إدراكًا لأهمية منطقة القرن الإفريقي الجيوسياسية وخاصة الصومال وكينيا وإثيوبيا، زار وزير الخارجية القطري، الشيخ عبد الرحمن بن محمد آل ثاني، الصومال، لتسجل أول زيارة لمسؤول قطري رفيع المستوى لمقديشو منذ عقود، وهي الزيارة التي حملت أبعادًا سياسية ودبلوماسية في علاقات مقديشو والدوحة، كما زار آل ثاني كينيا لتوقيع مذكرات تفاهم مع الجانب الكيني، ما يوحي بأن الدوحة السباقة في إدراك أهمية القرن الإفريقي، تعزز حضورها ووجودها في منطقة ذات أهمية استراتيجية وغنية بالموارد الطبيعية.
في هذا التقرير، نسلِّط الضوء على أدوار قطر في الشرق الإفريقي، إلى جانب رصد أهداف جولة وزير الخارجية القطري إلى دول القرن الإفريقي، وسر اهتمام قطر الآخذ في الاتساع بهذه المنطقة التي يتزاحم فيها الكبار، في وقت يتعافى فيه الصومال من آثار الفوضى السياسية والأمنية منذ عقود، بالإضافة إلى استشراف مستقبل العلاقات بين الدوحة ودول القرن الإفريقي.
قطر والقرن الإفريقي: علاقة متميزة
تحظى العلاقات بين دول القرن الإفريقي والدوحة برصيد وافر من التحرك الدبلوماسي النشط، فمنذ العقدين الأخيرين، وخاصة ما بعد الألفية الجديدة، باتت قطر لاعبًا رئيسًا في منطقة ذات اهتمام عالمي وإقليمي، وتمتاز العلاقات بين كل من الصومال وإثيوبيا وجيبوتي من جهة وبين الدوحة من جهة ثانية بسياسات اقتصادية وعلاقات سياسية ناجحة، إلى جانب النفوذ القطري المتزايد عبر بوابة العون الإنساني، لتتمكن الدول من التأثير بقضايا الدول وخاصة في الشق الإنساني، فالصورة السائدة في الشارع الصومالي تعتبر قطر، شقيقًا عربيًّا يسخِّر كل طاقاته لانتشاله من مستنقع الأزمات، إلى جانب تركيا التي يكنُّ لها الصوماليون تقديرًا واحترامًا كبيرين.
أما على الصعيد الجيبوتي، فالدوحة تمثل شريكًا أساسيًّا ومحوريًّا بالنسبة لجيبوتي في صياغة علاقاتها السياسية مع المحيط الخليجي والعربي، كما أنها لعبت دورًا مهمًّا في إخماد جمرة النار المشتعلة مع الجارة الإريترية إبَّان تصاعد الخلافات الحدودية بين إريتريا وجيبوتي. لكن في أعقاب عام 2017، توترت العلاقات بعد أن أعلنت جيبوتي، عن خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، لكنها عادت سريعًا إلى ما كانت عليه، ما يوحي بأن العلاقات بين البلدين استراتيجية ووطيدة بأركان دبلوماسية وسياسية، فأصبحت جيبوتي اليوم تعزف لحن الاعتدال بين أقطاب عربية خليجية متصارعة وبين محورين متقلبين في الرؤية الاستراتيجية والسياسية.
وبقدر هذا التجانس الثقافي والديني بين الدوحة ومقديشو وجيبوتي، الذي يعزز الصلات بين هذه الدول مع قطر، يمكن اعتبار العلاقات الإثيوبية-القطرية تصب في مصلحة التبادل التجاري والاقتصادي، بغضِّ النظر عن الروابط الخارجية الأخرى التي تدعم بناء علاقات استراتيجية بين الدوحة وأديس أبابا، ورغم أن إثيوبيا في مصاف الدول ذات الحضارات الموغلة في أعماق التاريخ، والأكثرية السكانية في إفريقيا (قرابة 90 مليون نسمة)، إلا أنها من بين أفقر الشعوب في إفريقيا، لكنها تمتاز بمصادر طبيعية وثروة زراعية هائلة، كما تمتلك مصادر كهرومائية فضلًا عن قوة بشرية استهلاكية، هذا إلى جانب المكانة السياسية التي تحظى بها إثيوبيا اليوم؛ حيث تتحول من دولة ذات طابع عدائي مع جيرانها ومع شعوبها إلى دولة ترعى الوساطات والمفاوضات بين الدول مع شعوبها، وآخرها المفاوضات التي رعتها أديس أبابا بين العسكر السوداني وقوى التغيير التي تكلَّلت جهودها بالنجاح أخيرًا(1).
