مقدمة
قرر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الإعلان عن انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران -والذي يُعرف باسم "خطة العمل المشتركة الشاملة"- قبل أربعة أيام من تاريخ انتهاء المهلة المقررة في 12 من مايو/أيار 2018 للنظر فيما إذا كانت واشنطن ستجدد رفع العقوبات المفروضة على البنك المركزي في طهران وصادرات النفط الإيراني. وكانت سلة أخرى من العقوبات تنتظر التجديد في 11 يوليو/تموز 2018، وتتعلق بما يزيد عن 400 شركة إيرانية وأفراد وكيانات محددة في قطاع الأعمال(1). وسرعان ما أعلن وزير المالية الأميركي، ستيفن منوشن، عن "حزمة عقوبات إضافية"، وأعرب عن ثقته بأنها ستكون أكثر قوة وتأثيرًا حتى في حال لم يشترك حلفاء أميركا الآخرون في تنفيذها.
لم يمر وقت طويل على إعلان ترامب قراره حتى أكد زعماء كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، في إعلان مشترك، أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المؤيد للاتفاق النووي يبقى "الإطار القانوني الدولي الملزم لحل النزاع"(2). وبالتالي، فإن مستقبل الاتفاق النووي يظل في ظهر الغيب، ويعتمد على مدى إمكانية توصل الإيرانيين والأوروبيين إلى إيجاد إطار بديل لمرحلة ما بعد عقوبات ترامب. وفي هذا السياق، تعتقد كارولين غالاكتيروس، خبيرة الجيوسياسة والاستراتيجية الأمنية، أن "قرارنا يظل بأيدينا في نهاية الأمر، ونحن من سيقرر ما إذا كنا نرغب حقًّا في قبول الخضوع للولاية الخارجية للقانون الأميركي. تلك هي الإشكالية الكبرى في رأيي... وقد يحدث تحول حقيقي في ميزان القوى"(3).
يتطلب البحث في تأثير قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، أولًا، وضعه ضمن سياقاته الملائمة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة قبل تناول مسار أبعاده القانونية والاقتصادية في المستقبل. ومع إعلان حكومة ترامب نيتها معاقبة الشركات الأوروبية والأجنبية المستثمرة في إيران، تجد العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي نفسها اليوم على سكة شديدة التعرجات. وقد اضطُرت دول مثل فرنسا وألمانيا إلى رد الفعل؛ ففي نفس الأسبوع الذي تم فيه إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق، دعا وزير المالية الفرنسي، برونو لو مار، نظيره الأميركي، ستيف منوشين، لعقد اجتماع بينهما لتدارس أي مقترحِ توافقٍ ممكنٍ لتجنب وأد الاتفاق النووي. وبالتالي، فإن مستقبل الأزمة بين ضفتي المحيط يعتمد على مدى إمكانية التوليف بين مخرجات تيارين من النقاشات: الأول هو شرعية وأخلاقية الاتفاق الذي تدعمه خمس قوى دولية كبرى (فرنسا والمملكة المتحدة وروسيا والصين وألمانيا) بالإضافة إلى الأمم المتحدة، مقابل تيار الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية وفقًا لـ"مذهب ترامب". ويمكن للمرء من الآن أن يتوقع نشوب معركتين عبر الأطلسي: الأولى شرعية/أخلاقية داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مع إمكانية التلويح بأن الولايات المتحدة انتهكت الاتفاق الدولي المصدَّق عليه داخل الأمم المتحدة؛ والثانية: معركة اقتصادية-تجارية موجهة نحو الخسائر التي ستلحق بالشركات الأوروبية التي تستثمر في إيران منذ إبرام الاتفاق عام 2015.
هذا وقد انصب تركيز الرئيس ترامب، وهو يلقي خطاب الإعلان عن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي داخل البيت الأبيض في الثامن من مايو/أيار 2018، على ثلاث نقاط رئيسية على تماس بين القضايا الأمنية والاقتصادية:
أ. عزمه منع النظام الإيراني، الذي وصفه بـ"الدولة التي تقود تمويل الإرهاب"، من "تخصيب اليورانيوم" و"الوصول إلى حافة الاختراق النووي".
