الاستقطاب المغربي-الجزائري يعقّد العلاقة بموريتانيا سياسيا ويفيدها اقتصاديا

لم يتمكن المغرب والجزائر منذ استقلال موريتانيا من بناء تحالفات استراتيجية ثابتة معها، حيث عرفت تغيرًا مستمرًّا في نظامها السياسي. لكن رغم تعقيدات العلاقات السياسية مع هاتين الدولتين، تبنَّت موريتانيا مقاربة اقتصادية، تتيح الاستفادة من معطيات الاستقطاب بالمنطقة لخلق بيئة اقتصادية تنافسية على أرضها.
2015618038422580_20.jpg
نتيجة لحاجة موريتانيا إلى كل من المغرب والجزائر في المجال المغاربي سواء أمنيًّا أو اقتصاديًّا فإنه يصعب تصور وجود تحالف مع أحدهما على حساب الآخر بشكل دائم وثابت (الجزيرة)

ملخص
من الصعوبات التي تواجهها الدبلوماسية الموريتانية منذ استقلال الدولة ضرورة أن يعقب قراراتها وتحركاتها قراءتان سياسيَّتان، مغربية وجزائرية، ولذلك فإن الأداء الدبلوماسي الموريتاني محكوم بمراعاة ردَّات فعل كل من الدولتين. وقد مرَّت العلاقة المغربية-الموريتانية بتحولات عديدة تتراوح بين رغبة المغرب في نسج تحالف دائم معها، والاحتواء أحيانًا أخرى حين تعثُّر استراتيجية التحالف. وبسبب عدم الاستقرار في العلاقة، فقد اتجه المغرب إلى بناء تحالفات استراتيجية تمثِّل خيارًا للضغط على موريتانيا، مع دول تقع في حزام موريتانيا الجغرافي مثل مالي والسنغال.

تمثِّل موريتانيا عنصر ارتكاز في إنجاح سياسات الجزائر تجاه المغرب، سواء في ملف الصحراء الغربية أو في سعي الجزائر لتحقيق استراتيجيتها في منطقة الصحراء والساحل لتطويق المغرب في ذلك الاتجاه. وبعد حوالي ثلاثة أعوام من تنسيق جيد مع الجزائر ترجع موريتانيا لتقترب من المغرب بعد الأزمة الدبلوماسية الأخيرة مع الجزائر. وثمة عوامل مهمة في تفسير هذا التوتر الحالي، من بينها: التقارب الموريتاني-السعودي في سياق عاصفة الحزم، وكما هو معروف فإن التقارب مع السعودية يقتضي تقاربًا مع المغرب. ورغم تعقيدات العلاقات السياسية مع كل من المغرب والجزائر فإن موريتانيا تتبنَّى مقاربة اقتصادية تستفيد من معطيات الاستقطاب لخلق بيئة تنافسية بين المغرب والجزائر على أرضها؛ حيث تندفع الدولتان إلى تأكيد حجم حضورهما وتأثيرهما الاقتصادي بهدف تحقيق نتائج سياسية على المدى البعيد.

كلما تولى نظام زمام الأمور في موريتانيا وجد نفسه إزاء معادلة الاستقطاب بين المحور المغربي أو الجزائري. وبنفس المنطق يصبح صعبًا عليه بناء علاقات متساوية من حيث القوة والعمق مع الدولتين معا من ناحية، أو الوقوف على الحياد من الإشكالات السياسية القائمة بينهما وتداعياتها من ناحية أخرى. و كلما ضعفت العلاقة بين موريتانيا والجزائر إلا تقوت بينها وبين المغرب، وحين تضعف مع المغرب فإنها تتقوى بالضرورة مع الجزائر. لكنها بالمحصلة تتمحور حول الصعوبة التي تواجهها موريتانيا في تحقيق التوازن في العلاقة مع كل من المغرب والجزائر في آن واحد. وعلى هذا الأساس يمكن تفسير الأزمات الدبلوماسية التي تلوح بين الفينة والأخرى بكونها جزءًا من طبيعة الاستقطاب والتجاذب في العلاقات بين هذه الدول الثلاث. ونتيجة لحاجة موريتانيا إلى كل من المغرب والجزائر في المجال المغاربي سواء أمنيًّا أو اقتصاديًّا فإنه يصعب تصور وجود تحالف مع أحدهما على حساب الآخر بشكل دائم وثابت. وبذلك يتم معالجة هذه المعادلة الصعبة من خلال أداء دبلوماسي موريتاني متغير في كل فترة، بالتقارب مع هذا الطرف في مرحلة، ومع الآخر في مراحل أخرى.

