الاستفتاء التركي على التعديلات الدستورية ودلالاته

التصويت بنعم على التعديلات الدستورية بتركيا وسّع أكثر من صلاحيات الهيئات المنتخبة على حساب الهيئات التي تستمد شرعيتها من الحفاظ على الموروث الأتاتوركي، وسيفتح الطريق لتعديلات أكبر في هذا الاتجاه، ويزيد من نفوذ حزب العدالة و التنمية.
4c235422b9464837ae0e855836474d7f_18.jpg
الاستفتاء التركي على التعديلات الدستورية ودلالاته (الجزيرة)

تستهدف هذه الورقة قراءة التعديلات الدستورية، وأهميتها، وطبيعة الحملة الانتخابية التي سبقت التصويت عليها. كما ستقرأ الدلالات التي يحملها إقرار حزمة التعديلات على الشأن السياسي التركي.

مركز الجزيرة للدراسات

استُفتِي الأتراك يوم الأحد 12 سبتمبر/أيلول على حزمة كبيرة من التعديلات الدستورية، التي كانت حكومة العدالة والتنمية قد طرحتها للتصويت في البرلمان بدون أن تنجح في تمريرها بأغلبية الثلثين، وإن حصلت على أغلبية كافية لعرضها على استفتاء شعبي. إلا أن حزب الشعب الجمهوري الحاكم تقدم للمحكمة الدستورية باعتراض على التعديلات، ولكن المحكمة أقرت عرضها على الاستفتاء بعد تغييرات طفيفة في صيغة عدد محدود من مواد الحزمة.

طبقًا للأرقام الرسمية، شارك في الاستفتاء زهاء 78 بالمائة ممن يحق لهم التصويت؛ وهي نسبة عالية بالفعل، إن وُضِع في الاعتبار أن الاستفتاء أُجري أثناء إجازة عيد الفطر. وقد صوَّت 58 بالمائة لصالح التعديلات، بينما كانت نسبة المعترضين 42 بالمائة؛ بذلك تكون حكومة العدالة والتنمية قد حققت أكبر تعديل للدستور الذي وضعته حكومة الانقلاب العسكري في مطلع الثمانينيات، واعتُبِر دائمًا أكبر عقبات التطور الديمقراطي في البلاد، والأساس القانوني الصلب لسيطرة بيروقراطية الدولة العسكرية والمدنية والجهاز القضائي على شؤون الدولة.

 

التعديلات الدستورية: تصحيح علاقة الدولة بالشعب 

شهد الجدل حول حزمة التعديلات الدستورية صعود تيار قوي يقول: "نعم، ولكن الإصلاحات غير كافية"، في إشارة إلى حاجة البلاد الملحة لدستور جديد كلية.

تتناول حزمة التعديلات ستًّا وعشرين من مواد الدستور، وعددًا من فقرات المواد الأخرى. وبالرغم من أن الدستور التركي الحالي تعرَّض لتعديلات سابقة، طرحتها حكومات التسعينيات وحكومة العدالة والتنمية، إلا أن التعديلات الأخيرة هي الأكثر شمولاً وجرأة. الأكثر شمولاً لأنها تتناول جوانب متعددة من بنية الدولة والعلاقة بين الدولة وشعبها، بما في ذلك الجهاز القضائي، والمحكمة الدستورية، وحقوق الأفراد والمرأة والمعاقين والنقابات العمالية. والأكثر جرأة لأنها توفر تعديلاً جوهريًا لبنية مجلس القضاء الأعلى، المسؤول عن تعيينات القضاة ووكلاء النيابة وترقياتهم ومهماتهم، والمحكمة الدستورية العليا، التي تتمتع بسلطات هائلة في مجال إقرار القوانين وأوضاع القوى السياسية وكل ما يمت إلى الدستور بصلة.

كان حزب العدالة والتنمية خاض انتخابات 2007 البرلمانية ببرنامج تضمن الوعد بإعداد دستور جديد. ورغم فوز الحزب الكبير في الانتخابات، إلا أنه لم يستطع إقناع القوى السياسية المعارضة، لاسيما تلك الممثَّلة في البرلمان، بالتعاون لإعداد الدستور الجديد. ولأن أي دستور ديمقراطي يتطلب قدرًا من الإجماع السياسي حوله، فقد جمدت حكومة العدالة والتنمية مسار الدستور الجديد، واضطرت بالتالي للعمل على تعديلات جزئية.

أحد التساؤلات التي أُثيرت خلال الحملة الشعبية الصعبة والصاخبة التي سبقت يوم الاستفتاء تتعلق بالتساؤل عما إذا كانت حكومة أردوغان قد أخطأت في قرارها إجراء التعديلات؛ ذلك أن الفوز في الاستفتاء لن يسد حاجة البلاد لدستور جديد على كل الأحوال، بينما كان الفشل سيُلقي بظلال ثقيلة على فرص أردوغان في الفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة، المفترض إجراؤها في موعد لا يتعدى منتصف الصيف المقبل. ولكن الواضح الآن هو أن أهداف أردوغان من الاستفتاء على الحزمة تجاوز مجرد إقرار هذا التعديل الجريء والكبير للدستور.

خارطة الأصوات: تمدد العدالة والتنمية 

تصدى رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان لقيادة الحملة الداعية للتصويت بنعم والتي استمرت لأكثر من شهر؛ بينما قاد حملة الدعوة للتصويت ضد التعديلات حزبا الشعب الجمهوري والعمل القومي. وكذلك دعت أحزاب الوسط واليسار العلماني الأصغر  هي الأخرى إلى رفض التعديلات؛ بينما وقف حزبان إسلاميان صغيران إلى جانب التصويت بنعم. السؤال الكبير تعلق بحزب السلام والديمقراطية الكردي القومي، الذي يُعتبر الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني والذي دعا في خطوة مفاجئة، إلى مقاطعة الاستفتاء، بدعوى أن الإصلاحات المقترحة لا تستجيب للمطالب الكردية.

تعلقت الظاهرة الثانية المهمة في الحملة بغياب الجدل حول جوهر المواد التي تضمنتها حزمة التعديلات، وتركيزها بدلاً من ذلك على الخلاف السياسي بين الحزب الحاكم ومعارضيه. وقد تعرض العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان لهجمة سياسية هائلة من حزب الشعب والحزب القومي، ومن كُتَّاب الأعمدة والصحف ومحطات التلفزة الموالية لهما، سواء فيما يتعلق بسياسات الحكومة الاقتصادية، أو معالجتها للمسألة الكردية، أو علاقات تركيا الخارجية. وقد بدا واضحًا أن كافة قوى المعارضة - لاسيما تلك التي تدعي الوصاية على الميراث الأتاتوركي- ترى أن الاستفتاء بات الفرصة الأخيرة لتحطيم صورة أردوغان، وإجهاض سعيه إلى كسب الانتخابات البرلمانية القادمة في صيف 2011.

كشفت الحملة الانتخابية كذلك عن وجود منطقة اتفاق ضمنية بين المعارضة العلمانية وحزب العمال الكردستاني؛ إذ لا يمكن تفسير تصاعد الهجمات التي نفذتها مجموعات الحزب إلا بمحاولة إضعاف الحكومة والحزب الحاكم لصالح قوى المعارضة. ولم يعلن العمال الكردستاني عن هدنة من طرف واحد، في منتصف شهر رمضان، إلا بعد أن تصاعد التوتر الأهلي بين المواطنين الأتراك والأكراد في مدن غرب الأناضول ووسطها، وبعد تصاعد دعوات المنظمات والجمعيات المدنية الكردية للحزب بوقف مسلسل سفك الدماء. ولعل المسألة التي يُغفَل عنها دائمًا في قراءة سياسات وأهداف حزب العمال الكردستاني هي التوجه العلماني الراديكالي الذي يجمع أغلبية قيادات الحزب بالدوائر العلمانية الأتاتوركية التقليدية.

فتح الانتصار في معركة الاستفتاء، التي لم يكن ثمة شك أنها اعتُبِرت معركة أردوغان نفسه، الباب للجدل على نطاق واسع حول مسألة تغيير نظام الحكم التركي إلى نظام رئاسي، شبيه بالنظام الفرنسي.

