كان انعقاد المؤتمر السنوي للحزب الوطني الحاكم بمصر في مطلع هذا الشهر (نوفمبر/ تشرين ثاني) مناسبة لتصاعد الجدل من جديد حول مسألة توريث الحكم. المؤتمر السنوي للحزب هو في أصله مشروع السيد جمال مبارك، الابن الثاني للرئيس حسني مبارك، نائب الأمين العام للحزب، والمتصرف الأبرز في شؤونه من خلال لجنة السياسات التي يقودها، وحيث يحتشد العشرات من رجال الأعمال والأكاديميين والكتاب المؤيدين له. وقد أصبح مؤتمر الحزب السنوي، على أية حال، مناسبة لتوكيد دور جمال مبارك الكبير في الحزب، ومؤسسة الحكم، والحياة السياسية المصرية.
أصبح مؤتمر الحزب السنوي، على أية حال، مناسبة لتوكيد دور جمال مبارك الكبير في الحزب، ومؤسسة الحكم، والحياة السياسية المصرية. |
حسم قرار التوريث
سيناريو غير مكتمل
ما بعد التوريث
بالإمكان التوكيد على أن الرئيس مبارك، وبعد تردد طويل، عقد عزمه على توريث الحكم لابنه. ثمة مصادر وثيقة الصلة بدوائر الحكم المصري تؤكد هذا التوجه. الجدل المتصاعد حول المسألة هو، على نحو ما، انعكاس لهذا التطور؛ كما أن هناك مؤشرات أخرى. خلال الفترة الأخيرة، سيما منذ الوعكة التي ألمت بالرئيس بعد وفاة حفيده في مطلع العام، أصبح جمال مبارك صاحب القرار الرئيس في الشأن الداخلي، وبات المتحكم في جدول لقاءات والده، من يقابل ومن لا يقابل، ولماذا يلتقي هذه الشخص أو هذه الهيئة دون غيرها. وللمرة الأولى منذ طرحت مسألة التوريث، أوكلت للابن ملفات ذات علاقة بالسياسة الخارجية، بما في ذلك مصاحبته لوالده في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة.
رئيس الوزراء المصري، أحمد نظيف، أحد حلفاء مبارك الابن الرئيسيين، أشار بوضوح في حديث له سبق انعقاد مؤتمر الحزب أن جمال مبارك يمكن أن يكون مرشحاً للرئاسة، إن قرر الرئيس مبارك عدم الترشح في انتخابات الرئاسة القادمة، المقررة في 2011. وفي كلمته أمام مؤتمر الحزب، قال الرئيس مبارك أن المؤسسات وليس الأشخاص هي الأمر المهم، في استبطان لاحتمال تقاعده من منصبه وتوكيده على أن الحزب الوطني يدار من قبل مؤسسات وليس أشخاص. وقد تصرف جمال مبارك بالفعل خلال جلسات مؤتمر الحزب، وفي اللقاء الصحافي الاختتامي، باعتباره رئيساً في وضع انتظار.
ويعتقد أن التراجعات المستمرة في السياسة الخارجية المصرية أمام واشنطن، بما في ذلك التراجع مؤخراً عن المطالبة بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية قبل انطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ترتبط بحرص الحكم المصري على استرضاء الإدارة الأميركية وضمان موقفها المؤيد (أو غير المعارض، على الأقل) لمسألة التوريث.
جمال مبارك (رويترز-أرشيف) |
ينقسم الرأي العام المصري في موقفه من جمال مبارك بين المعارضة، بدرجاتها المختلفة، وعدم الاكتراث. ويعتقد أن المؤسستين العسكرية والأمنية لا ترغبان في رؤية الابن يخلف أباه، وهذا ما يفسر إحجام كل من وزير الدفاع حسين طنطاوي ورئيس المخابرات عمر سليمان، عن الانخراط في مشهد التمهيد لرئاسة جمال. ولذا، فإن الرئيس مبارك يعتمد في التمهيد لابنه على كل من وزير الداخلية، الحبيب العدلي، رئيس الحزب الوطني وأحد دهاة مؤسسة الحكم، صفوت الشريف، ورئيس مجلس الشعب، أحمد فتحي سرور. ولأن الاعتقاد السائد أن الجيش المصري ليس جيشاً انقلابياً، وسينصاع لإرادة مؤسسة الدولة المدنية، فإن عملية التمهيد لرئاسة مبارك لا تشمل المؤسسة العسكرية، على الأقل حتى الآن. ويعتقد أيضاً لا طنطاوي ولا سليمان يرغبان في منصب الرئاسة؛ كل منهما قد تجاوز السبعين من العمر، وطنطاوي، الذي هو في موقع أقوى بكثير، يعاني من متاعب صحية.