ب. وضع لائحة تتضمن "أعلى مستوى من العقوبات الاقتصادية" على إيران و"معاقبة أية دولة تقدم مساعدات إليها في سعيها لامتلاك السلاح النووي".
ج. اعتباره مليارات الدولارات التي تعود لإيران، كأصول مجمدة، "أكبر إحراج للرئيس باعتباره مواطنًا أميركيًّا، كما أنها إحراج لجميع مواطني الولايات المتحدة"(4).
هذا الاعتراض على إعادة الأصول الإيرانية في أعقاب قطع العلاقات الثنائية عام 1979 يسلط الضوء على المدى الذي بلغه رجل الأعمال الذي أصبح رئيسًا. ويؤشر أيضًا على أن القومية الاقتصادية تظل المحرك النابض لفلسفة ترامب في الحكم. وحسب تقديرات أصدرتها وزارة المالية الأميركية عام 2015، بلغت القيمة الإجمالية للأصول الإيرانية المجمدة عبر العالم حوالي 56 مليار دولار، أعادت واشنطن منها ما يقرب من 1.7 مليار دولار نقدًا، بما في ذلك أكثر من 400 مليون دولار إضافية ومستحقات الفائدة عليها كانت إيران قد دفعتها للولايات المتحدة قبل اندلاع الثورة عام 1979 لشراء معدات عسكرية لم يتم تسليمها مطلقًا(5).
"الوفاء" بالوعود الانتخابية
من بين الوعود الانتخابية المئتين والاثنين والثمانين التي لوَّح بها المرشح ترامب، يعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران الآن أحد أهم وعديْن قطعهما لناخبيه ضمن أوساط الجناح اليميني بعد قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وتزامن خطاب ترامب حول إيران، الذي ألقاه في البيت الأبيض، مع وضع سلطات إسرائيل لوحات مرور جديدة كُتبت بالعبرية والإنجليزية والعربية، تم وضعها في أماكن مختلفة من القدس لتشير إلى موقع المبنى الجديد للسفارة الأميركية الذي افتُتح في 15 من مايو/أيار 2018. وقد شدَّد ترامب على أن "خطوة اليوم تبعث برسالة حاسمة، لقد ولَّى الزمن الذي تطلق فيه الولايات المتحدة تهديدات جوفاء. فعندما أقدِّم وعودًا، فإني ألتزم بتطبيقها"(6). وعكست نبرة الخطاب لإرضاء أنصاره من اليمينيين والإنجيليين صدَى حافزِ قراره حول القدس في ديسمبر/كانون الأول 2017؛ إذ يسعى ترامب للتموضع فوق مكانة أسلافه من الرؤساء الأميركيين؛ فقد قال: "مع أن الرؤساء السابقين قد جعلوا من هذه القضية أبرز وعودهم الانتخابية، إلا أنهم فشلوا في تنفيذها. أما اليوم فهأنذا أنفذها"(7)، وذلك في إشارة إلى قانون سفارة القدس الذي أقره الكونغرس في دورته 104 في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول 1995.
يتمثل الحافز الآخر وراء سياسة ترامب الجديدة تجاه إيران في تصميمه أن يكون زعيمًا مناهضًا لسلفه، باراك أوباما. فالاتفاق النووي والتقارب مع كوبا واتفاقية باريس حول المناخ والشراكة عبر المحيط الهادئ، كانت كلها اتفاقيات تجارية وفي مجال السياسة الخارجية توصل إلى إبرامها الرئيس السابق، باراك أوباما. ومع ذلك، فالحصيلة اليوم هي أن جميع تلك الاتفاقيات إما أنها أُلغيت أو في طريقها إلى الزوال بسبب انعزالية ترامب وقوميته الاقتصادية. ويبقى قرار انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران من صميم المبدأ الذي يعتنقه ويقوم على الحمائية وتقييد الحركة التجارية.
