استطلاع أولي للأبعاد الاقتصادية والسياسية للأزمة المالية

خلال أسابيع قليلة من سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول، واجه النظام المالي الغربي احتمال الانهيار الشامل. استدعت الأزمة إجراءات إنقاذ هائلة التكاليف، تعهدتها حكومات الولايات المتحدة، والدول الرئيسة في أوروبا الغربية، إضافة إلى اليابان.







 
بشير نافع


خلال أسابيع قليلة من سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول، واجه النظام المالي الغربي احتمال الانهيار الشامل. استدعت الأزمة إجراءات إنقاذ هائلة التكاليف، تعهدتها حكومات الولايات المتحدة، والدول الرئيسة في أوروبا الغربية، إضافة إلى اليابان.








بشير نافع
لو أن الأزمة اقتصرت على الاقتصاد المالي، الذي تعرض منذ انهيار 1929 الكبير لعدد من الأزمات الأقل وطأة، لما كان وقع الصدمة والقلق بالعمق والتأثير الذي يعيشه العالم. ولكن هذه الأزمة تمتد سريعاً من الاقتصاد المالي (أي سوق المال) إلى الاقتصاد الحقيقي (الإنتاج والخدمات)، ومن الاقتصاد إلى الأيديولوجيا، ومنهما معاً إلى النظام العالمي ككل.

الخلفية والأسباب
الأيديولوجيا
الاستهلاك
الخلل الهيكلي في الاقتصاد الأميركي
التحول في اتجاهات الاستثمار المالي العالمية
الآثار العالمية والإنقاذ
النتائج الاقتصادية الأبعد
النتائج السياسية


الخلفية والأسباب


السبب المباشر الذي أطلق شرارة الأزمة المالية بات معروفاً إلى حد كبير. ففي مناخ سائد يتسم بتراجع الرقابة الحكومية على النظام البنكي، قامرت عدة بنوك استثمارية (وعدد من البنوك التجارية)، في الولايات المتحدة أساساً وفي بريطانيا بدرجة أقل، بتقديم قروض فائقة وبالغة المجازفة لسوق العقار، بعض من هذه القروض تجاوز 130 بالمائة من قيمة العقار.


وبالتراجع الحاد لقيمة العقارات في الولايات المتحدة وبريطانيا (وبدرجة أقل في ألمانيا)، بدأت هذه البنوك في مواجهة خسائر هائلة وتراجع مطرد في السيولة النقدية. طبقا للعقيدة الاقتصادية السائدة، والتي تقول بحرية السوق والمحافظة على التدخل الحكومي في أضيق نطاق ممكن، تركت الإدارة الأميركية بنك ليمان بروذرز ينهار. ولكن الحكومة البريطانية كانت قد اتبعت سياسة مختلفة قبل شهور قليلة عندما تدخلت لإنقاذ بنك نورذرن روك بتأميمه بالكامل.


المشكلة، أن الوضع لا يتعلق ببنك أو اثنين، بل بعدد كبير من البنوك، وإن كان انهيار بعض البنوك الاستثمارية يمس مستثمرين كبار، فإن انهيار بنوك تجارية يمس أوضاع ملايين المواطنيين العاديين والبنية الاقتصادية برمتها.





باتضاح حجم الأزمة، توقفت البنوك عن إقراض بعضها البعض، وبدا أنها في طريقها نحو التوقف عن إقراض قطاعات الأعمال والتجارة والصناعة
باتضاح حجم الأزمة، توقفت البنوك عن إقراض بعضها البعض، وبدا أنها في طريقها نحو التوقف عن إقراض قطاعات الأعمال والتجارة والصناعة. ولأن القطاع المالي العالمي ازداد ترابطاً واتصالاً خلال العقدين الماضيين، فسرعان ما أخذت الأزمة الأميركية – البريطانية في التأثير على بنوك ومؤسسات مالية أوروبية، بينما أعلنت أيسلندا أن نظامها البنكي في طريقه للانهيار.

وشيئاً فشيئاً، اتسع نطاق الأزمة ليطال الأسواق المالية في آسيا والدول العربية، بعد أن تسببت بخسائر هائلة وغير مسبوقة في سوقي مال نيويورك ولندن.


بيد أن هناك أسباباً أبعد وأعمق لهذه الأزمة، تتعلق بالأيديولوجيا المسيطرة في القطاعين المالي والاقتصادي الغربيين، بنزعة استهلاك غربية مسبوقة، بضعف هيكلي في الاقتصاد الأميركي، وبمتغيرات جوهرية شهدتها الخارطة الاقتصادية – المالية العالمية خلال العقد الأخير.


الأيديولوجيا 


بدأت المسيرة الطويلة لليبرالية الجديدة، أو الرأسمالية غير المقيدة، كما يشير ديفيد هارفي، باجتماع دعا له الفيلسوف الليبرالي النمساوي الأصل (الذي عاش بعد ذلك في بريطانيا وأميركا) فريدريك فون هايك في المنتجع السويسري مونت بيلرين (Mont Pelerin). حضر اللقاء وقتها، والذي ستولد منه جمعية مونت بيلرين، عدد مختار ومحدود من الأكاديميين وعلماء الاقتصاد، والسياسيين، ورجال الأعمال، كان من بينهم الفيلسوف البريطاني الشهير وخصم الشيوعية الأبرز كارل بوبر، وعالم الاقتصاد لودفيغ فون مايسيز، إلى جانب الأكاديمي الشاب بجامعة شيكاغو، الذي سيحصل على نوبل بعد ذلك ويلعب دوراً واسع النطاق في الترويج لليبرالية الجديدة، ميلتون فريدمان.


