موقف روسيا من إيران في ظل النهج الأميركي الجديد

طرأت على الوضع المحيط بإيران في الأسابيع الأخيرة تغيرات ملموسة. ويرتبط ذلك بالدرجة الأولى بالتحولات التي شهدها نهج السياسة الخارجية الأمريكية على يدي أوباما، وكذلك بالتطورات في الشأن الداخلي الإيراني، وبالتغيرات الهامة التي جرت في العلاقات الروسية الأمريكية.







 

فيتالي ناؤمكين


طرأت على الوضع المحيط بإيران في الأسابيع الأخيرة تغيرات ملموسة. ويرتبط ذلك بالدرجة الأولى بالتحولات التي شهدها نهج السياسة الخارجية الأميركية على يدي أوباما، وكذلك بالتطورات في الشأن الداخلي الإيراني، وبالتغيرات الهامة التي جرت في العلاقات الروسية الأمريكية.


إستراتيجية التفاوض المفتوح



حتى وقت قريب كان يبدو إبقاء الإيرانيين على مستوى توتر عال، ولكن متحكم فيه، قد يساعد على تحقيق التراص الشعبي في العلاقات مع الغرب.
ولن أكرر هنا التقديرات المعروفة جيدا لسياسة أوباما الخارجية وسأكتفي فقط بالإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي لم يخرج بعد في علاقاته مع إيران عن إطار ما يمكن اعتباره "إستراتيجية التفاوض المفتوح" التي تبناها في التعامل مع كثيرين، وليس مع كل "المنبوذين" الذين أنكر عليهم بوش في السابق الحق في الحوار.


وبنفس الطريقة فيما يتعلق بروسيا فقد أبدى أوباما استعداده للتعاون معها بمراعاة مصالحها، لكنه لم يتخل عن المفهوم المزعج للكثيرين حول الدور الزعامي للولايات المتحدة في العالم، وإن كان -والحق يقال- بصورة مخففة بعض الشيء.


لكن مع ذلك بقيت مكافحة انتشار الأسلحة النووية والتقنيات الصاروخية أحد الأهداف البالغة الأهمية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية. ورغم فشل كلتا الإدارتين الأمريكيتين السابقة والحالية في منع ظهور دولة نووية-عسكرية رابعة غير معترف بها وهي كوريا الشمالية، فإن الإدارة الأمريكية لم تضف إلى سياسة الهراوة الغليظة والجزرة الصغيرة السابقة التي انتهجتها إدارة بوش السابقة والتي أثبتت فشلها -بخلاف إستراتيجية التفاوض المفتوح- سوى النهج الرامي إلى جذب أكبر عدد من الحلفاء والشركاء.


وأيا كانت الدواعي الحقيقية للتخلي عن نشر الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا، فقد استهدف ذلك إزالة مخاوف موسكو وحثها على المزيد من التعاون الوثيق مع واشنطن حول الملف الإيراني. علما بأنه لم تكن بين الطرفين أي صفقة من تلك التي أشارت إليها بعض وسائل الإعلام.


وكما هو معروف، فقد أعلن أوباما منذ البداية عن استعداده للحديث مع إيران. ولكن الأحداث التي وقعت في إيران خلال الانتخابات الرئاسية وبعدها قد عرقلت هذه السياسة وساعدت في آن واحد على تنفيذ سياسة اجتذاب إيران، وفعلا عرقلت الانتخابات مسار الحديث مع إيران لأنها أظهرت أن النظام الإيراني ليس كتلة واحدة على عكس ما يرى معظم المحللين، وساعدت على جذب الإيرانيين لأنها جعلت أحمدي نجاد أكثر ميلا للتفاهم من ذي قبل. فلماذا؟


لم يستهدف الطابع السلمي للبرنامج النووي لإيران فقط تحقيق مهام عملية تتعلق بمكانتها في مجال إقامة مجمع طاقة نووي (ما يسمح بالاقتصاد في استهلاك الموارد الهيدروكربونية) وبرفع المستوى التكنولوجي للصناعة الإيرانية، وكذا بلوغ مركز دولي أعلى، وتوفير الأسس التكنولوجية لصنع الأسلحة النووية في أسرع وقت ممكن فيما لو اتخذ القرار السياسي المناسب بشأن ذلك، وربما فعلا تكون إيران قد وضعت كل هذه المهام نصب عينيها، إلا أن البرنامج النووي قد هدف أكثر من ذلك إلى رص صفوف الإيرانيين الذين وحدتهم فعلا فكرة الدفاع عن حقهم في امتلاك برنامجهم النووي السلمي.


