سياسة فرنسا في عهد هولاند... بين الاستمرارية والتغيير

إذا كان التغيير قادما في مجال السياسة الداخلية نظرا للاختلاف الجوهري بين تصوري/برنامجي هولاند وساركوزي للسياسية المحلية بامتداداتها-ارتباطاتها الأوروبية، فإن السياسة الخارجية ستشهد استمرارية نظرا للتوافق الواضح بينهما حول جل الملفات.
20125714342670580_2.jpg
قال هولاند مررا وتكرارا إنه سيكون رئيسًا عاديًا، وبالتالي من المنتظر أن يعود الهدوء إلى الرئاسة الفرنسية التي ميزتها شخصية ساركوزي الانفعالية ومتقلبة المزاج (الأوروبية)

تميزت حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية بغياب الحديث عن مكانة فرنسا في العالم فجاءت بالمقابل مكانة العالم ضئيلة فيها رغم دولية أبعاد هموم الداخل الفرنسي وامتداداته الخارجية. ولعبت قضيتان متداخلتان، من حيت جدلية الداخل والخارج، دورا رئيسا في رسم ملامح الانتخابات وتحديد نتائجها في نهاية المطاف وهما الأزمة الاقتصادية في فرنسا وفي أوروبا والهجرة. فيما غابت قضايا السياسة الخارجية عن السجال الانتخابي، وإن حضرت فهي تُقارب وكأنها قضايا محلية. ويحاول هذا التقرير رسم ملامح سياسة فرنسا الخارجية في عهد فرانسوا هولاند من خلال جدلية الاستمرارية والتغيير: البحث في مدى الاستمرارية وحدود التغيير مقارنة بسياسة الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي. ويتوصل إلى استنتاج مفاده أن هناك كثيرا من الاستمرارية خارج الإطار الأورو- أطلسي وقليلا من التغيير داخله. لكن قبل الخوض في التحليل لإثبات ما ذهبنا إليه يجب التوقف عند بعض الملاحظات الأولية، بشأن هذه الانتخابات، ذات الصلة بجدلية الاستمرارية والتغيير.

ملاحظات أولية

اصطبغت الانتخابات الرئاسية الفرنسية ببعض المميزات من أولها القوة التي ظهر بها اليمين المتطرف مشكلا مفاجئة بالنظر إلى التشدد الواضح للمرشح ساركوزي خطبا لود ناخبي اليمين المتطرف. ثانيها، مغازلة اليمين الجمهوري لناخبي اليمين المتطرف والاصطياد في مياهه السياسية "العكرة" وتبنيه بعض أطروحاته الأساسية/قضاياه التعبوية. ورغم انعطاف ساركوزي يمينا لاسيما بين الدورين الأول والثاني فإن ذلك لم يؤت أكله. أما هولاند فخاطب هو الآخر نفس الناخبين مميزا بين نوعين من التصويت اليميني المتطرف: تصويت انخراطي (أي عن قناعة) وتصويت احتجاجي. لكن حتى وإن غازل بشكل أو بآخر هؤلاء الناخبين فإن هولاند نسف حظوظه في استمالة العدد الأكبر منهم بإصراره على منح الأجانب حق التصويت في الانتخابات البلدية، خاصة وأن ساركوزي وظف هذه المسألة لحشد وتعبئة ناخبي اليمين المتطرف لصالحه (وضد هولاند) قائلا بأن من لا يصوت له يصوت لمنح الأجانب حق التصويت في الانتخابات البلدية. ثالثها، تراجع موضوع الأمن في أجندة الحملة الانتخابية لأن حصاد ساركوزي في هذه المجال ليس بإيجابي... أما اليسار فقد تحاشى الخوض فيه. وبالتالي فمصلحة الطرفين جعلتهما يتفاديان الخوض فيه والمزايدة بشأنه.