قدم مؤسسو مونت بيلرين أنفسهم باعتبارهم ليبراليين، يسعون إلى معالجة عيوب الرأسمالية والخلل الحاصل في نظامها الاقتصادي، ومحاولة تجنب أزماتها الاجتماعية. كانوا معادين للشيوعية، ورأوا الدولة أداة لقمع الحريات الفردية واستعباد المجتمع، ولذلك لا بد للتخفيف من أعبائها ما أمكن. وقد جنحوا إلى تأييد النظرية الكلاسيكية الجديدة في مواجهة كلاسيكية ريكاردو وماركس، إذ آمنوا بعمق بفكرة آدم سميث أن للسوق يداً غير مرئية، كفيلة بالحفاظ على الاستقرار ودفع قوى الرفاه إلى الأمام، وعارضوا تصور جون ماينرد كينز القائل بأن دور الدولة ضروري لحماية النظام الرأسمالي – الليبرالي، وهو التصور الذي وظفته أميركا وبريطانيا للخروج من انهيار 1929 – 1931 الاقتصادي.


في رؤية مونت بيلرين للأمور، أن الطريق لإنقاذ الغرب من السقوط في هاوية الاستعباد الشيوعي والحفاظ على مجتمع الحريات الذي أقامه النظام الرأسمالي، يتطلب رفع يد الدولة كلية عن السوق، والقبول بأن الفروق الطبقية هي شأن بشري – اجتماعي طبيعي، وتشجيع المبادرة الفردية إلى أقصى حد، والإيمان بأن حرية السوق الفائقة هي الصانع للرفاه، لأن نجاح القلة سيفضي تدريجياً إلى امتداد الرفاه إلى الأسفل (trickle-down) ليعم المجتمع ككل.


لم يكن مؤسسو مونت بيلرين من المثقفين المعزولين، بل كانت رؤيتهم للمستقبل من البداية رؤية نشطة، تعمل على التأثير، والتحكم في دوائر الاقتصاد في الجامعات الغربية البارزة، التأثير على الدوائر الصحفية والإعلامية النافذة، والوصول إلى دوائر المال والأعمال.


وفعلا ولدت خلال العقدين التاليين مراكز بحث وتفكير مكرسة كلية للترويج لأيديولوجيا مونت بيلرين، وتحولت بعض الجامعات الغربية (مثل جامعة شيكاغو، وبدرجة أقل كلية لندن للاقتصاد)، إلى مراكز تفريخ للاقتصاديين الليبراليين الجدد، الذين وصل بعض منهم إلى صندوق النقد والبنك الدوليين.


ولكن فرصة هذا التيار الحقيقية لم تأت إلا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات، عندما انتهز المروجون له فرصة بروز أنظمة راديكالية في معاداتها للشيوعية في أميركا اللاتينية، ووصول مارغريت تاتشر وريغان للحكم في بريطانيا والولايات المتحدة.





قادة العالم الاقتصاديين لم يلتفتوا إلى أزمة نهاية التسعينات الطاحنة، التي أوصلت بعضاً من المجتمعات اللاتينية والآسيوية إلى حد الجوع
في موجة صعود الليبرالية الجديدة، كانت دول مثل تشيلي، الأرجنتين، المكسيك، بريطانيا، الولايات المتحدة، ثم تركيا أوزال،  طليعة الانعطاف عن الرأسمالية الكينزية، أو نظام الرعاية (the welfare state)، لصالح اقتصاد السوق الحر، حيث تنسحب الدولة من دورها، ليس فقط كمالك لقطاع من السوق (أي التوجه نحو التخصيص)، ولكن أيضاً من دورها كمنظم ورقيب وواضع للقوانين.

أصبح فريدمان مستشاراً لتاتشر، وواحداً من أبرز المؤثرين على البيت الأبيض؛ وفي حين استدعي الأكاديميون الليبراليون الجدد لاحتلال مواقع استشارية هامة في بلدان أميركية لاتينية وآسيوية، واحتل آخرون مواقع وزارية نافذة.


النجاح الذي حققته السياسات الليبرالية الجديدة في بريطانيا وأميركا (بالرغم من الثمن الاجتماعي الباهظ)، غطى على الكوارث التي عانت منها دول أخرى في العالم الثالث مثل المكسيك والأرجنتين وتشيلي.


ولكن نهاية الحرب الباردة بانتصار الكتلة الغربية وتفكيك الكتلة الشيوعية، صور الأمر وكأنه انتصار ريغان وتاتشر على وجه الخصوص، وانتصار لسياسة الحريات الرأسمالية، التي حافظت على تقدم الغرب وتفوقه، ودفعت الاتحاد السوفياتي إلى اليأس من إمكانية اللحاق أو التنافس. ومنذ مطلع التسعينات، أصبحت الليبرالية الجديدة أيديولوجيا لا تقهر، ليس في أوروبا الغربية والدول الشيوعية السابقة وحسب، بل وفي أغلب دول العالم الثالث.