موريتانيا والمغرب: تعثر التحالف الاستراتيجي الدائم

مرَّت العلاقة المغربية-الموريتانية بتحولات عديدة تتراوح بين رغبة المغرب في نسج تحالف دائم مع موريتانيا، والاحتواء أحيانًا أخرى حين تتعثَّر استراتيجية التحالف. ويكاد يكون عدم الثبات في العلاقة بين الدولتين هو السمة الغالبة في مرحلة ما بعد إعلان الدولة الموريتانية الحديثة، وهو ما يعني فشلًا في بناء منظومة تحالف استراتيجي دائم ومستمر بإمكانها حلُّ إشكالات استراتيجية للمغرب في المنطقة، وفي مقدمتها قضية الصحراء الغربية.

تتمحور الرؤية المغربية حول الرغبة في وجود نظام سياسي في موريتانيا منسجم مع توجهات المغرب الاستراتيجية في المنطقة المغاربية والمجال الإفريقي بشكل أوسع. ورغم أهمية المعطى التاريخي والتناغم المذهبي الذي يصل حدَّ التماهي في كثير من المراجع العلمية والشخصيات الدينية الرمزية التي تجمع بين الجارين، وكذلك الروابط الدينية ذات الطابع الصوفي، فإنَّ العنصرين: التاريخي والديني لم يؤدِّيا إلى استقرار العلاقة السياسية بين الدولتين، مقارنة بتجارب يخوضها المغرب في دول إفريقية تقع على حدود موريتانيا مثل مالي والسنغال؛ حيث تبدو العلاقات هناك ذات الطابع الديني، ببُعدها الصوفي الممتزج بالسياسة، جزءًا من استراتيجية تمدُّد المملكة وتأثيرها في المجال الإفريقي. ونتيجة لهذا الوضع برزت خيارات عديدة للمغرب في التعامل مع الجار الموريتاني.

حزام استراتيجي حول موريتانيا

هنالك تحول في الرؤية الاستراتيجية للمغرب في التعامل مع موريتانيا خصوصًا في العقد الأخير. وبعد أن ارتبطت مواقف موريتانيا بقضية الصحراء الغربية والتحولات التي تلازم هذا الملف من ناحية؛ زادت أهميتها الاستراتيجية بعد تنامي اتجاه المغرب نحو التأثير إفريقيًّا؛ حيث تُمثِّل موريتانيا بوابة أساسية للتمدد الاستراتيجي نحو الساحل والصحراء وعمق القارة الإفريقية، التي تعتبر مواقف دولها ذات أهمية في قضية الصحراء الغربية.

يدرك المغرب أهمية موريتانيا للاتصال مع العمق الإفريقي، وبسبب عدم الاستقرار في العلاقة والأزمات الدبلوماسية التي تعتري العلاقة بينهما بين الفينة والأخرى، فقد اتجه هذا الأخير إلى بناء تحالفات استراتيجية تمثل خيارًا للضغط على موريتانيا، مع دول تقع في حزام موريتانيا الجغرافي مثل مالي التي مرَّت في علاقتها بموريتانيا في السنوات الأخيرة بتوترات، حيث يعتبر احتضان موريتانيا لعدد من قيادات الحركة العربية الأزوادية والحركة الوطنية لتحرير أزواد المحسوبة على الطوارق أحد الملفات الأكثر سخونة في علاقة الجارتين(1)، بالإضافة إلى تنامي الحراك الشعبي والسياسي المؤيد للقضية الأزوادية، وهو ما ظهر عام 2013 حين أعلن سياسيون ومثقفون ورجال أعمال موريتانيون عن مبادرة "دعم شعب أزواد" وترأَّسها الدبلوماسي السابق أحمد ولد حنن(2)، بالإضافة إلى غياب الرئيس الموريتاني عن حفل تنصيب الرئيس المالي الجديد إبراهيم أبوبكر كيتا عام 2013.