وهذا استثناء في الحملات الانتخابية الفرنسية والذي يمكن تفسيره أيضا بثقل الأزمة الاقتصادية التي دحرجت المسائل الأمنية إلى مرتبة ثانوية. رابعها، احتفاظ موضوع الهجرة بمركزيته خاصة وأن التقاطع بين ثلاثة عوامل جعل مسألة الهجرة محورية في هذه الحملة، وهي: الأزمة الاقتصادية، صعود اليمين المتطرف واصطياد اليمين الجمهوري في مياهه. خامسها، معالجة بعض القضايا الإقليمية/الدولية وكأنها قضايا محلية ويظهر هذا من مقاربة أوروبا: طغيان البعد الوطني على معالجة واقع أوروبا وأزماتها، ولم يكن هناك تصور لمستقبل أوروبا أو مشروع أوروبي وإنما كان التركيز على كيفية ترتيب أمور البيت الأوروبي الاقتصادية للخروج من الأزمة وتحسين الوضع في فرنسا بإعادة النمو إلى سكته. هكذا كانت الهموم المحلية سبيلا لمعالجة الواقع الأوروبي. سادسها، صعوبة إن لم نقل استحالة توظيف القضايا الدولية في هذه الانتخابات، فليبيا التي كانت مطية لليمين للتأكيد على دور مرشحه ومعرفته بالملفات الدولية تحولت إلى معضلة: تعاون ساركوزي مع القذافي واستقباله له ونيته تزويده بمحطة نووية مدنية، فضلا عن معلومات عن تمويل حملته الانتخابية لعام 2007 بأموال ليبية... حوَّل المسألة الليبية إلى نقمة. ورغم إلقاء ساركوزي بثقله في أكثر من مشروع وأزمة إقليمية ودولية وتحقيقه بعض النجاحات فإن سياسيته أصابها الركود بسبب عجزه في إحراز تقدم في بعض الملفات الثقيلة (السلام في الشرق الأوسط، الأزمة الاقتصادية...) بل وفشل حتى في تجسيد مبادرة أطلقها شخصيا أي الاتحاد من أجل المتوسط والذي لم يشر إليه في برنامجه الانتخابي.

تهميش السياسة الخارجية في الحملة الانتخابية

هُمشت السياسية الخارجية في الحملة الانتخابية بشكل غير مسبوق. فرغم الأزمات الدولية وزخم الربيع العربي، بقيت غائبة بشكل شبه تام، ويعود هذا إلى ثلاثة أسباب. أولها الأزمة الاقتصادية شديدة الوقع على حياة الفرنسيين اليومية والتي أصبحت أم القضايا التعبوية في هذه الحملة. ثانيها أن القضايا الدولية ليست محددا أساسيا في الانتخابات الفرنسية. أما ثالثها وأهمها بالنسبة لتحليلنا فيكمن في التقارب الكبير بين تصوري ساركوزي وهولاند لسياسة فرنسا الخارجية. وعليه فغياب الاختلاف بشأن القضايا الدولية جعلهما لا يوظفانها، على عكس المسائل الداخلية التي يطرحان بشأنها برنامجين متناقضين. وجاءت المناظرة التليفزيونية بينهما لتؤكد تهميش السياسية الدولية وتراجع المسائل الأمنية في أجندة الحملة. إذ لم يتطرقا إلى موضوع الأمن الذي كان مركزيا في الانتخابات السابقة وهذا رغم محورية مسألة الهجرة كعادتها. حيث لم تحظ القضايا الدولية في هذه المناظرة إلا بـ 11 دقيقة من أصل ثلاثة ساعات إلا عشرة دقائق. وقد اختزلت تلك القضايا خلالها في مسألتين فقط: الانسحاب من أفغانستان وعدم الاستقرار والإرهاب في الساحل (خاصة الوضع في مالي) ومصير الرهائن الفرنسيين في المنقطة.

إن تهميش القضايا الدولية ميزة أساسية لانتخابات 2012، فهي تكاد تكون غائبة تماما من برنامجي المتنافسين (غائبة في برنامج ساركوزي باستثناء أوروبا، أما هولاند فخصص لها 4 مقترحات من أصل 60 مقترحا احتواها برنامجه). وهذا ما تطلب منا متابعة تصريحات المرشحين بشأن السياسة الخارجية، خلال الحملة، لمحاولة رصد ملامح سياسة الفائز منهما.

ويمكن حصر أهم القضايا الإقليمية والدولية بالنسبة لفرنسا في: الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الأزمة السورية، الملف الإيراني، تداعيات الربيع العربي، أفغانستان، إفريقيا، العلاقة مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، الصين، روسيا والقوى الصاعدة... لكن نظرا لتشابك الأبعاد المحلية والدولية ووجود الاتحاد الأوروبي فإن هناك قضايا محلية لكنها ذات طابع دولية الأبعاد (الهجرة، الأزمة لاقتصادية، أوروبا...) وأخرى دولية (المنافسة الصينية، سياسات الاتحاد الأوروبي...) لكنها محلية الأبعاد، وهذا ما يفسر مقاربة القضايا الأوربية وكأنها محلية.