إن العلاقات القطرية-الإثيوبية شابها غموض وشكوك إبَّان التدخل الإثيوبي في الصومال عام 2006، وهو الأمر الذي اعترضت عليه الدوحة ودعت أديس أبابا إلى الانسحاب من الصومال، لكن سياسات ميليس زيناوي، رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل (1992 -2012) أدت إلى قطيعة دبلوماسية بين البلدين، ليعود دفء حرارة العلاقات بين الدوحة وأديس أبابا، عام 2013، حيث أخذ رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هايلى ماريام دسالين، المبادرة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر. بعد استقباله رئيس الوزراء القطري، الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، في إثيوبيا، رحَّب رئيس الوزراء الإثيوبي بالبعثة الدبلوماسية، في 5 من نوفمبر/تشرين الثاني 2012، قائلًا للبعثة القطرية: "نحن الآن في وقت نستطيع فيه أن نقوِّي ونعزز علاقتنا المبنية على الثقة المتبادلة وحسن النية". كانت هذه الثقة المتبادلة منعدمة قبل أربع سنوات عندما اتهم ميليس زيناوي الحكومة القطرية بالتدخل وزعزعة الاستقرار في إثيوبيا والقرن الإفريقي.
في المجمل، تبدو العلاقات القطرية مع القرن الإفريقي تقطع شوطًا كبيرًا نحو توازن استراتيجي وسياسي واعد، فالعلاقة بين الدوحة ومقديشو في أحسن أحوالها رغم أن سياسة الصومال الخارجية ليست منضبطة بل متقلبة ويعتريها تناقض في الرؤية السياسية، نتيجة غياب الكفاءات، كما أن الحكومات متعاقبة والسلطة متداولة، ما يجعل مستقبل العلاقات بين البلدين مرهونًا بمدى نجاعة دبلوماسية قطر في التعاون مع الصومال وخاصة ما بعد انتخابات عام 2020، كما أن العلاقات الجيبوتية-القطرية تمتاز بالشراكة الدبلوماسية، وهي شراكة سياسية قوية وحافلة بالبقاء ما لم تأت ثورة شعبية على الرئيس الحالي، إسماعيل عمر جيلي، الذي فاز بالانتخابات الأخيرة للمرة الرابعة على التوالي.
أما إثيوبيا، فالسياسة الخارجية الإثيوبية تُبنى على المصالح أكثر من المجاملات والتعاملات الدبلوماسية الأخرى، فالاستثمار الخليجي فيها يتزايد وينمو تدريجيًّا، نظرًا للمصالح المتشابكة بين أديس أبابا والخليج العربي، وقطر ستكون من ضمن دول ذات اهتمام اقتصادي واستثماري في إثيوبيا، ما دفعها إلى اتخاذ سياسات وقائية لعدم تكرار تجربة القطيعة الدبلوماسية التي أثقلت كاهل العلاقات بين البلدين لمدة أربع سنوات، ما يعطي فرصة أكبر للدوحة مستقبلًا لتصبح أديس أبابا قريبة من محورها السياسي والاستراتيجي.
القرن الإفريقي: أهميته الجيوسياسية للدوحة
يعد القرن الإفريقي منطقة نفوذ جذب عالمية، نظرًا لأهميته الاستراتيجية، فمن حيث الموقع الجغرافي يعتبر الموقع الأوحد في القارة الإفريقية الذي يتضاعف فيه الحضور العسكري، وخاصة في كل من جيبوتي والصومال، كما أن هذه البقعة من شرق إفريقيا، تستمد أهميتها الحيوية من ارتباطها الوثيق بالبحر الأحمر، باعتباره شريان الملاحة الدولية، وهذا ما دفع السعودية إلى تأسيس كيان الدول المشاطئة على البحر الأحمر، ليعكس مدى أهميته بالنسبة للرياض، التي تعد الخصم التقليدي لقطر سياسيًّا وإقليميًّا.
