الأزمة الليبية ودول الجوار: مواقف وحسابات

تُقدِّم الورقة قراءة لمواقف دول الجوار الليبي مما تعرفه ليبيا من احتراب بين فصائل مسلحة واستقطاب بين قوى سياسية، ورغم وجود بعض التناغم في مواقف دول الجوار إلا أن حسابات كل دولة ونظرتها لما يجري في الداخل الليبي تجعل تبايُنَ مواقفها أمرًا ملموسًا.
a093eda6000f405aa95a091ed81a9874_18.jpg
المبادرة التونسية والاستجابة الجزائرية-المصرية لحل الأزمة الليبية (رويترز)

منذ اندلاع الثورة، طبعت البراغماتية والسعي وراء المصالح علاقة ليبيا بالدول المجاورة لها مع تفاوت في المواقف المعلنة وتمايز في الحسابات الدقيقة؛ فكانت تونس متفاعلة بشكل جلي مع الثورة الليبية كما كانت الخرطوم داعمًا أساسيًّا للثورة في بداياتها، في حين تحوَّل تحفظُ الجزائر وانجمينا ونيامي إلى علاقة وثيقة مع الحكومة المؤقتة، بينما ظلت القاهرة أقل حماسًا من الجميع. ومنذ سنة 2014، وبعد تطورات المشهد الليبي الداخلي وما عرفه من استقطاب شرقي-غربي، ومع إزاحة حكومة محمد مرسي بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، وبعد دخول تونس في حالة ركود اقتصادي مزمنة وتراجع ألق الثورة التونسية، وقع تطور جليٌّ في مواقف دول الجوار؛ فقد وضعت مصر ثقلها السياسي والعسكري لترجيح كفة جبهة الشرق الليبي، بينما ازداد حذر الجزائر من الدور المصري في ليبيا، وأعلنت الجزائر عن مقاربة لحل الأزمة الليبية تقوم على الحوار الشامل والتفاوض وإلقاء السلاح. ولا يتبعد الموقف التونسي كثيرًا عن الموقف الجزائري.

أما السودان فقد تحول من داعم لجبهة طرابلس إلى التقارب مع موقف طبرق في الشرق. وقد نجحت الدول العربية الثلاث (مصر والجزائر وتونس)، رغم تباين حساباتها، في الإعلان عن موقف موحد تجسَّد في مبادرة ثلاثية تقوم على تشجيع الحوار وعدم إقصاء أي طرف ليبي مع التمسك بوحدة التراب الليبي والابتعاد عن الحل العسكري وتنسيق جهودها مع الجهود الدولية والقارية التي تهتم بحل الأزمة الليبية. ويبقى الموقف التشادي المساند لطبرق والواقف مع قوات حفتر متناغمًا مع الموقف الفرنسي بشكل عام من الأزمة الليبية؛ مما يعني أن حسابات بعض دول الجوار تتناغم على ترتيبات جيوستراتيجية دولية.

كواقع أية دولة، شهدت ليبيا تفاعلات وشدًّا وجذبًا بينها وبين دول الجوار عبر تاريخها المعاصر، غير أن الحقبة التي حكم فيها معمر القذافي البلاد كانت مختلفة بامتياز. فلقد شهدت سنوات عقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم قطيعة كاملة مع جميع الدول التي كانت تحيط بليبيا إحاطة السوار بالمعصم، ووقع أن تناوش النظام الليبي مع مصر عسكريًّا بعد زيارة الرئيس أنور السادات لتل أبيب، وشنَّت طرابلس حربًا ضروسًا ضد تشاد، وتم حشد الآليات العسكرية على الحدود مع تونس بعد توتر في العلاقة مع الرئيس الحبيب بورقيبة، وقصف الطيران الليبي مواقع حيوية في الخرطوم، هذا فضلًا عن تقديم دعم غير محدود للمعارضة السياسية للأنظمة الحاكمة في دول الجوار. 