تتبدى إحدى مصائب قرار ترامب في الحيز الضيق من الخيارات المتروكة أمام الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الذي ما زال يأمل في إمكانية صمود الاتفاق النووي في حال أقدم الشركاء الآخرون، المملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا، على تحدي انسحاب البيت الأبيض من الاتفاق متعدد الأطراف. ربما يبدو هذا السيناريو دعوة مبالغًا فيها لاعتماد السياسات الأخلاقية أو سياسة القيم في حسابات الأوروبيين، على مستوى الربح والخسارة، في محاولتهم تمديد عمر الاتفاق. ويتمثل الخيار الاستراتيجي الآخر لدى روحاني في تفعيل مقترح إعادة العمل على تخصيب اليورانيوم على المستوى الصناعي في إيران في غضون أسابيع قليلة إذا ما انهار الاتفاق بالكامل. وقد أخبر روحاني أنصاره من الإصلاحيين ومنتقديه من المتشددين، على حد سواء، بأن "هذه حرب نفسية، ولن نسمح لترامب بالفوز فيها. أنا سعيد بمغادرة ذلك الكيان المزعج: الاتفاق"(8). وكان روحاني قد أخبر الرئيس الفرنسي، ماكرون، غداة إعلان ترامب انسحابه من الاتفاق، باعتقاده أن أوروبا ليس أمامها سوى "فرصة محدودة" للحفاظ على الاتفاق النووي.
ترامب: شرطي الحركة الاقتصادية للعالم!
تكمن المصيبة الأخرى في أن لدى الأوروبيين والروس والصينيين مصلحة أكيدة في الإبقاء على التزامهم بالاتفاق النووي؛ فزعماء فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة يؤكدون على "استمرار التزامهم" بالاتفاق. بل إنهم أيضًا حثوا واشنطن على "ضمان الإبقاء على سلامة هياكل خطة العمل المشتركة الشاملة وتجنب اتخاذ أية خطوات من شأنها إعاقة تنفيذها بالكامل من قبل أطراف أخرى مشاركة في الاتفاق"(9).
أعرب وزير المالية الفرنسي، برونو لو مار، عن امتعاضه من أنه "من غير المقبول" أن تقوم الولايات المتحدة بدور "الشرطي الاقتصادي للكرة الأرضية"(10). بيد أن مسؤولة العلاقات الخارجية ونائبة رئيس الاتحاد الأوروبي، فيديركا موغيريني، كانت أكثر صراحة ومباشرة في نقدها لقرار ترامب؛ حيث أكدت على أن "الاتفاق النووي مع إيران أتى تتويجًا لجهود دبلوماسية استغرقت 12 عامًا، وهو مِلك للمجتمع الدولي بأسره، وقد كان يعمل ويؤتي ثمار هدفه، ألا وهو ضمان عدم تطوير إيران أسلحتها النووية".
أما في الولايات المتحدة، فقد أشار عدد كبير من الدبلوماسيين، واسعي الاطلاع على عملية التفاوض حول الاتفاق النووي، إلى ما يبدو أنه حيز أعمى في رؤية ترامب. فعلى سبيل المثال، يفسر رايان كروكر، وهو السفير الأميركي السابق الذي عمل ضمن عدة حكومات جمهورية وديمقراطية أميركية، الموقف بالعبارات التالية: "لقد رأينا بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وإيران أيضًا، تقدم تعهداتها بالحفاظ على استمرارية الاتفاق. أعتقد أن ما فعلناه في هذا الموضوع ليس سوى فتح الباب أمام مرحلة شديدة الاضطراب ستكون في انتظارنا"(11).
لكن جون بولتون، مستشار ترامب للأمن القومي، أكد أن "القرار الذي أمضاه الرئيس ترامب اليوم يعيد العقوبات إلى المكان الذي كانت فيه زمن الاتفاق، قراره أعادها إلى مكانها فورًا...لن يُسمح بعقد أي صفقات جديدة". بيد أن قرار المنع الأميركي المفروض على كل المعاملات المرتبطة بإيران يُعيد إلى الأذهان نفس السيناريو الذي آلت إليه الأمور عام 1997. وكان ريتشارد نفيو، رئيس فريق العقوبات الذي تفاوض باسم الرئيس أوباما حول الاتفاق النووي، قد أوضح أن "إقناع الأوروبيين بدعم جهودنا في فرض عقوبات الآن، دون أن يكونوا في الواقع داعمين لنا سياسيًّا، سيكون بمثابة كابوس مرعب"(12).
