حكومة الوفاق الليبية: فرص النجاح واحتمالات الفشل

رغم الدعم الدولي والإقليمي الذي حظيت به حكومة الوفاق منذ توقيع اتفاق الصخيرات بالمغرب، وحالة القبول في الشارع الليبي، فإنها سوف تواجِه بعد تجاوز عقبات الانتهاء من تشكيلها تحديات كبيرة، على رأسها إنهاء حالة الانقسام السياسي والعسكري، ومواجهة حالة الاضطراب وتلاشي المؤسسات الأمنية.
201611292539136580_20.jpg
تواجِه حكومة الوفاق الليبية بعد تجاوز عقبات الانتهاء من تشكيلها تحديات كبيرة، على رأسها إنهاء حالة الانقسام السياسي والعسكري (أسوشيتد برس)

ملخص
لم يُخفِ المشهد الاحتفالي الذي واكب التوقيع على الاتفاق السياسي الليبي في مدن ليبية عدَّة من بينها العاصمة طرابلس، حالة الانقسام في المشهد السياسي والعسكري، والاجتماعي. ويعتبر الانقسام أحد التحديات التي تواجه حكومة الوفاق، على مستوى تشكيلها ومقرها الرئيسي. ويتمثل أول هذه التحديات في التوافق داخل مجلس رئاسة الحكومة على تشكيلة الحكومة وكيفية التوصل إلى ذلك خلال ثلاثين يومًا من تاريخ توقيع الاتفاق.

وقد حظيت حكومة الوفاق بدعم دولي شبه مطلق منذ توقيع الاتفاق، ولاقت حالة من القبول في الشارع الليبي، كما دعمتها الغالبية من النخب المثقفة ومؤسسات المجتمع المدني، والمجالس العُرفية والمنتخبة، وتشكيلات مسلحة ذات وزن مهم على الساحة الليبية.

في المقابل، يواجه المعترضون عليها صعوبة كبيرة في تسويغ موقفهم الرافض لها، حتى في أوساطهم الداخلية الضيقة، نظرًا لحالة التوازن التي سعى الاتفاق إلى توفيرها، كما يواجهون تحديات العجز عن تحقيق أهدافهم في السيطرة العسكرية على المدن، وعجزًا أكبر عن توفير حاجات المواطن الأساسية.

في السابع عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول 2015، أُعلن في مدينة الصخيرات المغربية عن وصول قاطرة الحوار الليبي إلى محطتها الأخيرة، بالتوقيع النهائي على وثيقة الاتفاق السياسي الليبي، التي تضم في أحد ملاحقها أسماء أعضاء مجلس رئاسة الوزراء لحكومة الوفاق الوطني التسعة. ويتكون مجلس رئاسة الوزراء من رئيس وخمسة نواب وثلاثة وزراء دولة. وأُسندت إلى هذا المجلس، بحسب الاتفاق، مهمة اختيار باقي أعضاء الحكومة بالتشاور مع أعضاء الحوار السياسي الليبي خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يومًا من التوقيع على وثيقة الاتفاق.

وقَّع الاتفاق عن المؤتمر الوطني العام، النائب الثاني لرئيس المؤتمر الدكتور صالح المخزوم، ممثِّلًا لستة وسبعين عضوًا من أعضاء المؤتمر، ووقَّع عن مجلس النواب، السيد أمحمد شعيب، النائب الأول لرئيس مجلس النواب، ممثلًا عن اثنين وتسعين عضوًا من أعضاء مجلس النواب. كما وقَّع الاتفاق عدد من أعضاء مجلس النواب المقاطعين وممثلون عن المرأة والمستقلين والمجلس الوطني الانتقالي.

الانقسام وتشابك القوى السياسية والعسكرية

المشهد الاحتفالي الذي واكب التوقيع على الاتفاق في مدن ليبية عدَّة من بينها العاصمة طرابلس، لم يُخْفِ حالة الانقسام السياسي والعسكري والاجتماعي. وكانت مظاهر الانقسام ووقائعه تساير خطوات الساعين للاتفاق. وقد سبق التوقيع على الاتفاق السياسي بيومين، لقاء في مالطا بين رئيس المؤتمر، نوري بوسهمين، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، أعلنا فيه أن المجتمعين في الصخيرات لا يمثِّلون إلا أنفسهم، وأنهم غير مخولين بالتوقيع على هذا الاتفاق، كما أعلنا عن رغبتهما في رعاية الأمم المتحدة لمسار جديد أُطلق عليه: الحوار الليبي-الليبي.

انقسم الساسة بشأن الحوار ومخرجاته، وانقسم حاملو السلاح في كلا المعسكرين بين مؤيد ومعارض؛ حيث أيَّد عدد من الكتائب المحسوبة على فجر ليبيا التوقيع على الاتفاق واعتبره تتويجًا لنضاله، وعارضت كتائب أخرى الاتفاق ووصمته بالخيانة لدماء الشهداء. كما نجحت الضغوط الخارجية في احتواء معارضة اللواء خليفة حفتر للاتفاق، من خلال ترشيح شخصية محسوبة عليه في مجلس رئاسة الوزراء.

وشملت حالة التشظي التيارَ الإسلامي؛ فأيَّد حزب العدالة والبناء المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين الاتفاق واعتبره مُنهيًا للانقسام ومحاولة لإيجاد سلطة واحدة، بينما عارض التيار السلفي ودار الإفتاء الاتفاقَ واعتبراه افتئاتًا على ولاة الأمور وتجاوزًا لآراء العلماء.

ولاة الأمور هؤلاء فرَّقتهم الحرب وجمعهم الموقف من الاتفاق السياسي الذي فرض حالة توقف قسري في المؤتمر الوطني والبرلمان. فقد حال الموقف من الاتفاق بداخلهما، وتباين مواقف الكتل السياسية من مخرجات الصخيرات، دون اكتمال النصاب في أيٍّ منهما، لانعقاد جلسة قانونية؛ حيث يوجد في المؤتمر معارِضون للاتفاق مختلف في عددهم، ويُقدِّرهم الطرف الآخر بسبعة وثلاثين. بينما يقولون إنهم يتجاوزون الستين، يقودهم رئيسه نوري بوسهمين، ويضمون إلى جانبه، أعضاء من كتلة الوفاء التي شكَّلها منتسبون سابقون للجماعة الليبية المقاتلة، ومعهم منسحبون من حزب العدالة والبناء، إضافة إلى مستقلين، آخرين محسوبين على التيار الإسلامي عمومًا. ويدعم هؤلاء بعض أعضاء دار الإفتاء الليبية، ومجموعة من القوى المسلحة، يختلف المراقبون في درجة ولائها لهم، كما يختلفون في حقيقة أحجام بعضها.

وأكثر هذه القوى ولاء هي قوة شكَّلها عضو المؤتمر السابق، العقيد صلاح بادي، الذي يعتقد بعض المراقبين أنه يقف الآن على الحياد، وكتائب من درع الوسطى القريبة من رئيس حكومة الإنقاذ التابعة للمؤتمر خليفة الغويل.

وتشير التقديرات إلى أن الموقف داخل الضباط المشكِّلين لقيادة الأركان برئاسة عبد السلام جاد الله العبيدي، يدل على أنهم لا يقفون على قلب رجل واحد، وتتملكهم مخاوف من الملاحقات والثارات، كما يضيق هامش تحركهم على الأرض بسبب الأفضلية القتالية والتسليحية والجاهزية للكتائب التي تأتمر بأوامر قادتها المباشرين، ولا تتبع رئاسة الأركان إلا شكليًّا.

وتختلف مستويات رفض هؤلاء السياسيين، والقوى العسكرية المؤيدة لموقفهم؛ فمنهم من يقف موقفًا مبدئيًّا قائمًا على رفض اللقاء بأطراف يحسبها ثورة مضادة، جاءت لتعيد النظام السابق، ومنهم من يرفض الاتفاق ومخرجاته، رفضًا مصلحيًّا، قائمًا على ارتباط مصالحه بالقيادات السياسية الرافضة للاتفاق.