في نهاية الأمر، على أية حال، أظهر إخفاق قوى المعارضة في حملة إسقاط حزمة التعديلات انتقال الأزمة إلى داخل حزبي المعارضة الرئيسيين. في حزب الشعب الجمهوري، سيواجه كاليتشدار أوغلو تساؤلات جديدة حول كفاءته وقدرته على قيادة الحزب، خاصة أن توليه لموقعه في مايو/أيار الماضي جاء في ظروف غامضة ولَّدتها الفضيحة الجنسية لزعيم الحزب السابق دنيس بايكال. أما في الحزب القومي، الذي كانت كوادره هدفًا رئيسًا لحملات الاضطهاد التي رعتها دولة انقلاب 1980، فيُعتقد أن قطاعًا واسعًا من أنصار الحزب صوَّت لصالح حزمة التعديلات. وقد ارتفعت بالتالي دعوات داخل الحزب تدعو ليس إلى تغيير بهشتلي، زعيم الحزب، وحسب، بل وكل طاقم قيادته.

أما في المنطقة الكردية، فوصلت نسبة من أدلوا بأصواتهم خمسين بالمائة من حجم المصوِّتين عادة في المنطقة؛ وهو ما يشير إلى نجاحين مزدوجين؛ فمن ناحية، نجح العدالة والتنمية في إقناع قطاع ملموس من الأكراد بأن الإصلاحات الدستورية تصب أيضًا في صالحهم. وقد صوَّت أكثر من تسعين بالمائة ممن رفضوا الانصياع لدعوات المقاطعة لصالح التعديلات. ولكن نسبة المقاطعة المرتفعة تشير هي الأخرى إلى عمق جذور حزب العمال الكردستاني في مناطق الأغلبية الكردية.

ما أظهرته نتائج الاستفتاء على صعيد توزيع الأصوات التركية أن حزب العدالة والتنمية حصل على دعم أغلبية الأتراك في وسط الأناضول وشرقه، إضافة إلى منطقة البحر الأسود، حيث القاعدة التركية المحافظة إسلاميًا، وحيث التوجهات القومية أكثر تقليدية. في إسطنبول، أيضًا، صوَّتت الأغلبية بنعم، ولكن الفارق لم يكن كبيرًا. أما المعارضة - وكما كان متوقعًا - فقد حصلت على دعم أغلبية الأصوات في مدن ساحل المتوسط وبحر إيجه، إضافة إلى منطقة أدرنة الأوروبية، حيث التوجهات القومية أكثر علمانية وتشددًا. وهو ما يعني أن الصوت القومي قد انقسم على نفسه، بينما حافظ الصوت المحافظ على وحدته لصالح العدالة والتنمية. وحصلت الإصلاحات أيضًا على دعم العلمانيين الليبراليين، وبعض أنصار اليسار، الذين صوتوا لصالح التطور الديمقراطي الذي توفره حزمة الإصلاحات، وليس للعدالة والتنمية بالضرورة.

نتائج ودلالات: تعديلات أوسع في الأفق 

  1. تتعلق إحدى أهم دلالات الاستفتاء بوضع حزب العدالة والتنمية كقوة حاكمة منذ 2002. فبعد انخفاض نسبة الأصوات المؤيدة لمرشحي الحزب في الانتخابات المحلية والبلدية الماضية، اعتقد البعض أن الحزب أخذ أخيرًا في التراجع، وأن الناخب التركي بدأ بالانفضاض من حول أردوغان وزملائه. إلا أن ما يمكن قوله ببعض الحذر الآن: إنه حتى إن وُضِع في الاعتبار أن هناك قطاعًا ملموسًا ممَّن صوّت بنعم في الاستفتاء لم يكن يصوِّت بالضرورة للثقة في العدالة والتنمية، فإن خارطة توزيع الأصوات المؤيدة لحزمة الإصلاحات توحي بإمكانية أن ينجح العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية القادمة في زيادة نسبة الأصوات التي سيحصل عليها مقارنة بانتخابات 2007، لاسيما أن هناك مؤشرات متزايدة على أن الوضع الاقتصادي التركي يشهد معدلات نمو كبيرة، تؤكد على خروج تركيا من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.
  2. شهد الجدل حول حزمة التعديلات الدستورية صعود تيار قوي يقول: "نعم، ولكن الإصلاحات غير كافية"، في إشارة إلى حاجة البلاد الملحة لدستور جديد كلية. ولم يعد هناك شك بالتالي أنه في حال عاد حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بعد انتخابات العام القادم، فإن صياغة دستور جديد ستكون إحدى أولويات حكومة ما بعد الانتخابات المقبلة، وأن قوى المعارضة لم تعد تملك مسوغات وشرعية كافية تؤهلها للوقوف في مواجهة مثل هذه الخطوة.
  3. تُضعف التعديلات الدستورية من قبضة القوى العلمان على مؤسسة القضاء وعلى المحكمة الدستورية، كما تُعلي من ثقل الجناح المدني للدولة والحكم في تدافع القوى الداخلي المستمر منذ وصول العدالة والتنمية للحكم بين الحكومة والعسكر. وربما يمكن القول الآن بثقة كبيرة: إن تركيا خرجت أخيرًا من مسلسل الانقلابات العسكرية. ومثل هذه المتغيرات، وحتى إن لم تتم صياغة دستور جديد، ستجعل عملية الحكم منذ اليوم أكثر سلاسة.
  4. الاستفتاء عقد على خلفية توتر لا يخفى في العلاقات التركية-الأميركية، وتدهور ملموس في العلاقات التركية–الإسرائيلية؛ وأن المعارضة حاولت الإيحاء بأن أردوغان يجر تركيا بعيدًا عن حلفائها التقليديين.