أصدرت وزارة المالية الأميركية قائمة تفصيلية مع جدول زمني يوضح مواعيد إعادة تفعيل العقوبات الشاملة المفروضة على الشركات الدولية التي تقيم علاقات تجارية أو استثمارية مع إيران. ومع انقضاء مهلة 90 يومًا، في تاريخ 6 أغسطس/آب 2018، ستعيد حكومة الولايات المتحدة فرض العقوبات التي كانت قد رُفعت بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة، بما فيها فرض عقوبات على الخدمات المرتبطة بالنشاطات التالية:
أ. شراء أو حيازة عملة الدولار الأميركي على حكومة إيران.
ب. تجارة إيران في الذهب أو المعادن الثمينة.
ج. البيع المباشر أو غير المباشر، إمداد أو تحويل من أو إلى إيران للمواد التالية: الغرافيت، والمعادن، أو الخامات شبه المصنعة مثل الألومنيوم والحديد، والفحم، والبرمجيات الخاصة بإدماج عمليات صناعية.
د. المعاملات المالية الكبيرة المتعلقة بشراء أو بيع الريال الإيراني، أو الاحتفاظ بكميات مهمة من الأموال أو الحسابات البنكية بالريال الإيراني خارج إيران.
ه. شراء أو إصدار أو تسهيل إصدار دَين إيران السيادي.
و. عقوبات على قطاع صناعة المركبات الإيرانية ذاتية الدفع(13).
حرب اقتصادية خلف الستار
يمثِّل قرار ترامب سيفًا ذا حدين: أ) فرض "أعلى مستوى من العقوبات الاقتصادية" على إيران. وب) حرمان الشركات الأوروبية من العمل في إيران. وباستثناء التخوف من إمكانية تصنيع إيران أسلحة نووية في المستقبل، فإن هناك قلقًا أكبر حول تداعيات قرار ترامب على الشركات الأوروبية التي بدأت استثماراتها في إيران في أعقاب اتفاق عام 2015. فشركة توتال الفرنسية، على سبيل المثال، كانت قد بدأت عمليات تنقيب عن الغاز الطبيعي على الساحل الإيراني. أما شركة سيمنس الألمانية فقد استكملت إجراءات عقد مع طهران يقضي بتسلميها عددًا من المقطورات. شركة إيرباص الفرنسية كانت موجودة في إيران منذ وقت مبكر، أي مباشرة عقب توقيع الاتفاق النووي، لتجديد أسطول إيران الجوي المؤلف من أكثر من 100 طائرة، بما فيها عشر طائرات من طراز سوبر جومبو A380s. هذا وقد وضعت شركات صناعة السيارات الأوروبية مثل دايملر وبيجو-ستروين خططًا لبيع سياراتها في السوق الإيرانية التي تشمل 82 مليون نسمة. كما أنهت مؤسسة إنفيطاليا Invitalia)) القابضة، التي تملكها الحكومة الإيطالية، الاتفاق على عقد استثمار بقيمة 5 مليارات دولار مع طهران. والجدير بالذكر أن حجم صادرات الاتحاد الأوروبي إلى إيران زاد في عام 2017 بحوالي الثلث ليبلغ 10.8 مليارات يورو (ما يعادل 12.8 مليار دولار)، في حين تحتل إيران المرتبة 33 بين الشركاء التجاريين للاتحاد الأوروبي(14).
أمام الشركات الأوروبية، الآن، إنذار مدته 90 يومًا لإلغاء عقودها القائمة كي تتجنب مواجهة عقوبات فورية في حال تجاهلت الحظر الأميركي أو سعت لإبرام عقود جديدة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل اختار البيت الأبيض أيضًا فرض "عقوبات إضافية" على إيران. فقد أغلق وزير المالية الأميركي، ستيف منوشين، الباب أمام أي تعاملات إيرانية أجنبية قائلًا: "لا نريد السماح لإيران باستخدام أسواق المال الأميركية ونظامنا المصرفي لتجري عمليات تبادل مصرفية بالدولار، وذلك إلى أن يوافق الإيرانيون ليس فقط على أنهم لن يمتلكوا سلاحًا نوويًّا الآن، بل إننا وضعنا أيضًا احتياطات كي لا يكون لهم أي أمل في امتلاكه مُطلقًا".