وتبقى الأسباب الحقيقية لرفض السياسيين للاتفاق، غير معلومة تمامًا، وإن كانت تقديرات أغلب المراقبين تشير إلى قيامها على منطق المحاصصة، وتحصيل نصيب من سلطة ما بعد الاتفاق، كما تشير تقارير وتسريبات قريبة من الدقة إلى البحث عن ضمانات بعدم الملاحقة القانونية، عن أحداث الاحتراب التي صاحبت فجر ليبيا، بالرغم من أن الاتفاق نصَّ على أن تضمن المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي، عدم مقاضاة أي شخص لأسباب تقتصر على قتال الخصوم أثناء النزاع.

معالم استراتيجية هذا الفريق، الذي يُظهره التعامل الإعلامي موحَّدًا، ويخفي الموقف العام الرافض تناقضاته الداخلية الكامنة، لا تقل تعقيدًا ولا تركيبًا عن علاقاته وأولوياته، ودوافع تياراته المختلفة. والواضح أن الثابت الوحيد في هذه الاستراتيجية هو عرقلة الاتفاق، وتأخير تطبيقه قدر الإمكان.

إن هذه الاستراتيجية يمكن أن تصل في رفض الاتفاق إلى استعراض القوة، والتمترس بالظهير الشعبي، لكنَّ عارفين بالشؤون الداخلية للفرقاء لا يتوقعون أن تصل إلى مستوى المواجهة العسكرية، لتكلفتها الباهظة من جهة، وصعوبة تسويقها، وللتقدير الغالب أن مآلها لن يكون التوفيق أو النصر، نظرًا لميزان القوى الراجح عسكريًّا لصالح داعمي الاتفاق، ولصعوبة مواجهة القوى الدولية.

هذه الكتائب رغم نزوعها الغالب لطاعة قادتها، إلا أن كل مقاتليها وقادتها الميدانيين يتقاضون رواتب من خزينة الدولة، وفي حال رفض المصرف المركزي استمرار التعامل مع المؤتمر وحكومته، كما هو مرجَّح بسبب وضعه تحت وصاية المؤسسات النقدية الدولية، فإن الراجح أن ينتقل الولاء إلى من يمكنه تأمين المستقبل المالي. هذا إضافة إلى صعوبة مواجهة المزاج العام الرافض للاقتتال الداخلي، على أسس سياسية.

كل هذا يرجِّح أن تؤول معارضة هذه الأطراف إلى معارضة سياسية، تقف على حافة الصراع المسلح، وتظل قياداتها ترفع الصوت ضد الاتفاق في الظاهر، وتحاول الاندماج في الوضع الجديد بشروط أفضل.

وفي الشرق، يوجد البرلمان المنقسم إلى أكثر من فريق؛ فهناك المجموعة المحسوبة على خليفة حفتر، وهي تميل إلى رفض الاتفاق، تبعًا لقرار حفتر الذي يرفض أي مساس بوضعه كقائد عسكري، لما يسميه الجيش الوطني، ولطبيعة موقف القوى الإقليمية التي تقف خلفه. ويمكن القول: إن وقوف هذا المعسكر ضد الاتفاق هو موقف مبدئي ينظر إلى الاتفاق باعتباره نقيضًا لمشروعه.

وهناك المجموعات الأخرى التي لا ترفض الاتفاق مبدئيًّا، لكنها لا تجد القوة لمواجهة الرافضين، فهي بالتالي تؤيد الاتفاق، وتسعى إلى الالتحاق به، لكنها غير قادرة على مواجهة نتائجه التي يبدو أن أولها سيكون إبعاد حفتر من المشهد. وضمن هذا الطرف آخرون يبحثون عن مصالحهم السياسية وربما الجهوية، وهم أقرب إلى الانتظارية منهم إلى تحديد موقف صارم في أي الجهات.

تختلف استراتيجية هذه الأطراف تبعًا لاختلاف مصالحها؛ فخليفة حفتر وفريقه، يقفون على أرضية أقرب إلى الصلابة، وهي رفض اتفاق يمسُّ موقعهم، كفاعلين أساسيين في المنطقة الشرقية، إن لم يكن في عموم ليبيا، ولا يُخفي مراقبون تخوفهم من أن تصل استراتيجيتهم إلى حدِّ الانفصال بالمنطقة الشرقية، أو إبقائها بؤرة توتر مستعصية على أية حكومة تأتي.

إن واحدًا من مكامن ضعف استراتيجية هذا الفريق هي ضعفه أمام ضغوط القوى الدولية، إلا أن هذا الضعف يستصحب معه شيئًا من المهارة في خلق خيارات تؤدي إلى تفاهمات مع القوى الدولية، في منتصف طريق التأزم.

لا يمكن التنبؤ الجازم بتصرفات أيٍّ من الأطراف المناهضة للاتفاق السياسي، لكن شيئًا واحدًا يمكن الجزم به وهو صعوبة أن يلتقي طرفاها في الشرق والغرب لقاء استراتيجيًّا، نظرًا لتاريخ العداء، الذي لا يزال قائمًا. ويمكنهما أن يشكِّلا عقبتين كبيرتين في وجه الاتفاق وعمل حكومة التوافق، لكنهما سيظلان في الغالب عقبتين منفصلتين، لن توحدهما استراتيجية عمل واحدة.

تحديات تواجه حكومة الوفاق

الانقسام أحد عناصر قائمة التحديات التي تواجه حكومة الوفاق، ومصدر العقبات التي تعترضها على مستوى تشكيلها ومقرها الرئيسي. ويتمثل أول هذه التحديات في التوافق داخل مجلس رئاسة الحكومة على تشكيلة الحكومة وكيفية التوصل إلى ذلك خلال ثلاثين يومًا من تاريخ توقيع الاتفاق، أي بحلول يوم 16 يناير/كانون ثاني 2016. وبالنظر إلى المحاصصة الجهوية التي حكمت تشكيل مجلس رئاسة الوزراء بين الأقاليم التاريخية الثلاثة (طرابلس، برقة، فزان)، يُتوقع أن يواجه المجلس تحديًا في الموازنة بين معياري الكفاءة والجهة. وتحديًا قانونيًّا في حالة تعذُّر حصول نصاب انعقاد مجلس النواب، وتمسُّك المؤتمر بحقه في تعديل الإعلان الدستوري طبقًا لأحكام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، والتي قضت بانعدام مجلس النواب.

وقد استند الاتفاق السياسي على الإعلان الدستوري القائم ولم يصدر كإعلان دستوري جديد، وهو ما يجعله في رأي عدد من الفقهاء الدستوريين، بحاجة إلى تخريج قانوني لهذه المعضلة الدستورية يقيه الطعن أمام القضاء مستقبلًا.

تواجه الحكومة تحدي ممارسة عملها من العاصمة طرابلس، بالنظر إلى المعارضة التي يبديها رئيس المؤتمر، وبعض أعضائه، ومؤيدون لهم من الكتائب المسلحة؛ حيث تخرج كل جمعة مظاهرات بطرابلس، وإن كانت صغيرة الحجم، ويُعتقد أنها ممولة من قبل رئيس المؤتمر، وتعارض الحوار وحكومة الوفاق التي تمخَّضت عنه. ورغم أن الاتفاق يخوِّل الحكومة العمل من مدينة أخرى، إلا أن عملها من طرابلس مؤشر حقيقي على إنهاء الانقسام، وله رمزيته في بناء مؤسسات الدولة. ووجود الحكومة في مدينة ليبية غير طرابلس، وإن كان مقبولًا بنصِّ الاتفاق، سيجعلها حكومة ليبية ثالثة، ستُسمى باسم مدينتها على غرار حكومتي طرابلس وطبرق. وهو ما يعني، واقعيًّا، زيادة الانقسام.

حدَّد الاتفاق السياسي ثلاث أولويات لحكومة الوفاق الوطني؛ وهي أولويات سياسية وأمنية، واقتصادية وخدمية. ومن أهم الأولويات السياسية الانتهاء من صياغة الدستور والاستفتاء عليه لإخراج البلاد من الحالة الانتقالية إلى الحالة الدائمة. وتتمثل الأولويات الأمنية في وقف إطلاق النار وجمع السلاح، ودمج حامليه في مؤسسات الدولة، والتعامل مع ملف الإرهاب، طبقًا للترتيبات الأمنية الواردة بالاتفاق.

واقتصاديًّا، يخيم شبح الإفلاس على المؤسسات؛ حيث يعتبر المصدر الوحيد لدخل البلاد هو قطاع النفط، الذي تدنَّى سعره عالميًّا، مع توقف ضخِّه. بالإضافة إلى المشاريع المتوقفة، التي تحتاج معالجة قانونية ومالية قد تستنزف الاحتياطيات النقدية للبلاد. كما أن معالجة آثار الصراع في مدن بنغازي وككله وتاورغاء وغيرها، وتعويض المتضررين من الحرب مكلِّف للميزانية العامة، بالإضافة إلى حاجات قطاع الصحة والتعليم.

معضلة الترتيبات الأمنية

يُصرُّ مجلس النواب على أن المقصود بمؤسسة الجيش هو الكتيبة التي كان يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر وأُطلق عليها عام 2011  الجيش الوطني، في حين أن المجلس الوطني الانتقالي والمكتب التنفيذي، اللذين حكما أثناء الثورة، قد قاما باستبدال اسم القوات المسلحة الليبية، الذي كان يُطلق على الجيش في عهد معمر القذافي، باسم الجيش الليبي، والذي توالى على قيادة أركانه بعد الثورة؛ الراحل اللواء عمر الحريري، والراحل الفريق عبد الفتاح يونس، ثم اللواء يوسف المنقوش. وأخيرًا، انقسمت الأركان بين اللواء عبد السلام جاد الله العبيدي الذي عيَّنه المؤتمر، واللواء عبد الرزاق الناظوري الذي عينه مجلس النواب. حيث أعاد مجلس النواب اللواء حفتر للخدمة مع ترقيته إلى رتبة فريق وتعيينه قائدًا عامًّا للجيش الوطني. وفي حين لم يستطع حفتر تحقيق أهدافه وأصبح شخصية غير مرغوبة في نظر الفريق المناوئ، فقد بات من أهم مطالب المؤتمر الوطني العام والمحسوبين على تياره إخراجه من المشهد السياسي، واشترط هذا الفريق لقبول الاتفاق أن ينص صراحة على استبعاد حفتر. بالمقابل، فإن مجلس النواب، ومن خلال مبادرة فزان التي وقَّع عليها أكثر من تسعين عضوًا من أعضاء مجلس النواب، اعتبر أن الجيش الوطني وقيادته خط أحمر.

بين هذين الاتجاهين جاء الاتفاق السياسي جامعًا للرأيين؛ حيث عُرِّف الجيش الليبي بأنه قوات نظامية تتألَّف من ضباط وضباط صف وجنود، وألزم الحكومة بدعمه وفق أسس مهنية ووطنية، وطالب بضرورة ضم عناصر جديدة قادرة على تعزيز قدراته. وهنا أكَّد الاتفاق على أن المقصود بالجيش؛ ليس الجيش الوطني الذي يقوده حفتر، ولكن الجيش الليبي الذي يضم كل الضباط والجنود الموزعين في الجهتين، وفتَحَ الاتفاق الباب لدخول عناصر جديدة من حاملي السلاح، الثوار، لتعزيز قدرات الجيش الليبي إلى جانب الوحدات والتشكيلات العسكرية القائمة.

قيادة الجيش الليبي منقسمة ومبعثرة، لذلك نصَّ الاتفاق على أيلولة كافة صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية والأمنية العليا إلى مجلس رئاسة الوزراء، بمجرد التوقيع، كما حدَّد عشرين يومًا من توقيع الاتفاق للنظر في شاغلي هذه المناصب، واتخاذ قرارات بشأن شاغليها، وإلا اعتُبرت شاغرة، وحدَّد الاتفاق ثلاثين يومًا لاتخاذ قرارات بتعيينات جديدة. ومن الواضح أنه مع نهاية الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني 2016 أصبحت كل المناصب العسكرية شاغرة، وكذا أصبح اللواء حفتر خارج الخدمة مجددًا، ما لم يتم إعادة الاستعانة به، بقرار جديد يصدر عن رئيس الوزراء ونوابه الخمسة بالإجماع.

