الوضع العربي والمتغيرات الإقليمية والدولية

تسلم باراك أوباما قيادة أميركا وهي في حالة تدهور في ميزان القوى، قياسا بما كانت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ومن هنا كان لا بد لأوباما وإدارته ومستشاريه أن يسعوا إلى وقف هذا التدهور ويضعوا أميركا على سكة







 

منير شفيق


تسلم الرئيس الأميركي باراك أوباما من سلفه جورج دبليو بوش:



  • وضعا أميركيا متورطا في حربين فاشلتين في العراق وأفغانستان، كما، بصورة غير مباشرة، في حربين فاشلتين شنهما الجيش الإسرائيلي على كل من لبنان 2006 وقطاع غزة 2008 / 2009.
  • أزمة مالية – اقتصادية – أميركية – عالمية فاقت في أبعادها أزمة 1929 – 1932. وتمثل فشلا سياسيا لمشروع الشرق الأوسط الكبير.
  • سوء سمعة أميركية واسعة ضربت حتى في الرأي العام الغربي.

ولهذا كان على أوباما في أثناء حملته الانتخابية، وبعد نجاحه في انتخابات الرئاسة إلا يعد بالتغيير أميركيا وعالميا من دون أن يدرك حجم ما سيواجهه من معوقات وعراقيل، يصل بعضها إلى حد الاستحالة نظرا لصعوبته.


وبكلمة واحدة، تسلم أوباما قيادة الولايات المتحدة ووضعها في حالة تدهور في ميزان القوى قياسا بما كانت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، بما في ذلك مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.


ومن هنا كان لا بد لباراك أوباما وإدارته ومستشاره أن يسعوا إلى وقف هذا التدهور ويضعوا أميركا على سكة التغيير الذي يؤدي إلى استعادة مكانتها في ميزان القوى عالميا وإقليميا (في المنطقة العربية – الإسلامية).


وقف التدهور



الملف الفلسطيني في يدي أوباما وإداراته سجل فشلا خطيرا فيما كانت إدارة بوش في سنتيها الأخيرتين ماضية فيه بقوة (268 جلسة مفاوضات كما صرح صائب عريقات).
فهل حدث هذا، ولو بصورة خاصة في المنطقة العربية-الإسلامية، حيث تم تركيزه على كسب الحرب في أفغانستان وإجراء تسوية في فلسطين وانتزاع البرنامج النووي من إيران إلى جانب التركيز للخروج من الأزمة المالية والركود الاقتصادي؟

أولا:
ما تحقق على مستوى الأزمة المالية اقتصر على وقف نسبي لتفاقمها وكان ذلك من خلال ضخ آلاف البلايين من الدولارات جاءت من حساب دافعي الضرائب وزيادة الدين والمزيد من نهب ثروات عالمية (بأساليب متعددة بما فيها التلاعب بأسعار الدولار والنفط وابتزاز المستثمرين الأجانب السابقين).


أما على مستوى النمو الاقتصادي فما زال المؤشر متذبذبا بين السلب ومعدل نمو مترف. ولكن مع استمرار مؤشر البطالة على حاله بنسبة 10%.


ثانيا:
الوضع العالمي يتسم بحالة فوضى عامة وما زال بعيدا عن إعادة بناء نظام عالمي جديد لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا حتى عسكريا. أما العلاقات فيما بين الدول الكبرى فلم تختلف عما كانت عليه في الثلاث سنوات الأخيرة من عهد بوش الذي مال إلى العودة الخجولة للتعاون مع أوروبا عبر حلف الناتو، كما بدأ في ترميم العلاقات مع كل من روسيا والصين.


فمن جهة واصلت إدارة أوباما التفرد في حل الملف الفلسطيني، وفرض رؤيتها على حلفاء الأطلسي في إدارة الصراع في أفغانستان وباكستان والعراق. ولم تشرك معها الدول الكبرى الأخرى إلا في الموضوع الإيراني باعتماد سياسة بوش التي كانت قائمة على تعاون 5 + 1.


وهنا يمكن أن يسجل لأوباما عقد صفقة غير معلنة روسية – أميركية بالنسبة إلى إلغاء المشروع المضاد للصواريخ في بولندة وتشيكيا مقابل تعاون أكثر في الملف النووي الإيراني. علما أن إدارة بوش سارت في الاتجاه نفسه في السنة الأخيرة من عهدها. ثم يجب أن يضاف ما نشأ من تناقض جديد في عهد أوباما بين أميركا واليابان حول القاعدة العسكرية الأميركية في أوكيناوا.