بالمقابل، احتضنت كل من مصر والسودان وتشاد والجزائر وتونس جبهة الإنقاذ الليبية، وهي أكبر فصيل معارض للنظام الليبي خلال الثمانينات والتسعينات، وقدمت له تسهيلات شكَّلت ضغطًا حقيقيًّا على القذافي وأسهمت في دفعه إلى التراجع عن سياسته العدوانية تجاه الأنظمة الحاكمة في دول الجوار. أيضًا شاركت جميع دول الجوار الليبي في الإجراءات العقابية التي فرضها مجلس الأمن لحثِّ النظام الليبي على تسليم متهمين في تفجير طائرة البان آم الأميركية على قرية لوكيربي في أسكتلندا، والتي تقضي بمنع حركة الطيران من وإلى ليبيا ووقف تصدير قائمة طويلة من السلع للبلاد وذلك في الأعوام 1992-2003، حتى إن بعضها كان يصادر بضائع محدودة الكمية من بينها قطع غيار دقيقة لبعض المؤسسات العامة كانت تُحمَل في حقائب شخصية على الحدود البرية بينها وبين ليبيا. 

التغير الكبير في العلاقات مع دول الجوار كان بعد الضربة الجوية التي أذن بها الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، والتي استهدفت بعض المواقع الأمنية الحيوية في طرابلس وبنغازي في منتصف عام 1986، وأيضًا مع ازدياد ضغوط المعارضة الليبية التي استطاعت الاستفادة من التناقضات بين القذافي والقادة العرب لتعزيز نفوذها؛ حيث اتجه النظام إلى تطبيع علاقاته بشكل متسارع مع كل من تونس ومصر ثم الجزائر وتشاد ليتحول الأعداء إلى حلفاء استراتيجيين.

دول الجوار والتطورات السياسية والأمنية منذ فبراير/شباط 2011

يمكن القول: إن جميع دول الجوار تعاملت ببراغماتية مع اندلاع ثورة فبراير/شباط؛ حيث سبقت مصر وتونس ليبيا في التحول الكبير، وأبدت الثورة التونسية تفاعلًا أكبر مع تطورات فبراير/شباط في عامها الأول فيما أظهر المجلس العسكري الحاكم في مصر حماسًا أقل، وتحوَّل تحفظ الجزائر وتشاد والنيجر في البداية إلى تقارب إيجابي مع الحكومة المؤقتة عامي 2013-2014، وتحولت الخرطوم إلى داعم للثورة بعد تردد في الأسابيع الأولى. لكن المواقف تباينت تمامًا بعد الانقسام السياسي في النصف الثاني من العام 2014؛ وذلك تبعًا لتطورت كبيرة وقعت في بعض دول الجوار الليبي، وبالتحديد بعد إزاحة الإخوان من الحكم في مصر وتولي العسكر من جديد إدارة البلاد، وبعد التراجع في زخم الثورة التونسية جرَّاء التجاذبات السياسية والتدهور النسبي في الوضع الأمني والاقتصادي.

فمنذ أن التأم البرلمان الليبي، الذي انتُخب في يوليو/تموز 2014، في مدينة طبرق وانحيازه إلى أحد أطراف النزاع المسلح الذي اندلع في بنغازي وطرابلس، وهي عملية الكرامة واعتباره عملية فجر ليبيا عملية إرهابية، تعددت مواقف دول الجوار الليبي ما بين مؤيد للبرلمان والجيش التابع له، ومتحفظ أو واقف على الحياد.

كانت القاهرة أكبر الداعمين لبرلمان طبرق وقائد الجيش التابع له، واندفع النظام الجديد في مصر بثقله السياسي والعسكري لترجيح كفة جبهة طبرق السياسية والعسكرية، وتطورت العلاقة إلى مستوى الحلف. وقد عبَّر عن ذلك تصريح لخليفة حفتر من أنه مع أي قرار تتخذه القاهرة يتعلق بالشأن الليبي حتى لو عارض القرار المصلحة الليبية(1).

آمر القوات الجوية للجيش التابع للبرلمان، صقر الجروشي، أشاد في مناسبات عدَّة بالدعم المصري الكبير لحفتر وللجيش، وتحدث في إحدى المناسبات عن وصول 400 حاوية تحمل ذخيرة من مصر، وأعلن في مقابلة مع إحدى القنوات المصرية عن تأييده تدخل القوات المسلحة المصرية، وبالتحديد السلاح الجوي المصري، في تنفيذ ضربات تستهدف من تعتبرهم إرهابيين متى شاءت وبدون إذن مسبق(2).

ويمكن القول: إن المقاربة المصرية للأزمة الليبية منذ مجيء عبدالفتاح السيسي إلى الحكم تقوم على اعتبار البرلمان هو الجسم الشرعي والجيش هو الذراع الضاربة التي ستتصدى للإسلاميين الذين يتحكمون في القرار في العاصمة والمدن القريبة منها. 

على الطرف الآخر من الخريطة الليبية تقف الجزائر موقفًا حذرًا وقلقًا من الدور المصري في ليبيا، ويتفق جُل المراقبين على أن من أبرز أسباب عدم تعاطي الجزائر مع البرلمان والجيش بشكل إيجابي هو حرصها على موازنة السياسة المصرية تجاه ليبيا. بالمقابل، فإن الجزائر تدرك أن القوة الحقيقية على الأرض والتي لها علاقة مباشرة بالأمن القومي الجزائري هم الطرف المتحكم في المنطقة الغربية، لهذا استقبلت وفودًا من حكومة الإنقاذ في طرابلس خلال العام 2015، وكان تواصلها محدودًا جدًّا مع الطرف الآخر، وظل الموقف الجزائري داعمًا للحوار، ونجحت الجزائر في تسويق فكرة طاولة التفاوض ونبذ السلاح.

بالنسبة للموقف التونسي، فالمعروف أنه في انسجام تام مع الجزائر، وقد حذت تونس حذو الجارة الكبيرة في التقارب مع حكومة الإنقاذ بطرابلس باعتبار أنها المسيطر على المنفذ الحدودي مع ليبيا والمتحكم في المنطقة الغربية التي تمثِّل شريانًا حيويًّا للاقتصاد التونسي، وباعتبارها الطرف الأقدر على التنسيق مع الحكومة التونسية فيما يتعلق بملف الإرهاب الذي يمثِّل أولوية بالنسبة للتونسيين.

أما السودان، فقد اقترب أكثر من جبهة طبرق باعتبارها تضم البرلمان، الممثل الشرعي، وقد نجح في تجاوز حملة شرسة ضده تتضمن اتهامات بدعم "الإرهاب" وبدعمه لجبهة طرابلس ولحكومة الإنقاذ. فقد تحدث قادة عسكريون في عملية الكرامة عن تورط الخرطوم في مخطط لضرب الجيش التابع للبرلمان وإرسال أسلحة لطرابلس. وزار السودان وفد من البرلمان، وسلَّمت الخرطوم طائرة مقاتلة ليبية كانت تحت الصيانة لطبرق؛ الأمر الذي أبعد الخرطوم عن دائرة الاتهام والعداوة، واكتفى بعدها السودان بدور المراقب.

المبادرة التونسية والاستجابة الجزائرية-المصرية 

أعلنت الخارجية التونسية في يناير/كانون الثاني 2017 أنها تحضِّر لإطلاق مبادرة لحلحلة الأزمة الليبية وفك الاشتباك بين الفرقاء الليبيين. وتحدث الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، ووزير خارجيته، خميس الجيهناوي، في أكثر من مناسبة عن رغبة تونس في إيجاد توافق تونسي-جزائري-مصري حول سبل احتواء الانقسام السياسي والاحتراب بين جبهة طبرق وجبهة طرابلس على قاعدة اتفاق شامل يحفظ وحدة البلاد ويضمن استقرارها بشكل نهائي. وتعزم تونس على عقد قمة ثلاثية تضم تونس والجزائر ومصر لحل الأزمة الليبية تختص ببحث مسار دفع الوفاق السياسي.

الجيهناوي أكد تبني الجزائر ومصر للمبادرة؛ حيث اعتبر نجاح المبادرة في توحيد موقف تونس ومصر والجزائر تجاه الأزمة الليبية. وقد أوضح في جلسة أمام المجلس التشريعي التونسي اتفاق القاهرة والجزائر وتونس على استبعاد الحل العسكري والدفع باتجاه الحل السياسي الذي يجمع كل الليبيين ولا يقصي أي طرف بحد تعبيره(3). وتقوم المبادرة المطروحة التي تم الإعلان عن مضامينها بشكل تفصيلي بعد اجتماع وزراء خارجية تونس والجزائر ومصر، في 20 فبراير/شباط 2017، على ما يلي(4):

- مواصلة السعي الحثيث لتحقيق المصالحة الشاملة في ليبيا دون إقصاء في إطار الحوار الليبي بمساعدة من الدول الثلاث وبرعاية الأمم المتحدة.

- التمسك بسيادة الدولة الليبية ووحدتها الترابية وبالحل السياسي كمخرج وحيد للأزمة الليبية، على قاعدة الاتفاق السياسي الليبي الموقَّع بالصخيرات، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، باعتباره إطارًا مرجعيًّا، والاتفاق على مساندة المقترحات التوافقية للأطراف الليبية قصد التوصل إلى صياغات تكميلية وإلى تعديلات تُمكِّن من دفعها.

- رفض أي حلٍّ عسكري للأزمة الليبية وأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لليبيا باعتبار أن التسوية لن تكون إلا بين الليبيين أنفسهم، والتأكيد على أن يضم الحوار كافة الأطراف الليبية مهما كانت توجهاتها وانتماءاتها السياسية.

- العمل على ضمان وحدة مؤسسات الدولة الليبية المدنية المنصوص عليها في الاتفاق السياسي -المجلس الرئاسي ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة- بما في ذلك الحفاظ على وحدة الجيش الليبي وفق بنود الاتفاق السياسي الليبي، للقيام بدوره الوطني في حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود والهجرة غير النظامية.

- تواصل الدول الثلاث جهودها على المستوى الوزاري في التنسيق فيما بينها ومع مختلف الأطراف السياسية الليبية لتذليل الخلافات، ويتم رفع نتائج الاجتماع الوزاري إلى الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، والرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، تمهيدًا للقمة الثلاثية في الجزائر العاصمة.

- ستقوم الدول الثلاث بشكل مشترك ورسمي بإحاطة الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي بإعلان تونس الوزاري، باعتبارها وثيقة رسمية لدى المنظمات الثلاث.

حدود ودواعي التغير في الموقف المصري

هذا التطور اللافت في الموقف المصري يأتي في ظل حرص القاهرة على التناغم مع الموقف الدولي الداعم للمجلس الرئاسي وللاتفاق السياسي الذي انبثق عنه، وحاولت مصر أن تظهر بمظهر الداعم للوفاق من خلال حثِّ حليفها، خليفة حفتر، على القبول بالوفاق والاندماج في العملية السياسية. بمعنى أن مصر لم ترفع يدها عن حفتر ولم تتخل عن البرلمان، لكنها تريد أن تحافظ على نفوذه من خلال إبعاده عن الصدام وكونه معطِّلًا للاتفاق السياسي، والدفع بحفتر لمنصب حيوي في حكومة الوحدة كوزير للدفاع أو كقائد عام للجيش الموحد.

بالنسبة للجزائر وتونس، فإن ربط مصر بهذه المبادرة يوقف التهديد المتوقع بإشعال الحرب على حدودهما الأمر الذي يعني تهديدًا مباشرًا لأمنهما القومي وجعل المنطقة الغربية مرتعًا للجماعات الإرهابية التي تعادي البلدين، وأيضًا منع أزمة تتعلق بتدفقات هائلة من النازحين فرارًا من المواجهات العسكرية المحتملة.

المقاربة التونسية-الجزائرية تقوم على فكرة جمع أصحاب المصلحة الكبرى في استقرار ليبيا في دول الجوار، وتجاوز الارتباك والتعثر الذي واجه اللجان الإقليمية السابقة التي هدفت إلى البحث عن مخرج للأزمة الليبية والتي ضمت أطرافًا عدَّة عربية وأوروبية، وكانت نتائجها مخيبة للآمال.

أيضًا تقوم المقاربة على فكرة احتواء الصراع المسلح ومشروع السيطرة بالقوة الذي يتبناه حفتر من خلال استغلال رغبة مصر في الاقتراب من المجتمع الدولي فيما يتعلق بدعم حكومة الوفاق التي يرفضها حفتر، وهو ما صرَّح به الساسة التوانسة بشكل مباشر، فقد أدلى الرئيس التونسي، الباجي السبسي، بحوار لمجلة "ليدرز" التونسية، قال فيه: "لا يحق لأي بلد جار أن يتدخل اعتمادًا على أجندة خاصة"، وإن "الأجندة الوحيدة تبقى أجندة ليبيا والليبيين، خطر التقسيم داهم حقًّا وعندها تكون الطامَّة الكبرى".

مقومات نجاح المبادرة التونسية

إن من أبرز العوامل التي قد تعزز نجاح المبادرة هو الاهتمام الكبير الذي توليه تونس والجزائر للقضية، فقد تبنى الرئيس التونسي بنفسه الإشراف على المبادرة وتحرك بها إلى الجزائر في النصف الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، ثم اجتمع بعدها بأيام برئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، وذلك للتمهيد لقبول المبادرة، أيضًا تم تناول سبل تفعيل المشروع في اجتماعين ضمَّا وزراء خارجية البلدان الثلاثة، وكانت تصريحات الحضور متناغمة وإيجابية.

من جهتها، بذلت الجزائر جهودًا لإقناع خليفة حفتر بالقبول بالمبادرة والتراجع عن موقفه المتشدد من الاتفاق السياسي، ويبدو أن الجزائر لم تفلح في جرِّ حفتر للقبول بالمبادرة، لكن هناك تعويل على أن تلعب القاهرة دورًا إيجابيًّا في الضغط على حفتر لتقديم تنازلات.

على المستوى الداخلي، فإن الحرب الطويلة التي خاضها الجيش في بنغازي كانت باهظة الكلفة، فقد تجاوز عدد قتلى الجيش والمجموعات المساندة له 11 ألفًا، وضعف هذا الرقم من الجرحى، بينهم ما يزيد عن 2500 بُترت أطرافهم. أيضًا، شهدت جبهة الكرامة تصدعًا جرَّاء خلافات وقعت بين قادتها؛ فقد أعلن عدد من الضباط انشقاقهم عن حفتر كان في مقدمتهم آمر الكتيبة 204، الذي أصبح وزيرًا للدفاع في حكومة الوفاق الوطني. يضاف إلى ما سبق، تدهور الوضع الإنساني ومستوى العيش في البلاد، خاصة في المنطقة الشرقية بسبب استفحال الأزمة الاقتصادية والتي من أبرز مظاهرها النقص الشديد في السيولة والارتفاع الحاد في الأسعار. أيضًا، فإن المبادرة في حال تفاعل الاستجابة الكاملة لمصر تقطع الطريق على التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية والتي كانت في مقدمة أسباب التأزيم.

تحديات تواجه المقاربة الثلاثية: التونسية-الجزائرية-المصرية

بالرغم من إعلان الأطراف الثلاثة عن دعمها للاتفاق السياسي والمجلس الرئاسي المنبثق عنه، إلا أنه يشوب الموقف المصري بعض الغموض الذي قد ينعكس سلبًا على موقفها المعلن الداعم للتسوية السياسية ووقف الحرب. 

لم تنجح القاهرة في إقناع خليفة خفتر بالتخلي عن مشروعه بالسيطرة الكاملة على ليبيا بقوة السلاح، ولا يزال حفتر يخطِّط ويحرك حلفاءه في الجنوب والمنطقة الغربية للسيطرة الكاملة على مناطقهم استعدادًا للتقدم باتجاه العاصمة طرابلس؛ الأمر الذي يعني أن النظام المصري يحاول من خلال قبوله المبادرة التونسية أن لا يظهر بمظهر المعطِّل للاتفاق السياسي، والإيحاء بأنه منسجم مع الإرادة الدولية فيما يتعلق بدعم الاتفاق السياسي الليبي، بالمقابل هو يراهن على أي مكاسب عسكرية يحققها حفتر لتعزيز موقفه التفاوضي في الوفاق بما يمكِّنه من أن يكون الرقم الصعب والأهم في المعادلة الليبية.

من ناحية الأخرى، فإن الاتفاق السياسي الراهن بشكله الحالي يشكِّل إحدى عقبات الوفاق، وهناك خلاف جوهري حوله وترفضه أطراف حتى ضمن جبهة طرابلس، وقاد تطبيق بعض بنوده، خاصة الشق الأمني، إلى توتر داخل العاصمة بين من كانوا شركاء في الحرب ضد عملية الكرامة في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2014.

أيضًا، فإن المبادرة، وفق ما تم عرضه في إعلان تونس، لا تتضمن آليات مبتكرة غير آلية الحوار بين الفرقاء الليبيين، كما أنها لم تحدد إطارًا زمنيًّا محددًا يتم التوافق عليه للبدء في تنفيذ المبادرة وموعدًا أقصى للانتهاء من تحقيق مضامينها.

وأخيرًا، فإن معظم الأطراف الإقليمية والدولية لم تكشف موقفًا واضحًا من المبادرة، ويتطلب نجاحها دعمًا إقليميًّا ودوليًّا صريحًا الأمر الذي لم يقع حتى الآن.

دول الجوار واتجاهات الأطراف الإقليمية والدولية

يتفق المراقبون للشأن الليبي على أن الأزمة الليبية امتدت بفعل التدخلات الإقليمية والدولية التي سمحت بها تناقضات الفرقاء الليبيين. وباستثناء مصر، فقد ظل دور دول الجوار محدودًا وحياديًّا، بينما كان لبعض الأطراف العربية والإقليمية والدولية تأثير كبير على الصراع الداخلي. وقد كشفت التطورات على الساحة الإقليمية عن تقارب في المواقف والمصالح بين أطراف دولية وبعض دول الجوار، فالإعلان عن وجود عناصر أمنية روسية غربَ مصر وقريبًا من الحدود الليبية يشير إلى احتمال أن تخفق جهود التوفيق بين الليبيين. وكان قائد القوات الأميركية في إفريقيا، الجنرال وولدهاوزر، قد عبَّر عن قلقه لوجود روس على الأرض في منطقة تبعد 100 كم عن الحدود الليبية، واعتبرها مخططًا روسيًّا لصالح خليفة حفتر ويهدف للتأثير سلبًا على الوضع في ليبيا(5).

فرنسا ودور تشاد في الأزمة الليبية

استقبلت انجامينا خليفة حفتر، وتؤيد تشاد البرلمان ويقع تنسيق بينها وبين حفتر في العمليات التي يحركها في الجنوب الليبي؛ فقد أعلنت مجموعات تعارض الحكم في تشاد أنها تعرضت لقصف جوي نفذته طائرات تابعة لحفتر، وتتهم المعارضة التشادية حفتر بمساندته لإدريس ديبي في حربه ضد من يسميهم المتمردين الذي يتمركزون في المناطق المحاذية لليبيا(6).