ونظرًا لتلك الأهمية الجيوسياسية، فإن ممارسة قطر دورًا في هذه المنطقة أمر من شأنه أن يعزز من نفوذها بوصفها قطبًا إقليميًّا، سواء في محيطها الخليجي أو في السياق الإقليمي في الشرق الأوسط، إضافة إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية التي تتجسد أساسًا بالإعانات والقروض أو بالمشاريع المشتركة، كما في السودان وإريتريا وجيبوتي؛ حيث أدت الدوحة دورًا مزدوجًا بوصفها ممولًا وقوة ضاغطة للتوسط في النزاعات الإقليمية المندلعة هناك على مرِّ العقدين الأخيرين(2).
وتبدو مكانة قطر الإقليمية اليوم في منطقة شرق إفريقيا أكثر استقرارًا وتوافقًا مع سياسات تلك الدول نظرًا للعلاقات السياسية والشراكات الاقتصادية، إلى جانب أن الدوحة مارست على مدى العقد الأخير سياسة الانفتاح المبنية على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الأفارقة؛ حيث لعبت الدور الوسيط بين السودانيين، في اتفاق الدوحة للسلام الذي وقَّعته الحكومة السودانية مع حركة العدل والمساواة في فبراير/شباط عام 2013، هذا إلى جانب رعايتها للتوسط بين إريتريا وجيبوتي عام 2010، ونشر كتيبة قطرية عسكرية على الحدود بين البلدين، منعًا لانهيار التفاوض وحقنًا لدماء الجارتين المتنازعتين.
هذه الدبلوماسية النشطة للدوحة تمكنها من أن تصبح ذات تأثير قوي سياسيًّا واستراتيجيًّا، بغض النظر عن التحالفات الأخرى التي تأتي في سياق مواجهة النفوذ القطري المتزايد في شرق إفريقيا، وخاصة من السعودية والإمارات، لحجب نفوذ الدوحة وتقليل مكانتها السياسية والإضرار باقتصادها، لكنها توظف ركائز استراتيجية وسياسية مدروسة تنتهجها، وهي سياسات أهَّلت قطر -كما يقول الكاتب العراقي زهير المخ- "لتقارَن بقاهرة الستينات وبرياض السبعينات"، ليؤكد أن الدوحة باتت قادرة على تحديد قواعد اللعبة الإقليمية، في محيطها الخليجي والعالمي. إضافة إلى ذلك، صارت قطر في الواقع واحدة من أكثر اللاعبين تأثيرًا في السياسة الإقليمية ومشابهة في تأثيرها للاعبين أكبر منها بكثير مثل المملكة العربية السعودية أو تركيا، وأكثر تأثيرًا من لاعبين كانوا أقوياء في السابق مثل مصر والعراق. وأن تتمكن مثل هذه الدولة ذات الكثافة السكانية والبقعة الجغرافية الضيقة المحدودة، من الارتقاء إلى مواقع السلطة الإقليمية ليس بالأمر الفريد في التاريخ -على سبيل المثال، حالتا البندقية وفلورنسا، أو حالة سنغافورة في الآونة الأخيرة- لكنه في الواقع انعكاس ملحوظ لتأثير وسائل الإعلام والمال في عالم اليوم(3).
وعلى الرغم من أن سياسة قطر الخارجية يعاب عليها التناقضات والغموض، لكن فيما يخص القرن الإفريقي تعد سياساتها الخارجية أكثر كفاءة ونجاحًا، فهي الدولة الخليجية التي تمتلك التأثير السياسي في تلك الدول في المنطقة، ويشار أيضًا إلى أن قطر تستغل مواردها المالية وسياستها نحو تحقيق رؤية استراتيجية لدول القرن الإفريقي إدراكًا لأهميته الاستراتيجية جغرافيًّا وسياسيًّا باعتباره امتدادها السياسي والاقتصادي في إفريقيا.