ضمن هذا السياق أسست منظمة التجارة العالمية لتعميم النهج الليبرالي – الجديد على المستوى الكوني، وليس فيما يتعلق باقتصادات الدول وحسب، بل والتجارة العالمية ككل أيضاً. مقاومة دول مثل الدولة المصرية لاقتصاد السوق الحر، انهارت كلية في مطلع التسعينات، لتطلق حملة تخصيص واسعة النطاق للقطاع العام، وتخفيف متسارع للأنظمة القانونية المتحكمة في السوق. وبالرغم من الانهيار الاقتصادي التركي في التسعينات، فقد جاءت حكومة العدالة والتنمية لتعيد التوكيد على أسس النظام الاقتصادي الحر.


والمدهش أن قادة العالم الاقتصاديين لم يلتفتوا إلى أزمة نهاية التسعينات الطاحنة، التي أوصلت بعضاً من المجتمعات اللاتينية والآسيوية إلى حد الجوع.


ولأن الكتلة الغربية هي التي تقود اقتصاد العالم، وأن أزمة نهاية التسعينات طالت دولاً خارج المركز الغربي، فقد قدمت تفسيرات مختلفة وهامشية لتفسير الأزمة، تجنبت كلية توجيه نقد ما لجوهر السياسة الليبرالية الجديدة: السوق الرأسمالي مطلق الحرية.


الكيان الاقتصادي الرئيسي الوحيد الذي حاذر منذ البداية من إطلاق العنان للسوق، وحافظ على دور ملموس للدولة في الحقلين الاقتصادي والمالي، كان الصين.


ومنذ تولي بوتين الرئاسة الروسية، بذل الكرملين جهوداً هائلة، بما في ذلك التهديد والسجن والمطاردة، لكسر السيطرة الرأسمالية الواسعة على السوق، والاستعادة الجزئية لدور الدولة الروسية في الحقلين الاقتصادي والمالي.


الاستهلاك 


رافق صعود النظرية الليبرالية الجديدة ظاهرتان متلازمتان:



  • تمثلت الأولى في النزعة نحو التسليع (commoditization)، أي تحويل أغلب النشاطات الإنسانية إلى سلع تداولية. ما لا يندرج في قائمة السلع، لم تعد له قيمة تذكر، أو احترام اجتماعي.

    كل وسائل النقل، أصبحت سلعة؛ كل وسائل الاتصال، أصبحت سلعة؛ شبكات الكهرباء والغاز الضرورية للحياة، أصبحت سلع؛ الأبحاث الجامعية، أصبحت سلعة؛ الجامعات نفسها، ومعها قطاع مدرسي واسع، أصبحت سلع؛ وظائف أولية للدولة، مثل الصحة والسجون وجوانب هامة من العمل العسكري، أصبحت سلع؛ بل حتى العمل الخيري، أصبح سلعة.

    إن كان الاقتصاد يعني حرية قوى السوق، فإن تعظيم الربح سيكون المحرك الأولي للعملية الاقتصادية؛ وتعظيم الربح يتطلب وضع قيمة نقدية  لكل مظاهر العمل البشري والنشاط الاجتماعي. وهذا هو الاتجاه الذي أخذ العالم يدفع إليه، غير واع في أغلب الحالات بالآثار الاجتماعية المدمرة لنزعة التسليع التي استحوذت على كل شيء.





  • أغلب المجتمعات الغربية تعيش منذ عقدين على الأقل فوق مستوى إمكانياتها ومواردها؛ تعيش، بكلمة أخرى، على القروض
    أما الثانية، فكانت ظاهرة الاستهلاك غير المسبوقة، حتى في مجتمعات عرفت تاريخياً بمحافظتها وابتعادها عن الإسراف الاستهلاكي، مثل بريطانيا وألمانيا، وبعض من المجتمعات الإسلامية.

    الاستهلاك المتوالد هو بالطبع شرط ضروري لاستمرار الازدهار الرأسمالي، ولكن الصعود الليبرالي الجديد، ومن ثم النزوع نحو التسليع وتعظيم الربح، تطلب تعظيماً للنشاط الاستهلاكي، وتسهيل هذا النشاط. ولم يقتصر تسهيل الاستهلاك على التقدم الهائل في وسائل الاتصال، وعلى يسر التسوق الاستهلاكي عن طريق الإنترنت بينما يكون الإنسان مقيما في غرفة جلوسه، وعلى انتشار بطاقات الاقتراض البنكي حتى في أوساط الطبقات غير المنتجة مثل الطلاب، ولكن أيضاً، وهذا هو الأخطر، قيام كافة البنوك الغربية بتقديم تسهيلات غير مسبوقة للمقترضين.

    الإقراض هو وسيلة البنوك الأساسية لتحقيق الربح؛ وفي ظل سيطرة اعتقاد وهمي، لا يرتكز إلى أساس علمي أو تاريخي، بأن السوق الرأسمالية قد بلغت مرحلة الاستقرار وتخلصت أخيراً من دورات الازدهار والهبوط التقليدية، تصورت إدارات مؤسسات مالية كبرى أن بإمكانها أن تقرض بلا حدود، ولا خوف. وقد وصل حجم القروض التي قدمتها السوق المالية 349 بالمائة من الدخل القومي الأميركي.

    ولم تقتصر قوة الدفع الاستهلاكية على حجم ما ينفق فقط، بل اتسع ليطال طبيعة السلع والبضائع، لتنتشر أصناف من السيارات الملتهمة للوقود، التي لا يوجد ضرورة لها، وتتسع صناعات السياحة والترفيه، التي لم يكن حتى جيل الثمانينات يتصور أنها حاجة إنسانية.