وبكلمة: الوضع الذي انتهت إليه إدارة أوباما مع الدول الكبرى الأخرى متراوح بين التهميش والتعاون واللاتعاون. وهو ما يجعله أقرب إلى حالة عدم استقرار إن لم تكن فوضى، ولكن الأهم أن يلاحظ أن أميركا لم تستطع خلال سنة 2009 أن تستعيد قيادتها أو أن تغلّب رؤيتها في تأسيس علاقاتها بالدول الكبرى الأخرى.



ثالثا:
1- فشلت إستراتيجية أوباما في تصعيدها للحرب في أفغانستان حتى أصبحت على شفا الانهيار العسكري مما دفعها إلى وضع إستراتيجية جديدة أعلنت فيها بدء الانسحاب في منتصف العام 2011 (قبل الموعد الذي قررته إدارة بوش للانسحاب من العراق)، ولكن مع زيادة القوات (30 ألفا من أميركا وسبعة آلاف من دول حلف الناتو).


2- صعدت التدخل العسكري عبر الطيران في باكستان مع إشعال حرب داخلية بين الجيش الباكستاني وقبائل الباشتون الباكستانية. وكانت النتيجة كما ظهرت خلال الشهرين الأخيرين من عام 2009 فشلا ذريعا لإدارة أوباما في باكستان.


الأمر الذي سيترك آثاره في زيادة الفشل في أفغانستان، فقد أعلن وقف القتال ضد وزيرستان وأصبح الرئيس الباكستاني علي آصف زرداي مهددا بالسقوط. وفقدت إدارة أوباما السيطرة على مجريات الوضع الباكستاني إلى جانب اشتداد العداء الشعبي لأميركا وأوباما شخصيا.


3- مجموع الحراك السياسي الأميركي في العراق اتسم بالتخبط والتقلب في التعاطي مع الأطراف العراقية المختلفة، فها هنا أيضا حالة فشل أميركي عرفها العام 2009.


4- في الملف الفلسطيني الذي وضعه أوباما على رأس أولوياته وجاء بجورج ميتشيل ليتولاه انتهى إلى انهيار في تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع التسوية. وذلك حين اضطرت إدارة أوباما للتراجع عن اشتراط وقف النمو الاستيطاني كليا مقابل إطلاق المفاوضات والتدرج في خطوات تطبيعية عربية. وقد تبنت الآن مشروع نتانياهو في موضوع الاستيطان وبدء المفاوضات مما دفع الرئيس محمود عباس إلى الإعلان عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة وعن خيبة أمل من إدارة أوباما.


فالملف الفلسطيني في يدي أوباما وإداراته سجل فشلا خطيرا فيما كانت إدارة بوش في سنتيها الأخيرتين ماضية فيه بقوة (268 جلسة مفاوضات كما صرح صائب عريقات).


5- تشكل حكومة الوحدة الوطنية في لبنان يعتبر فشلا لإدارة أوباما وحكومة نتانياهو.


6- فوجئت إدارة أوباما ومجموعة 5 + 1 وهما تتهيئان للضغط على إيران ومحاصرتها بإبداء طهران استعدادها لمبادلة اليورانيوم المخصب بنسبة 3.5 % بكمية من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% للأغراض العلمية. وهكذا انتهى العام 2009 بمناقشة الاقتراح الإيراني والتجاذب حول شروطه. مما يسمح بالقول أن إدارة أوباما كانت اقرب للفشل في هذا الملف أيضا حين لم تحقق ما هدفت إليه.


ولكن فشلها هنا لم يكن بمستوى فشلها في الملفات الأخرى. ولعل السبب يرجع إلى تعاونها مع 5 + 1 فيما فشلها في الملفات الأخرى جاء من خلال تفردها في التقرير والتحرك فيها.