جدلية الاستمرارية والتغيير

الاستمرارية والتغيير في السياسة الخارجية جدلية تعود للواجهة بمناسبة كل تناوب على السلطة في الدول الديمقراطية. وهي مطروحة بقوة في فرنسا مع فوز هولاند. لكن متابعتنا للحملة الانتخابية الفرنسية وتحليلنا لبعض المعطيات/التوجهات البنيوية في السياسة الخارجية الفرنسية تجعلنا نرجح الاستمرارية على التغيير. فإذا كان التغيير قادما لا محالة في مجال السياسة الداخلية نظرا للاختلاف الجوهري بين تصوري/برنامجي هولاند وساركوزي للسياسية المحلية بامتداداتها-ارتباطاتها الأوروبية، فإن ترجيح الكفة سيكون للاستمرارية في السياسة الخارجية نظرا للتوافق الواضح بينهما حول جل الملفات. لكن يتعين هنا التمييز بين القضايا الأورو- أطلسية والقضايا الدولية، ويبدو أن الاستمرارية ستخص النوع الثاني من القضايا بينما سيطبع نوع من التغيير القضايا من النوع الأول والتي نبدأ بها لأولويتها.

بعض التغيير في الشؤون الأورو- أطلسية عموما

سيحدث التغيير على الأقل على ثلاث مستويات. على المستوى الأوروبي بطرح مقاربة تقوم على تحكم السياسة، وليس عالم المال، في الاقتصاد، بمعنى تدعيم الحوكمة السياسية على مستوى الاتحاد ومراجعة القواعد الاقتصادية خاصة وأن هولاند ندد مثلا بالخلل في طريقة عمل البنك المركزي الأوروبي (يقدم هذا البنك قروضا للبنوك الأوروبية الخاصة بنسبة فائدة 1% لكن هذه البنوك تقدم قروضا للدول بنسبة فائدة 5 إلى 6%). وعلى عكس ساركوزي الذي قال إنه يريد مراجعة اتفاقيات شنغن لتأمين حدود فرنسا (ضد المهاجرين) مهددا بتعليق المساهمة المالية الفرنسية في ميزانية الاتحاد الأوروبي إذا تعذرت إمكانية معاقبة أو إقصاء أي بلد متقاعس في نظام شنغن، يقول هولاند إنه سيواصل العمل بنظام شنعن ملقيًا بثقله في المسائل الاقتصادية والمالية ومبديًا عزمه على مراجعة معاهدة الانضباط الميزاني الأوروبي. أما على مستوى العلاقة عبر الأطلسية، فمن المنتظر أن تكون سياسة فرنسا هولاند أقل اصطفافا مع السياسة الأمريكية ويعني هذا مراجعة التوجه الأطلسي الذي طبع سياسية ساركوزي. أما المستوى الثالث فيخص العلاقة مع الحلف الأطلسي، فإذا كان هولاند لا يريد سحب فرنسا من القيادة المندمجة (التي أعادها إليها ساركوزي وإن كانت العملية بدأت في عهد شيراك) فإنه انتقد عدم التحضير الجيد لهذه العودة كما أنه يؤكد على ما يسميه المهمة الأصلية للحلف أي التحضير للأمن الجماعي. وإن لم يفصح عما يقصده بهذا، فهذا يعني الالتزام بالمادة الخامسة من الميثاق الأطلسي وعدم تدخل الحلف في الصراعات وإبقاء مهمته في الدفاع عن دوله الأعضاء. وهذا يعني أنه سيثير هذه المسائل خلال قمة الحلف في شيكاغو (20 و21 مايو/أيار).

أما بشأن انضمام بلاده إلى منظومة درع الصورايخ الأمريكية في أوروبا فقد قال إنه متحفظ على ذلك معزيا إلى أنه ليس لفرنسا الإمكانيات للمشاركة صناعيا في هذا الدرع الذي يضع فكرة الردع النووي على المحك. وهذا موقف مغاير لساركوزي الذي كان ينوي ضم فرنسا إلى هذا المشروع على أن يكون هذا الدرع مكملا للردع النووي وليس بديلا له، متمسكا، هو الآخر، بقوات الردع النووي الفرنسية.