تعمل الترتيبات الأمنية على إنهاء النزاع المسلح ووضع إجراءات وقف إطلاق النار وانسحاب التشكيلات المسلحة خارج المدن والتجمعات السكنية ونزع السلاح وفق جدول زمني محدد، ومن خلال لجان مؤقتة تتولى مراقبة وتنفيذ هذه الإجراءات. بالمقابل، ينظر حاملو السلاح من الثوار، إلى هذه الإجراءات بعين الريبة، ويعتقدون أنهم المقصودون بها، ومن الدعوة التي يحملها الاتفاق إلى وضع الترتيبات لمجابهة الإرهاب وتهديداته، حيث نادى المرتابون من هذه الإجراءات، بأهمية مشاركتهم في الترتيبات الأمنية وطالبوا بضرورة تعريف المقصود بالإرهاب.

لقد حدد الاتفاق المجموعات الإرهابية المقصودة، وحدد بالاسم هذه التنظيمات (تنظيم الدولة-أنصار الشريعة-القاعدة) وفقًا لقرارات مجلس الأمن. كما نصَّ الاتفاق أيضًا على أن تضمن المؤسسات المنبثقة عنه، عدم مقاضاة أيٍّ من الأشخاص لأسباب متعلقة بالقتال أثناء النزاع، واستثنى الاتفاق جرائم الحرب، أو جرائم ضد الإنسانية طبقًا للقانون الدولي. لكن هذه الضمانات التي اعتبرها العديد من الفرقاء ضمانات كافية، اعتبرتها أطراف أخرى غير كافية، ما لم تكن الشخصيات القائمة على المناصب العسكرية والأمنية محل ثقة وغير جدلية.

سيناريوهات متوقعة

وضَع تصريح المبعوث الأممي، كوبلر، بأن الاتفاق سيتمخض عنه أجسام شرعية جديدة، وأن المجتمع الدولي لم يعد يعترف بوجود جسم شرعي بعد أكتوبر/تشرين الأول 2015، كلًّا من المؤتمر ومجلس النواب أمام خيار واحد هو الانخراط في عملية الحوار وخلق أجسام شرعية جديدة.

ولو تمت صياغة الاتفاق السياسي كإعلان دستوري جديد لا يستند إلى الإعلان الدستوري القائم وآلياته في التعديل، لزاد ذلك من ثقل الضغط على مجلس النواب والمؤتمر. لكن ذلك لم يقع، وقد يصعب إعادة صياغة الاتفاق من جديد، وهو ما يضع كلًّا من المؤتمر ومجلس النواب أمام خيارات بالغة التأثير على مستقبل ليبيا والمحافظة عليها كدولة واحدة.

ويمكن بناءً على الوقائع وميزان القوى توقع سيناريوهات ثلاثة، يترجح أن تقود الأحداث إلى واحد منها، إلا أنه يمكن ترتيبها بحسب أرجحية احتمال الوقوع:

أولًا: نجاح حكومة الوفاق في ضم المغاضبين إلى الاتفاق، وهو ما يبدو أقرب بفعل العامل الخارجي الضاغط، وتشابك الوضع المحلي، ولكنه مع ذلك ليس حتْمًا مقدورًا. إذا نجحت حكومة التوافق، في جعل معارضيها يلتحقون بالاتفاق عبر فتح حوار معهم، لطمأنتهم بشأن نقاط التحفظ، ودخلت في إجراءات عملية تبدد مخاوف الشباب من حَمَلَة السلاح، وتجعل استثارتهم ضدها أمرًا صعبًا، فعندئذ سيتقوى احتمال انضمام الجميع إلى الاتفاق، مثل رئيس المؤتمر والفريق المؤيد له وكذلك رئيس مجلس النواب والمؤيدين له، والمصادقة على الاتفاق وإصدار التعديل الدستوري طبقًا لأحكامه. وفي هذه الحالة يصحح الاتفاق وضعية مجلس النواب الدستورية، ويُعد الاتفاق منشئًا له. كما يصحح الفراغ القانوني الذي تعيشه الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، ويمد أجلها إلى الرابع والعشرين من شهر مارس/آذار 2016، لإتمام مشروع الدستور وعرضه للاستفتاء العام.

