اتكاء المقاومة على محور الممانعة وسوريا منه، يتناقض مع سياسة النأي بالنفس للحكومة اللبنانية(الجزيرة)
أثاراغتيال وسام الحسن رئيس فرع المعلومات -أحد أهم الأجهزة الأمنية اللبنانية- بعد توجيه أصابع الاتهام نحو النظام السوري، الأسئلة الصعبة في لبنان، أهمها صعوبة التوفيق بين سياستين وإستراتيجيتين تعتملان في قلب الحكومة اللبنانية، مع التنويه إلى التفاوت في مقدار شرعية وقبول كل منهما، سواء في الإطار الرسمي أو غير الرسمي.
الإستراتيجية الأولى، وهي التي قامت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على أساسها، والمعروفة بسياسة النأي بالنفس عما يجري في سوريا بغية تجنب تأثيراتها السلبية على لبنان، وأصبحت هذه السياسة المرجع الأساس الذي تحاكم سياسة الحكومة الداخلية والخارجية على أساسه، مع تجاهل كل ما يجري بخلافها على غير الصعيد الرسمي.
أما الإستراتيجية الثانية، فهي الإستراتيجية الدفاعية التي طرحها حزب الله وتقوم على معادلة ثلاثية يصفها أنصارها بالذهبية، وتقوم على قوة "الجيش والشعب والمقاومة"، وهي السائدة فعليًّا في الواقع اللبناني وتحظى بمراعاة شديدة في كثير من أجهزة الدولة، وإن كان البعض يجادل في شرعيتها.
ويكمن جوهر التناقض بين الإستراتيجيتين في العنصر الأخير من هذه الثلاثية، أي المقاومة؛ فقد تُرجم هذا العنصر محليًّا لدى حزب الله وأنصاره بما سُمي محور المقاومة وتظلّل بقوى الثامن من أيار/مايو، إلا أنه في الحقيقة هو الذي ربط لبنان إقليميًّا بما يُسمى محور الممانعة والذي تُشكِّل سوريا قلبه إذا استثنيت إيران في هذا المقام. فكيف يمكن النأي بالنفس عما يجري في سوريا وهي حاضرة في ما يسميه حزب الله إستراتيجية لبنان الدفاعية؟ فسوريا بهذا الاعتبار هي جزء لا ينفصل عن "المقاومة" ببعدها المحلي والإقليمي.
حزب الله و دور إقليمي متصاعد
يضع حزب الله التخلي عن سوريا في مربع التخلي عن أحد أهم أسباب قوة المقاومة التي جُرِّبت سابقًا، ولا يزال يبرر وقوفه إلى جانب النظام السوري بأسباب عدة، أبرزها بحسب ما يثيره مقربون منه، حاجته إلى الحفاظ على "سلاح المقاومة" راهنًا، لاسيما الثقيل منه، والذي يرى بعض هؤلاء أنه مخزَّن في سوريا، وتحديدًا في مناطق جغرافية قريبة من الحدود اللبنانية.
ولم يعد الحزب حريصًا جدًّا على إخفاء أن عناصره تنشط في الداخل السوري استخباراتيًّا وعسكريًّا بمستويات عدّة ولأهداف كثيرة، منها الحفاظ على المواقع التي تشكّل أهمية إستراتيجية لعمل "المقاومة"، سواء على صعيد حفظ مخازن الأسلحة الثقيلة، أو حفظ طرق الإمداد، إضافة إلى رعاية بعض القرى الشيعية السورية الاثني عشرية وحماية المصالح المرتبطة بهذه الأقلية، خاصة وأن سوريا ستقع في فوضى كبيرة على إثر سقوط نظام الأسد، مما يتطلب تدخلاً مباشرًا يتجاوز السلطة التي قد تقوم وسط هذا الركام.
ويقوم التقدير السائد لدى إيران وحزب الله في بعض وجوهه على أن الساحة السورية ستكون شبيهة بالساحة العراقية والساحة اللبنانية إبّان مرحلة الفوضى التي مرّ بها البلدان؛ ما يعني أن الظروف ستسمح بتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين. وسيكون على الحزب وفق أحد السيناريوهات أن يمد نفوذه الإقليمي إلى سوريا، وقد يصبح -بحسب بعض المتخوفين- قريبًا من حدود الأردن -ومن بعده الخليج- ثم تركيا، فيكون النفوذ بهذا القرب من قلب الإقليم -مهما كان متواضعًا- ذا فعالية مضاعفة، فيعوض الحزب ما خسره زمن سقوط الأسد، ببعض ما قد توفره له الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار من بعده.
وقد وفّرت إستراتيجية الأسد للدفاع عن حكمه أساسًا يمكن للحزب أن يبني عليه في هذا الشأن، حيث تشي خريطة الأحداث على الأرض بأن الأسد سمح لعدة لاعبين بتعزيز نفوذهم ميدانيًّا على الأراضي السورية ليكونوا في مواجهة الأكثرية السكانية السورية حاضرًا ومستقبلاً، وكذلك ليكونوا في مواجهة الثورة حتى وإن لم يكونوا في الأصل من أنصاره. وكجزء من هذه السياسة يبدو أن نظام الأسد سمح لحزب الله -وسواه- بإنشاء ما يشبه المناطق الأمنية الخاصة به ليحمي عمقه الحيوي، سواء بالتعاون مع الأجهزة السورية أو وحده إذا ما اقتضى الأمر.
الخلاصة، وفق هذا التحليل، أن حزب الله سيزيد من الجرعة الإقليمية في توجهاته، ما سيبعده أكثر عن جذوره المحلية وعن خطابه المألوف سياسيًّا وثقافيًّا، ليلبي حاجة إيران الإقليمية المتزايدة كورقة ضغط فعالة، تكون على مستوى التحديات التي تواجهها في صراعها على جبهات متعددة مع عدة قوى إقليمية وعربية ودولية.
انعكاس سياسة الحزب على لبنان
أخذًا بالاعتبار هذه السيناريوهات، ووفقًا لإيقاع التحولات التي تشهدها الساحة السورية هناك تقدير بأن حاجة الحزب الآنية لإطلاق حوار وطني في لبنان ستتضاعف، لصالح البحث عن وضع يسمح بحفظ الأسلحة الثقيلة والمنظومة المتعلقة بها التي ينقلها أو نقلها من سوريا إلى لبنان. ويعني ذلك في المقام الأول خلق مناطق أمنية جديدة في لبنان، بما يوفر ظروف حمايتها لأطول مدة وأبعد مدى ممكن. وتحقيقًا لهذه الغاية غير المعلنة ووفق هذا المنطق، من المنطقي أن يلجأ حزب الله إلى إطلاق حوارات ثنائية صريحة متعددة مع أكثر من طرف، ولا يُستبعد أن التطورات اللاحقة ستدفعه لإحياء "طاولة الحوار الوطني" بجدية أكبر بغية مناقشة "الإستراتيجية الدفاعية"، لكنه سيحرص في نهاية المطاف على أن تكون وفق معاييره هو لا غيره.
حينئذ، لن يخلو "الحوار" من بعض التوتر السياسي والأمني، ولن يتردد حزب الله في استعمال السلاح -كما يخشى خصومه- ليفرض حقائق ورؤى تكرّس حدود المعادلة السياسية الجديدة في لبنان، ومفادها أن بناء الدولة اللبنانية يجب أن يأخذ بالاعتبار أن "سلاح حزب الله وطموحاته الخاصة" هي في الحقيقة "مسألة وطنية"، بل هي "سلاح المقاومة وطموحاتها" التي تحمي لبنان كل لبنان، والحزب والمقاومة أمرهما واحد.
وبذلك، فإن هذا الحوار الذي يجري تحت ضغوط أمنية وسياسية، سيكون بالنسبة إلى حزب الله توجهًا بديلاً عن إشعال حرب أهلية لبنانية جديدة يخسر فيها الجميع، وقد تقبل به أو ببعضه، بعد المساومة، أطراف لبنانية وربما إقليمية أيضًا.
