العسكر الباكستاني والحكومة في مواجهة الرئاسة

تنازل الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري عن بعض صلاحياته بهدف تنفيس الاحتقان وغضب المعارضة في صفوف الجيش ورئاسة الوزراء ضده خوفا من عزله، خاصة أن بقاءه في السلطة يوفر له حماية وحصانة بعدم الملاحقة القانونية من قبل المحكمة الباكستانية بتهم الفساد.








 


مركز الجزيرة للدراسات


بعد غموض دام أشهر على طريقة الأداء السياسي الباكستاني، بسبب وصول حكومة جديدة إلى السلطة بعد سيطرة العسكر على السلطة لأكثر من عشر سنوات، فالآن بدأت الرؤية تتضح إلى حد ما، مع الاصطفاف الجزئي الذي حصل للسياسة والسياسيين الباكستانيين، والذي بدأ من خلال إعلان الأطراف مواقفها بشكل أوضح من السابق، وهو ما كشف عن حقيقة وواقع ووزن كل طرف من أطراف السياسة الباكستانية..


ماذا بين العسكر ورئيس الجمهورية زرداري؟






بداية إن الحكومة التي خلفت الرئيس برويز مشرف تنتمي إلى حزب الشعب الذي لديه سجل مزعج ومضطرب في العلاقة مع المؤسسة العسكرية، والتوتر والتشنج في العلاقة بينهما أي الجيش وحزب الشعب ليس وليد اللحظة أو وليد حكم الرئيس آصف علي زرداري؛ وإنما منذ أيام ذو الفقار علي بوتو والد –الراحلة بنازير- الذي تم إعدامه على أيدي العسكري..


 وكذلك لا بد من التوضيح أن الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس آصف علي زرداري بحسب المادة السابعة عشرة من الدستور تتناقض مع الديمقراطية والنظام البرلماني، إذ أن الرئيس السابق برويز مشرف احتفظ بصلاحيات تلك المادة لكونه حاكما عسكريا، وتخوله حل البرلمانات المحلية والفيدرالية وإقالة الحكومات وتعيين قائد الجيش وقادة أفرع الجيش ونحو ذلك من الصلاحيات المطلقة، والتي في حقيقتها ومجملها تأكل من صلاحيات رئيس الوزراء المنتخب في النظام البرلماني الباكستاني بحسب الدستور، فمثل هذه الصلاحيات للرئيس تحد من العمل بالنظام الديمقراطي البرلماني، لكن رغبات ومصالح مشتركة بين العسكر ورئاسة الوزراء دفعتهما إلى استهداف الرئيس، وتمثل هذا التقارب في:


1. التقارب طوال التاريخ الباكستاني بين مؤسسة رئاسة الوزراء التي تشكل أحد الأعمدة الأساسية في النظام الباكستاني وبين المؤسسة العسكرية الحاكم الفعلي، المباشر أو غير المباشر. فرئيس الوزراء رغم أنه منتم إلى حزب الشعب، إلا أن خلفيته السياسية كانت تاريخيا أقرب إلى حزب الرابطة الإسلامية المعارض بزعامة نواز شريف، والذي كان على مدى التاريخ الباكستاني مقربا من المؤسسة العسكرية.





رئيس الوزراء جيلاني لم يظهر في قائمة المستفيدين من العفو العام، وهو ما يعطيه مصداقية في أعين الشارع بخلاف الرئيس زرداري، ويسهل على المؤسسة العسكرية التحالف مع شخصية نظيفة مثل جيلاني بخلاف الرئيس
وتجلى التقارب أكثر بانزعاج العسكر من الرئيس زرداري لكون سمعته ملطخة بالرشاوي والفساد وهو ما يمس من مصداقيته في أعين الشارع الباكستاني، ينضاف إلى ذلك احتكار الرئيس لصلاحيات رئيس الوزراء والتي ورثها عن الرئيس السابق برويز مشرف، والعسكر الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم الوريث التاريخي لدولة باكستان، بالإضافة إلى كونهم صمام أمان الوحدة الوطنية ولنفوذهم في البلاد. هذه العوامل مجتمعة تجعلهم يبحثون عن شخصية حاكمة مقبولة نوعا ما للشعب، بحيث لا تضر كثيرا بسمعة وأوضاع البلاد، لإدراكهم أنهم في النهاية هم الذين سيدفعون الثمن، وهم الذين سينظفون وراء هذا الرئيس أو ذاك.

2. قانون "كير لوغر" المنسوب إلى المشرعين الأميركيين، والذي يمنح بموجبه باكستان مليارا ونصف المليار دولار سنويا على مدى خمس سنوات مقابل شروط قاسية على الجيش، بحيث تمس الأمن القومي الباكستاني في الصميم، وعلى رأسها اتهام واضح للمؤسستين العسكرية والأمنية بالتورط في التدخل بدول الجوار، وتحديدا الهند وعليها أن تبرهن على عدم تورطها في شؤونها.