ما لم يحسم بعد هو ما إن كان الرئيس مبارك سيعلن قبل شهور من موعد انتخابات 2011 الرئاسية قراره بعدم الترشح، ويفسح المجال لعقد انتخابات يكون ابنه فيها المرشح الأساسي، أو أنه سيجدد لنفسه، ويقرر بعد عام أو عامين من فترة الرئاسة القادمة التنحي لأسباب صحية، وتعقد بالتالي انتخابات رئاسية مبكرة تجيء بالابن إلى مقعد رئاسة الجمهورية. أنصار الخيار الثاني من الدائرة المقربة للرئيس يقولون بأن الأجواء ليست جاهزة بعد لقدوم الابن، وأن الأمر يتطلب عدة سنوات أخرى، قبل أن يطمئن مبارك إلى أن انتقال السلطة سيكون سلساً وأن موقع الابن في الرئاسة سيكون مؤمناً.
الأمر الذي لم يوضع في الحساب هو الوفاة المفاجئة للرئيس مبارك وهو لم يزل في منصبه، أي قبل أن يشرع في التوريث. في مثل هذا الوضع فالأرجح أن يجهض مشروع التوريث كلية، وأن يكون الرئيس القادم هو من تقرره القيادة العسكرية، سواء كان وزير الدفاع/ قائد الجيش أو، إن لم يرغب الأخير في المنصب، من يتفق عليه قادة المؤسسة العسكرية. غياب الرئيس مبارك، سيترك الابن لقدره؛ وجمال مبارك ليس شخصية محبوبة في أوساط الدولة والحكم، ولا يتمتع بأي دعم شعبي، ويجد معارضة صارخة من كافة القوى السياسية، وتعج دائرته الصغيرة برجال الأعمال، مما يجعل توليه منصب الرئاسة شأناً محفوفاً بالمخاطر. غياب والده، باختصار، سيتركه مكشوفاً، ويعيد موازين القوى في البلاد إلى وضعها التقليدي، حيث تتمتع المؤسسة العسكرية بالكفة الراجحة.
الجهة الوحيدة في الدولة القادرة على إيقاف سيناريو التوريث هي المؤسسة العسكرية. والقوة السياسية الوحيدة القادرة على إطلاق وقيادة حركة شعبية ضد حكم جمال مبارك هي الإخوان المسلمون. |
ثمة آراء يروج لها في أوساط جمال مبارك تدعوه إلى نزع السمة العسكرية كلية عن الحكم في حال توليه الرئاسة، بمعنى إلغاء التقليد الجمهوري القاضي بأن يأتي وزير الداخلية من بين كبار ضباط الشرطة ووزير الدفاع من بين كبار ضباط الجيش. في حال تولي جمال مبارك الحكم وتنفيذه مثل هذه السياسة، فمن المتوقع أن تتصاعد المعارضة لحكمه في أوساط المؤسستين العسكرية والأمنية؛ وأن تصبح المؤسستان أكثر رغبة في معارضته، وأقل استعداداً لقمع تحرك شعبي وسياسي معارض له. الجهة الوحيدة في الدولة القادرة على إيقاف سيناريو التوريث هي المؤسسة العسكرية. والقوة السياسية الوحيدة القادرة على إطلاق وقيادة حركة شعبية ضد حكم جمال مبارك هي الإخوان المسلمون، وهذا ما يفسر الحملات الأمنية المتتالية على الإخوان. بيد أنه من غير الواضح ما إن كان لدى الإخوان تصور ما لقيادة حركة شعبية معارضة لمشروع التوريث، أو لحكم جمال مبارك في حال توليه الرئاسة.
على كل الأحوال، يعني تحقق سيناريو التوريث أن مبارك الابن سيقود رئاسة ضعيفة خلال الفترة الأولى من حكمه، سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد المصالح الاستراتيجية والسياسة الخارجية. ما إن كان مثل هذا الضعف الداخلي والتهاون في المصالح الكبرى للبلاد سيؤدي في النهاية إلى إطاحته، أو أنه سيتعلم سريعاً كيف يعزز من سلطاته ويعيد سيرة رؤساء الجمهورية الأقوياء، أمر يصعب توقعه.