استمرارية في السياسية الفرنسية حيال الجوار العربي والإسلامي

ستتميز سياسة فرنسا حيال جوارها الإقليمي المتوسطي بالاستمرارية نظرا لتوافق التصورات بين هولاند وسلفه، وربما نقطة الاختلاف الوحيدة ستكون من حيث البصمة الرئاسية (شخصية هولاند الهادئة والمتزنة). فللرئيس المنتخب وسلفه المواقف ذاتها بشأن فلسطين، إسرائيل، سوريا، إيران، تركيا... فبخصوص الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، يشجع هولاند السلام والأمن بين إسرائيل وفلسطين عبر مفاوضات جديدة ويدعم الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية، مثله مثل سلفه (وتبقى القاعدة نفسها بالنسبة لكليهما: التزام فرنسا بأمن إسرائيل).

فيما يتعلق بسوريا، يتفقان على تسوية الأزمة في إطار متعدد الأطراف، عبر مجلس الأمن، ويستبعدان اللجوء إلى القوة ويؤكدان على الضغوطات والعقوبات وتطبيق العدالة الدولية (المحكمة الجنائية الدولية). أما فيما يخص تركيا، فكلاهما يعارض انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فساركوزي لا يعتبرها بلدا أوروبيا، أما هولاند فيقول إنه لا تتوفر إلى حد الآن أي من الشروط الأساسية لذلك وعلى رأسها احترام حقوق الإنسان والاعتراف بمذابح الأرمن (كلاهما معروف بدعمه للجالية الأرمنية في فرنسا وبدوره في تمرير قانون فرنسي يجرم من ينفيه). وحيال إيران يتخذان نفس الموقف الصارم والمعارض لامتلاكها السلاح النووي لما يعتبرانه تهديدا لأمن إسرائيل وللأمن العالمي. إلا أنهما يقولان بضرورة التحرك جماعيا (فرنسا، أوروبا والولايات المتحدة) إزاء إيران وسوريا.

برنامج هولاند الدولي بين التوافق مع سلفه ومحدودية تجسيده

وردت القضايا الدولية في أربعة من أصل ستين مقترحا تضمنها برنامجه الانتخابي، يمكن تفصيلها كالآتي: 1) دعم إصلاح الأمم المتحدة خاصة توسيع مجلس الأمن مع الاحتفاظ بالمقعد الدائم وبحق النقض لفرنسا؛ 2) إنشاء منظمة عالمية للبيئة (نفس المقترح ورد في برنامج ساركوزي)؛ 3) إقامة حوكمة حقيقية للعولمة قوامها مجموعة الـ 20، المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة ودعم المساعدة من أجل التنمية لتطوير العمل الدولي المتعدد الأطراف؛ 4) توطيد علاقات فرنسا مع القوى الصاعدة (الصين، الهند، البرازيل...). وبشأن هذه النقطة الأخيرة نشير إلى أن هولاند – على غرار ساركوزي – يولي أهمية بالغة للعلاقة مع الصين وخاصة لبعض القضايا الخلافية مثل مبدأ المعاملة بالمثل في المجال الاقتصادي. فقد أكد في أحد تصريحاته أنه يريد علاقات تعاون متوازنة مع الصين ومعاملة بالمثل خاصة في النفاذ إلى الأسواق العمومية (نفس المقترح في برنامج ساركوزي). وصرح هولاند أن أول لقاء دولي له قد يكون مع الرئيس الصيني. 5) تشجيع السلام والأمن بين إسرائيل وفلسطين عبر مفاوضات جديدة ودعم الاعتراف بدولة فلسطين؛ 6) سحب القوات الفرنسية المقاتلة من أفغانستان مع نهاية 2012؛ 7) إعادة التفاوض على المعاهدة الأوروبية المتعلقة بالانضباط المالي والميزاني لاعتماد مستلزم النمو والحوكمة للخروج من الأزمة، وكذلك لإعادة توجيه دور البنك المركزي الأوروبي لدعم التشغيل.

يستوجب هذا "البرنامج الدولي" لـ هولاند ملاحظتين. تخص الأولى مقارنته ببرنامج سلفه. وتتعلق الثانية بآفاق/حدود مقترحاته الدولية. فيما يخص الملاحظة الأولى يمكن القول إن هولاند وساركوزي يختلفان في قضيتين: أوروبا وأفغانستان. على عكس سلفه، يريد هولاند مراجعة المعاهدة الأوروبية لتنص على مستلزم النمو في نفس مقام مستلزم التوازن في الميزانية، مراجعة دور البنك المركزي، ويقول بالحفاظ على نظام شنغن وبتخفيض الهجرة الاقتصادية لكن ليس إلى النصف كما قال خصمه. أما فيما يتعلق بأفغانستان فالاختلاف حول الجدول الزمني للانسحاب ليس إلا. حدد الحلف الأطلسي توقيت إجلاء قواته مع نهاية 2014. والتزم ساركوزي بذلك لكن مقتل أربعة جنود فرنسيين على يد جندي أفغاني مطلع العام الحالي جعله يقدم الموعد إلى نهاية 2013. أما هولاند فهو يريد تعجيل رحيلها بسحب الوحدات المقاتلة مع نهاية 2012. وينتقد تحول مهمة الناتو في أفغانستان من مهمة تحرير إلى مواجهة مع تمرد على حد قوله.