كما سيُحَلُّ المؤتمر الوطني العام ويتم إنشاء المجلس الأعلى للدولة بديلًا عنه. وبذلك يكون الاتفاق السياسي قد حقق توافقًا مهمًّا، يؤسِّس لآلية واضحة لمنح الثقة لحكومة الوفاق الوطني وتمكينها من احتكار القوة وبسط سيطرتها ومواجهة التحديات متسلحة بهذا الإجماع.

في حالة تعذر هذا السيناريو؛ فقد يلجأ أطراف الحوار السياسي الليبي إلى صياغة الإعلان الدستوري القديم وتعديلاته، كإعلان دستوري جديد يتضمن الإتفاق السياسي الليبي ولا يخالفه، لمواجهة التحدي الدستوري الذي أسلفنا الإشارة إليه.

ثانيًا: أن تفشل حكومة الوفاق في ضم المعارضين، وتنجح في تحييد سلاحهم، وتحولهم إلى معارضة سلمية، وهو في حدود المتوقع نظرًا لتكلفة المواجهة المسلحة، خصوصًا مع إبداء أطراف في المجتمع الدولي رغبتها العلنية في دعم الحكومة بكل ما تحتاجه. وفي هذه الحالة فإن الحكومة قد تواجه صعوبات سياسية، وربما تعترضها عوائق في تنفيذ بعض القرارات لوجود معارضين، لكنها ستربح مع هذا نوعًا من التوازن في الحالة السياسية، تتحول معه المعارضة إلى مكسب للحوار وللحكومة، ولمسار بناء الدولة الليبية، وهو أمر ممكن، إذا اختل ميزان القوى العسكري لصالح الحكومة، كما تشير إليه المؤشرات في المنطقة الغربية.

ويمكن هنا أيضًا توقُّع أن ينضم رئيس البرلمان والمعارضون داخله إلى الاتفاق، ويرفض رئيس المؤتمر والمؤيدون له، وهو ما يعني أن الشق المتعلق بالمؤتمر من تنفيذ الاتفاق، سيقوم به الأعضاء المؤيدون للاتفاق، كما نُصَّ على ذلك، ويتكون منهم المجلس الأعلى للدولة، مستندين إلى نص الاتفاق السياسي والدعم الدولي وزخم التأييد الشعبي المتصاعد.

إن نجاح الحكومة في كسب المزيد من التأييد، سيصعِّب على المعارضين تسويغ استمرار حالة الانقسام أخلاقيًّا، وسياسيًّا، علاوة على صعوبة استدامتها عسكريًّا وماليًّا، وسيضطر هؤلاء المعارضون لاستثمار سياسة الباب المفتوح للانضمام إلى الاتفاق.

السيناريو الثالث، وهو أكثر تعقيدًا؛ إذ يُحتمل أن تنجح الحكومة في كسب ولاء رئيس البرلمان، وتخسر كسب ولاء خليفة حفتر والمؤيدين له من العسكريين، وبعض السياسيين، وفي نفس الوقت تكسب ولاء أغلب القيادات والقوى العسكرية في الغرب، ويظل رئيس المؤتمر وحلفه على معارضتها؛ مما يعني مواجهة موقف مركب، ربما يستدعي عملًا عسكريًّا في الشرق، ومواءمة سياسية تحفظ للمعارضين ماء وجوههم، وتبقيهم بعيدًا عن تحالف مع خصومها العسكريين في الشرق. وهو أمر وارد خصوصًا إذا استحضرنا أن محاولات التقارب بين المعارضين السياسيين من البرلمان والمؤتمر، لم تحظ بالترحيب من لدن خليفة حفتر، وربما عدَّها بعض المقربين منه في غير محلها.

تمثِّل السيناريوهات المتقدمة احتمالات لما قد تؤول إليه الحالة بناء على قدرة حكومة التوافق، التي جعلها الاتفاق المدعوم أمميًّا، وإلى حدٍّ ما إقليميًّا، السلطةَ الأساسية الوحيدة في البلاد تقريبًا، على استثمار الفرص وتجنُّب مكامن الإخفاق.
_________________________
عبد الرزاق العرادي - باحث وخبير في الشأن الليبي

نبذة عن الكاتب