وهنا يمكن أن يسجل على أوباما وإدارته ومستشاريه خلل واضح في تقدير الموقف ورسم السياسات، وإلا مثلا، ما تفسير فشل مشروع ميتشيل الخاص بإطلاق المفاوضات مع وقف النمو الاستيطاني كليا؟


فالتقدير هنا قام على خطأ في توقع رد نتانياهو. وكذلك في تقدير مدى قدرة أوباما على فرضه، ثم الخطأ في تقدير مدى احتمال الرئيس الفلسطيني للتراجع بعد رفع سقفه إلى السقف الأميركي لبدء المفاوضات. وهذا ما حدث أيضا عندما وضعت إدارة أوباما إستراتيجيتها في كل من أفغانستان وباكستان.


ميزان القوى الجديد
استمر اختلال ميزان القوى عالميا في غير مصلحة أميركا، سواء كان على مستوى الأزمة المالية – الاقتصادية برغم "التحسن" الطفيف من حيث تتالي الارتدادات "التسونامية"، كما على مستوى موقع أميركا فيما بين الدول الكبرى.


ثم أضف تأزم وضع إدارة أوباما مع أميركا اللاتينية بعد انقلاب هندوراس. والضربة التي تلقتها من خلال نتائج الانتخابات البوليفية في الرئاسة وفي مجلس الشيوخ والنواب.


على أن الاختلال في ميزان القوى في غير مصلحة أميركا، والكيان الصهيوني كان الأكثر بروزا على مستوى المنطقة العربية-الإسلامية، كما لاحظنا مسلسلا من الإخفاقات الأميركية في أفغانستان وباكستان وفلسطين والعراق ولبنان وإيران.


ولهذا أصبح هناك شبه إجماع يشير إلى حدوث نوع من الفراغ بسبب مسلسل الإخفاقات الأمريكية من جهة، وبسبب فشل الجيش الإسرائيلي في حربه على لبنان 2006 وقطاع غزة 2008/2009 من جهة أخرى، إلى جانب التداعيات المتمثلة بموقف الرأي العام مما ارتكبه الجيش الإسرائيلي من جرائم حرب وإبادة بشرية.


هذا الفراغ الناجم عن الخلل الحادث في ميزان القوى في المنطقة في غير مصلحة أمريكا وإسرائيل يفسر ما حدث من تعاظم أدوار كل من تركيا وسوريا وإيران وتراجع لأدوار الدول العربية والقوى السياسية التي راهنت على السياسات الأميركية في عهدي بوش وأوباما.


فقد حدث الاختراق التركي السوري بعقد الاتفاق الإستراتيجي بينهما، وحدث الاختراق التركي-الإيراني فيما قام بينهما من علاقات وتفاهمات، وكذلك الاختراق السوري-السعودي الذي نجم عنه اختراق لبناني في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وأضف بداية الاختراق في دارفور عبر مفاوضات الدوحة.


أما على المستوى الفلسطيني فقد أصبح الوضع ناضجا باتجاه حدوث اختراق في قضية الوحدة الوطنية لمصلحة إستراتيجية المقاومة، ولا يعوقه سوى السياسة المصرية التي ما زالت تصر عل





ى مواصلة السياسة السابقة. كما أخذ ينضج إمكان حدوث اختراق في قضية الأسير شاليط وتبادل الأسرى.

الوضع العربي:



عندما يفشل الجيش الإسرائيلي في حربي لبنان 2006 وقطاع غزة 2008/2009، ويعجز عن الثأر فإن حكومة الكيان تكون ضعيفة لأن قوة الكيان كله قامت على الجيش والدعم الخارجي
هنا تتكشف نقاط الضعف في الوضع العربي الرسمي عموما حيث راحت موازين القوى توفر إمكانية تعاظم الدور العربي إلى جانب الدورين التركي والإيراني اللذان راحا يسعيان لملأ الفراغ ومعهما سوريا، فيما يقف الوضع العربي عموما في حالة شلل عدا الانزياح البسيط الذي أقدمت عليه السعودية في علاقتها بسوريا بالنسبة إلى الموضوع اللبناني.

عندما يحدث فراغ في ميزان القوى لا يحتمل أن يبقى هناك فراغ، حيث يغري هذا الوضع لاعبين جددا لملئه وإلا حلت الفوضى حتى يمتلئ.


إن نقطة الخلل الأساسية في الوضع العربي الرسمي عبرت عن المواقف التي تحكمت في سياسات الدول العربية إزاء العدوان على قطاع غزة، كما عبر عن ذلك مثلا الموقف من عقد القمة العربية الطارئة. فالدول التي رفضت عقد القمة الطارئة هي نفسها الآن (ولا سيما مصر أساسا والسعودية إلى حد أقل) التي ما زالت محجمة عن دفع الدور العربي ليأخذ مكانه في ظل توازن القوى الجديد.