ثمة قلق يجتاح أوروبا بشكل خاص من كابوس مرعب، وهو أن تصبح شركاتها هدفًا "للمقصلة الأميركية" التي فرضت، في السابق، عقوبات صارمة على شركات التفَّت على العقوبات الأميركية من قبيل فرض غرامة بما يقدر بـ9 مليارات دولار على أكبر البنوك الفرنسية "بي إن بي باريبا" (BNP Paribas)، عام 2014، بسبب التفافه على العقوبات(15). وتعتقد إيلي غيرانماييه، الباحثة في المعهد الأوروبي للعلاقات الدولية، أن تهديد الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على الصادرات الأميركية "سيكون مبررًا. لأن العقوبات الثانوية (المفروضة على الكيانات الأجنبية) تدخل في السياسة الخارجية الأوروبية، التي تشكِّل خطة العمل المشتركة الشاملة جزءًا مهمًّا منها"(16). وفي إيجاز، فإن السياسة الاقتصادية للاتفاق النووي تبقى شديدة الأهمية في تقدير عواصم أوروبية عديدة، وهو ما أكدته، مايا كوتسيانتشيتش، الناطقة باسم السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، عندما صرحت بالتالي: "نحن نعمل على وضع خطط لحماية مصالح الشركات الأوروبية"(17).
أي جهد يُبذل لإنقاذ الاتفاق النووي لن يعتمد على ما ستتبعه إيران من استراتيجية مضادة فحسب، بل وأيضًا على ما إذا كانت أوروبا قد وضعت أية خطة بديلة. يقول طوني بلينكن، مساعد وزير الخارجية الأميركي في حكومة أوباما وعضو فريق عملية المفاوضات حول الاتفاق: إن تمكن أوروبا من الإبقاء على استمرار الاتفاق قائمًا سيعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت إيران ستواصل جني فوائد اقتصادية منه، حتى من دون الولايات المتحدة؛ "هذا الحكم سيتضح مع مرور الوقت، وذلك يعتمد على الكيفية التي سترد الشركات من خلالها على الوضع الجديد، كما يعتمد أيضًا على ما إذا كانت الولايات المتحدة ستحاول فرض عقوبات على الشركات التي تتعامل تجاريًّا مع إيران"(18).
فقبل قرار ترامب، باءت جهود كل من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، ورئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، بالفشل في إقناع ترامب باحترام الاتفاق النووي متعدد الأطراف. غير أن موغيريني تواصل جهودًا مضنية للحفاظ على الاتفاق قائلة: "إذا ما استمرت إيران في تنفيذ التزاماتها المتعلقة بالمسألة النووية، كما تفعل إلى حد الآن، فإن الاتحاد الأوروبي سيواصل التزامه بتنفيذ بنود الاتفاق بشكل كامل وفعَّال. لدينا ثقة مطلقة في عمل ومهنية وحيادية الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي نشرت عشرة تقارير تثبت التزام إيران الكامل بالتزاماتها"(19).
وبعد القرار، سارع قادة الدول والمؤسسات الأوروبية إلى عقد اجتماع في العاصمة البلغارية، صوفيا، لمناقشة السبل الكفيلة باحتواء مضاعفات قرار ترامب وتحديد استراتيجية اقتصادية تحمي مصالحها في إيران. وقال رئيس المجلس الأوروبي، دونالد تاسك، قبيل الاجتماع بنبرة الاستخفاف من سياسة ترامب: "مع أصدقاء من هذا القبيل، من يحتاج لأعداء؟" ثم انتقد "الحزم الهائل للحكومة الأميركية" في ظل ترامب. ولكن بفضله، تخلصنا من كل الأوهام. لقد جعلنا ندرك أنه إذا كنت بحاجة إلى يد مساعدة، فسوف تجد واحدة في نهاية ذراعك". وخلص تاسك إلى القول: "يجب على أوروبا أن تفعل كل ما في وسعها، رغمًا عن المزاج الحالي، لحماية التحالف عبر الأطلسي. لكن في الوقت ذاته، ينبغي أن نكون مستعدين لتلك السيناريوهات وقتما يتعين علينا العمل بمفردنا"(20).
وقال رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر: "في اجتماع صوفيا، شهدنا عرضًا للوحدة الأوروبية. وطالما أن الإيرانيين يحترمون التزاماتهم، فإن الاتحاد الأوروبي سيلتزم بطبيعة الحال بالاتفاق الذي كان مهندسًا له، هو اتفاق تم التصديق عليه بالإجماع من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ وهو أمر ضروري للحفاظ على السلام في المنطقة والعالم، لكن العقوبات الأميركية لن تكون بلا تأثير، لذلك علينا واجب نحن في المفوضية والاتحاد الأوروبي أن نفعل ما في وسعنا لحماية مشاريعنا الأوروبية"(21).
ربما يمثل هذا الموقف الأوروبي موجة مضادة لسياسة ترامب الحمائية والقومية الاقتصادية، لكن يبقى أن نرى ما إذا كانت المستشارة الألمانية، ميركل، والرئيس الفرنسي، ماكرون، اللذان يبدوان آخر المدافعين عن الديمقراطية الليبرالية وحرية التجارة، سيستسلمان للقومية الاقتصادية الصاعدة عبر الأطلسي، أم أنهما سيتوصلان لاستنباط معادلة جديدة من شأنها توفير الحماية لتعاملات بلديهما واستثماراتهما المرتبطة بإيران.
تعتقد كارولين غالاكتيروس، الخبيرة في الدراسات الاستراتيجية الأمنية والجيوسياسية، أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق قد يقدم للاتحاد الأوروبي "فرصة عظيمة" لتقديم رد موحد على النظام الذي طالما أغاظ القوى الأوروبية. ربما يكون ثمة بصيص أمل وسط كل هذه الفوضى العارمة أمام العواصم الأوروبية يسمح لها بالمناورة، من خلال عضويتها في الاتفاق النووي، من خارج إطار الولاية القضائية الزاحفة عبر حدودها، أو من خارج الولاية القانونية الخارجية لقوانين الولايات المتحدة الأميركية. وترجح غالاكتيروس أنه "في حال تشبثت أوروبا بالاتفاق، والتزم الإيرانيون الحذر وضبط النفس ولم يردوا -لأن هذا ما يبدو أن أميركا تنتظره منهم- فسيكون لدينا تشبث أوروبي وإيراني بالاتفاق، بالإضافة إلى روسيا والصين طبعًا...ذلك من شأنه قلب موازين القوى"(22). بيد أن الاتصالات المكوكية بين العواصم الأوروبية واجتماع صوفيا لم يتوصلا بعد إلى بلورة استراتيجية متكاملة للرد على قرار ترامب. وجسَّد تصريح لمصدر قريب من الاجتماع أن القادة الأوروبيين أكدوا مجددا أنهم "لن يتفاوضوا مع وجود بندقية على رأسهم" في إشارة إلى الضغوط الأميركية.
خلاصة: خيار إعفاء الأوروبيين
بات التحالف عبر الأطلسي يقف أمام مفترق طرق حاسم فيما يتعلق بسياسات منع إيران من دخول نادي الدول النووية، بينما لم يخضع الأوروبيون لتهديدات ترامب بفرض عقوبات على تعاقداتهم المقدرة بمليارات الدولارات مع طهران. ويجادل بعض المراقبين بأن قرار ترامب ترَك القادة الأوروبيين يواجهون خيارًا غير مريح: فإما أن ينقادوا بخنوع لزعامة ترامب، على الرغم من أنهم يرون أن قرار الانسحاب يهدد بإدخال منطقة الشرق الأوسط في اضطرابات إضافية، أو أن يتَحَدَّوا أقرب حلفائهم في قرار ربما يكون الأضخم والأهم في سياسة ترامب الخارجية خلال ولايته الرئاسية(23).