جولة "آل ثاني" في القرن الإفريقي: المحطات والملفات
مثَّلت زيارة وزير الخارجية القطري، محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، إلى كينيا والصومال في الـ19 من أغسطس/آب الماضي، منعطفًا جديدًا في سياسة الدوحة الخارجية، فهي أول زيارة لمسؤول قطري رفيع المستوى يصل الصومال منذ عقود، ما يعكس صعودًا أفقيًّا واستراتيجيًّا لعلاقات الدولتين الشقيقتين، فضلًا عن تعاون سياسي واقتصادي في مجالات عدة، حيث أعلنت الدوحة -ضمن مباحثات رسمية مع رئيس الحكومة الصومالية، حسن علي خيري- بناء ميناء هوبيو (وسط الصومال) وهو ميناء استراتيجي قريب من باب المندب، وتعوِّل عليه الإدارة المحلية في جلمدغ مستقبلًا في دعم قطاعها الاقتصادي والتنموي، في حال نجاح المشروع.
لم يكن الصومال وحده الذي يستحوذ على اهتمام الدوحة الآخذ في الاتساع في القرن الإفريقي، فقد زار آل ثاني نيروبي، وأجرى مباحثات مع نظيره الكيني، استعرضا خلاله ملف تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، يأتي هذا الاهتمام القطري بالقرن الإفريقي في وقت تشهد فيه المنطقة اهتمامًا دوليًّا وخليجيًّا في الفترة وخاصة بعد اندلاع الأزمة الخليجية في يونيو/حزيران عام 2017.
يمكن حصر أهداف جولة وزير الخارجية القطري إلى الصومال وكينيا في المحاور الآتية:
• أهداف سياسية: فرضت الأزمة الخليجية نمطًا جديدًا من التحالفات والتكتلات في شرق إفريقيا، فزيارة "آل ثاني" عكست اهتمامًا قطريًّا يتصاعد شيئًا فشيئًا ضمن استراتيجية تتبناها الخارجية القطرية، والتي تعتمد على سياسة التمدد في شرق إفريقيا، لتحقيق أجنداتها السياسية والأمنية، باعتبار دول القرن الإفريقي حديقة خلفية لأمنها السياسي والاقتصادي، ففي الصومال تعد هذه الزيارة تعزيزًا للعلاقات الصومالية-القطرية التي بدأت تتطوّر منذ تولي فرماجو رئاسة البلاد(4)، كما تمثل مكسبًا لحكومة مقديشو التي تتطلع إلى تصحيح مسار بوصلة سياساتها الخارجية، والتعاون الوثيق مع حلفائها إقليميًّا ودوليًّا، فتركيا وقطر شريكان قويان بالنسبة للصومال، نظرًا لدعمهما السياسي لهذا البلد الإفريقي بعد سنوات عجاف. أمَّا كينيا، فتأتي أهمية زيارة آل ثاني إليها في ضوء التوسع القطري في دول القرن الإفريقي، على الرغم من الخلافات السياسية الحادة بين نيروبي ومقديشو، وهو خلاف عميق يزداد سخونة يومًا بعد الآخر.
• أهداف تنموية اقتصادية: على الطريقة التركية في الصومال ومن خلال إطلاق المشاريع الإنمائية، تخطو الدوحة نحو تعزيز مكانتها في الصومال عبر دعم مشاريع البنية التحتية؛ حيث وقَّع زير النقل والاتصالات القطري، جاسم بن سيف أحمد السليطي، مع وزيرة الموانئ والنقل البحري بالصومال، مريم أويس جامع، اتفاقية لبدء مشروع بناء ميناء هوبيو في إقليم جلمدغ بوسط البلاد، ليصبح بعد ذلك ثالث مشروع قطري في الصومال، حيث يمول صندوق قطر للتنمية مشروع بناء شارعين مهمين بين مقديشو وأفجوي وجوهر بتكلفة 200 مليون دولار، إلى جانب إعادة ترميم مبنى المعهد الصومالي للدراسات والدبلوماسية التابع للخارجية الصومالية(5).