التغير الإيراني
ويبدو النظام الإيراني بحاجة ماسة إلى هذا التراص لأسباب عديدة: فهناك أعداد غفيرة من الإيرانيين الذين يعيشون خارج إيران تنظر الغالبية منهم نظرة انتقادية إلى النموذج الإسلامي للدولة الإيرانية، وهناك التعدد الإثني للسكان، وهناك المشاكل الاقتصادية، والخلافات داخل صفوف النخبة الدينية-العسكرية البيروقراطية الحاكمة حول سبل تنمية البلاد، إلا أن فكرة البرنامج النووي السلمي توحد مع ذلك سائر هذه القوى والاتجاهات وتجعلها تلتف على نحو أو آخر حول النظام الإيراني.





لا تثق موسكو في فعالية أي عقوبات اقتصادية وسياسية على إيران، ربما، وفي أقصى الحالات، إذا ما عادت إيران للتنازع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ستشارك روسيا، كما سبق أن حدث، في عقوبات لينة وغير موجعة لإيران.
وحتى وقت قريب كان يبدو إبقاء الإيرانيين على مستوى توتر عال، ولكن متحكم فيه، قد يساعد على تحقيق التراص الشعبي في العلاقات مع الغرب. وقد أثارت تصريحات أحمدي نجاد الصاخبة، من نوع حتمية زوال إسرائيل، وإنكار المحرقة، انتقادات حادة من قبل الغرب؛ ولكنها مع ذلك ساعدت في الداخل الإيراني على مواصلة تأييد الشعب للنظام الحاكم الذي بدا في دور المدافع الوحيد تقريبا في العالم الإسلامي عن المصالح الجذرية للشعوب الإسلامية، إلا أن الخطاب المتحدي للرئيس الإيراني لم يَرُقْ أيضا لموسكو.

بيد أن الأحداث التي وقعت في إيران عشية الانتخابات وما أعقبها قد حولت الموقف الإيراني، فقد بات واضحا أنه لا المواجهة مع الغرب ولا العامل النووي، يكفلان تراص الشعب حول النظام بالدرجة الكافية، ولا يعطيانه تلك المصداقية التي كان يأمل فيها. لقد أظهرت الأحداث أن في إيران قطاعا كبيرا نسبيا من السكان -معظمهم في سن الشباب- ساخطا على هذا "التأرجح" المستمر في التوتر مع الغرب، وهم يرغبون إلى جانب ذلك وبشكل واضح في التغيير السياسي والاجتماعي. كما أبدى الشباب –الذي لا يستبعد أن يكون هناك من كان يحركه بمهارة في الخارج- أنه لم يعد معجبا بشعارات الرئيس الوطنية الجذرية.


أما الحدث الأكثر وزنا فهو وقوع انشقاق خطير في صفوف القيادة الدينية الشيعية العليا التي أعلن قطاع منها عن عدم ثقته في مجلس القيادة، ولا ننسى أن نظام ولاية الفقيه في إيران قائم على المرجعية المطلقة لهذا المجلس.


هذا، ومن الواضح أن الرئيس مضطر إلى تغيير الإستراتيجية، معترِفا بحقيقة أن الآليات السابقة التي اتبعها لضمان رص الصفوف الداخلية (التي أصبحت الحاجة إليها أشد اليوم من ذي قبل) لم تعد تعمل على النحو المأمول، لذلك يبدو أنه ينوي تغيير هيكلية المحيط الخارجي لإيران متخليا عن النهج الصدامي السابق. وأعتقد أن علينا أن ننظر من هذا المنظور إلى موافقة إيران على تفقد المفتشين الدوليين لمنشآتها الخاصة بتخصيب اليورانيوم، بما في ذلك المصنع الاحتياطي الجديد قرب مدينة قم، وكذلك موافقتها -التي تسرع الصحفيون باعتبارها مثيرة- على تقييد درجة التخصيب مع مواصلة دورة تخصيب اليورانيوم في الخارج إلى الحد الذي لا يسمح باستخدامه كشحنة حربية.