وليس ثمة شك في أن أغلب المجتمعات الغربية تعيش منذ عقدين على الأقل فوق مستوى إمكانياتها ومواردها؛ تعيش، بكلمة أخرى، على القروض.


المعروف أن كل الدول الغربية هي دول مدينة، ولكن ما هو أخطر أن دين المجتمعات لا يقل عن دين الدولة. ديون الأسرة الأميركية ارتفعت في المتوسط من 50 بالمائة من الدخل القومي في 1980، إلى 100 بالمائة من الدخل القومي في 2006، أي ما يساوي الدخل القومي السنوي في عام. وهو ما يعني بالضروة أن مستوى استهلاك المجتمع الأميركي وصل في 2006 إلى ضعف دخل الولايات المتحدة القومي.


في 2008، وصل دين المستهلك الأميركي إلى 139 بالمائة من الدخل القابل للتصرف؛ وفي بريطانيا إلى 173 بالمائة. هذه، باختصار، مجتمعات استهلاكية بلا حدود ولا سقف، تقف وراءها مؤسسات مالية فقدت كل رصيد ممكن من الحذر والحكمة؛ وفوق الجميع دول تخلت كلية عن دورها في القيادة والرقابة على النظام المصرفي.


وقد تفاقم حجم هذه الديون، إلى أن وصلت مؤسسات مالية كبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا إلى وضع فقدان السيولة واستحالة استرجاع القروض في المدى المنظور، بعد أن بدأت أسعار العقارات، التي ارتفعت بمعدلات سنوية جنونية (20 بالمائة سنوياً) خلال السنوات القليلة الماضية، في الانهيار التقليدي الذي يتبع كل صعود. ولكن مشكلة الديون/القروض شاملة، ولا تقتصر على أسعار العقارات فحسب.


الخلل الهيكلي في الاقتصاد الأميركي 


يشير الاقتصادي البريطاني جون روس إلى أن أحد أهم عوامل الأزمة المالية الحالية كانت سياسة الحفاظ على قيمة مرتفعة وغير حقيقية للدولار، في ظل تراجع قدرات المنافسة الأميركية الاقتصادية، مقارنة بالاقتصاديات الصاعدة في الصين والهند والبرازيل، وبعض الدول الآسيوية الأخرى.


الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، أصبحت دولة مدينة منذ مطلع الثمانينات؛ ولتمويل العجز الأميركي لابد من استمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية في السوق وفي السندات الحكومية، وهو ما يتطلب الحفاظ على جاذبية الدولار.


ولكن القدرات التنافسية للولايات المتحدة هي في تراجع مستمر؛ ليس بفعل تراجع القدرات الأميركية العلمية والإدارية، ولكن بفعل الانخفاض النسبي لنسبة الاستثمار الأميركي من الدخل القومي في الأصول الإنتاجية الثابتة.


ومن المعلوم هنا أن إعادة الاستثمار المستمرة من الدخل القومي هي أساس النمو الرأسمالي، وكلما ارتفعت نسبة ما يعاد استثماره من الدخل في أصول ثابتة إلى ما يستهلك في منافذ لا مردودات إنتاجية لها، كلما ارتفعت مستويات النمو وحافظ النظام الرأسمالي على استقراره، وتناقصت الفترة الزمنية التي يحتاجها اقتصاد ما لمضاعفة الدخل القومي.


انطلقت الثورة الصناعية في بريطانيا في نهاية القرن الثامن عشر ببطء في وقت كانت بريطانيا تعيد استثمار ما بين 5-7 بالمائة من دخلها القومي.





أحد أهم عوامل الأزمة المالية الحالية كانت سياسة الحفاظ على قيمة مرتفعة وغير حقيقية للدولار، في ظل تراجع قدرات المنافسة الأميركية الاقتصادية
في نهاية القرن التاسع عشر، وصلت نسبة إعادة الاستثمار البريطانية إلى 18-20 بالمائة. ولكن النمو الاقتصادي الأميركي الهائل انطلق منذ منتصف القرن التاسع بإعادة استثمار نسبة ما بين 18-20 بالمائة من الدخل القومي؛ مما سمح للولايات المتحدة باللحاق بالدول الصناعية الأوروبية في مطلع القرن العشرين، ومن ثم التفوق عليها فيما بعد. وقد حافظت بريطانيا وأميركا على هذه النسبة من إعادة الاستثمار طوال القرن العشرين تقريبا، وإلى يومنا هذا.

أما في ألمانيا، وفي ذروة إعادة البناء الألماني في منتصف الستينات من القرن العشرين، فقد وصلت نسبة إعادة الاستثمار إلى 26.6 بالمائة؛ بينما أوصلت اليابان نسبة إعادة الاستثمار في ذروة نموها الاقتصادي في منتصف السبعينات إلى 35 بالمائة، لتأخذ بعد ذلك في الهبوط التدريجي.


بيد أن ما تشهده الصين من طفرة استثمارية هائلة فإنه يمثل مستوى آخر لم يعرفه التاريخ الاقتصادي، وهو الانطلاق بنسبة إعادة استثمار بلغت 35 بالمائة في عام 1990، لتصعد في 2007 إلى 43 بالمائة من دخلها القومي؛ وهي نسبة لم تستطع أية دول أخرى الوصول إليها بعد.


في المقابل، بدأت الولايات المتحدة تظهر عجزاً في الميزانية الفيدرالية منذ مطلع الثمانينات، وهو العجز الذي وصل حدود 6 بالمائة من الدخل القومي، أو 700 مليار دولار في 2006.


وقد كان النجاح في التخلص من العجز في نهاية عهد كلينتون الثاني مؤقتاً، ويرجع في أغلبه إلى التراجع النسبي للإنفاق العسكري نتيجة نهاية الحرب الباردة، وارتفاع الدخل الحكومي من الضرائب، الناجم عن فترة الازدهار الاقتصادي القصيرة وليس لأي اعتبار آخر. وما إن عادت النفقات الفيدرالية (العسكرية على وجه الخصوص، لا الحصر) إلى الارتفاع في عهد إدارة بوش، حتى عاد العجز إلى التراكم مجددا. هذا العجز، يتم تسديده اليوم من الاستثمارات الأجنبية، سيما الاستثمارات الصينية واليابانية واستثمارات الدول النفطية، في سندات الحكومة الأميركية، التي وصلت إلى ما يقترب من 6 بالمائة من الدخل القومي الأميركي، أو 770 مليار دولار، في 2007.


عندما تتراجع القدرات التنافسية لاقتصاد ما، ويأخذ عجز ميزانية الدولة في التراكم، فليس ثمة من وسيلة للتعامل مع هذا العجز سوى هبوط سعر صرف عملته، بما من شأنه أن يقلل من قيمة العجز الفعلية. وليس ثمة دولة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، تستطيع مقاومة قانون السوق هذا. ولكن مشكلة الولايات المتحدة اليوم أنها تواجه دائرة مفرغة.


فالانخفاض المتسارع للدولار خلال العامين الماضيين كان نتيجة حتمية لفقدان القدرة التنافسية وتراكم العجز؛ كما أن انخفاض قيمة الدولار، مصحوباً بانهيار سوق العقارات، قد أطاح بالقيمة الفعلية لموجودات البنوك، وهو السبب الرئيس الذي يقف خلف الأزمة المالية.


ومن ناحية أخرى، فإن انخفاض قيمة الدولار قد يؤدي إلى عزوف المستثمرين الأجانب عن السوق الأميركية، بما في ذلك سندات الحكومة الفيدرالية، مما يساهم في تفاقم من العجز الحكومي. وبقيام الحكومة الفيدرالية باقتراض مئات المليارات لإنقاذ السوق المالية من الانهيار، فإن مشكلة العجز ستتضاعف.


المخرج الوحيد الممكن هو قيام الدول ذات الفائض المالي، مثل الصين واليابان وروسيا والهند ودول النفط العربية، باستثمار واسع النطاق في المؤسسات المالية والعقارية الأميركية التي انخفضت أسعار أسهمها في شكل ملحوظ؛ وهذا يعني ارتفاع نصيب الخارج في السوق الأميركية، وتوكيد التراجع الأميركي عن موقع القيادة للاقتصاد العالمي.


وإذا لم تقم هذه الدول بمثل هذه الخطوة، فإن النتيجة ستكون ذاتها، أي استمرار الأزمة، بسبب التراجع الفعلي المتوقع للاقتصاد الأميركي؛ ولكن الضغوط على المجتمع والدولة الأميركية في هذه الحالة ستكون أكبر بكثير.


التحول في اتجاهات الاستثمار المالي العالمية 


شهد العالم خلال العقدين الماضيين ظاهرة لم يعرفها منذ مطلع العصر الحديث، وهي ظاهرة النمو الاقتصادي المتسارع في عدد كبير من دول العالم خارج نطاق المركز المالي- الاقتصادي على جانبي الأطلسي.





شهد العالم خلال العقدين الماضيين ظاهرة النمو الاقتصادي المتسارع في عدد كبير من دول العالم خارج نطاق المركز المالي- الاقتصادي على جانبي الأطلسي
فإلى جانب الصين والهند وروسيا والبرازيل، هناك دول مثل تركيا، أغلب دول شرق وجنوب شرق آسيا، من ماليزيا إلى فيتنام، إضافة إلى دبي ومصر، أصبحت اقتصادياتها تعرف درجات حيوية مرتفعة، وإن متفاوتة، وتجذب جزءاً كبيراً من الاستثمارات الأجنبية المتوفرة في السوق العالمي، بما في ذلك أموال صناديق الاستثمار الأميركية والأوروبية الغربية.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت حركة المال العالمية في التسارع، كانت دول مثل أميركا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، وإيطاليا، تعتبر الأكثر أماناً لرؤوس المال الباحثة عن مردودات استثمارية.


ولكن الوضع العالمي أخذ في التغير منذ مطلع التسعينات، عندما ساعد التقدم الهائل في وسائل الاتصال، وسعي دول متعددة للنمو وصناعة الرفاه، إلى أن تبدأ رؤوس الأموال في البحث المحموم عن فرص استثمار ذات مردودات عالية.


وربما ساهم صعود الليبرالية الجديدة مساهمة مباشرة في هذا المتغير؛ إذ أن جوهر العقيدة الاقتصادية الجديدة يقوم على تعظيم الأرباح، في أي سوق أتيحت فرصة الربح فيه، وبغض النظر عن المصالح القومية المباشرة.


ولعل الازدهار الهائل، وغير المسبوق، لأسواق المال في مناطق مختلفة من العالم مثل شنغهاي، مومباي، هونغ كونغ، واسطنبول، ومقاسمتها لأسواق المال الغربية التقليدية في لندن ونيويورك وفرانكفورت، تمثل دليلا واضحا على التحول في حركة أموال الاستثمار العالمي.


الذي يعنيه هذا التحول، أن فائض المال العالمي، أي المال المتوفر للاستثمار، لم يعد محصوراً في دائرة الاقتصادات الغربية التقليدية؛ وهو ما ساهم مساهمة مباشرة في انخفاض السيولة المتاحة للمؤسسات المالية الغربية، وإطلاق الأزمة المالية.


إن استمر هذا التحول في هذا الاتجاه، وليس هناك ما يمنع ذلك، فإن فائض المال العالمي المتاح للسوق الأميركية، والأسواق الأوروبية الغربية الأخرى، سيستمر في التراجع لصالح مناطق أخرى من العالم، مما سيولد ضغوطاً إضافية على الاقتصاد الأميركي والاقتصادات الغربية عامة.


الآثار العالمية والإنقاذ 


بالرغم من السيطرة واسعة النطاق لنموذج حرية السوق على الاقتصاد العالمي، فإن دول العالم تتفاوت في مستويات تأثرها بالأزمة العالمية، وفي أسباب هذا التأثر.


الولايات المتحدة، حيث تجلى الإسراف والاستهتار بقوانين الاقتصاد في أسوأ صوره، ستكون الأكثر تأثراً بالأزمة الراهنة، ثم تليها بريطانيا، التي سلكت مؤسساتها المالية سلوكاً مشابهاً لنظيراتها الأميركية، والتي زاد اعتماد اقتصادها منذ نهاية الثمانينات على الخدمات، والخدمات المالية على وجه الخصوص، منها على الإنتاج الصناعي.


كما أن أغلب الدول الأوروبية الأخرى ستتأثر كذلك؛ فأسبانيا وألمانيا، تعانيان بدورهما من تراجع سوق العقارات، وتواجهان مشاكل سيولة نقدية في نظامهما البنكي.


أيسلند، التي نشطت بنوكها في السنوات الأخيرة في السوق الأوروبية، مغرية المودعين بارتفاع مستويات الفائدة، تشهد انهياراً بنكياً شاملاً.


وفي الجملة يمكن القول أن أوروبا ككل ستتأثر أيضاً، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ليس بمناخ الخوف وعدم الثقة فحسب، بل أيضاً بفقدان استثمارات غير محسوبة بعد في انهيار بنك ليمان بروذرز الأميركي، وفي الهبوط الكبير في أسعار الأسهم في سوقي لندن ونيويورك على وجه الخصوص.


أما فيما يتعلق بالاقتصاديات الكبرى الأخرى، لاسيما الصين واليابان والهند والبرازيل وروسيا، واقتصادات دول النفط العربية، فإنها ستتأثر بدرجات متفاوتة، ولكن ليس في أي صورة من صور التأثر الأميركي – الأوروبي.


بعض الخسائر، مثل حالتي الصين واليابان، تعود إلى انهيار مؤسسات مالية أميركية أو الانخفاض الكبير في قيمة أسهم شركات أميركية أخرى. وبما أن هذه الدول، إضافة إلى تركيا، تعتمد في نموها على التصدير أساسا فإنها ستتضرر بدورها.


فبتراجع الاقتصاد العالمي، لاسيما في أميركا وأوروبا الغربية، سيتراجع الطلب على البضائع الأجنبية وعلى النفط، مما سيؤثر على درجات نمو ومداخيل أغلب الدول المصدرة.


البديل عن انخفاض الطلب العالمي هو تشجيع الاستهلاك الداخلي، بما يحمله ذلك  من مخاطر ارتفاع معدلات التضخم، واستخدام بعض فائض السنوات السابقة (أموال الادخار والصناديق السيادية) للحفاظ على مستويات قريبة من مستويات نمو 2007-2008.


ولأن الأزمة كانت عالمية الأبعاد، فإن الإنقاذ أصبح عالمياً. في البداية، اتبع وزير الخزانة الأميركي نهج الليبرالية الجديدة، الذي يقول بعدم التدخل في السوق والسماح للضعيف بالسقوط، لأن سقوط الضعفاء يعزز من القوة التنافسية للسوق (الداروينية الاقتصادية)،  وهذا هو النهج هو الذي أدى إلى انهيار ليمان براذرز.





ما شهده العالم حتى الآن هو محاولة الدول الغربية التعامل مع مخاطر انهيار السوق المالية؛ أما مشكلة الاقتصاد الحقيقي فقد تحتاج عاماً أو عامين قبل أن يتم استيعابها
ولكن النتائج المباشرة لهذه الأزمة كانت فادحة، لأن مشكلة النظام البنكي كانت أكبر بكثير من ليمان بروذرز. ولذا، فقد سارعت الخزانة الأميركية إلى ضخ 700 مليار دولار من الأموال الحكومية في السوق، لتتبعها بريطانيا وكل الدول الغربية الرئيسية تقريباً. ولأن توقف البنوك عن إقراض بعضها البعض كان واحداً من أخطر وجوه الأزمة، فقد قامت الدول الرئيسية، من أميركا إلى الصين، بالتنسيق لتخفيض قيمة الفائدة في يوم واحد، في إجراء عالمي غير مسبوق.

ولكن ما أن اتضح أن هذه الخطوات غير كافية حتى قام فريق رئيس الوزراء البريطاني، بدون انتظار حلفائه في أميركا وأوروبا، بوضع خطة سريعة لتملك الحكومة أنصبة مختلفة في البنوك البريطانية الرئيسية، أي التأميم الجزئي لهذه البنوك.


ولأن أميركا وأغلب الدول الأوروبية الغربية تعاني من عجز متفاوت في ميزانياتها، فإن أموال الإنقاذ هي في حقيقتها قروض حكومية، ترفع من مستويات عجز الميزانيات. ما تقوله الدول لشعوبها أن هذه الأموال سترجع كلها، بل ربما مع بعض الربح، نظراً لأن الحكومات ستبيع أنصبتها في هذه البنوك عندما يخرج النظام المالي من الأزمة ويستعيد توازنه. بيد أن هذا التوقع صحيح على الأرجح في حالة الأموال التي استخدمت في التأميم، ولكن في حالة القروض التي قدمت للمؤسسات المالية، فليس ثمة  ضمانات لاسترجاعها كلها، أو للفترة الزمنية التي سترجع خلالها.


المؤكد أن الاقتصاد العالمي يسير نحو الانكماش وتراجع ملموس في معدلات النمو، وذلك لعدة أسباب، منها: أن المؤسسات المالية ستصبح أكثر حذراً وأقل استعداداً للإقراض. أن العجز المتراكم في ميزانيات أميركا والدول الأوروبية الأخرى، يعني انكماش الإنفاق الحكومي، من ناحية، وارتفاع الضرائب، أو بقائها على ما هي بدون تخفيض، في أفضل الأحوال. من ناحية أخرى؛ فإن خسائر الأسواق المالية هي خسائر لمدخرات قطاعات واسعة من المواطنين؛ كما أن الانخفاض في قيمة عدد كبير من المؤسسات الانتاجية والخدمية، وانهيار سوق العقارات، يعني ارتفاع سريع في معدلات البطالة.


ما شهده العالم حتى الآن هو محاولة الدول الغربية التعامل مع مخاطر انهيار السوق المالية؛ أما مشكلة الاقتصاد الحقيقي فقد تحتاج عاماً أو عامين قبل أن يتم استيعابها.


النتائج الاقتصادية الأبعد 


تمثل هذه الأزمة نهاية الطريق للنظرية الليبرالية الجديدة، التي يمكن القول أن هيمنتها على الاقتصاد العالمي كانت قصيرة العمر إلى حد كبير. بالتحول الجذري في سياسات بريطانيا وأميركا، اللتين مثلتا أساس النظام الاقتصادي الحر، وبتراجع ساركوزي عن وعوده الانتخابية الصاخبة، سيعود العالم إلى نهج أكثر توازناً بين قوى السوق ودور الدولة.


هذا التزاوج بين دوري الدولة والسوق في النظام الرأسمالي هو ما عرف بالنظرية الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني كينز)، التي وظفت لإخراج أميركا والعالم من الركود الكبير في نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات من القرن الماضي.


ولكن ما ينبغي الإشارة إليه أن الكينزية كانت نهجاً لاقتصاد الدولة القومية، بينما أصبح الاقتصاد العالمي خلال العقدين الأخيرين أكثر ترابطاً، أو أكثر عولمة، كما يقول البعض. وفي حين مضى الترابط الاقتصادي العالمي بدرجات متسارعة، ظل التنسيق الحكومي الدولي في مجال الرقابة ضئيلاً، بل هو تراجع عما كان عليه بفعل ضغوط الثقافة الليبرالية الجديدة. وهو ما يعني أن العالم سيذهب ربما نحو كينزية جديدة، كينزية تلائم الطبيعة العالمية للعلاقات الاقتصادية.


ولكن الرأسمالية مع ذلك تظل با قية، على أية حال؛ نظراً لأنه لا يبدو متوفراً خياراً نظرياً مختلفاً أو مطروحاً على نحو واقعي في الوضع الراهن.


النتيجة الأخرى بالغة الأهمية أن قيادة الولايات المتحدة الاقتصادية للعالم ستواجه تحديات كبرى. الخلاف الجوهري بين أزمة 1929-1931 والأزمة الحالية، هوأن أميركا وبريطانيا ودول غرب أوروبا الرئيسية الأخرى كانت تنافس بعضها البعض قبل ثمانين عاماً، ولم يكن لها من منافس جدي واحد خارج الحوض الأطلسي.


أما اليوم، فهناك عدد ملموس من الاقتصاديات المنافسة، التي لم يعاني أي منها خسائر فادحة جراء الأزمة الحالية.


من ناحية ثانية، فإن أغلب الدول الغربية دول مدينة، وستزيد هذه الأزمة من عبء مديونتها.


ولكن المسألة الأهم أن ثقة العالم في الاقتصاديات الغربية، وكذا الهيمنة المعنوية لهذه الاقتصادات، ستتراجع. إن من المشكوك فيه، أن تعود دول الفائض المالي للاستثمار في سندات الخزينة الأميركية، أو حتى في المؤسسات المالية الأميركية، بالطريقة والحجم السابقين.


النتائج السياسية 


واحدة من أبرز الاستنتاجات التي رسبتها الأزمة الجورجية، كانت ظاهرة عودة روسيا إلى السياسة الدولية ودفاعها عن مصالحها الحيوية، بعد سنوات من فقدان الفاعلية والسكوت على سياسة التوسع المطرد للناتو.