أما كينيا، فتأتي زيارة آل ثاني لتمكين شركة قطر للبترول من استثماراتها النفطية في كينيا؛ حيث وقَّعت "قطر للبترول" اتفاقية مع كل من إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية تستحوذ بموجبها على 25 بالمئة من امتياز أعمال الاستكشاف والمشاركة بالإنتاج في ثلاث مناطق بحرية قبالة شواطئ شرق كينيا. وستكون حصص الشركاء في التحالف موزعة بين شركة إيني (المشغِّل 41.25 بالمئة)، وتوتال (33.75 بالمئة)، وقطر للبترول (25 بالمئة)(6).
وتتوسع "قطر للبترول" في إفريقيا سياسيًّا واقتصاديًّا، فمنذ فبراير/شباط 2018، استحوذت قطر للبترول أيضًا على 25% من المنطقة البحرية للتنقيب في جنوب إفريقيا التي تستغلها شركة "توتال" الفرنسية. وفي الكونغو، أصبح القطريون يمتلكون نحو 15% من الشركة الفرعية التابعة لتوتال. ما يعكس ثقة السياسة الخارجية القطرية في التوغل أكثر في عمق إفريقيا باستثمارات واعدة وسياسات بنَّاءة، تمكِّنها من منافسة دول أكبر منها حجمًا وأكثر إنفاقًا في القارة الإفريقية(7).
• أهداف استراتيجية مستقبلية: تتضح ملامح سياسة قطر تجاه دول القرن الإفريقي كهدف استراتيجي مستقبلي لها، فالشريط الساحلي الطويل للصومال الذي كان منذ القدم -ولا يزال- بوابة العبور إلى دول القارة الإفريقية بات اليوم في حيازة قطر، فالتنافس الأوروبي في الحقبة الاستعمارية التي امتدت زهاء سبعين عامًا انطلق من الجغرافيا الصومالية ليمتد إلى القارة بشكل عام، ونظرًا لأهمية هذا المدخل الإفريقي البحري في سياق اهتمامات الدوحة، هذا ما يؤشر إلى أن مستقبل دول القرن الإفريقي سيحظى بمزيد من التنافس الدولي والخليجي عند أسوارها وتخومها وموانئها.
صراع النفوذ الخليجي في القرن الإفريقي: من سيكسب الرهان؟
منذ اندلاع الحرب اليمنية بين الحوثيين من جهة والتحالف السعودي من جهة ثانية، منتصف عام 2015، برزت لدى دول الخليج الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب وبحر الأحمر، فبدأت السعودية والإمارات تشرعان في دخول تحالفات مع دول القرن الإفريقي، وخاصة جيبوتي والصومال، من أجل إرساء قواعد عسكرية كمنطلق لأهدافهما العسكرية ضد جماعة أنصار الله في صنعاء، واتفقت الرياض مع جيبوتي على بناء قاعدة عسكرية سعودية، بينما سعت أبوظبي إلى دخول مفاوضات مع أرض الصومال لبناء قاعدة عسكرية في مدينة بربرة (شمال الصومال) إلى جانب توقيع اتفاقية مع إريتريا وبناء قاعدة عسكرية في أراضيها، هذا فضلًا عن حرب موانئ مشتعلة تقودها الإمارات لتشغيل موانئ الصومال بدءًا من بوصاصو وبراوي وبربرة، وانتهاء بميناء دوراليه للحاويات بجيبوتي، لكن سرعان ما تراجع هذا النفوذ مع اندلاع الأزمة الخليجية قبل عامين، في زمن قياسي وفي ظرف عام واحد؛ حيث سُحبت التراخيص من شركة موانئ دبي الإماراتية في كل من جيبوتي والصومال عام 2018، ما أعاد النفوذ الإماراتي إلى المربع الأول، بسبب سياساتها الخارجية التي لا تتفق مع سياسات هاتين الدولتين اللتين تبحثان عن تحالفات استراتيجية أكثر منها شراكة والتزامًا في تنفيذ الاتفاقيات والعهود.