وهو ما دفع الباكستانيين إلى القول إن القرار هو لمصالح هندية وليس أميركية، بالإضافة إلى تدخل وإشراف مباشر من الرئيس في تعيين وترقية والإشراف على موازنة العسكر، وهو خط أحمر بالنسبة للمؤسستين العسكرية والأمنية، بالإضافة إلى السماح للأميركيين بالتحقيق في كل ما يتعلق بانشغالاتهم وقلقهم إزاء المشروع النووي الباكستاني وغيرها من الاشتراطات التي اعترض عليها العسكر، وكذلك رئيس الوزراء والبرلمان. بينما مثل هذه الاشتراطات كان الرئيس قد وافق عليها إبان زيارته لواشنطن، وهو الأمر الذي عزله عن العنصرين المهمين في الترويكا (الثلاثة) الممثلين في المؤسسة العسكرية والتنفيذية.


3. جاء قرار المحكمة الباكستانية العليا بتبني النظر في قضايا الفساد، ليجسر العلاقة ويوطدها بين العسكر ورئاسة الوزراء ومعهم المؤسسة القضائية، حيث أن رئيس المحكمة افتخار تشودري لا يكن ودا للرئيس زرداي وجماعته، والمتهمون بالفساد أكثر من 8041  شخصية سياسية وحزبية وبيروقراطية وعسكرية متقاعدة، من بينها خمسة وزراء وثلاثة سفراء في دول مهمة مثل أميركا وبريطانيا وإيران، ومن المقربين لزرداري.


 وتفصيل ذلك أن الرئيس مشرف أصدر عفوا عن هؤلاء السياسيين في إطار قانون المصالحة بينه وبين حزب الشعب بزعامة بنازير بوتو آنئذ، لكن إخفاق البرلمان في التجديد للقانون بسبب رفض المعارضة، دفع المحكمة ووسائل الإعلام إلى مطالبة الحكومة للكشف عن أسماء المستفيدين من قانون العفو وبالتالي فقضايا الفساد التي تقدر بحوالي ترليون روبية باكستانية أي ما يعادل عشرين مليار دولار أميركي التي تم نهبها من هؤلاء الأشخاص، كل هذه القضايا ستقوم الحكومة بالنظر فيها، وهو ما سيحرج الرئيس لكون جماعته هي المستفيد الأول، سيما وأن رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني لم يظهر في قائمة المستفيدين من العفو العام، وهو ما يعطيه مصداقية في أعين الشارع بخلاف الرئيس زرداري، ويسهل على المؤسسة العسكرية التحالف مع شخصية نظيفة مثل جيلاني بخلاف الرئيس.


4. دخول مؤسسة القضاء ومؤسسة الإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر إلى حلف العسكر مع رئيس الوزراء عبر إزعاج معسكر الرئيس، إما من خلال المحاكمات التي ستمارسها المؤسسة القضائية، أو من خلال التغطية الإعلامية المزعجة للرئيس التي أخرجته أكثر من مرة عن طوره ودفعته إلى شن هجوم عنيف على وسائل الإعلام الباكستانية التي تستهدفه حين أشار بوضوح إلى إرادة عزله، سيما وأنه طوال أيام كان قد سعى إلى تجنب وسائل الإعلام بشكل واضح، وقد وصل الأمر إلى حد إغلاق بعض البرامج المعادية أو المهاجمة له .


لماذا تخلى زرداري عن بعض صلاحياته؟






أدرك الرئيس الباكستاني حجم الضغوط التي يتعرض لها شعبيا وعسكريا وحتى من داخل حزب الشعب الباكستاني الذي ينظر إليه بعضهم على أنه خطف الحزب لمصلحته الشخصية، في ظل تجاهله لقيادات تاريخية حزبية، خصوصا بعد العثرات والأخطاء التي وقع فيها، إنْ على مستوى تعاطيه مع العسكر أم على مستوى تنسيقه مع الأميركيين عبر سفيره في واشنطن حسين حقاني أملا في تقليص دور العسكر في السياسة. وقد ظهر ذلك في الوثيقة السرية التي نشرتها المخابرات الباكستانية، وهي محضر لجلسة سرية بين الرئيس وسفيره تم تسجيلها من قبل المخابرات الباكستانية، وتدعو المكالمات بين الطرفين إلى السعي لتقليص وتحجيم دور العسكر في السياسة.


على خلفية ذلك أدرك زرداري تماما أنه ينبغي عليه أن يقدم تنازلا عن صلاحياته لعل ذلك يرضي الأطراف المعارضة، فكان ذلك يوم العيد، وكأنه بمثابة هدية العيد لمعارضيه، فتنازل عن صلاحيته في الضغط على الزر النووي وسلم تلك الصلاحية لرئيس الوزراء جيلاني، ووعد بالمقابل بالتخلي عن صلاحياته المشمولة في المادة السابعة عشرة والتي تعني صلاحية حل البرلمانات، وإقالة الحكومات، وتعيين قادة الجيش، ونحوه لتكون من صلاحية رئيس الوزراء أيضا، وهو أمر يرضي ويريح الجيش والمعارضة على السواء.