لكن، ومع ذلك، فثمة سيناريو ثالث ممكن التحقق. وكانت الآمال معلقة على اجتماع التاسع عشر من مايو/أيار 2018 بين وزير المالية الفرنسي، لو مار، ونظيره الأميركي، منوشين، لمناقشة بديل عن الخلاف داخل التحالف عبر الأطلسي. لكن يبدو أن تباعد وجهتي النظر ظل مستعصيًا. وجاء البيان الختامي للاجتماع مقتضبًا جدًّا واكتفى بالقول: إن الجانبين "ناقشا العلاقة الاقتصادية والتجارية القائمة منذ فترة طويلة بين الولايات المتحدة وفرنسا".
وقد يدفع هذا الفتور في بحث قضية إيران وتجاهل المصالح الاقتصادية الأوروبية بفرنسا، إلى جانب أعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي، لاستثمار ورقة فرض عقوبات مضادة على الشركات الأميركية، وفقًا للقانون المحتمل صدوره من بروكسل. وتُذكِّر هذه الاحتمالية مراقبي الأسواق المالية بالرد الأوروبي حول كيفية التعامل مع حكومة الرئيس كلينتون، عام 1998، عندما فرضت عقوبات على الشركات الأوروبية العاملة في إيران حينها. وكما قال أحد المحللين، فإن "التاريخ ليس في صف ترامب، ففي آخر مرة حدثت مواجهة بين أميركا وأوروبا بشأن العقوبات ضد إيران، رفضت أوروبا الانصياع وأجبرت الولايات المتحدة على التراجع"(24).
يبقى أمام أوروبا، وهي أكبر مستفيد من صفقات إيران وأكبر خاسر من تطبيق قرار ترامب، مجال محدود للمناورة حول المدى الذي يفرضه الحظر الأميركي على التعامل التجاري مع إيران. وفي هذا السياق، يمكن الجدل بأنه سيتم منح الشركات الأوروبية إعفاءً من العقوبات الأميركية. ومن شأن هذه الصيغة أن تحفظ ماء وجه ترامب وتحمي، في الوقت ذاته، مصالح الأوروبيين. أما ما هو أبعد من ذلك، فهو أن اعتماد ترامب لسياسة "الصفقة" وتحمسه للقومية الاقتصادية ليس نابعًا من إيمانه بمبدأ أيديولوجي، فقد يراجع قراره بعد عدة أشهر، ويفكر في مدخل جديد يصل من خلاله إلى أصول إيران الاستثمارية المحتملة، ومن ثم يحصل على نصيبه من الكعكة. ومنذ تطبيق الاتفاق منتصف عام 2015، لم يتقبل ترامب حقيقة أن شركة إيرباص الأوروبية، وليست بوينغ الأميركية، هي التي حصلت على حصة الأسد في إعادة ترميم الأسطول الجوي لإيران. وفي نهاية المطاف، يجب علينا التمييز بين سياسة ترامب "المتشدد" وبراغماتية ترامب "رجل الأعمال"!
__________________________________
د. محمد الشرقاوي، باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات، وأستاذ تسوية النزاعات في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وعضو سابق في فريق الخبراء المعتمدين لدى الأمم المتحدة.
ملاحظة: أُعد النص في الأصل باللغة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، ترجمه د. كريم الماجري إلى اللغة العربية.