وهذا في واقع الأمر ما سبق أن اقترحته روسيا التي لا ترغب في التخلي عن سوق الطاقة النووية الإيراني الواعد، كما أن روسيا "لن تسلم" إيران للغرب بل على العكس من ذلك، فإذا ما حدث تطبيع علاقات إيران بالغرب ستزداد المنافسة حدة على الأسواق الإيرانية الغنية والواسعة، وسينضم إليها لاعبون جدد.


لا صفقة روسية على حساب إيران
وبالنسبة لتعاون روسيا مع الغرب بخصوص الدرع الصاروخية: صحيح أن إعادة أوباما النظر في قرار بوش حول منطقة التموضع الثالثة للدرع الصاروخية في شرق أوربا لم تلق الرضا من جانب موسكو فحسب، بل حثتها على الموافقة على مزيد التعاون في إقامة درع صاروخية مشتركة جديدة مع واشنطن، ولكن موسكو لم تتراجع، مثلا، عن موافقتها المبدئية على تزويد إيران بمجمعات الصواريخ المضادة للطائرات من طرازс-300، وهي قضية كبرى وحساسة بالنسبة للأمريكيين. وما حدث إلى حد الآن هو عدم تنفيذ الصفقة، ولكن موسكو مع ذلك تنطلق من قناعة أنها في حال إتمام هذه الصفقة لا تخل بأي التزام من التزاماتها الدولية.


وفي تقديري أن استمرار عملية التطبيع بين إيران والغرب ستساعد على تنفيذ هذه الصفقة، خاصة وأن الغرب في كل الأحوال لن يَقْدِم في المستقبل القريب على استئناف التعاون العسكري مع إيران، لأن القضية تتمثل إضافة إلى ما سبق في أن ما يقلق الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، ليس البرنامج النووي الإيراني، خاصة وأنه لا توجد بعد أسس لاتهامها بالتصميم على صنع السلاح النووي، وهو الأمر الذي تعترف به الوكالات الأمريكية، بل إن الأمر الرئيسي المثير لانزعاج واشنطن هو سياسة إيران الشرق أوسطية، وهو ما سيجري بحثه لا محالة في الاتصالات الأمريكية الإيرانية إذا استمرت مستقبلا.





الأمر الرئيسي المثير لانزعاج واشنطن هو سياسة إيران الشرق أوسطية، وهو ما سيجري بحثه لا محالة في الاتصالات الأمريكية الإيرانية إذا استمرت مستقبلا.
وهنا تتساءل موسكو: هل سيكون بوسع إيران أن تقدم تنازلات في هذه المسالة؟ وتجيب: هذا بعيد الاحتمال. ولكن الواضح أن إيران في إطار نهجها الجديد، ستحاول تحسين علاقاتها بجيرانها الخليجيين.

ويبقى السؤال المطروح هنا ماذا لو أن عملية التقارب التي بدأت بين إيران والغرب دخلت طريقا مسدودا وسارت الأمور نحو فرض عقوبات جديدة؟ هل ستؤيد موسكو واشنطن عندئذ في هذه العقوبات، أخذا في الاعتبار الوضع الجديد للعلاقات الروسية الأمريكية؟


اعتقد أن هذه الفرص ضئيلة لاعتبارات كثيرة تخص السياسة الروسية في المنطقة. على أي حال لقد سبق لموسكو أن أعلنت موقفها المبدئي الصلب الرافض لاستخدام القوة تحت أي ظروف من الظروف، ولا أعتقد أن هناك ما يرغمها اليوم على الموافقة على العقوبات الاقتصادية القاسية مثل مقاطعة شراء النفط الإيراني أو توريد البنزين إلى إيران.


وعموما لا تثق موسكو في فعالية أي عقوبات اقتصادية وسياسية، ربما، وفي أقصى الحالات، إذا ما عادت إيران للتنازع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ستشارك روسيا، كما سبق أن حدث، في عقوبات لينة وغير موجعة لإيران. ولكنها ستسعى في هذه الحالة إلى تقليل المخاطرة بتدهور العلاقات مع إيران، كما ستراعي موقف الصين. وستواصل موسكو نهج التعاون والضغوط الدبلوماسية على طهران لحفزها على اتباع سياسة واقعية مسئولة.
_______________
مدير معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية