التدخل في مالي: نظرة من الداخل الفرنسي الرسمي والشعبي

تستعرض هذه الورقة النقاش الداخلي الفرنسي بشأن التدخل في مالي لمحاولة الإجابة على الأسئلة التالية: ما هي الحسابات التي أملت على فرنسا تدخلها في مالي؟، ما هي موازين الربح والخسارة في التقدير الفرنسي؟، ما هو موقف القوى السياسية والرأي العام؟
2012122084340267734_20.jpg
 

يبدو أن سلوك فرنسا الخارجي يشهد تحولا منذ التدخل في ليبيا. ففرنسا، الرسمية والشعبية، التي كانت تجنح نحو السلم تجنح اليوم نحو الحرب، بل انقلبت القاعدة تماما مقارنة بأميركا، فهذه الأخيرة أصبحت حذرة حيال التدخل، حيث بقيت على الهامش في ليبيا وبعيدة عن مالي. أما فرنسا، فقد أصبحت احترابية، وتنتقد الغير لعدم مشاركتها الحرب، وهو ما يذكرنا بانتقادات أميركا لحلفائها خلال تدخلاتها العسكرية.

وسنركز في هذه المقالة على النقاش الداخلي الفرنسي بشأن التدخل في مالي لمحاولة الإجابة على الأسئلة التالية: ما هي الحسابات التي أملت على فرنسا تدخلها في مالي؟، ما هي موازين الربح والخسارة في التقدير الفرنسي؟، ما هو موقف القوى السياسية والرأي العام؟. ولتحديد مواقف مختلف الفاعلين السياسيين اقتبسنا تصريحاتهم في الإعلام الفرنسي (المرئي، المسموع، والمكتوب).

حسابات فرنسية: لعبة الدومينو المعكوسة

قال رئيس الحكومة الفرنسية إن التدخل في مالي يهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف: إيقاف زحف المجموعات الإرهابية نحو الجنوب، والحفاظ على وجود الدولة المالية واستعادة وحدتها الترابية، والتحضير لنشر قوة التدخل الإفريقية المرخص لها بموجب قرار مجلس الأمن. لكن هذه الأهداف الرسمية محدودة جغرافيا بالتراب المالي، بيد أن الحقيقة غير ذلك، خاصة وأن الإرهاب ظاهرة عابرة للحدود. إن الهدف الإستراتيجي للتدخل في مالي هو حماية المصالح الفرنسية (الأمنية والاقتصادية) في الساحل وما ورائه. إن القتال في مالي هو تأمين للنيجر وتشاد، وبوركينافسو وموريتانيا. وقد فهمت فرنسا لعبة الدومينو التي تلعبها الجماعات الإرهابية في مالي: إن سقط مالي في أيديها ستسقط دول أخرى إن عاجلا أو آجلا. وعليه، فهي تهدف من تدخلها إلى فرض عملية دومينو معكوسة تقلب تماما الاتجاه بضرب الحركات الإرهابية في المنطقة ودرء أي عدوان مماثل على دول الجوار الهشة والمنكشفة (الواقعة تحت النفوذ الفرنسي). ولا ريب أن التخوف من استقرار الجماعات الإرهابية في الساحل لوقت طويل (مالي، النيجر، موريتانيا...) يشكل هاجسا أمنيا لفرنسا.

وقد عبر وزير الدفاع الفرنسي جون أيف لودريان بوضوح عن القراءة الفرنسية للتهديدات التي أملت على بلاده التدخل: يتعلق الأمر بتهديد "إقامة دولة إرهابية على أبواب أوروبا وفرنسا". مضيفا أن بلاده لن تترك جيوبا إسلاموية مقاومة، وستستأصل الإرهاب في الساحل وتعيد وحدة مالي. أما رئيس الحكومة، فركز على البعد الأوروبي والدولي للتهديد قائلا إن فرنسا تدخلت في مالي "لإيقاف التهديد الإرهابي" الذي لا يستهدف البلدان الإفريقية فقط، بل فرنسا وأوروبا أيضا. وتجب الإشارة هنا إلى أن حادثة احتجاز الرهائن في عين أمناس (الجزائر) خدمت الموقف الرسمي الفرنسي القائل بأن التهديد الإرهابي لا يستهدف فرنسا بل المجموعة الدولية بأكملها، وأن تدخل فرنسا في مالي ضروري وشرعي، فماذا لو تحول هذا البلد إلى دولة إرهابية تهدد فرنسا؟، وكون الرهائن ينتمون إلى جنسيات مختلفة سهل من مهمتها في تعميم التهديد الإرهابي.
 