1.Lederman, Josh, and Lee, Matthew, “Complex choices await world if Trump exits Iran nuclear deal”, washingtonpost, 4 May 2018, (Visited on 6 May 2018):
2.Landlermay, Mark, “Trump Withdraws U.S. From ‘One-Sided’ Iran Nuclear Deal,” The New York Times, 8 May 2018 , (Visited on 9 May 2018):
https://www.nytimes.com/2018/05/08/world/middleeast/trump-iran-nuclear-deal.html
3.Jacinto, Leela, and Seibt, Sébastian, “Trump’s Iran deal exit forces EU to confront US ‘economic policeman of the world’:, France 24, 10 May 2018, (Visited on 11 May 2018):
http://www.france24.com/en/20180509-iran-nuclear-eu-us-sanctions-european-firms
4.The White House, “Full Transcript of Trump’s Speech on the Iran Nuclear Deal”, The New York Times, 8 May 2918, (Visited on 9 May 2018):
5. Greenberg, Jon, Kruzel, John, Sherman, Amy, ”Trump withdraws U.S. from the Iran nuclear deal. Here’s what you need to know”, POLITIfact, 8 May 2018, (Visited on 9 May 2018):
6.The White House, “Full Transcript of Trump’s Speech on the Iran Nuclear Deal”, The New York Times, 8 May 2918, (Visited on 9 May 2018):
7.Beaumont, Peter, “Trump's recognition of Jerusalem as Israel capital sparks West Bank clashes”, the Guardian, 7 December 2017, (Visited on 6 May 2018):
8.Borger, Julian, Dehghan, Saeed K. and Holmes, Oliver, “Iran deal: Trump breaks with European allies over 'horrible, one-sided' nuclear agreement”, The Guardian, 9 May 2018, (Visited on 10 May 2018):
10.Jacinto, Leela, and Seibt, Sébastian, “Trump’s Iran deal exit forces EU to confront US ‘economic policeman of the world’:, France 24, 10 May 2018, (Visited on 11 May 2018):
http://www.france24.com/en/20180509-iran-nuclear-eu-us-sanctions-european-firms
11.DiChristopher, Tom, “Trump's Iran nuclear deal exit may spark a sanctions battle with Europe that Uncle Sam already lost once”, CNBC, 10 May 2018, (Visited on 11 May 2018):
13.US Treasury, “Frequently Asked Questions Regarding the Re-Imposition of Sanctions Pursuant to the National Security Presidential Memorandum Relating to the Joint Comprehensive Plan of Action (JCPOA)” 8 May 2018, (Visited on 9 May 2018):
https://www.treasury.gov/resourcecenter/sanctions/Programs/Documents/jcpoa_winddown_faqs.pdf
14. Ewing, Jack, and Reedmay, Stanley, “More European Companies Rushed to Invest in Iran. What Now?”, The New York Times, 9 May 2018, (Visited on 10 May 2018):
https://www.nytimes.com/2018/05/09/business/iran-nuclear-trump-business-europe.html
15.Jacinto, Leela and Seibt, Sébastian, “Trump’s Iran deal exit forces EU to confront US ‘economic policeman of the world’”, France 24, 10 May 2018, (Visited on 11 May 2018):
http://www.france24.com/en/20180509-iran-nuclear-eu-us-sanctions-european-firms
16.Wintour, Patrick, “Europe's clash with Trump over Iran nuclear deal is a durability test”, The Guardian, 9 May 2018, (Visited on 10 May 2018):
17.Jacinto, Leela and Seibt, Sébastian, “Trump’s Iran deal exit forces EU to confront US ‘economic policeman of the world’”, op, cit.
18.Wintour, Patrick, “Europe's clash with Trump over Iran nuclear deal is a durability test”, The Guardian, 9 May 2018, (Visited on 10 May 2018):
19.Mogherini, Federica, "Remarks by HR/VP Mogherini on the statement by US President Trump regarding the Iran nuclear deal JCPOA”, European Union, 5 May 2018, (Visited on 10 May 2018):
20.Maurice, Eric, “Sofia summit: EU leaders search for a Trump strategy”, Euobservor, 17 May 2018, (Visited on 18 May 2018):
https://euobserver.com/foreign/141842
21.European Commission, “European Commission acts to protect the interests of EU companies investing in Iran as part of the EU's continued commitment to the Joint Comprehensive Plan of Action”, Brussels, 18 May 2018, (Visited on 19 May 2018):
http://europa.eu/rapid/press-release_IP-18-3861_en.htm
22.US Treasury, “Frequently Asked Questions Regarding the Re-Imposition of Sanctions Pursuant to the May 8, 2018 National Security Presidential Memorandum Relating to the Joint Comprehensive Plan of Action (JCPOA)” 8 May 2018, (Visited on 9 May 2018):
https://www.treasury.gov/resource-center/sanctions/Programs/Documents/jcpoa_winddown_faqs.pdf
23.Wintour, Patrick, “Europe's clash with Trump over Iran nuclear deal is a durability test”, The Guardian, 9 May 2018, (Visited on 10 May 2018):
24.DiChristopher, “Trump's Iran nuclear deal exit may spark a sanctions battle with Europe that Uncle Sam already lost once”, op, cit.