    فتح الانتصار في معركة الاستفتاء، التي لم يكن ثمة شك أنها اعتُبِرت معركة أردوغان نفسه، الباب للجدل على نطاق واسع حول مسألة تغيير نظام الحكم التركي إلى نظام رئاسي، شبيه بالنظام الفرنسي. وكان أردوغان قد طرح الفكرة للمرة الأولى قبل عامين، مثيرًا معارضة صاخبة في أوساط أحزاب المعارضة البرلمانية وغير البرلمانية. ولكن الفكرة أصبحت الآن أكثر جدية، لاسيما في ضوء توقع صياغة دستور جديد بعد انتخابات 2011. وفي حال استطاع أردوغان تحقيق هذا الهدف، فالأرجح أن عودته إلى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية لن تستمر طويلاً؛ وأنه سيقدم استقالته من رئاسة الحكومة في العام التالي، 2012، ليخوض انتخابات رئاسة الجمهورية، التي ستُعقد للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر.

  5. أكدت نتائج الاستفتاء على موقع أردوغان بصفته رجل دولة وسياسيًّا بارزًا على المستويين الإقليمي والعالمي. هذه هي المعركة الانتخابية السادسة التي يحقق فيها أردوغان الفوز منذ 2002، مما يعزز شعور خصومه بالقنوط من إمكانية إيقاع الهزيمة به في أية منافسة شعبية. ولكن المهم أيضًا أن الاستفتاء عقد على خلفية توتر لا يخفى في العلاقات التركية-الأميركية، وتدهور ملموس في العلاقات التركية–الإسرائيلية؛ وأن المعارضة حاولت الإيحاء بأن أردوغان يجر تركيا بعيدًا عن حلفائها التقليديين. وهذا ما جعل الاستفتاء اقتراعًا على الثقة في سياسات أردوغان الداخلية والخارجية معًا، ولكن محاولة كسر ذراع أردوغان خارجيًا عن طريق إيقاع الهزيمة به داخليًا لم تنجح.
  6. أحد الموضوعات التي حاولت الحكومة توظيفها للترويج لحزمة التعديلات كان القول بأن إقرارها سيدعم مساعي تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي؛ لأنها تدفع بتركيا خطوات أخرى على طريق الاقتراب من المعايير الديمقراطية الأوروبية. وقد رحَّب الاتحاد الأوروبي بالفعل بالإصلاحات الدستورية ودعا إلى إقرارها. ولكن الحقيقة أن موضوع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي أكبر بكثير من مجرد تغيير الدستور، وقبول المعايير الأوروبية في مجالات حقوق الإنسان والنقابات والقضاء والعمل السياسي، ويتعلق بالخوف الأوروبي العميق من التحاق دولة إسلامية بهذا الحجم والموروث التاريخي للاتحاد الذي يضم في جنباته الآن ما يزيد عن ثلاثين مليونًا من المسلمين.