مركز الجزيرة للدراسات
وضعت إدارة الرئيس باراك أوباما على رأس أولوياتها إعادة إطلاق "عملية السلام" المتعثرة في المنطقة بهدف تحقيق "حل الدولتين". وعين أوباما لهذه الغاية عضو الكونغرس المخضرم جورج ميتشل مبعوثا خاصا له.
وقد بذل جورج ميتشل، وحتى أوباما شخصيا، جهودا حثيثة لتحقيق اختراق في هذا الاتجاه، ولو بإطلاق المفاوضات من جديد، فأعلنا مشروعا لهذه الغاية يتلخص في النقاط الآتية:
الوقف التام للنمو الاستيطاني.ما زالت عملية إطلاق المفاوضات في دائرة الجمود، ولكن مع نوع من الجذب والشد عبر حراك سياسي متعدد الأوجه تقوم به الأطراف الحريصة على عدم الوصول بعملية التفاوض إلى نقطة الانسداد. - إطلاق المفاوضات الثنائية برعاية أميركية.
- البدء بخطوات تطبيعية عربية ولاسيما من جانب المملكة العربية السعودية.
ولكن قبل انتهاء العام 2009 كان مشروع ميتشل قد سقط أرضا وتراجعت الإدارة الأميركية عنه معلنة قبولها بمشروع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي يتلخص في نقطتين رئيسيتين:
- تجميد جزئي للنمو الاستيطاني في الضفة الغربية باستثناء المشاريع الجاري تنفيذها، إلى جانب استثناء القدس تماما من عملية التجميد الاستيطاني.
- إطلاق المفاوضات من دون أية شروط، الأمر الذي يتضمن عدم الالتزام بما وصلت إليه المفاوضات السابقة.
هذا التراجع في الموقف الأميركي شكك الفلسطينيين بقدرة أوباما، وربما بصدقية التزامه، بالمواقف التي سبق أن أعلنها، خاصة وأنها جاءت مخيبة لتوقعات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي كان قد رفع سقف مطالبه باشتراط الوقف الكامل للاستيطان لإطلاق المفاوضات، مستندا إلى مشروع ميتشل ووعود أوباما، الأمر الذي دفعه إلى الإعلان عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية الفلسطينية القادمة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عباس فاوض بعد مؤتمر أنابوليس وإلى نهاية عهد جورج دبليو بوش من دون هذا الشرط أصلا. الأمر الذي يرجح أن عباس كان يتوقع إذعان نتانياهو لمطالب أوباما وليس تراجع هذا الأخير أمام عناد نتنياهو.
وقد جاء التراجع الأميركي نتيجة عدم قدرة أوباما ومناصريه على ممارسة الضغوط على نتانياهو وكذلك كثمن لصفقة أوباما مع اللوبي الصهيوني، والتي استطاع بموجبها "تمرير مشروع التأمين الصحي" بعد أن تعثر طوال عام 2009 في أروقة الكونغرس ولم يمر حتى بعد تشذيبه.
وبهذا دخلت عملية التسوية مرحلة جمود، ولم يعد بإمكان الرئيس محمود عباس ومعه الحكومة المصرية بعد تمسكهما بمشروع أوباما العودة إلى المفاوضات ضمن شروط نتانياهو، فأصبح من اللازم على ميتشل أن يبدأ بمساع جديدة لتحريك عملية السلام، وبأفكار جديدة تعطي الفرصة لكل الأطراف لإعادة دراسة خياراتها ثم إعادة تموضعها بدون حرج من التخلي عن مطالبها أو شروطها السابقة.
وقد ارتكزت جولات ميتشل الأخيرة في المنطقة على أساس البناء على شروط نتانياهو، كما حمل الرجل معه، كما يبدو، عدة اقتراحات في هذا السياق، ولكن من دون أن يعلن عنها. وقد سُرب منها مثلا، بدء المفاوضات على مستوى متدن من التمثيل ليرتفع تدريجيا إلى مستوى متوسط ثم إلى المستوى الأعلى.
وسُرب كذلك أن عباس قدم اقتراحا بأن تنوب واشنطن في مفاوضة كلا الطرفين بدلا من تفاوضهما المباشر وجها لوجه.
والاقتراح الأخير لا فرصة له في الحياة، لأن أوباما وإدارته بحاجة ماسة إلى تحقيق إنجاز ما ولو بصورة شكلية، وذلك بعد مسلسل الإخفاقات التي مُنيا بها خلال العام الماضي، وهو ما يمكن تحقيقه ولو بمجرد "إطلاق المفاوضات" وتجاوز مرحلة الجمود الراهن.