وهناك قضية نفسية يتعين أخذها في الحسبان وهي أن الحركات الإرهابية أذاقت فرنسا (حكومة وشعبا) الأمرين باختطاف رعاياها في الساحل، فكانت الفرصة هذه المرة لمواجهة عمليات الخطف باستهداف المختطِفين أنفسهم، وبالتالي توجيه رسالة لهم: رغم وجود حياة الرهائن في خطر فإن فرنسا لم ولن تترد في التدخل العسكري، وبمعنى آخر لا سبيل لمساومتها على حياة هؤلاء. وستتضح بعض معالم الحسابات التي أملت على فرنسا الحرب من خلال تحليل التفضيلات الترجيحية.

موازين الربح والخسارة: اللاتدخل أسوأ من التدخل

من الصعب معرفة تفضيلات الرئاسة الفرنسية التي جعلتها ترجح خيار التدخل الأحادي على الخيارات الأخرى. لكن يمكن اقتراح قراءة تحليلية لهذه التفضيلات. إن المشكلة بالنسبة لصانع/متخذ القرار في مثل هذه الأزمات هو ماذا سيحدث في حال عدم التدخل؟، وماذا سيحدث في حال التدخل؟. في المشهد الأول، كان من المحتمل أن تصل التنظيمات الجهادية إلى باماكو وتجعل من مالي "أفغانستان إفريقيا" تنطلق منها لتهديد الجوار الواقع كله في دائرة النفوذ التقليدي الفرنسي. وهذا يعني بالطبع تهديد المصالح الفرنسية، ليس فقط في مالي ولكن في النيجر -الإستراتيجي بالنسبة لفرنسا التي تستغل اليورانيوم هناك- وتشاد وموريتانيا وبوركينافسو. ولا نبالغ إذا قلنا إن حرب مالي هي عملية استباقية لحرب قد يكون النيجر مسرحا لها. كما يعني مثل هذا المشهد المزيد من عمليات اختطاف الفرنسيين في الساحل. فتداعيات عدم التدخل كبيرة الأثر والوقع على فرنسا ومكانتها في إفريقيا وربما في العالم. حسبنا أن هذه التفضيلات الإستراتيجية هي التي أملت قرار الحرب، وإلا لماذا أقبلت فرنسا على إنزال بري في مالي رغم أنه كان بإمكانها الاعتماد على سلاح الجو كما فعلت في ليبيا؟. ويبدو أن التدخل بدأ التحضير له منذ أربعة أشهر، لكن الحكومة لم تكن حينها موافقة على فكرة التدخل البري. فما الذي تغير؟. ثم إذا كانت فرنسا تشدد على ضرورة دخول الأفارقة على خط المواجهة لمواصلة الحرب، فلماذا لم تكتف بالضربات الجوية لتسمح لهم وللجيش المالي بالزحف شمالا في أمان؟، الإجابة تكمن في مدركات التهديد والمصالح التي أشرنا إليها.

أما في حال التدخل فإن الاحتمال الأكثر سوءً هو أن يطول أمد الحرب لتتحول إلى حرب استنزاف على النمط الأفغاني مثلا، وبالتالي ترتفع تكلفتها عتادا وعدة، وتراجع الدعم الشعبي للحملة في فرنسا وفي مالي. أما عن حياة الرهائن الفرنسيين في الساحل فقد وازنت الحكومة الفرنسية لصالح التدخل، حيث قال رئيس حكومتها إنها "واعية بالمخاطر" التي تمثلها عملية التدخل العسكري في مالي بالنسبة للرهائن الفرنسيين في الساحل، لكن الذين يحتجزونهم يهددون بالاستيلاء على كل مالي، وعليه فعدم التحرك قد لا يساهم في تحريرهم.

وبما أن هناك أرضية شرعية للتدخل -وإن كانت بالنسبة لبعض الفرنسيين قابلة للنقاش- والمتمثلة في القرار الأممي وفي شرعية محلية مالية (طلب رسمي من الحكومة المالية للتدخل)، حسم فرانسوا هولاند الأمر بقرار الحرب مراهنا على ضعف تحقق المشهد الأسوأ، وربما أيضا على إنهاء الحرب بسرعة بإشراك قوة أوروبية وإقليمية بحجة أنها حرب أوروبية وعالمية ضد الإرهاب وليست حربا فرنسية. ومن هنا، فالتدويل العسكري –بعد التدويل السياسي– مصلحة إستراتيجية فرنسية.