الموقف التشادي المساند لجبهة طبرق يمكن أن يتأسس على الاستقواء بحفتر لدحر المعارضين، ويتحدث خصوم حفتر عن عناصر تشادية يستعين بهم في حروبه في الشرق والجنوب، لكن من الممكن أن يكون لفرنسا دور في التنسيق الليبي-التشادي؛ فقد أقر حفتر بحصول جيشه على دعم فرنسي لوجستي، واعترفت باريس بوجود من أطلقت عليهم خبراء في المناطق التي يسيطر عليها حفتر، وذلك بعد مقتل 3 فرنسيين في طائرة عسكرية سقطت في ضواحي مدينة بنغازي.

خاتمة

من نافلة القول التأكيد على أهمية ليبيا بالنسبة لجوارها الإقليمي؛ تلك الأهمية ذات الطابع التاريخي والتي سبقت الأزمة الحالية وستظل دون شك. لعل الموقف المصري مما يجري في ليبيا هو أكثر المواقف وضوحًا وأنصعها تحركًا؛ فقد وقفت القاهرة منذ 2014 مع الجبهة الشرقية في طبرق وساندت علانية قوات المشير خليفة حفتر. ورغم تقارب تونس مع حكومة الإنقاذ في طرابلس وتعاطي الجزائر الحذر مع الملف الليبي فإن الدولتين نسَّقتا موقفًا واضحًا مع مصر تَمَثَّل في المبادرة الثلاثية التي تحاول -رغم العراقيل الجمَّة الداخلية والخارجية- أن تقدم مقاربة لحل الأزمة الليبية. أما حكومة الخرطوم التي انخرطت في البداية مع الثورة وساندت طرابلس فإن موقفها تراجع حيث انحازت إلى طبرق وسلَّمتها مقاتلة ليبية كانت حكومة الغرب الليبي قد أرسلتها للصيانة في الخرطوم. ولعل هذا التذبذب في الحسابات يعود إلى حساسية مساندة السودان للإسلاميين في الغرب الليبي وأخذ مسافة ممن تصفهم بعض الدوائر الإعلامية والسياسية بالإرهاب. وبات الموقف التشادي منحازًا للشرق ومساندًا لقوات حفتر وهو موقف يراعي فيما يبدو السياسة الفرنسية في ليبيا؛ إذ معلوم أن نظام إدريس ديبي يمثِّل أحد أبرز حلفاء فرنسا في وسط وغرب إفريقيا.

__________________________

* السنوسي بسيكري، كاتب وباحث ليبي

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 – مقابلة لخليفة حفتر مع قناة الحدث،(تاريخ الدخول: في 4 أبريل/نيسان 2017):

 https://www.youtube.com/watch?v=7Nk5mWDzX7w 

2 – انظر: مقابلة تليفزيونية للعميد صقر الجروشي،(تاريخ الدخول: في 3 أبريل/نيسان 2017):

https://www.youtube.com/watch?v=B30L4BCKiFU 

3 – انظر: الجيهناوي، "حل الأزمة الليبية سياسي وليس عسكريًّا"، موقع ليبيا المستقبل، (تاريخ الدخول: في 6 أبريل/نيسان 2017): إضغط هنا

4 – انظر: "تعرَّف على "إعلان تونس" لحل الأزمة الليبية"، موسوعة الجزيرة، (تاريخ الدخول: في 4 أبريل/نيسان 2017):

5 – انظر: "جنرال أميركي يزعم تقديم روسيا دعمًا لقوات حفتر"، موقع روسيا العربية: 25 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: في 4 أبريل/نيسان 2017):إضغط هنا 

 https://arabic.rt.com/middle_east/869855-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%AD%D9%81%D8%AA%D8%B1-%D8%A7%D8%AF%D8%B9%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9/

6 – انظر: "تشاد تغلق حدودها البرية مع ليبيا"، موقع الجزيرة نت: 6 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: في 5 أبريل/نيسان 2017): إضغط هنا