أما الملاحظة الثانية فتخص محدودية تجسيد أجندة هولاند الدولية. والحقيقة أن القرار السيادي الوحيد الذي بيده هو قرار سحب القوات الفرنسية من أفغانستان، إذا استثنينا طبعا العلاقة مع الجوار المتوسطي وإفريقيا. للتذكير فإن هولاند أكد على تطوير العلاقة بين فرنسا ودول جنوب المتوسط على أساس مشروع اقتصادي، ديمقراطي وثقافي وكذلك على إقامة علاقة مع أفريقيا تقوم على المساواة، والثقة والتضامن. أما كل القضايا الدولية الأخرى فهي بحاجة إلى توافق وتعاون إما أوروبي (فيما يخص المسائل الأوروبية) وإما أوروبي ودولي معا بالنسبة لبقية القضايا. ومن هنا فهو لا يملك زمام المبادرة، وإن كان ثقل بلده الدولي يسمح له بالتأثير.

وستكون القمة الأوروبية المزمع عقدها في أواخر جوان 2012 الامتحان الأول لدبلوماسية هولاند لما ستشهده من سجال وبدون شك مقايضة بين ألمانيا وفرنسا بشأن مراجعة الانضباط المالي والتحكم في العجز. ويبدو أن بعض الأطراف الأوروبية بدأت تتحرك تحسبا لهذه المواجهة باقتناعها هي الأخرى بضرورة إدراج النمو في أوليات الاتحاد الأوروبي لأن التقشف لن يسمح له بالخروج من الأزمة، وبضرورة تبني "أجندة للنمو" في القمة المقبلة، بعد الاهتمام بالحد من العجز والتقشف دون سواهما. وقد تكون هذه الأجندة حلا وسطا يقي أوروبا تعارضا ألمانيا - فرنسيا في هذا الظرف العسير.

الأزمة الاقتصادية وتوظيف الهجرة

من الواضح أن الأزمة الاقتصادية كانت العامل الحاسم لأن الناخب الفرنسي عبر عن استيائه وسخطه على الأداء الاقتصادي لرئاسة ساركوزي. والمثير للانتباه في هذه الطبعة من الرئاسيات الفرنسية تغير العلاقة السببية بين الأزمة الاقتصادية والهجرة، فعادة يقود استفحال الأولى إلى تشدد الخطاب حيال الهجرة وبالتالي يجمع من يوظف الأزمة والهجرة بين حجتين تعبويتين لا نظير لهما من حيث قدرة التأثير على الرأي العام. بيد أن هذه العلاقة لم تأت أكلها هذه المرة لأن من وظفهما في الآن نفسه هو ساركوزي الذي يعتبره السواد الأعظم من الفرنسيين مسؤولا عن وضعهم الاقتصادي المتردي، ولم يبق له إلا الهجرة ليحاول تسويق الخوف من الآخر الأجنبي وتحديدا العربي الإسلامي، بعد أن فشل في تسويق الخوف من الأزمة الاقتصادية وتفاقمها المفترض إن فاز خصمه اليساري في الانتخابات.

بيد أن اللعب على الخوف وعنف الخطاب خلق خوفا مضادا كان مصدر حشد مناوئ لمن يقول به. إذ إن بلوغ عملية تسويق الخوف، من خلال الهجرة، مستويات عنيفة لم يشهد خطاب اليمين الجمهوري مثيلا لها من قبل، خلق تخوفا من هذا التوجه حتى داخل التيارات الجمهورية اليمينية التي فضل بعضها (مثل شخصيات من اليمين الوسط) التصويت لصالح هولاند حفاظا على قيم الجمهورية. وبالتالي فعنف خطاب ساركوزي وتودده لليمين المتطرف حشد تيارات وأوساطا – جزء منها منحدر من أصول أجنبية - من المجتمع الفرنسي لم تكن أصلا أو بالضرورة موالية لهولاند ولم تكن تنوي التصويت لصالحه. وعليه فتوظيف الهجرة بعيدا عن كل ضوابط وقيم الجمهورية أدت إلى نتيجة عكسية. ومن منظور السياسة الخارجية فإن مضامين هذه المعادلة تجعل هولاند يتبرأ حتى قبل الفوز من سياسة سلفه مما يمهد له الطريق لبناء العلاقات مع الجوار العربي لفرنسا.