مقتل الحسن ومسار الحوار
جاء اغتيال وسام الحسن في أعقاب هذه الأجواء المشبعة ببعض إيجابيات الحث على الحوار الوطني الذي التزمه رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، والخوف لدى قوى الرابع عشر من آذار من السلبيات الذي قد تصاحبه، ليعزز قراءتين مختلفتين تكادان تشكّلان نمطًا واحدًا لفهم أية مستجدات أمنية لبنانية:
-
أولاهما: أن حزب الله سيستفيد من مقتل شخصية توازي إلى حدٍّ ما بأهميتها الأمنية رفيق الحريري في أهميته السياسية، وأن فريق الراحل وسام الحسن سينضم إلى طاولة الحوار وقد نُزِعت منه أهم ورقة كانت قد لعبت دورًا أساسيًّا في تتبع عورات كل معادلات قوى الثامن من آذار القائمة على التحالف مع سوريا. منها تلك الضربة الأخيرة التي كشفت تورط الوزير السابق ميشال سماحة في مخطط تفجيري وفق التسريبات الأمنية اللبنانية.
-
ثانيهما: أن حزب الله أمام توقيت سيء جدًّا فرضه مقتل الحسن، وسيشكّل عقبة حقيقية أمام أية مبادرة منه لإطلاق حوار يسمح له بإعادة التموضع محليًّا بما يتلاءم مع التحديات الإقليمية التي تواجهه سواء على المسار السوري أو الإيراني. وبهذا الاعتبار فإن الاغتيال أضرّ بحزب الله كما بسواه.
ولكن هاتين القراءتين تلتقيان -عند فاقدي الثقة بحزب الله- عند نقطة واحدة إذا ما أُخذت بالاعتبار التجارب السابقة، ألا وهي أن لبنان مقبل على "دبلوماسية قهرية" يمارسها الحزب بغرض تأمين بيئة صديقة له على الأراضي اللبنانية لتقبل الأطراف المعارضة بالمعادلة الجديدة ولو على مضض. وسواء عُقدت طاولة الحوار الوطني اللبناني اليوم أو بعده، فإن الحزب بحاجة على المدى القريب إلى إستراتيجية عاجلة تسمح له بالتكيف مع ما تعرض له عمقه الحيوي السوري من تشوهات، كما بحاجة على المدى المتوسط إلى إستراتيجية جديدة بالكامل يستغني بها عن العمق السوري، ليخلق عمقًا جديدًا داخل الأراضي اللبنانية مع توفير ما يحتاجه من متطلبات ثقيلة تسمح له بالاستمرار والنمو، وأن لا يخسر حاضنته الشعبية داخل المجتمع اللبناني.
خاتمة
وعلى العموم هناك إدراك لدى جميع اللاعبين داخل لبنان بأن إستراتيجية حزب الله المعتمدة حتى اللحظة هي المزيد من ربط العمق اللبناني بالعمق السوري باعتبارهما عمقًا إقليميًّا مترابطًا عسكريًّا وسياسيًّا بما يتجاوز الدولتين إلى سواهما. ولا يعني هذا بالضرورة جرّ لبنان إلى حرب أهلية، لكنه يتعلق حتمًا بالأوراق التي يمكن أن يكون لها تأثير على نتائج أي حوار سوري مقبل، سواء كانت أوراقًا تتصل بالبعد العسكري أو السياسي، وسواء كان ذلك على الصعيد الإقليمي أو الدولي. فمسار الحوار السوري سيحدد شكل طاولة حوار وطنية لبنانية ستقوم على أنقاض الطائف الذي سيسقط بسقوط أهم عرّابيه، ألا وهو النظام السوري.
لهذا تحرص الأطراف اللبنانية جميعًا على الاستعداد للانعكاسات التي قد تترجمها أية اتفاقات جديدة في سوريا لمرحلة ما بعد الأسد. وإن تكرار طائف جديد في سوريا أو الخروج عليه، سيجعل من طاولة الحوار اللبنانية، طاولة حوار إقليمية وربما دولية تبحث عن اتفاق آخر.
_______________
*باحث في شؤون المشرق العربي والحركات الاسلامية