إن هذا التوتر الدبلوماسي بين الإمارات ودولة جيبوتي والصومال، ساعد قطر في توثيق علاقاتها مع كلا البلدين؛ حيث إن جيبوتي تعتبر دولة محورية تسهم في ضمان أمن التجارة في الخليج. وتكتسب جيبوتي أهميتها من خلال موقعها القريب من مضيق باب المندب وقناة السويس، كما أنها تُعد مُستقرة نسبيًّا مقارنة بدول القرن الإفريقي. بينما الصومال يتشابه مع جيبوتي في عمقه الاستراتيجي لكنه يختلف من حيث قرب جيبوتي من الرياض، على عكس مقديشو التي لا تحظى باهتمام سعودي في استثمارات تدعم المشاريع التنموية(8)، كما أن النزاع في البيت الخليجي منح قطر فرصة لنهج سياسات جديدة نحو المنطقة، وكأنها تنطبق عليها المقولة: "ربَّ ضارة نافعة".
ورغم أن الحصار المفروض على الدوحة يبدد ملامح انفراج قريب لوفاق خليجي-خليجي، إلا أن الاقتصاد القطري لم يتزعزع، بل ويشهد نموًّا متسارعًا ليحل في المرتبة الثالثة عالميًّا في الأداء الاقتصادي. وحققت الدوحة المرتبة العاشرة من بين 63 دولة معظمها من الدول المتقدمة، مقارنة بالمرتبة 14 في عام 2018، وفقًا لكتاب التنافسية العالمي لعام 2019(9). غير أن التحدي الأبرز الذي يهيمن عليها هو الحفاظ على تلك العلاقات مع هذه الدول وصياغة أفق جديدة لعلاقاتها السياسية وأجنداتها الاستراتيجية في إفريقيا، وخاصة الصومال وجيبوتي، بالإضافة إلى إنشاء أطواق بحرية وبرية يجب في نهاية المطاف أن تحظى بالأولوية القصوى من قبلها وهو ما قد يسهم في توفير بيئة تجارية أكثر استقرارًا وتوازنًا لجميع الأطراف المعنية(10).
السؤال الذي يرد في أذهان المتابعين بشأن الأزمة الخليجية: من سيكسب الرهان وينجح في ترسيم سياسات متوازنة في شرق إفريقيا بين عمالقة الخليج المتصارعين؟ تتحدد الإجابة على هذا السؤال في سياقات وأبعاد سياسية مختلفة، فمن حيث النخبة السياسية الحاكمة، فهي في قطر تختلف كليًّا من حيث الفقه السياسي والتنبؤ بالمخاطر الجيوسياسية والاقتصادية عن النظام الإداري الذي يحكم أبوظبي والرياض؛ حيث إن كلتا الدولتين (السعودية والإمارات) تغرقان يومًا بعد الآخر في المستنقع اليمني، وهي حرب استنزاف لا غالب ولا مغلوب فيها، بينما الدوحة تبسط نفوذها في إفريقيا وتتحرك دوليًّا نحو بناء استراتيجيات بديلة وسياسات اقتصادية مغايرة، إلى جانب استثمارات مالية ضخمة في إفريقيا لتعزيز نفوذها ومكانتها إقليميًّا ودوليًّا.
الدور القطري ومستقبله في القرن الإفريقي
يعد الاستقرار السياسي الداخلي لأية دولة شرطًا لنجاح علاقاتها وسياستها الخارجية، وهذا ما ينطبق على النموذج القطري، فالنخبة القطرية، وضعت النقاط على الحروف في بيتها من الداخل، قبل أن تضع لمسات سياسات خارجية تستطيع من خلالها التموضع في مناطق النفوذ الإقليمية وخاصة في القرن الإفريقي. ويبقى مستقبل سياسة قطر الإفريقية مرهون ابمدى نجاعة سياستها في التغلب على المعضلات الراهنة التي تواجه تلك الدول من تحديات داخلية وخارجية، والوقوف إلى جانبها، لبناء شراكة حقيقية معها، لتعزيز مكانتها في العمق الإفريقي، ومن أجل ضمان حماية أمنها وتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية.