سياسية هولاند حيال الهجرة

تعد الهجرة إلى جانب المسائل الاقتصادية (البطالة، التشغيل، النمو، الضرائب، التحكيم الميزاني والضبط المالي...) من أبرز القضايا الخلافية بين هولاند وساركوزي. قال ساركوزي بضرورة تخفيض عدد الوافدين إلى فرنسا إلى النصف (من 200 ألف إلى 100 ألف سنويا) بسبب عطل نظام الإدماج الجمهوري وقلة الإمكانيات مما يحول دون استقبال فرنسا لهم. كما اعتبر عدد المهاجرين في فرنسا زائدا عن اللزوم وأنه يجب حرمان الأجانب المقيمين فيها منذ أقل من 10 سنوات من بعض برامج الرعاية والدعم الاجتماعيين مثل المنحة المخصصة لعديمي الدخل. واتهم منافسه بالتساهل مع الهجرة ومع المطالب الدينية فرد عليه هولاند بتأكيده الصارم على تطبيق العلمانية وعلى عدم السماح بتقديم اللحم الحلال في وجبات مطاعم المدارس العمومية... أما على صعيد المقترحات، فإن هولاند، الذي يتفق مع ساركوزي بشأن ضرورة التحكم في تدفق المهاجرين، يقدم مقترحات مغايرة. يقول بضرورة الحد من الهجرة الاقتصادية في ظرف الأزمة؛ رفض فكرة تخفيض عدد الوافدين إلى النصف سنويا... ويفرق بين الهجرة الشرعية وغير الشرعية: يقترح نقاشا سنويا في البرلمان لتقرير عدد المهاجرين الضروري بشأن الأولى، ومحاربة بلا هوادة ضد الثانية مُقترِحًا إنشاء كتائب متخصصة في محاربتها. وهولاند مع الإبقاء على تسوية وضع المهاجرين السريين على أساس معايير موضوعية ووفق مبدأ حالة بحالة. ولا يعتبر عدد المهاجرين في فرنسا زائدا عن اللزوم – عكس سلفه – وإنما يخص الهجرة السرية لوحدها بمثل هذا الحكم.

وربما الاقتراح الأهم لهولاند بشأن التعاطي مع الهجرة هو التزامه بمنح حق التصويت للأجانب في الانتخابات البلدية وفق شروط (كما الحال بالنسبة للرعايا الأوروبيين المقيمين في فرنسا) أهمها أن يكون المهاجر مقيما في فرنسا بطريقة شرعية منذ خمس سنوات على الأقل.

الخلاصة: بصمة ونفس جديدين

بغض النظر عن جدلية الاستمرارية والتغيير وآفاق وحدود سياسة فرنسا في عهد هولاند، فإن هذه السياسة ستعرف من حيث الأسلوب الرئاسي تغيرا أكيدا لعوامل ذاتية تخص شخصية الرئيس الجديد، نسقه العقيدي، مزاجه...، ما يعني بصمة ونفسا جديدين في سياسية فرنسا الخارجية. وقد قال هولاند مررا وتكرارا إنه سيكون رئيسًا عاديًا، وبالتالي من المنتظر أن يعود الهدوء إلى الرئاسة الفرنسية التي ميزتها شخصية ساركوزي الانفعالية ومتقلبة المزاج... إنها عودة "السكينة" إلى الإليزيه وبالتالي إلى الدبلوماسية الفرنسية. لكن هولاند بحاجة إلى أغلبية برلمانية في الانتخابات التشريعية القادمة (يونيو/ حزيران 2012) لتطبيق برنامجه ونهج سياسته الخارجية بانسجام. وإن حصل عليها سيكون اليسار حينها متحكمًا في كل هيئات/مراكز السلطة في فرنسا (الرئاسة، البرلمان بغرفتيه، مجالس الأقاليم والمحافظات والبلديات) وبالتالي سيكون مطلق اليدين (لأنه كثيرا ما تحد حكومة التعايش من فعالية أداء السياسة الخارجية) في رسم وتنفيذ سياسته الخارجية.
________________________
عبد النور بن عنتر - أستاذ محاضر، جامعة باريس 8 (فرنسا)

نبذة عن الكاتب