المعارضة اليمينية: من الدعم إلى التردد فالتساؤل فالقلق

بمجرد إعلان الرئيس هولاند التدخل في مالي، عبرت قيادات اليمين عن دعمها للقرار (هولاند كان تشاور مع رؤساء التشكيلات السياسية الأساسية الفرنسية قبل ذلك) مؤكدة على ضرورة الالتزام بالوحدة الوطنية التي شدد عليها الخطاب الرسمي. وقد أشاد رئيس الحكومة السابق في عهد ساركوزي فرانسوا فيون بالعملية معتبرا أنها تأتي في إطار "الشرعية الدولية" وأن "فرنسا وفية لقيمها الكونية". أما منافسه في الحزب، جون فرانسوا كوبي فقد تحدث عن "مستلزم الوحدة الوطنية" ضد الإرهاب وتجاوز الانتماءات الحزبية. فيما وصفت مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية (اليمينية المتطرفة) عملية التدخل في مالي بـ"الشرعية". هكذا "التف" اليمين الجمهوري والمتطرف حول الحكومة مساندا للحرب في مالي.

انطوت مواقف الطبقة السياسية منذ الوهلة الأولى تحت لواء الوحدة الوطنية المقدسة، مما خلق جوا مفعما بالإجماع الوطني على دعم الحكومة والجنود الفرنسيين المتدخلين في مالي. بيد أنه لما تُستدعى الوحدة الوطنية في الخطاب لدواع سياسية فلن تكون بتلك القلعة المحصنة، بل سرعان ما تبدأ جدرانها في التصدع. حوالي أسبوع من بدء الحرب بدأ تصدع الوحدة الوطنية والإجماع وبمبادرة من المعارضة اليمينية من تساؤلات منذرة ببدء نقاش سياسي وربما بنهاية الإجماع الوطني. وقد جاءت هذا التساؤلات من الحزب اليميني المعارض، الاتحاد من أجل الحركة الشعبية (حزب الرئيس السابق ساركوزي). هذه التساؤلات، التي لم تلق إلى حد الآن ردا واضحا من الحكومة الاشتراكية، لخصها كوبي (زعيم الحزب) بالقول: "وحدة وطنية ولكن تساؤل شرعي، وحدة ولكن حيطة". بمعنى أن الوحدة الوطنية لا تعني عدم انتقاد خيارات الحكومة وأدائها في حرب مالي. تساؤلات يطرحها اليمين المعارض، على لسان قيادات كان معظمها في حكومة ساركوزي، وهي مترابطة فيما بينها، ويمكن تلخيصها في أربعة تساؤلات أساسية، على أن نتطرق إلى تساؤل آخر (الموقف من أوروبا) في عنصر مستقل.

  • أولا، ما هي أهداف الحرب؟، يتساءل الكثيرون في أوساط الحزب اليميني المعارض عن أهداف هذه العملية. "لا أحد يعلم بالتحديد إلى أين نحن ذاهبون، أتمنى أن يكون رئيس الجمهورية يعلم ذلك، محاربة الإسلاميين، منعهم من الاستيلاء على باماكو، حسنا، ولكن ماذا بعد؟" يتساءل هنري غينو (نائب عن ذات الحزب والمستشار السابق لـ ساركوزي). أما كوبي فيتساءل: "انطلاقا من أية معايير سيعتبر الرئيس أن الأهداف تحققت؟، هل محاربة الإرهاب العالمي؟، محاربة الإرهاب في هذه المنطقة؟، أم إعادة توحيد مالي؟". ويشير بعضهم إلى تردد هولاند: قال في البداية إن فرنسا لن تتدخل إلا جوا، ثم قال سنتدخل برا، متسائلين ما هي وجهة الحكومة؟
  • ثانيا، هل خُطط للعملية أم أطلقت دون استعداد؟ يعني هذا التشكيك في التخطيط المحكم والمسبق لها وبالتالي الافتراض أنها أطلقت دون استعداد. ترى بعض قيادات الحزب اليميني أن هولاند يفتقد إلى إستراتيجية واضحة حول مغزى الوجود الفرنسي في مالي، مما يعطي الانطباع بأن العملية تمت دون تحضير وتدبير مسبقين. ويتأسف هؤلاء لعدم التحضير لها، ولعدم استباقها بعرض للخطة العسكرية أمام مجلس الأمن وبجولة دبلوماسية لإقناع الشركاء وحشد التأييد الدولي لتشكيل قوة تدخل في مالي. وندد بعضهم صراحة بسوء التحضير للعملية.
  • ثالثا، هل سعى هولاند لحشد حلفاء؟، يستغرب هؤلاء من موقف أوروبا متسائلين هل أعلم هولاند مسبقا نظراءه الأوروبيين؟، وعبر بعضهم عن شكه في العمل التحضيري للدبلوماسية الفرنسية المسبق معتبرين أن فرنسا دخلت حرب مالي دون أن تعمل مسبقا على تشكيل ائتلاف، ولا تعمل الآن على حشد حلفاء لاسيما أوروبيا. ولم يتردد بعضهم في المقارنة بـ ساركوزي مذكرين بالتدخل في ليبيا الذي تم في مناخ مختلف عن عزلة فرنسا الحالية، ولو كان ساركوزي في الحكم لكانت فرنسا شنت الحرب بدعم أكبر من حلفائها الغربيين يقول بعضهم. ويلخص كوبي موقف حزبه قائلا: "هناك عزلة فرنسية مثيرة للقلق، ومن الضروري الآن العمل حتى تلتحق المجموعة الدولية بفرنسا في هذا التدخل". ويبدي اليمين استغرابا من عدم مطالبة هولاند عقد قمة أوروبية طارئة لبحث الوضع في مالي.
  • رابعا، مخاطر التورط والمخرج الإفريقي. غياب الائتلاف الدولي يزيد من مخاطر التورط الأحادي لفرنسا وبالتالي من ضرورة العمل بالحل العسكري الإفريقي كمخرج من الحرب ومن مخاطر التورط الطويل الأمد. يعتبر ألان جوبي، (رئيس الحكومة ووزير الخارجية في عهد شيراك ووزير الخارجية في عهد ساركوزي) أن وجود القوات الفرنسية في الأراضي المالية ربما ليس أحسن شيء يمكن تصوره، متسائلا عن مخاطر التورط التي لا يجب التقليل من شأنها. ولتجنبها يتعين التحضير الفوري لنقل المهمة للقوات الإفريقية، مضيفا أن قوة إفريقية مدعومة دوليا وحدها قادرة على إحلال النظام في مالي. وعبر عن تخوفه من نشر القوات البرية في عملية تشمل كل التراب المالي. ويبدو أن هناك إجماعا في اليمين وفي بعض أوساط اليسار على الحل (العسكري) الإفريقي.

في خضم هذا الحراك ندد الحزب الاشتراكي بتصريحات بعض قيادات الحزب اليميني المعارض لأنها "تمس بالوحدة الوطنية" على حد قوله. وأنه "عوض التلويح بالمخاوف، فإن ما نحتاج إليه إجماع وطني إلى جانب جنودنا ورعيانا".

دفعت انتقادات قيادات المعارضة لإستراتيجية هولاند في مالي ببعض الأسماء البارزة مثل جون بيار رافران (رئيس حكومة في عهد شيراك) وفيون (رئيس الحكومة في عهد ساركوزي) وغيون (مستشار ساركوزي السابق والنائب في البرلمان) إلى ضرورة الالتزام بموقف واحد في" مواجهة الإرهاب الإسلاموي". وقد طلب فيون من زملائه تهدئة الوضع ومواصلة مساندة القوات الفرنسية، قائلا إنه بحكم التجربة يتذكر موقف الاشتراكيين الغامض والناقد خلال عمليات أفغانستان، كوت ديفوار، وليبيا، ولذا يدعو إلى عدم اتخاذ نفس الموقف، لأن محاربة الإرهاب تتجاوز الانتماءات الحزبية، وإلى عدم الانزلاق وراء التردد أو النقد. من جهتها تتخوف إطارات في الحزب من أن يقلب الأمر سلبا على الحزب الذي يتهمه الحزب الاشتراكي بالمساس بالوحدة الوطنية، وخاصة وأن الحزب اليميني خرج من توه من صراع داخلي على الزعامة بين كوبي وفيو.

أقلية تعارض التدخل

قلة قليلة فقط عارضت الحرب، لكنها ضمت في صفوفها أسماء معروفة لا ثقل لها انتخابيا، باستثناء ممثلي حزب اليسار (يسار اليسار)، ونقصد بها تحديدا فاليري جيسكار ديستان، رئيس فرنسا السابق (1974-1981)، الذي حذر من تطور التدخل "الذي قد يكون من النوع النيوكولونيالي". ودومينيك دو فيلبان وزير الخارجية ورئيس الحكومة في عهدة شيراك الثانية (2002-2007). في مقال نشره في جريدة أسبوعية انتقد فيه الإجماع على الحرب على أساس ذريعة مواجهة الإرهاب مطالبا "باستخلاص الدروس من الحروب الخاسرة" (أفغانستان، العراق وليبيا)، مضيفا بأن "كل حرب هي تحضير لحرب أخرى". ويرى أن "إيقاف زحف الجهاديين نحو الجنوب، إعادة الاستيلاء على شمال مالي، استئصال القاعدة في الغرب الإسلامي كلها حروب مختلفة"، وأن فرنسا تحارب دون شريك مالي قوي، ودون دعم إفريقي وجزائري. ويتساءل كيف أصاب فيروس المحافظين الجدد العقول؟ أما ميلانشون، أحد زعماء حزب اليسار، فينتقد التدخل العسكري لأنه جاء في وقت ليست فيه المصالح الفرنسية الأساسية على المحك ("إلا إذا اعتبرت الثروات المنجمية لمالي وللدول المجاورة مصلحة فرنسية"). وينتقد دعم حكومة مالية لا شرعية لها. وعموما يصف المعارضون للحرب التدخل في مالي بالكولونيالية الجديدة ويفسرونه بحماية مصالح إستراتيجية في الساحل (نفط، يورانيوم...).

أوروبا في قفص الاتهام

نلاحظ تقاطعا في المواقف بين شخصيات يمينية وأخرى يسارية في الموقف من أوروبا -بغض النظر عن نبرة الخطاب- حيث ينتقد سياسيون فرنسيون الشركاء الأوروبيين والاتحاد الأوروبي لعدم دعمهم فرنسا ومشاركتها الحرب. كما ينتقدون الاتحاد الأوروبي لعدم مساندته لها عسكريا ليعود الجدل مجددا حول سياسة الاتحاد الأوروبي الأمنية والدفاعية. وينطلق هؤلاء –على غرار الموقف الرسمي– من مسلمة فحواها أن الحرب في مالي ليست مصلحة فرنسية فقط، بل أوروبية أيضا، لأن التهديد الذي تسعى فرنسا لتحييده يستهدف أوروبا كلها. ويقول هؤلاء أن فرنسا تقاتل هناك لوحدها للدفاع عن أوروبا ولا يمكنها مواصلة الحرب بمفردها. وهنا يتوقف التوافق بين ذوي الاتجاهات اليسارية واليمينية. حيث تقول الشخصيات اليمينية أن المسؤولية ليست أوروبية فقط، بل فرنسية أيضا، لأن هولاند أعلن الحرب دون انتظار الآخرين ودون التحضير المسبق لها بتشكيل ائتلاف عسكري دولي.

الانتقادات الأكثر حدة جاءت من اليمين المعارض. فمثلا جوبي صرح قائلا: "كالعادة أوروبا متأخرة بحرب" مضيفا أنه عليها أن تنخرط أكثر. أما بيار لولوش (سكرتير الدولة المكلف بالشؤون الأوروبية في عهد ساركوزي) فقد ذهب إلى أبعد من ذلك مصرحا بأن فرنسا تقوم دائما بحروب بدل الآخرين ومبديا ضيقا شديدا من الموقف الأوروبي حيث قال إنه "ليست وجهتنا أن نكون مرتزقة أوروبا".

أما الحكومة اليسارية، فتلتزم الكثير من الحذر لما تفرضه التقاليد الدبلوماسية فضلا عن كونها ربما تعي أنها لم تحسن التصرف، فهي دخلت الحرب دون مراعاة مواقف شركائها الأوروبيين المنزعجين من إرسالها قوات برية إلى مالي، رغم أن قرار مجلس الأمن يشير إلى قوة برية إفريقية. ثم إن القرار الانفرادي الفرنسي يضع أوروبا أمام معضلة: فهي إن رفضت التدخل اتهمت بالتخاذل وعدم التضامن مع فرنسا، وإن هي تدخلت إلى جانبها فستتورط في الحرب ويصبح قرارها الإستراتيجي تابعا لقرار دولة واحدة. وهذا أمر لا تقبله كثير من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

الرأي العام يساند التدخل

طبعا من الصعب قياس اتجاهات الرأي العام بدقة في مناخ سياسي مضطرب، لكن تشير استطلاعات الرأي التي قامت بها مراكز سبر الآراء في فرنسا إلى أن الأغلبية تساند التدخل. ونذكر هنا نتائج استطلاع قام به المعهد الفرنسي للرأي العام (Ifop) يوم 14 يناير/كانون الثاني 2013،  والذي نشر على موقعه على الإنترنت. تشير النتائج إلى أن 63% من الفرنسيين يدعمون التدخل، وهي نسبة أعلى من تلك التي حظي بها تدخل فرنسا في أفغانستان (55%)، وأقل بقليل من تلك التي حظي بها تدخلها في ليبيا (66%)، كما تشير النتائج إلى أن الرجال أكثر دعما للحرب في مالي من النساء بنسبة 75% مقابل 53%، وأن كبار السن من65 سنة فما فوق يدعمونها بنسبة 72% مقابل 57% فقط بالنسبة لمن هم دون 35 سنة. أما من حيث التوجهات السياسية، فهناك فروقات مقارنة بالاتجاه العام (مساندة الحرب). متعاطفو اليسار الذين هم تاريخيا أقل استعدادا من متعاطفي اليمين لدعم التدخل العسكري ساندوا بالطبع قرار هولاند بنسبة 77%، بينما متعاطفي الحزب اليميني المعارض (الاتحاد من أجل الحركة الشعبية) فساندوه بنسبة 63%. أما متعاطفي الجبهة الوطنية (الحزب اليميني المتطرف)، المعروفين عادة بدعم الانعزالية حيال القضايا الدولية، يدعمون التدخل بأغلبية ضعيفة، 53%. متعاطفو جبهة اليسار (اليسار المتطرف) يساندونه أيضا بنسبة 68%. نلاحظ أن موقف هؤلاء لا يتناسق تماما وموقف قيادات جبهة اليسار التي تعارض التدخل، بينما هناك تناغم في المواقف بين بقية المتعاطفين وقيادات الأحزاب التي هم قريبون منها.

غياب الذريعة الديمقراطية واستفحال الحجة الإرهابية

الملاحظ أن الخطاب الرسمي يتحاشى الحديث عن الديمقراطية، وهذه حالة نادرة جدا في خطاب التدخل الغربي. والسبب هو أن من يحكم مالي اليوم هم انقلابيون عسكريون أجهضوا تجربة ديمقراطية كانت قدوة في الساحل. وحتى لا تبدو فرنسا -التي تقول بحقوق الإنسان والديمقراطية- تدعم الانقلابيين يتحاشى الخطاب الرسمي أية إشارة للديمقراطية، فيما استفحلت الذريعة الإرهابية كمبرر سياسي وأخلاقي للتدخل، وهي ذريعة تحجب الحقيقة عن الحكم العسكري في مالي، بل تضفي عليه شرعية سياسية لم يكن يحلم بها. حيث نادرا ما يتمتع حكم انقلابي بدعم دولي في ظرف قياسي كما يحدث الآن مع عسكر مالي.

 بتشديده على الإرهاب يقترب الخطاب الرسمي من حيث نبرته الأمنية والعسكرية من خطاب المحافظين الجدد في أميركا في عهد بوش، وإن كان حذرا في انتقاء مفرداته، حيث تراجعت مفردة الإسلاميين لفائدة مفردة الإرهابيين التي تصبح في مثل هذه الحالات وكأنها محايدة وفارغة من أي شحنة أيديولوجية.

وفي انتظار ما ستأتي به يوميات الحرب، فإنه من المرجح أن يحتدم النقاش حول التساؤلات المذكورة، وحول موقف أوروبا، فضلا عن تكلفة الحرب، خاصة إن بقيت فرنسا تقاتل وحدها. وتشير بعض التقديرات إلى أن حرب مالي تكلف فرنسا حوالي 400 ألف يورو يوميا، وهي تكلفة مرشحة للارتفاع إن هي أرسلت إمدادات جديدة. وعلى سبيل المقارنة فإن تدخلها في ليبيا كلفها 368,5 مليون يورو خلال سبعة أشهر (1,7 مليون يورو يوميا) بينما كلفها وجود قواتها في أفغانستان (في 2012) 493 مليون يورو (1,3 مليون يورو يوميا).
__________________________________
عبد النور بن عنتر - كاتب وباحث مختص في الشأن الفرنسي

نبذة عن الكاتب