ما لا يختلف عليه اثنان، أن سياسة قطر الخارجية في القرن الإفريقي تحظى بفرص واعدة، بقدر لا يتحقق مع خصومها (دول الحصار)، نتيجة سياساتها؛ إذ طورت ما يشبه قانون البقاء في سياستها الخارجية، أي إنها توازن سياستها عبر نهج ثلاث استراتيجيات، وأولاها: سياسة الهجوم لتعظيم مكاسبها، والتقارب مع إيران لتحقيق مصالحها وهو ما تجلى في خضم الأزمة الخليجية. وأخيرًا، سياسة التحالف مع محيطها العربي والإفريقي، عندما يأتي الخطر من البيت الخليجي، أما فيما يتعلق بالقرن الإفريقي، فإن الدور القطري يأخذ أبعادًا مختلفة، سيما الصومال، الذي ظلت الدوحة على مدى العقدين الأخيرين لاعبًا كبيرًا فيه؛ حيث تقدم الدعم السياسي والعسكري لمقديشو إلى جانب مشاريع إنمائية وإنسانية عبر صندوق قطر للتنمية وقطر الخيرية.
خلاصة
ليس ثمة شك في أن مصالح دول القرن الإفريقي من جهة والدور القطري سياسيًّا واقتصاديًّا يتكاملان معًا، ما يجعل نفوذ الدوحة في الشرق الإفريقي يتمتع بفرص بقاء أكثر من أية دولة عربية أو خليجية أخرى؛ حيث إن فقدانها لتلك البقعة الاستراتيجية من إفريقيا، يعد نكسة لسياساتها الإقليمية والعربية، لذا يبقى التموضع القطري في هذه المنطقة، عبر بوابة الصومال وجيبوتي وكينيا، صامدًا في وجه معارضتها المحلية وخصومها الخليجيين. والعلاقات المستقبلية بين هذه الدول مع قطر مبنية على مصالح استراتيجية وسياسية واقتصادية. ووفق مراقبين، فهذه شفرة مؤمَّنة من خطر قرصنة قد تفكِّك علاقات الدوحة بالقرن الإفريقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الشافعي ابتدون، كاتب وباحث صومالي بشؤون القرن الإفريقي.
(1) بيرار، د.أ كلوك، العلاقات الدبلوماسية الإثيوبية القطرية.. دبلوماسية متقلبة، مركز الجزيرة للدراسات، 25 مايو/أيار 2013، (تاريخ الدخول: 23 أغسطس/آب 2019): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/05/201352092945486536.html
(2) سالم، بول، دي زيو، ويب، السياسة الخارجية القطرية: الديناميات المتغيرة لدور استثنائي، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 31 ديسمبر/كانون الأول 2012، (تاريخ الدخول: 23 أغسطس/ آب 2019): https://carnegie-mec.org/2012/12/31/ar-pub-51004
(3) قبلان، مروان، سياسة قطر الخارجية: النخبة في مواجهة الجغرافيا، مجلة سياسات عربية، العدد 28، 2017، ص: 14.
(4) ما دلالات زيارة وزير الخارجية القطري لمقديشو؟ مركز مقديشو للبحوث والدراسات، 20 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب 2019):https://bit.ly/2m07J5L
(5) قطر تشرع في أعمال بناء ميناء وسط الصومال، وكالة الأناضول، 19 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب 2019):https://bit.ly/2ZfHHta
(6) قطر للبترول توقع اتفاقًا للتنقيب عن النفط في كينيا، وكالة الأناضول، 23 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب 2019):https://bit.ly/2ky3RZt
(7) قطر تعمل على تعزيز وجودها بإفريقيا، الجزيرة نت، 1 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2019):https://bit.ly/2Vxe3y2
(8) سلمي، جلال، رغم الحصار، تتزايد الفرص المتاحة لقطر لتطوير علاقات إقليمية أوسع، معهد واشنطن، 30 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2019): https://www.washingtoninstitute.org/ar/fikraforum/view/despite-blockade-opportunities-are-increasing-for-qatar-to-develop-broader
(9) قطر الثالثة عالميًّا في الأداء الاقتصادي 2019، الجزيرة نت، 29 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول 1 سبتمبر/أيلول 2019):https://bit.ly/2koo83M
(10) مرجع سابق، معهد واشنطن.