وبالتالي فإن ما يسعى إليه زرداري هو تنفيس الاحتقان وغضب المعارضة في صفوف الجيش ورئاسة الوزراء ضده وذلك قبل أن تتجمع نذر عاصفة قوية قد تطيح  به، لكنَّ معارضيه يريدون التنازل بشكل سلس وسلمي ودون ضجيج، خصوصا وأن بقاءه في السلطة يوفر له حماية وحصانة بعدم الملاحقة القانونية من قبل المحكمة الباكستانية بتهم الفساد الذي هو متهم بها.


وبحسب القانون الباكستاني فإن الرئيس محصن من الملاحقة ما دام في الحكم، ولذا فإنه يسعى ما وسعه الجهد إلى البقاء في السلطة مهما كانت التنازلات، لكون بقاءه فيها يوفر له درعا من الملاحقة القانونية إثر رفع الغطاء عن قانون المصالحة الوطنية الذي وقعه مشرف وفشل زرداري في التجديد له.


مستقبل الرئيس زرداري؟






يرجح الكثيرون أن يواصل زرادري حكمه لكن بعد أن يتخلى عن صلاحياته، ويتخلى عن آخر أسنانه، وبالتالي يغدو رئيسا بدون صلاحياته وبدون سلطات وأنياب، وتعود الصلاحيات والسلطات إلى رئاسة الوزراء.


بمعنى عودة الفرع إلى الأصل لكون النظام برلماني ولكون رئيس الوزراء تاريخيا هو الأصل، وهنا سيكون زرداري أقرب ما يكون إلى الرئيس الفخري أو الشكلي الذي لا نفوذ ولا تأثير له داخليا وخارجيا، وذلك بعد أن تخلى عن كل صلاحياته.


وينضاف إلى ذلك  تراجع شعبيته بسبب الاتهامات التي تشمله في قضايا الفساد والرشا، إضافة إلى بُعد الزمان عن مقتل زوجته بنازير بوتو إذ أن انتخابه أو الموافقة على كونه رئيسا جاء بسبب التعاطف مع مقتل زوجته وآل بوتو أكثر مما هو تعاطف معه شخصيا، وبالتالي فكل ما يسعى إليه هو البقاء في السلطة مهما كان شكل تلك السلطة، كونها توفر له الحماية من الملاحقة القانونية والعودة إلى السجن الذي أمضى فيه أكثر من أحد عشر عاما في السابق..


الانعكاس على "الحرب على الإرهاب"؟






تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون من أنه ليس للأميركيين أشخاص مفضلين في باكستان، كان رسالة واضحة إلى زرداري، حيث إن حلفاءه الأميركيين خرجوا من المعركة التي كان يخوضها مع الجيش ولن يدافعوا عنه ما دام الطرف الآخر قد انتصر في معركته، وهذا لا يعني أن الأميركيين مرتاحون لمعسكر الجيش والحكومة، وإنما فقط قفزوا إلى المركب الآخر وانحازوا للطرف المنتصر، بعد أن خسر حليفهم الأساسي زرداري المعركة.


لكن مع هذا يبدو أن الحرب على ما يوصف بالإرهاب ستكون إحدى الضحايا الأساسية في هذا الاصطفاف الجديد، فتقوية وتعزيز البرلمان الباكستاني ورئيس الوزراء المقرب من الرئيس يعني بوضوح أن ممثلي الشعب ستكون لهم كلمتهم في أي سياسة حكومية يتم إقرارها والمصادقة عليها.


وهنا ستواجه وتصطدم السياسة الأميركية المطالبة باكستان بالمزيد من الجهود في "الحرب على الإرهاب" بعقبات جدية وخطيرة، وهي أن ممثلي الشعب سيكونون أقرب إلى رفض السياسة الأميركية، سيما في ظل تنامي العداء المفرط ضد السياسة الأميركية والذي وصل إلى حد أن وجه قادة جيش سابقون وضباط متقاعدون اتهامات للأميركيين بالتورط في التفجيرات التي استهدفت مدنيين في باكستان، خصوصا وأن ممثلي الشعب في البرلمان يدركون أنهم سيتوجهون مجددا بعد سنوات إلى الانتخابات لطلب أصوات الشعب من جديد، ينضاف إلى ذلك ظهور امتعاض العسكر من الأميركيين في معالجة الوضع الأفغاني.


وتجلى ذلك في إبعاد باكستان عن تفاصيل الإستراتيجية الأميركية الجديدة في أفغانستان، بل ودعوة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سنغ في نفس الوقت الذي أقرت فيه الإستراتيجية الجديدة في أفغانستان بينما باكستان عبرت عن امتعاضها لكونها لم تستشر بشأن بالإستراتيجية الجديدة رغم أنها المعنية بها بشكل أساسي، لكون أي زيادة للقوات الأميركية في أفغانستان سيكون لها انعكاسات خطيرة على باكستان من حيث التصعيد العسكري وتداعياته في هروب لاجئين أفغان أو مقاتلين إلى الأراضي الباكستانية، ما دامت الحرب الأميركية على القاعدة وطالبان تتركز على الحدود الأفغانية-الباكستانية.