أمَّا السنغال فيستشعر الدور الأمني المتنامي لجارته موريتانيا وتصديها لأنشطة تنظيم القاعدة في المنطقة، حيث تجمعه بموريتانيا علاقات فيها الكثير من المدِّ والجزر. وفي هذا السياق لا تُعتبر العلاقة الموريتانية-السنغالية مستقرة بشكل كبير بالنظر إلى وجود عدد من الإشكالات بين الجانبين في السنوات الأخيرة، كان أهمها رفض السنغال تسليم المعارض الموريتاني المصطفى ولد لمام الشافعي لموريتانيا، وقد صدرت بحقه مذكرة توقيف دولية من القضاء الموريتاني، وهو ما سبَّب أزمة دبلوماسية عام 2012 وصلت حدَّ رفض الرئيس الموريتاني استقبال وزير الخارجية السنغالي الذي جاء لشرح أسباب رفض بلاده تسليم المعارض الموريتاني. بالإضافة إلى إشكالات تتعلق بأوضاع الجاليتين في كلا البلدين(3).

توتر دبلوماسي بخلفيات استراتيجية

لدى موريتانيا طموح واضح ورغبة في توسيع مساحة دورها الخارجي خصوصًا في القضايا الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، وقد منحتها فترة رئاسة الاتحاد الإفريقي دفعة جديدة لدبلوماسيتها في إفريقيا، وإن كان هذا الطموح يصطدم بالافتقار إلى الأدوات السياسية والاقتصادية المناسبة للتأثير في مجريات القرار الإفريقي. وستظل الورقة الأمنية بلا شك الخيار الأهم بالنسبة للدور الموريتاني في الخارج؛ حيث أسهمت في تأسيس مجموعة الدول الخمس في الساحل (موريتانيا-مالي-بوركينا فاسو-النيجر-تشاد) لتنسيق ومتابعة التعاون الإقليمي، بأجندة أمنية لمحاربة الجماعات المسلحة بالصحراء والساحل مطلع عام 2014.

بالموازاة مع معطى السعي الموريتاني للعب دور أكبر على المستوى الأمني بالمنطقة، هنالك عدد من الملفات التي تسبِّب إشكالات دبلوماسية بينها وبين المغرب، وعادة ما تتكفل الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين بحلِّها أو تجاوزها، لكن هنالك مظاهر أخرى للتوتر أدت في السنوات الأخيرة إلى تخفيض موريتانيا تمثليها الدبلوماسي في الرباط، وهي ملفات ذات صلة بالمجال الأمني والاستراتيجي، وأهمها:

  • تواجد اثنين من المعارضين للرئيس محمد ولد عبد العزيز بالمغرب، وهما: محمد ولد بوعماتو ورجل الأعمال المصطفى ولد لمام الشافعي، الذي حضر حفل زفاف ابنته عدد من المسؤولين المغاربة في شهر مايو/أيار 2015. وبالنظر لامتلاك ولد الشافعي علاقات كبيرة ومتشعبة على مستوى منطقة الساحل والصحراء فإنه يمثِّل ورقة أمنية مهمة بالنسبة للمغرب، وفي نفس الوقت أحد عناصر التوتر مع موريتانيا.
  • نتج عن الفترة التي ترأَّست فيها موريتانيا الاتحاد الإفريقي تعيين جواكيم شيساني، الرئيس السابق لدولة الموزمبيق، منسقًا إفريقيًّا خاصًّا بملف الصحراء الغربية، ويُعتبر من طرف المغرب مساندًا لجبهة البوليساريو.

يبدو أن التعقيدات الأهم في العلاقة بين المغرب وموريتانيا ذات أبعاد أمنية واستراتيجية. وأغلب التوترات الفرعية ناتجة عن التعثر في إيجاد تقارب في الرؤى حول هذه الملفات الكبرى. إن حاجة المغرب إلى موريتانيا أكبر من حاجة الجزائر إليها، سواء تعلَّق الأمر بالحفاظ على الحياد الإيجابي والمتوازن تجاه قضية الصحراء الغربية، أو لكونها معبَرًا جغرافيًّا أساسيًّا للمغرب صوب إفريقيا؛ وهو ما يعني استمرار التكلفة التي تتطلبها حاجة المغرب الأمنية والسياسية لموريتانيا، وخصوصًا الموقف من قضية الصحراء الغربية.