تراجع النفوذ المالي والاقتصادي الأميركي هو بالتأكيد عامل آخر يضاف إلى جملة العوامل التي أخذت في التجمع منذ شهور، وتدفع نحو نهاية عصر التفرد الأميركي القصير.
ما أشارت إليه الأزمة الجورجية أن التفرد الأميركي المطلق في الشأن العالمي قد انتهى، وأن النفوذ الأميركي سيأخذ في مواجهة معارضات فعالة على مستوى الدول الرئيسية، بعد أن واجه خلال السنوات القليلة الماضية معارضات على مستوى اللاعبين من غير الدول. ولكن لم يتوقع أحد قبل شهور قليلة أن العالم سيشهد أزمة مالية – اقتصادية بهذا الحجم، تتحمل الولايات المتحدة عبأها الأكبر.

إن تراجع النفوذ المالي والاقتصادي الأميركي هو بالتأكيد عامل آخر يضاف إلى جملة العوامل التي أخذت في التجمع منذ شهور، وتدفع نحو نهاية عصر التفرد الأميركي القصير.


وليس ثمة شك أن هذه الأزمة ستعيد الاعتبار من جديد لنظرية ارتباط انحدار القوى الكبرى بالتوسع المفرط، التي طرحها المؤرخ البريطاني/الأميركي بول كينيدي في نهاية الثمانينات. عندما تصبح تكاليف التوسع أكبر من مردوداته، تبدأ القوة الكبرى في مواجهة مخاطر الانحدار.


ولكن ما غاب عن الكثير من منتقدي (وأنصار) نظرية التوسع المفرط، أن الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية والبريطانية استمرت كقوة كبرى مئات أو عشرات من السنين بعد أن بدأت أعراض توسعها المسرف في الظهور، وهذا ما ينبغي أن يرى في الحالة الأميركية اليوم.


الولايات المتحدة ليست في طريقها إلى الانهيار المالي والاقتصادي، ولكنها بكل تأكيد في طريقها إلى التراجع مثلما تراجعت قوى دولية أخرى من قبلها كانت تسيطر على المسرح العالمي.


تساهم أميركا، وبنسبة لم تتغير منذ عقود قليلة بـ20 بالمائة من الناتج العالمي، تضم أكبر تجمع للعلماء في كافة التخصصات، تصرف أكبر نسبة من الدخل القومي في مجال الأبحاث، وتعتبر نسبة حجم الأرض الزراعية فيها إلى عدد السكان أعلى منها في أية دولة أخرى من دول العالم.


التراجع الأميركي الاقتصادي هو تراجع نسبي، تراجع بالقياس إلى الاقتصادات الكبرى الأخرى في العالم، وهو ما سيؤثر على قيادتها للاقتصاد العالمي، المستمرة منذ منتصف القرن العشرين.


ولكن ما لم تتغير نزعة الاستهلاك المسرف في المجتمع الأميركي، ما لم تتوقف الدولة الأميركية عن التوسع العسكري عبر العالم (الحروب والقواعد)، فإن تراكم الدين القومي وعجز ميزانية الدولة سيستمر في التصاعد.


وفي ظل تراجع القدرات التنافسية الأميركية بالمقارنة مع دول أخرى مثل الصين والهند، فإن معدل تراجع الاقتصاد الأميركي سيتسارع. ما يمكن أن يساهم في تراجع الموقع الاقتصادي الأميركي أن تقوم الصين (ودول النفط العربية) بفك ارتباطها الاستراتيجي بالاقتصاد الأميركي، سواء في الاعتماد على سوق الاستهلاك الأميركية، أو في الاستثمار في السوق والسندات الحكومية الأميركية.


يؤكد التراجع النسبي للقوة والتأثير الأميركيين، اتجاه العالم نحو تعددية مراكز القوى والتأثير، حتى وإن استمرت الولايات المتحدة في احتلال موقع القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية الأكبر. دولة أو أكثر من هذه الدول ستتحالف أو تتعاون في مجال ما أو في مواجهة قضية ما، لفترة قد تطول أو تقصر، ولكن الثابت في كل ذلك لا القيادة الأميركية للمعسكر الغربي ستبقى على ما هي عليه، ولا هناك ما يؤكد على أن الصين وروسيا ستشكلان كتلة ثابتة واحدة.


من المؤكد هنا أن تعددية القوى الرئيسية ستفسح المجال أمام القوى الإقليمية الناهضة، اقتصادياً وسياسياً، وكذلك ستتيح لها القدرة على التجمع والتنسيق سياسياً واقتصادياً فيما بينها. ستصبح القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، أكثر تواضعاً في تعاملها مع الدول الأصغر، لحاجة الأولى إلى تعاون الأخيرة سياسياً واستراتيجياً، وكذلك حاجتها لأسواقها ونفطها وموادها الخام، سيما وأن دول العالم ستتجه نحو التخلي عن الاقتصاد الليبرالي – الجديد (والفلسفة التي أسست لمنظمة التجارة العالمية)، وتصبح أكثر توكيداً على خصوصياتها الاقتصادية.


وبشكل عام يمكن القول أن الولايات المتحدة ستنشغل لسنوات قادمة في معالجة الآثار بعيدة المدى لهذه الأزمة المالية – الاقتصادية، كما ستواجه تحديات أكبر على المستويين السياسي والاستراتيجي، سواء من روسيا والصين، أو من القوى الإقليمية الأصغر، وعليه ستصبح أكثر استعداداً لسلوك النهج التفاوضي والدبلوماسي، ومحاولة حشد الحلفاء والأصدقاء، منها إلى فرض إرادتها بالقوة والإكراه.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات