس مصري-ليبي طبقًا لشهادات بعض الدبلوماسيين المصريين. وإجمالاً نرى أنه بالتأكيد لا يمكن منع التفاعل القُطري العربي تجاه أية دولة إفريقية لكن من المطلوب أن يكون على قاعدة التنسيق وعدم الإضرار من جانب دولة عربية لأخرى لأن المحصلة ستكون خسارة عربية منفردة أو مجتمعة.
3- تراجع الدين الإسلامي كرابط موحد
أسفر التوظيف السلبي للدين الإسلامي على أيدي حركات التطرف، وسوء استخدامه في خلافات محلية قبَلية أو حتى عائلية، داخل إفريقيا "وخارجها" عن حالة من القلق عطّلت دوره التاريخي في وقت أحوج ما تكون فيه إفريقيا إلى هذا الدور. وفي هذا السياق استطاع الإسرائيليون اختراق حتى المجتمعات الإسلامية-الإفريقية التي كانت تنظر إلى إسرائيل نظرة رفض واستعداء. ومن مؤشرات ذلك أن إسرائيل حصلت على موافقة بلدية مدينة توبا معقل الحركة الصوفية بالسنغال وبغرب إفريقيا كلها لإقامة شبكة لتوزيع مياه الشرب ولمعالجة مياه الصرف الصحي. كما أقدمت نيجيريا، أكبر دولة من حيث عدد السكان في إفريقيا وبأكثرية إسلامية، على استيراد معظم حاجتها من الأسلحة الإسرائيلية.
وقد كانت أهم العوامل المستجدة لنجاح التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا هو القلق الإفريقي من العمليات التي تقوم بها حركات التطرف الإسلامي من جهة أولى، وفي لجوء العديد من الدول الإفريقية إلى جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" للحصول على المعلومات التي تساعدها على مواجهة هذه العمليات من جهة ثانية. ومن هذه الدول إثيوبيا وكينيا وأوغندا وحتى نيجيريا.
ومن خلال ذلك، تمكّنت إسرائيل ليس فقط من اختراق الأجهزة الأمنية في هذه الدول، ولكنها أصبحت قادرة على توجيهها لضرب الحركات الإسلامية سواء كانت حركات متطرفة أو حركات دعوية معتدلة.
كما تمكّنت من أن تطرح نفسها عاملاً أساسيًا للمحافظة على الأمن والاستقرار في إفريقيا، وعلى تشويه صورة الإسلام وتصويره على أنه عامل إرهاب وتخريب.
4- ضعف الإطار المؤسسي
تشكِّل القمة العربية-الإفريقية آلية مناسبة لتفعيل العلاقات العربية-الإفريقية شرط تقويتها وأن تؤسس لمبدأ الشراكة الإستراتيجية بين العرب والأفارقة بشروط: الندية والتكافؤ والمنافع المتبادلة لصيانة السلم الإقليمي في إفريقيا, والتقدم في عملية التنمية الاقتصادية.
وفي هذا السياق يمكن البناء على ما توصلت إليه قمة سرت من تفعيل التعاون المؤسسي الإقليمي وإعطائه أولوية متقدمة؛ حيث تم الاتفاق على حضور كل من الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية في الجلسات العلنية والمغلقة للاجتماعات التي تعقدها كلتا المنظمتين، ومن شأن هذه الخطوة أن تعزز مستوى التفاهمات المشتركة والإدراك المتبادل إزاء التحديات التي يواجهها كل من العرب والأفارقة على جميع الجبهات في حالة من الشفافية والوضوح.
كما اكتسب ملف التطبيق الإفريقي لمبادرة دول الجوار العربي التي تبنتها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والتي تقوم فكرتها الأساسية على تكوين رابطة إقليمية لدول المحيط العربي على الجانبين شرق الأوسطي والإفريقي تكون مهمتها الأساسية تعظيم المصالح المشتركة، وتوفير الأمن لأعضاء الرابطة، والعمل على تبني سياسة تنمية شاملة فيها.
وفي هذا السياق تم عرض اقتراح بانضمام تشاد لرابطة الجوار العربي على اعتبار أن المكون العربي في هويتها واضح، كما أنها من الدول المؤثرة على الاستقرار في منطقة وسط إفريقيا عمومًا والسودان خصوصًا, ويبدو أن هذه الاقتراحات خطوة من طريق طويل لابد أن يقطعه كل من العرب والأفارقة وصولاً إلى تحقيق مصالح شعوبهم في الرفاه والتقدم.
_________________________
د. أماني الطويل-مدير الوحدة الإفريقية بمركز الأهرام للدراسات
الهوامش
1- د. أماني الطويل, الأمن المائي في حوض النيل إشكاليات التنمية والاستقرار, د. أيمن عبد الوهاب محررًا, مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية, القاهرة 2012, ص 137-138.
2- موشى فيرجي, إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان, نقطة البداية ومرحلة الانطلاق, مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط, وإفريقيا, جامعة تل أبيب 2003, ترجمة الدار العربية للدراسات والنشر, القاهرة, بدون تاريخ.
3- موشى فيرجي, مرجع سابق, القاهرة, ص2.
4- د. أماني الطويل, الأهداف الإسرائيلية في القرن الإفريقي, المركز العربي للأبحاث, مؤتمر القرن الإفريقي: جدلية الجوار والانتماء. الدوحة 26-28 نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
5- الأمن القومي المصري في دول حوض النيل, أكاديمية ناصر العسكرية, تقرير غير منشور, 2001.
6- http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnews/2012/01/120107_south_sudan_usa_weapons.shtml-
7- الدور الإيراني في إفريقيا وانعكاساته المستقبلية, المركز الدولي للدراسات المستقبلية, يونيو/حزيران 2007.
8- د. حمدي عبد الرحمن, المثلث الإيراني التركي الإسرائيلي وإفريقيا، الرابط:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/9D0C1929-3470-4BBB-8610-85669754D578.htm
9- أطروحة المفكر علي مزروعي، الرابط:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/C41F8EA7-AB06-4753-8DD7-C47AE4E67BDC.htm
10- التقرير الإستراتيجي العربي, 2005-2006, مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية, القاهرة, 2006.
11- روى لي أحد أركان النظام السوداني قصة رواها القذافي للرئيس البشير تشير لاستخفاف مبارك، وذلك قبيل اجتماع بين الثلاثة جرى في الخرطوم بشأن الموقف من الجنائية الدولية.
12- صحيفة الأحداث السودانية ,2512012، الرابط:
http://www.alahdath.sd/details.php?articleid=16300
13- وكالة القرن الإفريقي للأنباء, 19 يونيو/حزيران 2010، الرابط:
http://www.hornafricaonline.net/news/index.php?option=com_content&view=article&id=828:2010-06-19-11-57-17&catid=3:2009-09-01-18-12-14&Itemid=11