إن الاستمرار في تحريك موضوع التفاوض و"عملية السلام"، ولو بلا نتيجة، هو الخيار الأفضل بالنسبة لأميركا وإسرائيل وأوروبا لأن الانسداد يؤدي بالضرورة إلى غلبة الخيارات الأخرى المطروحة في الساحة. |
ولم يستطع ميتشل في زيارته الأخيرة التوصل إلى اتفاق لإطلاق المفاوضات لكنه حمل معه مجموعة من الاقتراحات من بينها تخفيف الحواجز وإطلاق جزء من المعتقلين، وإعادة مناطق (أ) لسلطة رام الله، ونصوص لرسائل الضمانات، وهنالك تسريبات صحفية إسرائيلية تقول أن زيارة ميتشل المذكورة ربما تكون الأخيرة أو قبل الأخيرة.
ولكن من جهة أخرى كانت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي أبعدت منذ البداية عن ملف التسوية، قد استغلت تراجع ميتشل عن مشروعه الأول لتتدخل عبر مبادرة قدمتها للرباعية، تدعو فيها إلى تبنى مشروع نتانياهو للاستيطان وإطلاق المفاوضات مع تأييد الاعتراف بدولة إسرائيل "دولة يهودية" أي لليهود فقط. ولكن هذه المبادرة فشلت بسبب تحفظ روسيا، وعليه طالبت كلينتون بإعلان المبادرة لتقول أن ذلكم هو الموقف الأميركي حول يهودية الدولة.
وإلى هنا يمكن أن يلاحظ ما يلي
أولا: ما زالت عملية إطلاق المفاوضات في دائرة الجمود، ولكن مع نوع من الجذب والشد عبر حراك سياسي متعدد الأوجه تقوم به الأطراف الحريصة على عدم الوصول بعملية التفاوض إلى نقطة الانسداد. وذلك خوفا من أن يؤدي ذلك إلى زعزعة وضع الدول الملتزمة بإستراتيجية التفاوض، كما سيؤدي الإقرار بالانسداد إلى تقوية الاتجاهات المقاومة والممانعة لا سيما فلسطينيا وعربيا.
ثانيا: إن الاستمرار في تحريك موضوع التفاوض و"عملية السلام"، ولو بلا نتيجة، هو الخيار الأفضل بالنسبة لأميركا وإسرائيل وأوروبا لأن الانسداد يؤدي بالضرورة إلى غلبة الخيارات الأخرى المطروحة في الساحة. وقد حكمت هذه المعادلة القضية الفلسطينية تاريخيا، أي إبقاء "الأمل في الحل" قائما ولو كان لا حقيقة ولا معنى له.
ثالثا: وبناء على ما سبق في النقطتين أعلاه، لا مفر لهذه الأطراف من البحث المستميت عن مخرج عاجل من حالة الانسداد الراهنة حتى لو جاء الإخراج هزيلا وزاد من أزمة الملتزمين بخط المفاوضات والتسوية، وهذا ما يرجح أن يبقى الباب مفتوحا أمام المبادرات والجولات المكوكية في هذا الاتجاه. وهذا ما يحكم الحراك السياسي لكل من عباس ونتانياهو ومصر وأميركا وأوروبا، ولكن هذا يجب ألا يُخلط مع ما تشهده المنطقة من حراك سياسي بين سورية والسعودية في اتجاه مغاير، بدليل عدم انضمام الرئيس المصري إلى القمة السورية– السعودية الأخيرة في الرياض، أو الحراك التركي-السوري.
رابعا: إن إدارة أوباما وهي تصر على مساعيها في متابعة ملفات فلسطين وأفغانستان وباكستان والعراق، أخذت ترفع إلى مستوى الأولوية فرض عقوبات مشددة على إيران مع التلويح ببقاء الخيار العسكري على الطاولة. وهو ما يدفع باتجاهه اللوبي الصهيوني الأميركي بالتناغم مع سياسة حكومة نتانياهو القاضية بضرورة التركيز على تصفية البرنامج النووي الإيراني وليس عملية السلام.
خامسا: تجنب أوباما في خطابه الأول حول "حالة الاتحاد" التركيز على السياسة الخارجية والقضايا الملتهبة فيها، ومنها أزمة الشرق الأوسط، وهذا التجنب لم ينبع من مجرد الفشل، إنما يعبر عن حالة "إعادة نظر" في السياسات السابقة والبحث عن خطط ووسائل أخرى لمعالجة أو مواجهة تلك القضايا.