إن الاختراق الذي أحدثه التفاهم السوري السعودي في الموضوع اللبناني يعطي مؤشرا كم سيكون الموقف العربي قويا ومؤثرا لو حدث انزياح في سياسات المرحلة السابقة التي عقبت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول وما استتبعته من هجمة أمريكية على المنطقة العربية الإسلامية، فالانحناء أمام الهجمة الأميركية التي استهدفت أفغانستان وفلسطين (هجوم شارون في ربيع 2002 على إعادة احتلال مناطق أ) والعراق 2003 ولبنان 2006 وقطاع غزة 2008/2009 والسودان والصومال (الاحتلال الإثيوبي)، كما استهدفت مناهج التعليم والجمعيات الخيرية الإسلامية كان (هذا الانحناء) إلى جانب ما تلاه من رهان على السياسات الأمريكية، قد أوصل الوضع العربي الرسمي عموما كما عبرت عن ذلك مواقف الجامعة العربية وأمانتها العامة إلى هذا الشلل إزاء الإفادة من المتغيرات التي حدثت في ميزان القوى.


وهنا يجب أن يلحظ أن الدول والقوى التي استجابت للضغوط الأميركية أو راهنت على نجاح السياسات الأميركية دخلت في أزمات عميقة مع شعوبها وصل بعضها إلى التصدع الداخلي والانقسامات الحادة، فيما الدول والقوى التي قاومت أو مانعت إلى هذا الحد أو ذاك السياسات الأميركية خصوصا في حروب العراق ولبنان وفلسطين راحت تتمتع بأوضاع داخلية أقوى "نسبيا وعلى تفاوت بالطبع".


وهي أيضا التي يمكنها في هذه الظروف أن تسهم في إحداث اختراقات على مستوى الوحدة الوطنية الفلسطينية وتكريس خط المقاومة والممانعة، كما على مستوى العراق والسودان واليمن والصومال، بل على مستوى إيجاد موقع عربي فاعل في الترتيبات العالمية القادمة، بما فيها إنجاح جولة الدوحة في مصلحة دول العالم الثالث كما في تقوية الموقف الإنساني من قضايا المناخ والبيئة وإقامة نظام اقتصادي وسياسي عالمي أكثر عدالة وتوازن.


ملحوظة: حول حكومة ناتنياهو
في الظاهر تبدو حكومة ناتنياهو قوية وهي تفرض على إدارة أوباما تراجعا مذلا في المشروع الذي حمله جورج ميتشل وتظهر متغطرسة وهي تمعن في الاستيطان وتهويد القدس وإطلاق التصريحات العنترية ولكنها في الواقع ضعيفة وربما أضعف حكومة في الكيان الصهيوني.


1- عندما تضعف أميركا في ميزان القوى عالميا وإقليميا تضعف أي حكومة إسرائيلية بالضرورة بما فيها حكومة ناتنياهو الحالية.   


2- عندما يفشل ناتنياهو مشروع ميتشل ويفرض على أميركا التراجع لا يكون قد أصبح أقوى بل تكون العلاقات في أزمة وكذلك مع الأوروبيين حتى لو لم تخرج الأزمة إلى تراشق بالتصريحات وهذا يجب أن يحسب ضعفا بالنسبة لحكومة ناتنياهو. 


3- عندما ينقلب الرأي العام خصوصا من التعاطف بارتكاب جرائم حرب وترفع قضايا ضد العسكريين والسياسيين لا تكون حكومة ناتنياهو معه قوية بل ضعيفة جدا. 


4- عندما يفشل الجيش الإسرائيلي في حربي لبنان 2006 وقطاع غزة 2008/2009، ويعجز عن الثأر فإن حكومة الكيان تكون ضعيفة لأن قوة الكيان كله قامت على الجيش والدعم الخارجي، ولهذا يجب أن تفسر المواقف الإسرائيلية في إطار هذا الضعف كما تفسر بعض المواقف الأميركية والأوروبية باعتبارها خوفا عليها أو انطلاقا من تقدير هشاشة وضعها.
_______________
باحث إستراتيجي