رغم ظهور أول مؤشرات تحسن العلاقة بين الرباط ونواكشوط مع تولي الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز الحكم لولاية ثانية في يوليو/تموز 2014، خصوصًا بعد زيارة وزير خارجيته السابق أحمد ولد تكدي للمغرب وتقديمه رسالة إلى الملك محمد السادس، إلا أن النظر إلى السياق العام يوحي بأن هذه العملية وما سبقها من مبادرات للتقارب تنحصر في كونها إصلاحات متجددة لتوترات دبلوماسية متكررة. وقد سبق أن زار وزير الداخلية الموريتاني محمد ولد محمد راره الرباط، ووقَّع اتفاق تعاون أمني مع نظيره المغربي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليزور وزير الخارجية المغربي صلاح الدين مزوار نواكشوط ويلتقي بالرئيس ولد عبد العزيز في أكتوبر/تشرين الأول 2014. بالإضافة إلى الحديث المتكرر حول زيارة الملك محمد السادس لموريتانيا التي كان يُنتظر أن تكون شهر مايو/أيار الحالي ضمن جولته في إفريقيا، لكنها لم تتم بسبب حاجتها إلى ظروف سياسية أكثر ملاءمة.

لا تعني مساعي إعادة الاستقرار إلى العلاقة بعد سلسلة التصدعات خلال السنوات الماضية، التي بلغت أوجها بتخفيض التمثيل الدبلوماسي في الرباط وطرد مراسل وكالة المغرب العربي للأنباء نهاية عام 2011، وعدم استقبال وزير الدولة المغربي الراحل عبد الله باها رسميًّا، خلال زيارته لموريتانيا، أن هنالك حلًّا نهائيًّا للإشكالات العالقة، بقدر ما تندرج ضمن منطق إدارة الأزمات الدبلوماسية.

موريتانيا والجزائر: برود في العلاقة يُخفي تباينًا بالرؤى

إذا كان الملك محمد السادس لم يزر موريتانيا منذ مجيء الرئيس محمد ولد عبد العزيز فإن الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لم يقم بأية زيارة لنواكشوط خلال فترة حكمه وحتى الوقت الراهن. بالمقابل، قام الرئيس محمد ولد عبد العزيز بزيارة الجزائر عام 2011 ولم يزر المغرب منذ توليه. وهي الزيارة التي خفَّفت من موقف الجزائر الرافض للانقلاب الذي قاده ولد عبد العزيز عام 2008، وكان يُنظر إليه جزائريًّا بقلق كبير بسبب ما كانت الجزائر تتوقعه من نتائج لعلاقات ولد عبد العزيز مع المغرب.

هنالك إدراك متبادل في الجزائر وموريتانيا لأهمية هذه الأخيرة كعنصر ارتكاز في إنجاح سياسات الجزائر تجاه المغرب، سواء في ملف الصحراء الغربية أو في سعي الجزائر لتحقيق استراتيجيتها في منطقة الصحراء والساحل لتطويق المغرب في ذلك الاتجاه. واعتبارًا لهذه المعطيات فقد تجاوزت الجزائر عقدة انقلاب عام 2008 في موريتانيا وموقفها منه، وتعاملت بواقعية سياسية مع مخرجاته ونتائجه السياسية. وبالعكس، فقد تعززت صلاتها مع موريتانيا على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة بشكل كبير، خاصة في المجالات الأمنية والاستثمار الاقتصادي.

وفي الوقت الذي تحركت فيه الجزائر في السنوات القليلة الماضية في اتجاه دعم موريتانيا لتولي رئاسة الاتحاد الإفريقي ومنحها مساحات للتحرك وتوسيع دورها الخارجي، وتمكنت من توظيف رئاسة موريتانيا في اتجاه مبادرة تعيين جواكيم شيساني، الشخصية المرفوضة مغربيًّا منسقًا إفريقيًّا خاصًّا بملف الصحراء الغربية، فإن المغرب كان قد قطع الطريق أمام طموح موريتانيا للحصول على عضوية منصب غير دائم بالأمم المتحدة عام 2011.

طبيعة التباينات في الرؤى

بعد حوالي ثلاثة أعوام من تنسيق جيد مع الجزائر أوصل موريتانيا إلى رئاسة الاتحاد الإفريقي عام 2014، ترجع موريتانيا لتقترب مرة أخرى من المغرب بعد الأزمة الدبلوماسية الأخيرة مع الجزائر؛ حيث تمر العلاقة بين موريتانيا والجزائر بنوع من الفتور والبرود الدبلوماسي حاليًا. وظهر التوتر بين الجانبين على خلفية طلب موريتانيا من أحد أعضاء الهيئة الدبلوماسية الجزائرية في نواكشوط مغادرة أراضيها بعد اتهامه بالوقوف وراء مقال نشره موقع البيان الموريتاني، والذي يتحدث عن شكوى رسمية تقدمت بها موريتانيا إلى الأمم المتحدة تتهم فيها المغرب بإغراق حدودها بالمخدرات(4)، وفسرت موريتانيا ذلك بأنه رغبة في إفساد علاقاتها الخارجية. ولم يمر الموقف الموريتاني دون رد فعل جزائري بطرد أحد أعضاء السفارة الموريتانية بالجزائر، وطلب مغادرة أراضيها باعتباره شخصًا غير مرغوب فيه، دون توضيح لدوافع القرار(5).

عادة ما تكون التوترات الدبلوماسية نتيجة انحراف أو تباين في أحد مسارات التعاون الاستراتيجي، والواقع في العلاقة الموريتانية-الجزائرية أن هنالك تباينات في الرؤى حول ترتيب الأوضاع في المنطقة المغاربية وجوارها الإقليمي. ورغم التقارب الواضح طيلة السنوات الثلاث الماضية فقد ظلَّت الرؤى متباعدة بين الموقف الموريتاني من ليبيا الداعم للتدخل الأجنبي، خلافًا للموقف الجزائري الرافض لأي شكل من أشكال التدخل العسكري، وهو ما عبَّرت عنه الجزائر بإصدارها بيان يعارض التدخل العسكري بليبيا بعد دعوة دول الساحل الخمس (موريتانيا، النيجر، مالي، تشاد، بوركينا فاسو) في قمتهم نهاية ديسمبر/كانون الأول 2014 في نواكشوط لتدخل عسكري بليبيا، وهي المساعي التي عملت الجزائر على إفشالها ومحاصرتها بالمنطقة، واعتبرت الحكومة الجزائرية أن "تجمع دول الساحل الخمس التي تتعاون معها الجزائر منذ عقود في مجالات أمن المنطقة، وتقدم لها مساعدات غذائية سخية، تدفع باتجاه مناقض للتفاهمات السياسية السابقة، التي تقضي بإبعاد شبح التدخل الأجنبي في منطقة الساحل"(6). وتنسحب التباينات كذلك على ما يتعلق بالموقف من التعامل مع أزمة مالي؛ حيث كانت العمليات العسكرية الموريتانية تمتد في ملاحقة الجماعات المسلحة حتى داخل التراب المالي، عِلمًا بأن سياسة الجزائر في التعامل مع الأوضاع الأمنية في مالي تنحو نحو خيار استبعاد أي نوع من الحلول العسكرية.

أظهر التوتر الدبلوماسي الأخير بين الدولتين وجود مساحات لتباين الرؤى، ويُلاحَظ من خلال بعض التفسيرات التي أدلى بها دبلوماسيون جزائريون سابقون مثل عبد العزيز الرحابي (دبلوماسي جزائري سابق في إسبانيا) أن خلفيات التوتر الحالي تعود إلى "انخراط موريتانيا في السنوات القليلة الماضية في تجمع الدول الخمس الذي يعمل جاهدًا على تنفيذ استراتيجية خاصة به، وموازية للاستراتيجية النشيطة للجزائر في منطقة الصحراء والساحل. كما أن استراتيجية مجموعة الدول الخمس تتماشى مع التوجهين الفرنسي والمغربي في تلك المنطقة؛ حيث ترغب الجزائر في إبعاد أي دور فرنسي أو مغربي للتأثير بالمنطقة. وفي سياق قريب تم تفسير طرد الدبلوماسي الجزائري من موريتانيا بوجود "جماعات ضغط في موريتانيا ترغب في إدخالها أزمة مع الجزائر"(7).

ثمة عوامل أخرى مهمة في تفسير هذا التوتر الحالي، من بينها التقارب الموريتاني-السعودي في سياق عاصفة الحزم، وكما هو معروف فإن التقارب مع السعودية يقتضي تقاربًا مع المغرب؛ حيث تعتبر الجزائر أهم معارض عربي للخيار العسكري السعودي في التعامل مع الأزمة اليمنية، وهي رافضة لتشكيل قوة عربية مشتركة. وتُسهم السعودية في التنفيس عن الأزمة الاقتصادية لموريتانيا، وقررت منحها عدة معونات مالية عاجلة لتغطية عجز الموازنة، وضخَّت 50 مليون دولار كوديعة لدى البنك المركزي الموريتاني، ويُتوقَّع "أن يصل حجم هذا الدعم العاجل لأكثر من 300 مليون دولار ستقدمها السعودية لموريتانيا على دفعات، خلال السنة الجارية"(8).

يبقى الملف الأمني بين موريتانيا والجزائر مهمًّا في تفسير التوتر الحالي، والملاحظة الأساسية أن الجزائر قد اختارت مستشارًا مكلَّفًا بملف الإرهاب لتطرده من السفارة الموريتانية لديها. ولا يُخفي الجانب الموريتاني منذ فترة امتعاضه من بخل الجزائريين بالمعلومات بشأن منطقة مالي والجماعات المسلحة(9)، خاصة أن موريتانيا الآن أصبحت ذات وجود استخباراتي مهم في شمال مالي.
إن أحد أسباب تطور العلاقات الجزائرية-الموريتانية في السنوات القليلة الماضية، يرجع بالأساس إلى فتور العلاقات الموريتانية-المغربية. ولذلك، لا يُرجَّح أن تترك الجزائر العلاقة مع موريتانيا عرضة لمزيد من التوتر أو التصعيد بعد التوتر الدبلوماسي الأخير، تفاديًا لمزيد من تقاربها مع المغرب. ولهذا السبب كان الردُّ الجزائري موازيًا للقرار الموريتاني ولم يكن أقوى منه من حيث التصعيد، مع وجود ديناميكية تونسية تدخلت للوساطة بين الدولتين، لمنع صدور تصريحات عدائية أو أي تصعيد إعلامي في الوقت الحالي(10).

خيارات موريتانيا حيال واقع الاستقطاب

1- سياسة حياد مكلِّفة
من الصعوبات التي تواجهها الدبلوماسية الموريتانية منذ استقلال الدولة ضرورة أن يعقب قراراتها وتحركاتها قراءتان سياسيَّتان، مغربية وجزائرية، ولذلك فإن الأداء الدبلوماسي الموريتاني محكوم بمراعاة ردَّات فعل كلٍّ من الدولتين. وتشير القراءة التاريخية إلى وجود مسار متذبذب واجهته سياسة الحياد الموريتاني تجاه قضية الصحراء الغربية. ففي البداية عملت الجزائر والبوليساريو على إخراج موريتانيا من معادلة الصراع مع المغرب، عبر دعم الانقلاب على الرئيس المختار ولد داداه، وتثبيت نظام يُخرج موريتانيا من ملف النزاع على الصحراء، ودفعها لسلوك موقف محايد.

وقد انتقل الموقف الموريتاني بعد ذلك من وضع الحياد إلى التحالف مع جبهة البوليساريو والجزائر في فترة المقدم محمد خونة ولد هيدالة (1980-1984)، ليختلف المسار بشكل واضح في فترة حكم العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع (1984-2005) التي عرفت توازنًا ملحوظًا في علاقاتها مع المغرب والجزائر.

وقد شكَّل مجيء العقيد أعل ولد فال وزيارته المبكرة للجزائر مصدر قلق للمغرب في البداية، لكن سرعان ما تم تدارك ذلك عبر زيارة مماثلة للمغرب، وصولًا إلى انقلاب عام 2008 ومجيء الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ حيث لا تزال سياسة الحياد تواجه صعوبات في الممارسة بسببين رئيسين: عامل الاستقطاب بالمنطقة من جهة، وما تمليه تغيرات مصالح موريتانيا الاستراتيجية خاصة الأدوار الأمنية التي تحاول الاضطلاع بها بشكل متزايد من جهة أخرى. وهذان السببان يفسِّران ارتفاع منسوب الحياد أحيانًا ونزوله أحيانًا أخرى تجاه هذه الدولة أو تلك. ولذلك تُفسَّر بعض الخطوات مثل التي أقدم عليها الرئيس ولد عبد العزيز مغربيًّا بأنها إخلال بمبدأ الحياد، وذلك حين استقبل عددًا من المسؤولين الصحراويين، بالإضافة إلى حضور وفد برلماني رفيع من جبهة البوليساريو، أشغال البرلمان الإفريقي الذي عُقد في نواكشوط خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي.

كانت عملية الحياد الموريتاني تقاس في السابق بمدى تأثير مخرجاتها في مسار قضية الصحراء الغربية، إلا أنه في السنوات الأخيرة قد انضاف إليها مساحات وأبعاد استراتيجية أخرى تتعلق بطبيعة التواجد المغربي والجزائري وتعزيز نفوذ الدولتين في القارة الإفريقية عبر البوابة الموريتانية. ولذلك، فإن تعيين مسؤول في الاتحاد الإفريقي مكلف بقضية الصحراء الغربية، في الوقت الذي كان ترأس فيه موريتانيا الاتحاد، شكَّل حرجًا كبيرًا بالنسبة للمغرب؛ حيث كان للجزائر دور في حصول موريتانيا على الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي.

2- خلق بيئة تنافسية اقتصاديًّا
رغم تعقيدات العلاقات السياسية مع كل من المغرب والجزائر فإن موريتانيا تتبنى مقاربة اقتصادية تستفيد من معطيات الاستقطاب لخلق بيئة تنافسية بين المغرب والجزائر على أرضها؛ حيث تندفع الدولتان إلى تأكيد حجم حضورهما وتأثيرهما الاقتصادي بهدف تحقيق نتائج سياسية على المدى البعيد. وتستفيد موريتانيا من هذه التعقيدات نفسها، ومن عنصر الاستقطاب بما يفيد اقتصادها الضعيف ويمنحها فرص تطوير بنيتها التحتية.

تستحوذ المقاربة الاقتصادية في ضبط العلاقة السياسية بين المغرب وموريتانيا على مساحة كبيرة من خلال محرِّك الاستثمار المغربي، ويجمع الدولتين عدد من الاتفاقيات مثل اللجنة العليا المشتركة الموريتانية-المغربية التي كان انعقاد دورتها السابعة في إبريل/نيسان 2013 وتم فيها التوقيع على 17 اتفاقية في مجالات تنقُّل البضائع والأشخاص والإسكان وقطاع الموانئ والصيد والموارد البحرية والبحث العلمي. وأيضًا احتضان موريتانيا للدورة الرابعة عشرة لمجلس وزراء النقل في مارس/آذار 2013، والمؤتمر الخامس حول التكامل الاقتصادي في بلدان المغرب العربي في يناير/كانون الثاني 2013. ورغم أن السوق الموريتانية ليست كبيرة بالنظر لعدد السكان فإن هنالك استثمارات مغربية مهمة في قطاع الاتصالات؛ حيث بلغت سيطرة الشركة المغربية-الموريتانية (موريتل) عام 2014 على نحو 60‏‎%‎‏ من سوق الاتصالات في موريتانيا(11).

يشتد التنافس الاقتصادي المغربي-الجزائري في موريتانيا، وقد ارتفع حجم التنسيق الاقتصادي بين الجزائر وموريتانيا في السنوات الثلاث الأخيرة، مع وجود لجنة عليا مشتركة بين الدولتين. ويمكن اعتبار أهم الاستراتيجيات ذات البعد الاقتصادي المؤثر هي مشروع طريق "تيندوف-شوم الموريتانية" الذي سعت الجزائر إلى إنجازه، وهو طريق يبلغ طوله ما يقارب 1000 كلم، وربما يشكِّل مسارًا جديدًا في العلاقة بين الدولتين في حال إنجازه وعدم تعثره؛ حيث يتيح للجزائر إيجاد منفذ على المحيط الأطلسي. وهو ما فتح الباب في الآونة الأخيرة للحديث عن دور مغربي ضاغط باتجاه إقناع موريتانيا بالعدول عن المشروع بالنظر لأضراره المحتملة على الرباط. كما تمتلك شركة النفط الجزائرية "سونا طراك" نسبة 40% من مشروع استخراج النفط من حوض تاودني بالشمال الموريتاني(12).

بلا شك يحتاج النشاط الاقتصادي للجزائر في موريتانيا إلى شبكة حلفاء سياسيين في الداخل، ويمكن اعتبار المنافسة على العلاقة مع النخب السياسية والاقتصادية الذي تواجهه الجزائر داخل موريتانيا من طرف المغرب أحد عوامل عدم تمكن الحضور الاقتصادي من بلوغ أهدافه بالتأثير سياسيًّا، لأسباب أهمها الاصطدام بشبكة التحالفات المغربية في موريتانيا.

خاتمة

لم يتمكن كل من المغرب والجزائر في المرحلة التي أعقبت استقلال موريتانيا من بناء تحالفات استراتيجية ثابثة وغير قابلة للاهتزاز مع هذه الدولة، ولا يُرجَّح أن يقع ذلك على الأقل في المستقبل القريب. وذلك بسبب التغيرات السياسية المتتالية التي تعرفها موريتانيا، مع ذهاب أنظمة عسكرية ومجيء أخرى، وهو ما يضطر السياسة الخارجية للمملكة وللجزائر إلى تغيير أدوات التعامل الدبلوماسي بشكل متواصل، بسبب المتغيرات الداخلية في موريتانيا وما يتبعها من مواقف في سياساتها الخارجية.

الرمال السياسية الموريتانية رمال متحركة، وإذا كانت تجربة هذه الدولة في بناء نظام حكم ما بعد الاستقلال عرف تغيرات متواصلة بما لا يساعد على خلق ثوابت سياسية، تخص كيفية تصور الموريتانيين لشكل مجمَع عليه لنظام سياسي مستقر ومتفق على آلية إفرازه وقواعد تشكيله اجتماعيًّا دون إحداث هزات بشكل متواصل، فإن خيار التأثير من بوابة الاقتصاد يبقى خيارًا جذابًا يسعى إليه المغرب والجزائر؛ حيث نشهد تناميًا على مستوى الحضور والتأثير الاقتصادي من جانب الدولتين.
________________________________
كمال القصير، باحث في مركز الجزيرة للدراسات، مسؤول منطقة المغرب العربي

المصادر
1- موريتانيا وإدارة الأزمة بمالي: التقرير الاستراتيجي لموريتانيا 2012-2013، المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ص74.
2- موريتانيا وإدارة الأزمة بمالي: التقرير الاستراتيجي لموريتانيا 2012-2013، المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ص75.
3 – عزيز يرفض استلام رسالة صال... وغزواني يتغيب عن استقبال قائد الأركان السنغالي: صحيفة أخبار اليوم الموريتانية بتاريخ: 2 يوليو/تموز 2012،
http://www.akhbarelyoum.info/index.php?option=com_content&view=article&id=120:2012-07-02-01-18-25&catid=34:2006-02-23-03-59-54
4- الجزائر سترد بقوة على قرار موريتانيا طرد أحد دبلوماسييها: موقع الشروق الجزائرية، بتاريخ: 26 إبريل/نيسان 2015،
http://www.echoroukonline.com/ara/mobile/articles/241031.html
5- الجزائر ترد على نواكشوط بطرد دبلوماسي موريتاني: الجزيرة نت بتاريخ: 26 إبريل/نيسان 2015، http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/4/26/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%AA%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%86%D9%88%D8%A7%D9%83%D8%B4%D9%88%D8%B7-%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D8%AF-%D8%AF%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A
6 الجزائر تبدأ حملة الردِّ على "اجتماع نواكشوط": موقع صحيفة العربي الجديد، بتاريخ: 31 ديسمبر/كانون الأول 2014،
http://www.alaraby.co.uk/politics/2014/12/30/الجزائر-تبدأ-حملة-الرد-على-اجتماع-نواكشوط-
 7 انظر مصدرين:
Crise diplomatique entre l’Algérie et la Mauritanie : quel rôle pour le Maroc  ?/ 27-04-2015
http://cridem.org/C_Info.php?article=670169
- Rehabi: Mauritania allied with regional powers at the expense of Algeria:
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/241219.html
8- موريتانيا: بشارات بهبوب «عاصفة»: هبَّات سعودية مرفوقة بوابل تمويلات، القدس العربي، بتاريخ 14 مايو/أيار 2015،
http://www.alquds.co.uk/?p=341652
9- معلومات من مصادر خاصة بالكاتب.
10 - تونس تتوسط لحل الخلاف الجزائري-الموريتاني، موقع جريدة الإخبارية الجزائرية، بتاريخ 30 إبريل/نيسان 2015،
http://elikhbaria.com/ar/news/37960.html
11- صحيفة العربي الجديد: موريتانيا متخمة من الخلوي، محمد فال الشيخ، بتاريخ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2014،
http://www.alaraby.co.uk/supplements/2014/11/19/موريتانيا-متخمة-من-الخلوي
12- موقع الجزائر تايمز: تدخُّل الجزائر في الشؤون الداخلية لموريتانيا يدفع نواكشوط لحضن الرباط، بتاريخ: 2 مايو/أيار 2015،
http://www.algeriatimes.net/algerianews31247.html

نبذة عن الكاتب